لماذا يتراجع المفكرون العرب عن أطروحاتهم الحداثية ومواقفهم التقدمية؟

لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن؟ (رويترز)
لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن؟ (رويترز)
TT

لماذا يتراجع المفكرون العرب عن أطروحاتهم الحداثية ومواقفهم التقدمية؟

لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن؟ (رويترز)
لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن؟ (رويترز)

ثمة ظاهرة ثقافية عربية يمكن ملاحظتها بالعين المجردة، تتمثل في التحولات الفكرية التي خاضها آباء الفكر النهضوي وأرباب مشروعات التجديد الثقافي، خصوصاً من الجيلين الثاني والثالث (يمكن نسبة الجيل الأول إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والجيل الثاني إلى الفترة بين أوائل القرن العشرين وأربعيناته، أما الجيل الثالث فيمتد بين أربعيناته وتسعيناته). فبينما لم تكن الظاهرة واضحة لدى الجيل الأول، فقد تبدت جلية لدى الجيلين الأخيرين، اللذين قدم بعض رموزهما ما يشبه الاعتذار عن أطروحات التجديد الجذري التي صدرت عنهم في مراحل شبابهم، ونادت بالانضواء الصريح في الحداثة الفكرية، قبل أن يهدأ بركان الثورة ويعودون للتصالح مع السائد من بنى رمزية يتمركز المقدس في قلبها، وأفكار يتزايد حضور الموروث فيها. فمن الوضعية المنطقية، مثلاً، جرى الانتقال إلى النزعة التوفيقية. ومن نقد العقل العربي جرى الانتقال إلى تفسير القرآن. ومن تبجيل الغرب إلى حد التغريب، جرت محاولات لاكتشاف الشرق. ومن اليسار الماركسي جرى التحول إلى اليسار الإسلامي... إلخ. غير أن عمق تلك المراجعات، وأشكال الإفصاح عنها، اختلفا كثيراً بين هؤلاء المفكرين، فبعضها كان هادئاً ومنطقياً، وبعضها الآخر كان أشبه بانقلاب على الذات، اتسم بالعنف والراديكالية، الأمر الذي نفسره باختلاف دوافعهم التي نتوقف عند الأربعة الرئيسية منها:
الدافـع الأول معرفي، يتعلق إجمالاً بتراكم الخبرات الفكرية لدى المبدع مع كر سنوات العمر، الأمر الذي يدفع به إلى تعديل، بطيء وعميق، في رؤاه ومواقفه من القضايا الكبرى كالنهضة والحداثة والهوية، يميل به نحو الاعتدال، ما قد يعد دليلاً على نضوجه العقلي. هنا تكون المراجعات عميقة ومسؤولة، تجري على مهل، والأغلب أن تتوزع على مراحل تاريخية طويلة نسبياً، تكاد تكون أولاها غير ملحوظة أو مُعبر عنها صراحة، حيث تدور المراجعات في ذهن وخاطر المفكر نفسه، وإن أمكن لناقديه ومتابعي فكره أن يرصدوها، قبل أن تخرج في مراحلها التالية إلى العلن لتدور بينه وبين محيطه الثقافي. وفي كل الأحوال تبدو تلك المراجعات طبيعية ومقبولة، يتبنى معها المفكر المواقف الأكثر تركيباً ونسبية، مبتعداً بدرجة أو بأخرى عن الأفكار الأكثر راديكالية وإطلاقية، التي غالباً ما تجذبه وهو شاب، وهو أمر مفهوم يرتبط بمفهوم الحقيقة نفسه، باعتباره مفهوماً إنسانياً وتاريخياً، سواء تعلق بالعالم الطبيعي أو الواقع الاجتماعي، فمن كان يتصور في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ثم التاسع عشر، أن تقوم الفيزياء النسبية لأينشتين وماكس بلانك وفيرنر هيزنبرغ وما صاغته من رؤى للعالم تتسم بالديناميكية والاحتمالية، بتهديم قلاع الفيزياء الاستاتيكية لنيوتن وجاليليو، وما صاغته من رؤى للعالم تتسم بالسكونية والحتمية. بل إن تلك المراجعات تكون أحياناً مطلوبة، فليس متصوراً أن يولد المفكر مكتملاً، وأن يبقى قائماً على أفكاره الأولى، عصياً على التطور، ومن ثم فقد ينظر إليها كمعلم على حيوية الفكر الإنساني، وعلى موضوعية المفكر نفسه، الذي لا يمكن أن نطالبه بكتمان ما يمور بداخله من تحولات أو إدارة ظهره لما يتراكم في وعيه من خبرات.
والدافع الثاني وجـودي، حيث يسعى المفكر إلى التوافق مع المكونات الأساسية لهويته كلما طال به العمر وأشرف على الرحيل، بتأثير الخوف من الفناء. فرغم خضوع الإنسان، مثل جميع الكائنات، لقانون العدم، فإن ميزته الكبرى تكمن في أنه وحده يعي ذلك القانون، ويدرك المعنى الكامن وراءه، يعرف مغزى الموت ويستعد للقائه، سواء بثقة وهدوء أو بهلع وخوف. وربما يتعمق هذا الشعور عندما يرتبط بالرؤية الوجودية للأديان التوحيدية، وفي قلبها الإسلام، فجلها تربط نهاية التاريخ/ عالم الشهادة بحدث قيامي يمثل بداية لعالم الغيب، ويتمحور حوله مفهوم الخلاص الذاتي. في هذا السياق يمكن فهم النزوع إلى التصالح مع الدين، ولن نقول العودة إليه، لدى العديد من المفكرين في مرحلة العمر المتأخر، التي يبدو فيها الناس أكثر حرصاً على الإعداد لما بعد الحياة أكثر من التأسيس للحياة نفسها، وإن كانوا لا يقولون ذلك صراحة، بل يمارسونه من خلال آليات ذهنية نفسية، دفاعية وهروبية، يقومون معها بإعادة قراءة الماضي (التراث)، على ضوء هواجس المستقبل (العدم)، مع ما يقتضيه ذلك من القيام بتأويلات جديدة لمواقف فكرية كانوا قد عبروا عنها أو لأحداث تاريخية كانوا قد تمثلوها، ما يجعلهم أكثر توافقاً مع منطق أديانهم ومقتضى إيمانهم.
والدافـع الثالث سياسي يتعلق بموجات التحول العالمي، حيث أثارت نهاية الحرب العالمية الثانية، وبروز الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى من داخل فضاء الحداثة الفكرية، ولكن من خارج إطار الليبرالية الغربية، أحلام الكثيرين من مثقفي العالم وشبابه، إمكانية نشوء عالم جديد خارج إطار المركزية الغربية، فانطلقت في كل أنحاء العالم موجة إعجاب بالماركسية، حيث بدا النموذج من بعيد ومن الخارج، جاذباً وجذاباً. وعندما انهار الاتحاد السوفياتي بعد سبعة عقود تقريباً كان ذلك إيذاناً بهزيمة التجربة عالمياً، والنموذج إنسانياً. ولم يكن غريباً، والحال هكذا، أن تحدث مراجعات كبرى، وأن تشهد الثقافة العربية نكوص مثقفين كثر إلى مواقف رجعية قياساً إلى مواقفهم الأولى/ التقدمية، فتحرك البعض، مثلاً، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن القومية العربية إلى الإسلام السياسي، الذي وجدوا فيه طوق نجاة يمدهم بـعقيدة فكرية اعتادوا أن يقتاتوا عليها، وإن اختلف محتواها هذه المرة، فالوعي الشمولي ذو بنية متشابهة جوهرياً، وإن اختلفت ظاهرياً بين الآيديولوجي والديني. وحتى أولئك المفكرين القلائل الذين نجحوا في التخلص من النسق الاعتقادي والاندماج في الفكر الليبرالي، القائم على الفردنة والتنوع وقبول الاختلاف، فقد وقع بعضهم، في ظل غمرة حماسه وحرارة تحوله، في خطأ الأدلجة والقبول المطلق بالنموذج الليبرالي الغربي، إلى درجة الدفاع عن احتلال أميركا للعراق ومحاولة تسويغ ما أسمى بديمقراطية الدبابات.
أما الدافع الرابع فيراوح بين الانتهازية واليأس، فثمة من تحولوا جذرياً عن مواقف فكرية قديمة، وهاجموا سلطات سياسية كانوا قد ترعرعوا في ظلها واستمتعوا برعايتها، بذريعة أنهم لم يعرفوا خطاياها، وأنهم استعادوا للتو وعيهم المفقود، رغم أن ذلك لم يكن سوى استمارة التحاق بالحكم الجديد والتمتع بمظلة رعايته. وقد يحدث هذا الانقلاب أحياناً مدعوماً بقوة دفع اليأس، بعد هزيمة الأفكار الكبرى التي دافع عنها المفكر أو إخفاق التجربة السياسية التي تحمس لها. ومن ثم يبدأ في التكيف مع الواقع واللعب على المضمون، وانتهاز الفرصة لتحقيق مصالح شخصية بذريعة الواقعية، بعد أن فات قطار العمر دون تحقق الأحلام الكبرى، فإذا به يعيد تشكيل مواقفه الفردية التي ربما تعرض للإيذاء أو الإهمال بسببها. ولعل هذا هو حال المفكر الذي تشكل الأيديولوجية المكون الأساسي في تكوينه قياساً إلى المكون المعرفي، فالمثقف الحقيقي، ذو العقل النقدي، الطامح إلى مقاربة الحقيقة، لا يقع بسهولة في أسر الانتهازية واليأس.
وهكذا يتبدى مدى تعقيد وتشابك الدوافع الكامنة خلف ظاهرة التحولات الفكرية لدى مثقفين عرب كثر، لا يجب وضعهم جميعاً في سلة واحدة، بغية هجائهم، ولا حتى بهدف تقريظهم، بل لا بد من إعادة فحص أفكارهم ونقد تحولاتهم، للكشف عن مضموناتها المعرفية وسياقاتها التاريخية، ما يعطينا فهماً أفضل لحركة تاريخنا الفكري، وجدلية تطورنا الثقافي، وربما يجيب عن أحد أهم أسئلتنا: لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن، ولماذا ظلت أسئلته المطروحة عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين حول الهوية والنهضة والحداثة، هي نفسها عند مطلع الحادي والعشرين؟ غير أن لهذا حديثاً آخر يطول.
- كاتب وباحث مصري


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.