في أميركا يسمون من هم أمثال محمد المغربي «هومليس»، أي شخص يعيش بلا مأوى. فالحياة قست على هذا الرجل الثمانيني ذي اللحية البيضاء والعينين الزرقاوين، بحيث أصبح اليوم في عداد المشردين الذين يعيشون في وطن لا يبالي بمصيرهم.
تحت جسر حديدي ضخم يقع في منطقة جسر الواطي بضواحي بيروت، أنشأ محمد الذي يعرف عن نفسه بـ«المهندس» مكتبته في الهواء الطلق. وعلى رصيف عريض يقع تحت الجسر افترش المغربي أرضه ليحولها إلى مكتبة لا تشبه غيرها.
فالكتب القديمة والمستعملة تتوزع في أنحاء هذه المكتبة المعروفة باسم «المغربي»، وتتناثر يميناً ويساراً من دون تنظيم أو ترتيب. وفي هذا المكان تغيب الأرفف والخزانات المخصصة للكتب. حتى رائحة الكتب وورقها تفتقدها وأنت تتجول بين تلك المؤلفات المتناثرة على سطح صندوق خشبي أو كرتوني وحتى على الأرض مباشرة. وحدها رائحة دخان عوادم السيارات التي تمر من هناك بشكل كثيف يمكنك أن تشتمها.
ولكن محمد ورغم كل تلك الفوضى التي تعيشها كتبه، يعرف مكان كل واحد منها بالتحديد. وأنت تتجول معه في أنحاء المكتبة التي يؤكد بأنها تابعة للهيئة الوطنية للكتاب التي أسسها، تلحظ أن ذاكرته حفظت أماكن الكتب. ويقول في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «لدي آلاف الكتب كما ترين وفيها كل ما يرغب به هواة القراءة. انظري أمامك لدي موسوعات بالعشرات، وبعيداً عنها مجموعة كتب بوليسية وأخرى روائية بالأجنبية. أما هناك في آخر المكتبة فلدي مجموعة من الكتب التي تحكي عن موضوعات أدبية وصحية وعلمية وحيوانية وغيرها».
يملك محمد المغربي الآلاف من الكتب القديمة في مكتبة لا رفوف ولا أبواب لها (الشرق الأوسط)
لهجته المصرية يعيدها إلى إقامته لنحو 17 عاماً في القاهرة. «لقد درست في جامعة القاهرة وتخرجت منها مهندساً معمارياً، عملت في مشاريع شتى إن في ليبيا أو في القاهرة ولبنان. فأنا ابن عائلة تحب القراءة ووالدي كان المفتي المغربي المعروف في بيروت أباً عن جد».
تحت هذا الجسر ينام ويستيقظ محمد المغربي في غرفة خشبية بناها بنفسه. «لقد زارني هنا وزير الثقافة القاضي محمد وسيم المرتضى ووعدني بأن يهيئ لي مكتبة ومكاناً يليقان بكتبي». هكذا وفي أحاديث يبدأها ولا يلبث أن يقفز منها إلى موضوعات مختلفة تحاول اكتشاف الأسباب التي دفعت بمحمد إلى التشرد.
«هذه الكتب هي وطني وصديقتي أحدثها وأبوح لها، وعندما تضيق الدنيا بي أتصفح أوراقها وأدردش معها. فأنا قارئ نهم منذ الصغر، ولكن كثيرين غدروا بي وهو ما أوصلني إلى ما أنا عليه اليوم». يقول بأنه قرأ أكثر من 10 آلاف كتاب عن لبنان فقط، ولم يوفر كتابا لمصطفى محمود وطه حسين وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي وغيرهم.
«أكثر من تأثرت به هو طه حسين. فهو فيلسوف من طراز آخر وهو علم من أعلام الحركة العربية الحديثة الذي لن يتكرر».
وعندما يتحدث عن مآسيه يقول: «الناس مش عايزة علم، ولذلك هاجموني وهدوا بيتي وافتروا علي وأدخلوني السجن وخرجت بريئاً منه». وعن طبيعة الزبائن الذين يقصدونه اليوم يرد: «هناك الكبير والصغير والطالب والتلميذ والأب وابنه، فالعائلة كلها تجتمع عندي. ونفسي أن أملأ هذه المساحة كراسي ومقاعد كي يأتوا ويقرأوا في رحاب مكتبتي. لكنهم يمضون بضع ساعات ومن ثم ينصرفون حاملين معهم ما يرغبون به من كتب».
لا أسعار يحددها محمد المغربي في مكتبته «يدفع المرء ما يريد، فمن أنا لأحدد ثمن هذه الكتب العتيقة التي لا تقدر بثمن. فكل يدفع السعر الذي يناسبه وبابي مفتوح أمام الجميع من دون تفرقة».
تلفتك مجموعة كتب هنا للأطفال وهناك أخرى لجبران خليل جبران وبقربها أخرى للأديب الفرنسي الحديث غي دي كار. وعلى قارعة الرصيف من ناحية اليسار تطالعك روايات أخرى لبودلير وروسو. فيما تتكدس كتب المنجد وأطلس الطالب ومطالعات في الإعلام وفي القانون اللبناني، وغيرها من رومانسية لـ«ديللي» وبالوفيردي» لجاكلين بريسكين و«الإخوة الأعداء» لتشايكوفسكي.
وعما إذا هو راضٍ عن نسبة الناس التي تقرأ في لبنان يقول: «هناك نسبة كبيرة طبعاً، لا تزال تحترم الكتاب وتعطيه أهمية، ولكن قلبي على هذا الجيل الجديد الذي بدل أن يمسك كتاباً، ويتثقف ينغمس في عالم الإنترنت الوهمي. فبرأيي جيل لا يقرأ هو جيل لا يمكنه أن ينتج».
ولم ينس محمد المغربي أن يستحدث أيضاً في مكتبته قسماً للكتب المدرسية. «طبعا عندي قسم كبير لها، فالتلامذة يأتونني ويرمونها عندي، وآخرون يأخذونها. وكم من مرة أقول لأب يرافق أبناً باحثا عن كتاب مدرسي «جده وخذه مجاناً، فأنا أشجع تعليم الأولاد لأنهم المستقبل».
من أين جمع محمد المغربي كل هذه الكتب يوضح لـ«الشرق الأوسط»: «القصة بدأت مع شخص رآني أجلس هنا بلا مأوى، فأعطاني صندوقاً مليئاً بالكتب وقال لي «بعها واسترزق». وهكذا صرت أجمع من سوق الأحد بعضها ومن الأصدقاء الذين اعتادوا على رؤيتي هنا بعضها الآخر. واليوم صرت عنواناً يقصده كل شخص يملك مجموعة كتب لا يعرف ماذا يفعل بها، وأنا أستقبلها بفرح. فهذه الكتب هي بمثابة أولادي الذين يعيشون معي ويتقبلونني كما أنا. أحبهم جميعاً ولا يمكنني التفريق بينهم».
وبين صوت بوق لباص يمر قرب الجسر وأخر لفرامل، موتورسايكل يتوقف أحدهم فجأة لإلقاء التحية على محمد، ينتهي الحديث مع المغربي. ويختم قائلاً: «المكتبة هنا تفتح أبوابها حتى ساعة متأخرة من الليل. وهو أمر غير متوفر في مكتبات أخرى. ونسيت أن أقول لك، بأن عندي كتب قديمة تعود إلى مئات السنين، ولكنني لم أحصها يوما».
محمد المغربي وطنه الكتاب وقلبه على جيل الإنترنت
في مكتبة ضخمة تقع تحت جسر حديدي في الهواء الطلق بضواحي بيروت
محمد المغربي وطنه الكتاب وقلبه على جيل الإنترنت
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة