«يوميات الحرب القائمة».. قصائد لخلف الخلف تعيد لأرقام الضحايا نبض البشر

الشاعر السوري اختزن آخر صور الوطن في ذاكرته واستعادها في بلد الصقيع

«يوميات الحرب القائمة».. قصائد لخلف الخلف تعيد لأرقام الضحايا نبض البشر
TT

«يوميات الحرب القائمة».. قصائد لخلف الخلف تعيد لأرقام الضحايا نبض البشر

«يوميات الحرب القائمة».. قصائد لخلف الخلف تعيد لأرقام الضحايا نبض البشر

لا أعرف لماذا فرزت الذاكرة العميقة من ملفاتها القديمة بيت أمير الشعراء الذي حفظته عن ظهر قلب في مدرستي الدمشقية، يوم كنت غرا، وقبل أن أُهَجّر من وطني غرا أيضا:
سلام من صبا بردى أرق
ودمع لا يكفكف يا دمشق
هل لأني ذرفت دمعا ساخنا من خلائطه ألم وشجن ما بعدهما، ولا قبلهما ألم وشجن ألمّا بي، بعد أن قرأت ديوان الشاعر السوري خلف الخلف «يوميات الحرب القائمة» الصادر مؤخرا في إصدار خاص.
لا أعرف إذا كانت كلماته الحادة هي التي حزت بلحم ذاكرتي كشفرة حلاقة، أم أنها الصور السريالية، العبثية، الكفاكاوية لوطني الذي كان جميلا، ومتسامحا، وآمنا، وبات مقبرة جماعية للبشر، والشجر، والحجر، هي التي دفعتني لأذرف دمعا ساخنا، سلك أخاديد خدي المتغضنين، على وطن لم يعد يوصف إلا بكلمات قاطعة كالسكاكين المجلوة تحز باللحم الحي.
«يا ابنتي
إخوتك سيذهبون للتظاهر من أجل الحرية
ضعي لهم زغاريد قوية في صرر سميكة
قد يقتلون، ولا يتعرف عليهم أحد
قد يدفنون في مقابر جماعية
ولا بد من زغاريد ترافق أرواحهم للسماء
وتؤنس وحشتهم في الطريق».
شعر - نثر تمرد على الفراهيدي، وعلى رنين القوافي، ولم يعد لنبض الإيقاع ضرورة، فهنا نعتمد على نبض القلب، ولا للوزن الذي يخلق في الذهن حالة من الغيبوبة، فهنا نعتمد يقظة الضمير. فلتذهب البحور إلى الجحيم، فالكلمات مطروحة في الطريق والخير للمعاني المتوغلة في النفس كمخارز تبحث عن موطن الوجع فيك. آلام الآلام التي لا علاج لها، ولا وصف لها، ولا كلمات تجدها في القواميس، أو في القوافي. كلمات تنبع من معاناة شعب اطمأن إلى حاكم مستبد، نام على وسادة الاستبداد نصف قرن، واستفاق على براميله المتفجرة تقتل أبناءه، وبناته، وتهدم بيوته وتدفنهم جميعا مع الذكريات، ومن تبقى يحمل نعش ابنه، وأبيه، وأمه، وأخيه وينطلق صارخا حرية فيأتيه الرصاص، هل من مصدق؟
«أمي لم تصدقني عندما قلت لها إنهم في كل جنازة يطلقون رصاصا على المشيعين ويرتمي النعش بجوار القتلى الذين كانوا يحملونه.. قالت أمي إنك تقرأ من الكتب، هذه الأشياء تحدث في الكتب، ولو بلعت ورق المصحف لن أصدقك..
أمي لا تصدق أن هذا يحدث الآن».
حدث، ولم يحدث إلا في سوريا، في بلد أُشربَ عنوة شعاره، الذي تتوسطه كلمة حرية، لشعب بأكمله، كما يُشربون عنوة المؤمنَ خمرا معتقا نكاية في إيمانه. زيفها، وزينها، ووضعها على لافتات كبيرة في كل مكان مخادعا، مفخخا الثقة بالشعارات، وعندما نادى الشعب المُغرر بالحرية لم يلق سوى الرصاص. جر الطاغية شعبه إلى معسكره، إلى مخططه الخبيث ليوقعه في أتون حرب تدرب عليها نصف قرن، وتفنن بها، وتحضر لها عن وعي بأن لا شيء يدوم إلى الأبد، وإن فصل لنفسه شعارا آخر أنهاه بكلمة «أبد»، ليهدد شعبه بأن لا فائدة من الاحتجاج، لأنه سيدجنهم كما يدجنون الدجاج، فبات المطالبون بالحرية إرهابيين بامتياز، ويحل قتلهم حتى بغاز الخردل، وأية وسيلة أخرى، فالمطالبة بالحرية هي خيانة عظمى في قوانين النظام، وعقابها الإعدام.
«أصبح الموت يأتي في أي وقت
يأخذ الناس بنزهات جماعية لزيارة الأبد الذي لن يعودوا منه
يأخذه بوسائل نقل مختلفة،
الرصاص، المدافع، الصواريخ، البراميل المتفجرة، السيارات المفخخة، الهاون
الساطور، السيف، السكين، الخنق باليدين».
بات الأخ يقتل أخاه ورصاصه يرتد إليه، في لعبة الموت الجمعي الذي أتقنها طاغية قاسيون.
قومي هم قتلوا أميم أخي
فإذا رميت أصابني سهمي
هكذا صور الشاعر الجاهلي قتال الأخوة.
يصور خلف الخلف مأساة من يقتل نفسه برصاصه إذا رمى به أخاه، أعاد الصورة القديمة للأذهان.
«هيييه
أيتها الحرب انتظرينا
نحن ذاهبون لدفن إخوتنا الذين قتلهم أعداؤنا
وسنعود إلى القتال
وأعداؤنا ذهبوا لدفن إخوتنا الذين قتلناهم وسيعودون إلى القتال
حتى نفرغ لك
يمكنك أن تتسلي بكتابة قصص عن الشهداء».
وما أكثرها من قصص، وما أغربها من قصص، لكل ذبيح قصة، لكل مفجوعة قصة، لكل مكلوم قصة، لكل لاجئ قصة، لكل من صعدت روحه أدراج السماء قصة. سماء كثرت فيها قبور أرواح السوريين الجماعية، فللسماء قبورها للأرواح الجماعية أيضا. تماما كالمقابر الجماعية التي ارتكبها شبيحة النظام على الأرض. روح، روحان، مائة ألف روح، مئات آلاف الأرواح، حركة صعود دائبة إلى مقابر الأرواح. قتيل واحد جريمة. «مليون قتيل هو إحصاء»، كما قال ستالين يوما. مجرد أرقام. وخلف الخلف لم ير في يومياته لحربنا القائمة سوى أرقام، إحصاء لوكالات غوث اللاجئين، والصليب والهلال الأحمرين، ولجان حقوق الإنسان. حتى الأمم المتحدة أوقفت عداد الأرواح الصاعدة إلى المقابر السماوية، وحتى هذه المقابر ملت التعداد.
«الحرب تترك خلفها أرقاما: قبورا كثيرة بشواهد كتب عليها أعمار قصيرة
القتلى يصبحون أرقاما، المصابون يصبحون أرقاما
البيوت المهدمة تصبح أرقاما، اللاجئون يصبحون أرقاما
المعاقون يصبحون أرقاما..
الأرقام ذاكرة الحرب الجماعية، الذاكرة التي لا تفنى».
«أيها الشاعر
أنت تكتب من ذاكرة قديمة
فلم يعد هناك جبهات قتال
ولم يعد أحد يذهب إلى الحرب
الحرب أصبحت تتجول في شوارع المدن
تأتي إلى الناس في بيوتهم
الطغاة أنشأوا شركات قتل سريع
توصل الموت مجانا».
قتل مجاني، وتدمير مجاني، وتهجير مجاني، فقط كي لا تسمع آذان النظام الذي كان يصيخ السمع على كل نفس بأجهزة مخابراتية مبثوثة كجراد صحراوي نهم، كلمة «حرية» من شعب كلّ وملّ من تقيؤ خطابات خلبية، سرابية المياه، غيوم تعد بالخير لم تمطر ولم تسر. حمل السوري متاعه، لا شيء في زوادة الرحيل سوى آخر الصور لبيته المحطم، وفي رئتيه يختزن آخر شهيق مختلط برائحة البارود، ودمعة ساخنة.
«على الحدود، وأنت تغادر سوريا
لا تستعجل:
قف والتفت إليها دقيقة لا أكثر
انظر إليها بهدوء لمرة أخيرة، والتقط بعينيك آخر الصور
تنفس هواءها بعمق عدة مرات حتى يتعبأ جوفك برائحتها
أذرف دمعة واحدة
ربما لن تعود
وتحتاج لهذه الزوادة في غربتك الطويلة».
الشاعر ملأ رئتيه، كغيره من المهجرين، اختزن آخر صور الوطن في محفظة ذاكرته وأقفل عليها، ذرف دمعة ومشى إلى بلد الصقيع، وهناك كتب يومياته لحربنا القائمة التي أبكتني كما بكى.



ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ
TT

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

أقف أمام «الآنسة جولي» بحلّتها العربية الجديدة، حائراً من أين أبدأ في الكتابة عن هذه التراجيديا التي تعكس قساوة الواقع المعيش؟ مِن مؤلفها، شكسبير السويد يوهان أوغست ستريندبرغ، الكاتب والدرامي المتعدد المواهب، في المسرح والرواية والشعر والفن التشكيلي وغيرها، والمثير للجدل أيضاً؟ أم أبدأ من النص؟ من هذه المسرحية المشحونة بالمشاعر والصور والمثقلة بالصراعات الاجتماعية والنفسية في مجتمع أفرز «فئات جديدة عاشت فترتها الانتقالية بسرعة هستيرية، أكثر من سابقاتها»، كما كتب ستريندبرغ في مقدمته للمسرحية؟

أم أبدأ من عرض رؤاي حول هذا الحرث الخصب الذي بذل فيه المترجم جهوداً استثنائية، ليكون أكثر قرباً من نَفَس المؤلف في النص المترجم. أو على الأقل تحقيق النسبة الكبرى من نقل ما يُعرف بروح النص بمصداقية عالية وأمانة؟

نحن هنا أمام كتاب لا يبذل جهداً ليغري القارئ؛ فإنك بمجرد أن تمرِّر بصرك على جملته الأولى، أو لكي لا نبالغ القول، على سطره الأول، في المتن حتى تتولد عندك حالة من الشغف لمتابعة القراءة. وعندما تطالعك جملة «ليس الغرض من هذه التوطئة تقديم الكتاب إطلاقاً»، فلا بد من أن تصبح شغوفاً أكثر لمعرفة المزيد. فإذن لماذا هذه «التوطئة للكتاب من قبل المترجم»؟ ولمعرفة الجواب عن ذلك فلا بد لك من مواصلة القراءة. والمسألة هنا لا تتعلق بحب الاستطلاع فحسب، بل يستهويك الأسلوب وسريان مجرى العبارات المنتقاة وتناسقها، فتعرف من خلالها أن المترجم إبراهيم عبد الملك، وهو شاعر أيضاً، لم يكتفِ بنقل الكتاب من لغة إلى أخرى، بل قام بدراسة متأنية للنص المسرحي «الآنسة جولي»، وللمقدمة التي كتبها المؤلف ستريندبرغ، ببحث رصين ومراجعة جادة لبعض الجمل الصعبة في فهم ماهيتها وقصدية قائلها، المؤلف، وقف فيها عبد الملك على مفصليات النص الذي يحتاج إلى كثير من التفسير والدلالات، لأنه قديم، تجاوز عمره الآن مائة وثلاثين عاماً، وفيه كثير من العبارات التي تجبر المترجم على تقصيها وإظهارها بالشكل الذي يليق بمكانة اللغة العربية، وإنصافاً للمؤلف واحتراماً لذوق القارئ. وللدلالة على ذلك، يأخذ المترجم جملة من مقدمة المؤلف، وهي عبارة يتحدث فيها المؤلف أوغست ستريندبرغ عن تحولات مجتمع القرن الثامن عشر، من خلال مسرحيته «الآنسة جولي»، فيصفها بأنها من بقايا صنف النبلاء المحاربين القديم الذي يتنحى الآن «من أجل نبلاء العصب الجدد أو نبلاء العقل الكبار».

لو تُرِك الأمر هكذا، مجرد ترجمة، لما فهمنا أن هذه العبارة بمثابة أرجوحة فلسفية تتدلى منها أرجل اللغة التي استخدم فيها ستريندبرغ اللعب بالكلمات؛ خصوصاً في تلك الجزئية من الجناس بين كلمتي عقل «-hjärn» وصلب «-järn» بالسويدية، كلتاهما تنطق «يرنْ»، التي قصد بها «تورية وسخرية لاذعة»، كما يقول المترجم، الذي لم يتردد في البوح عن بعض الصعوبات التي شخصت أمامه أثناء ترجمة النص، خصوصاً فيما يتعلق بفهم مطبات قصدية العبارة المذكورة، التي ذللها إبراهيم من خلال البحث والتنقيب بعناد في بيئة النص وجذوره، حد اللجوء للاستعانة بصديق موثوق بقدرته الأدبية، ومن بيئة المؤلف ومنشئه الثقافي، لتوضيح الفكرة وما قصده سترينبرغ بـ«نبلاء العصب الجدد، أو نبلاء العقل الكبار»، ليجيبه الشاعر والناقد ماغنوس ويليام بأن ستريندبرغ كان في هذه الجزئية ساخراً، هازئاً من خصومه المثقفين، بل وحتى من المدافعين عن النساء منهم خاصةً. «ففي كلمة (عصب -nerv) إحالة مباشرة إلى ما هو (أنثوي)، لأن النساء، (في ذلك الزمان) انُتقدن لكونهن واهنات العصب ومتوترات، مرتكبات، وغير جديرات بالثقة، تبعاً لذلك. أما تعبير (نبلاء العقل)، وهو اصطلاح ابتدعه المؤلف نفسه لما فيه من تشابه صوتي باللغة السويدية، بين (Hjärn) عقل و(Järn) صُلب، حديد التي تعبر ضمنياً عن الرجولة (الحقيقية)، حسب ما تربت عليه طبقة النبلاء».

وهنا لا بد من التنويه إلى أن ما ذكرناه آنفاً من أن ستريندبرغ كان كاتباً مثيراً للجدل، قصدنا في جانب منه ازدواجية العلاقة مع للمرأة التي كانت مزيجاً من الحب والعنف في آن واحد، وقد أشيع عنه كرهه للنساء وهذا غير صحيح؛ فقد أحب ستريندبري امرأة وتزوج مرة أخرى. وقد انعكس ذلك من خلال أعماله الدرامية وقصصه وكتاباته المختلفة، وشكَّل فيه هذه الازدواجية؛ في إحساسه بالزمن، وثنائية الأنا والآخر، والخير والشر، وغيرها من المتضادات التي جاءت نتيجة لفقدانه المكان والإحساس بالواقع الاجتماعي المرّ الذي عاشه وجعله يترك دراسته الجامعية احتجاجاً على طريقة التدريس، بعدما رفضت الأكاديمية الملكية عرض مسرحية «الأسطة أولوف». وقد ألف ستريندبرغ روايته التي تحمل نفس العنوان عام 1879، وضمّنها حياة النخبة المثقفة من المجتمع السويدي، في تلك الفترة، فاضحاً فيها الظواهر السلبية السائدة في المجتمع، كالبيروقراطية وبيئة الكنيسة النتنة.

لكن روايته اللاحقة التي سماها «الغرفة الحمراء» اعتبرها نقاد الأدب الرواية الواقعية الأولي في تاريخ الأدب السويدي.

ومن مجمل نتاجاته الإبداعية التي تجاوزت الخمسين عملاً ألقت حياة ستريندبرغ بتحولاتها المريرة نفسها ظلالاً على الأحداث والتحولات الاجتماعية التي كان شاهداً عليها، منذ صدور روايته الأولى «الأسطة أولوف» 1879، وانتهاء بـ«الآنسة جولي» التي صدرت في عام 1890، والتي صور فيها واقع المجتمع والتناقضات والصراعات الحادة بين طبقات المجتمع الجديدة المتنامية، والتي تتقد فيها الرغبة لكسر القيود والتقاليد البالية.

وقد نقل لنا المترجم إبراهيم عبد الملك هذه الأحاسيس وتلك المكنونات الراقدة في جذور تربتها بطريقة حافظت على روحيتها وألقها.

هذه ليست الترجمة الوحيدة لمسرحية «الآنسة جولي» إلى العربية، لكنها الأولى التي جاءتنا مباشرة من نصها الأصلي، دون أن تمرّ بمسالك وسيطة قد يتعلق بأردانها بعض غبار اللغات المترجم من خلالها، رغم أن المباشرة لا تعطي صكاً لضمان مصداقية الترجمة وأمانتها؛ فثمة تراجم مهمة نُقلت عبر لغات بسيطة وأدَّت مهمتها، غير أن هذه الأعمال نادرة جداً. وبالمقابل هنالك ترجمات نقلت النص من لغته الأم إلى العربية بصورة مباشرة، لكنها تعثرت في دروب الترجمة الحرفية والترادف أو التماثل، لكنه من دون شك؛ فالنص المترجم من لغته الأصلية مباشرة، يحمل دلالات، لنسمِّها مجازاً المصداقية.

مشكلات الترجمة عديدة ومتنوعة تبدأ من الاختلافات الثقافية واللغوية، التي تتطلب من المترجم معرفتها، بالإضافة إلى بنية الجُمل واختيار العبارات المناسبة، ولا تنتهي بفك طُلّسم المفاهيم والمصطلحات الغامضة في النص. إن ترجمة الكلمات والعبارات بصورة حرفية يؤدي ذلك إلى نص ركيك، أو غير مفهوم. وهذا يخص الترجمة بشكل عام، لكن للترجمة الأدبية استحقاقتها؛ فالمطلوب، وإضافة إلى ما تقدَّم، نقل الروح الجمالية للنص المترجم إليه. وهذه مسألة صعبة، لأن الأدب يشكل مزيجاً من الأساليب والثقافات والتاريخ. وعدم قدرة المترجم الأدبي على اختيار المفردة المناسبة سيوقعه في خطأ نقل المعنى. ومن هنا يحتاج مترجم الأدب إلى مهارات إبداعية في التعامل مع النصوص. وهذا الأمر أساسي لما بات يعرف بأمانة الترجمة أو دقة الترجمة.

وواحد من أهم الأسباب التي أدَّت إلى ضعف الترجمات السابقة لمسرحية «الآنسة جولي»، هي أنها تُرجمت عبر لغات أخرى وسيطة، عن الإنجليزية أو الفرنسية، تحديداً ولم تترجم من السويدية مباشرة. وهذا الأمر دفع إبراهيم عبد الملك إلى ترجمتها من نصها الأصلي، كما كتبه المؤلف الصادر في عام 1888. وهذه مسافة زمنية طويلة نسبياً محاولاً بذلك «إعادة شيء من حق المؤلف المستلب».

كما يرى مشيراً إلى أن تلك «الترجمات، بما في ذلك الترجمة الإنجليزية، استهانت بالمؤلف يوهان ستريندبرغ، حد الانتقاص والتشويه»، كما يقول في مقدمته لترجمة الكتاب. ويوجز هذا الطرح في عدد من النقاط التي تتعلق بإشكاليات هذه الترجمات.

فيبدأ باسم المؤلف. إن اسمه «ستريندبرغ»، وليس ستراندبرغ، كما جاء في التراجم السابقة. والمسرحية عنوانها «الآنسة جولي»، وليس الآنسة جوليا. فـ«جولي» هو اسم «الشخصية» الرئيسية في المسرحية، ويأتي اسمها هكذا باللفظة الفرنسية، حيث كانت الطبقة الأرستقراطية في السويد تحاكي مظاهر الأبهة الفرنسية، بالملبس والمشرب وفي لفظ الكلمات، وفي تبني الطبقات الأرستقراطية في القرن التاسع عشر بعضاً منها. كما هو الحال في بلدان أوروبية كثيرة أخذت هذا المنحى. ولهذا السبب أبقى المترجم بعض الكلمات والعبارات التي تنطق بها الآنسة جولي بالفرنسية، كما جاء بها النص الأصلي.

النقطة الأخرى التي يثيرها المترجم هي تصنيف هذه الدراما ضمن تيار «الحركة الطبيعية»؛ إذ تعكس نمو وتطور هذه الحركة والمدرسة التي برزت في المسرح والأدب في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بهدف محاكاة الواقع بدقة متناهية وخلق وهم بالحياة كما هي.

من خلال تصوير الطبقات الدنيا في المجتمع وتحدياتها، مركزين على العوامل البيئية والوراثية التي تُشكّل مصير الشخصيات، مع تجنُّب التكلّف والتصنّع في الأداء التمثيلي لخلق شخصيات طبيعية قدر الإمكان. وكان من أبرز فرسانها الفرنسي إميل زولا والنرويجي هنريك ابسن والروسي قسطنطين ستانيسلافسكي. وبهذا السياق، يشير المؤلف بأنه «لا يؤمن بالشخصيات المسرحية البسيطة».

أما أحكام المؤلف التلخيصية على البشر، فإنها لحمقاء، وإنها لغاشمة، وإنها لبخيلة... إلخ، واستهجانها لزام على الطبيعيين الذين يدركون مدى غنى نسيج النفس البشرية ويشعرون بأن للوِزر وجهاً آخر أشبه ما يكون بالطّهر، حسب ستريندبرغ.

ملمح آخر جدير بالاهتمام هو ورود عبارة «الطحّان»، في النص الأصلي، في حوار بين بطلي المسرحية يقول فيه جان لجولي «ضعي الطحان في الكيس»، ملمحاً إلى الحكاية المشهورة في السويد «حكاية ابنة الطحان»، ويقصد بها تذكير جولي بأن جدها كان طحاناً، ومن باب المغايرة؛ إذ إن العبرة من هذه الحكاية ما يقال بالترجمة الحرفية عن السويدية: «الصمت أفضل من سيئ الكلام». ولأن ترجمة التلميح إلى اللغة تفتقر إلى العبرة منها في هذا السياق، يتدخل هنا المترجم ليعتمد المثل القائل: «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب»، ويحل هذا الإشكال بعبارة «أكرميني بذَهَبِ سِكوتك».

في هذه الإثارة لتحليل العمل الدرامي المُترجم يوغل إبراهيم عبد الملك، في صلب الفكرة التي أراد لها المؤلف أن ترافق المسرحية؛ فنحن أمام نص مترجم، لمسرحية تجسدت فيها جميع الدلالات اللغوية والحسية ومذاقات الذائقة وإيقاعات المشاعر، بجميع تجلياتها وانحداراتها، وعنفوانها الذي جال بأرواح مهشمة وصولاً إلى نهايتها الدموية. لقد كان نوعاً من التحدي المغامرة في ترجمة هذه المسرحية الشكسبيرية بامتياز، كما وصفها المخرج العراقي جواد الأسدي، حين جاء إلى السويد خصيصاً لإخراجها، في نهاية القرن الماضي، وتحديداً في عام 1998، لجمهورها السويدي ولكن بنكهة عربية، تركت انطباعاً رائعاً لدى رواد المسرح.


عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي

عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي
TT

عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي

عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي

أثير من جديد في الوسط الثقافي السعودي النقاش عن الفيلسوف عبد الله القصيمي، ودعوى «إلحاده ومروقه من الدين»، وأنه مفكر ماديّ، وهو موضوع تكرّر في حياته وبعد موته بعقود. ولا غرابة أن يستعاد فهو من رسم المعالم والحدود لشخصيات شريحة ليست صغيرة من المثقفين السعوديين والعرب، وكثيرون تأثروا به، وإن خالفوه في موضوع الإيمان. منذ بداية قراءتي له مررت بالدهشة ذاتها التي تعتري كل من يقترب من نصوصه لأول مرة، تلك الدهشة التي تثيرها عباراته العارية من التوقير وصوره المدوية التي تزلزل المألوف. غير أنّ هذه الدهشة سرعان ما تحوّلت إلى سؤالٍ يصعب تجاهله: إذا كان القصيمي قد أنكر الله، فلماذا ظلّ مشغولاً به حتى آخر كتبه؟ ولماذا لم يغادر هذا الموضوع إلى غيره؟ ألا يكفي كتابٌ أو اثنان أو ثلاثة للسرد الوافي بالدعوى؟

تكاد مؤلفات القصيمي جميعاً تدور حول موضوع الإله، بينما الماديون لا يفعلون هذا.

ومع ذلك لم يكن موضوع الإيمان قضيته الوحيدة، فقد حذّر من الإرهاب القادم، وفضح دعاوى القومية الكاذبة في «العرب ظاهرة صوتية»، وانتقد الانغلاق الاجتماعي، وسخر من تقديس العادات حين تُقدَّم بديلاً عن التفكير، ودافع عن حرية الإنسان الفرد، كما كتب مبكراً عن المرأة بوصفها معيار تحضّر الأمم، وعن العقل العربي الذي يهرب من النقد ويخاف الحرية، وأرى أن كتاباته في هذا المضمار أكثر صدقاً مما كتبه عابد الجابري الذي بنى صرحاً ضخماً على أوهام.

لم يكن القصيمي فيلسوفاً مادّياً صارماً، وإن كانت المادية قد أخذت نصيبها منه في فترة. وقبلها كان ابن بيئةٍ دينيةٍ، شيخاً سلفياً يدافع عن السلفيين، غير أنّ ذاك الإيمان حمل في داخله ما يشبه البذرة الأولى للتمرّد؛ إذ لم يكن يكتب كما يكتب السلفيون، بل كان يدافع عنهم بعقل، والعقل هو منبع الشك. في نصوصه تتناوب النبرة بين تمجيد العقل وتكذيبه، بين تأليهه والشكّ فيه. يقول مرةً إن العقل هو الإله الذي لم يُعبد بعد، ثم يعود ليصفه بالوهم والعجز؛ لأنه خاضع للإرادة بحسب القصيمي (وشوبنهاور).

ما يعدونه تناقضاً لا يبدو نقصاً في منطقه بقدر ما هو وفاءٌ لتذبذبه الإنساني الطبيعي.

ثم جاءت مرحلة التحوّل الأولى مع كتاب «هذه هي الأغلال» (1946)، ولم يكن فيه بعيداً عن شخصية الإسلامي التنويري والداعية الحضاري، خلافاً لمن ظنوه لجهلهم، كتاباً في الإلحاد. كتاب «الأغلال»، دليل على مرحلةٍ وسيطة. وقد ندرج كتابه «العالم ليس عقلاً» ضمن كتبه الوسيطة. لكن هذا المسار لم يستمر طويلاً. فمع كتاب «العالم ليس عقلاً» بدأت مرحلة أخرى أكثر تذبذباً؛ ففي مقدمته ما زال القصيمي يعلن عن إيمانه بالله، لكن فيه تتسرّب نبرة الشكّ شيئاً فشيئاً، حتى يصبح الإيمان عنده فعلَ سؤالٍ لا فعلَ تسليم. وفي كتبه التالية «العرب ظاهرة صوتية» و«هذا الكون ما ضميره؟» تتصاعد لهجة الاحتجاج حتى تتحول إلى ما يشبه صراخ ألم، لا يشبه التنظير الآيديولوجي. وتظهر هناك العبارات الإلحادية الصريحة، وهي صرخات وجودية، لا أكثر.

لكي نوضح مقصودنا، سنقارنه بفويرباخ الذي نظّر للإلحاد وقدم بناءً متكاملاً يؤسس للفلسفة المادية حيث الطبيعة مصدر المعرفة. هذا التنظير أخذه ماركس ليؤسس للمادية الجدلية والمادية التاريخية معاً. القصيمي لم يقدم بناءً مماثلاً، ولم يكتب بلغة الماديين قط، بل بلغة الشعر والجرح الوجداني. هو لا ينفي الإله بقدر ما يثور على صورته القديمة. في أعماقه ظلّ الإيمان قائماً، لكنّه تبدّل شكلاً ولغة.

القصيمي نموذج للمؤمن الشكوكي، أو الإيمان الذي يعيش داخل السؤال لا خارجه. لا يفقد إيمانه، بل يتطهّر من يقينه الموروث ليبحث عن يقينٍ أصدق. يَعرف الله، لا من خلال السلطة أو الوراثة بل من خلال الحيرة نفسها. حالة فكرية مأزومة لإنسانٍ لم يعد قادراً على اليقين. لا يصدّق الخطاب القديم ولا يجد خطاباً جديداً يسكُن إليه. ولم يكن القصيمي متناقضاً، بل هكذا هو المؤمن الشكوكي، يعيش حياته كلها هكذا؛ حالة ثالثة.

المؤمن الشكوكي يعيش في منطقة رمادية لا يقدر فيها على الاستقرار في يقينٍ أو في نفيٍ كامل. لا يسعه أن يُغلق عينيه كما يفعل المطمئنّون إلى إيمانهم، ولا أن يشيح بوجهه كما يفعل المنكرون. إنه يرى النور والظلام معاً، ويتأرجح بينهما، ويدرك أنّ الشك ليس ضعفاً بل شكلٌ آخر من أشكال الإيمان. فالإيمان عنده تجربة مفتوحة لا تنتهي، يتقدّس فيها السؤال أكثر مما تتقدّس الإجابة. كل لحظة من حياته وكل فكرةٍ تمرّ بذهنه هي امتحانٌ لعقله وقلبه في آن. هو مؤمن لأن قلبه لا يطيق الجفاء، وشاكّ لأن عقله لا يقبل ما كان مزيّفاً. لا يعيش طمأنينة القديسين، بل قلق الباحث الذي يعرف أنّ الطريق إلى الله لا يُعبّد باليقين، بل بالحيرة التي تلد المعرفة. لذلك، يبدو المؤمن الشكوكي أقرب الناس إلى الصدق؛ لأنه لا يتزيّا بثوبٍ لا يليق به، ولا يدّعي ما لم يختبره، بل يظلّ واقفاً بين السماء والأرض، شاهداً على أنّ الروح لا تُشفى إلا بالسؤال.

هاجم القصيمي التصوف في بداياته. أما في كتبه الأخيرة، فنجد نغمة جديدة، نغمة قريبة من روح التصوف الفلسفي. لا يتحدث فيها عن الله كما يفعل المتصوفة، لكنه يشترك معهم في الاحتجاج على صمت الوجود، وفي الحنين إلى المطلق، وفي الشعور بالغربة والخذلان في العالم. بمعنى آخر، تحوّل عنده الموقف من عداءٍ للتصوف، أيام سلفيته، إلى تماسٍّ وجدانيّ معه من غير أن يعترف به أو أن ينتمي إليه.

* كاتب سعودي في كتابه


«وكالة النجوم البيضاء»... الواقع من منظور سينمائي

«وكالة النجوم البيضاء»... الواقع من منظور سينمائي
TT

«وكالة النجوم البيضاء»... الواقع من منظور سينمائي

«وكالة النجوم البيضاء»... الواقع من منظور سينمائي

في روايته الجديدة «وكالة النجوم البيضاء» الصادرة أخيراً عن «دار الشروق» بالقاهرة، يتعامل الكاتب عمرو العادلي مع السينما على مستويين متوازيين؛ الأول باعتبارها تشكل مهنة مباشرة للبطل كعامل مختص بعرض الأفلام، والثاني على مستوى الكتابة؛ إذ جاءت اللغة ذات سمة بصرية تعتمد على إيقاع المشهد في السرد.

وعبر 149 صفحة من القطع المتوسط، يختبر الكاتب الحدود الفاصلة بين العقل والجنون، الذاكرة والنسيان، الواقع والخيال، ليطرح السؤال الأبدي: حين تفشل كل خرائط الواقع، هل يمكن لخريطة السينما أن تقودنا إلى النجاة؟

يحلم البطل طوال الوقت باليوم الذي يصبح فيه ممثلاً معروفاً ويصدر له فيلمه الخاص؛ إذ يرى في نفسه موهبة لا تقل بل تزيد على عشرات النجوم ممن يملأون الساحة صخباً ودوياً، لكن بمرور الوقت يتحول الحلم إلى عبء حين يفشل في تحقيقه على أرض، ويتسلل إلى خياله.

وعمرو العادلي روائي وقاصّ مصري، له سبع مجموعات قصصية منها «حكاية يوسف إدريس» و«الهروب خارج الرأس»، كما صدر له تسع روايات منها «السيدة الزجاجية» التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة نجيب محفوظ في الأدب، و«رجال غسان كنفاني» و«مريم ونيرمين». نال عدة جوائز منها «جائزة الدولة التشجيعية في الآداب» وجائزة «ساويرس».

من أجواء الرواية نقرأ:

«سرح كثيراً وهو يحكي حكايته حتى إن الزمن الفاصل بين جملة وأخرى يكفي لتروي حكاية صغيرة. في نبرته كآبة فنان مظلوم، قال إنه يملك موهبة لا يقدرها أحد. حكى لي عندما كان يعمل في (بوفيه) مسرح الحرية بشارع الشيخ ريحان، المسرح كامل العدد والمسرحية لعادل إمام.

استمرت الفرقة في عرضها لسنوات. يترك البوفيه ليتلصص على المسرحية من الكواليس. يحلم كل ليلة أن يصبح نجماً كبطل العرض مثلما كان عادل إمام في بداياته يحلم بشيء واحد لا يوجد إلا في الأفلام. يتمنى أن يحدث ظرف طارئ لممثل من الأدوار المساعدة أو حتى الثانوية فلا يستطيع الحضور إلى المسرح؛ يمرض أو يموت أو تخطفه عصابة ولا يجدون أمامهم غيره ليمثل الدور فيكتشف المخرج موهبته.

حفظ جميع الأدوار بالكلمة والحركة والإيماءة، ولأن الرياح لا تعرف ما تشتهيه السفن فلم يمرض أي من الممثلين، لم يمت أحد أفراد الفرقة، ولم تخطفه عصابة. ويظل عامل بوفيه طيلة عشر سنوات، فتُدفن كلمات المسرحية في جوفه حتى يُسدل الستار على العرض نهائياً ويتجمد حلم التمثيل بداخله. يتنقل مع الفرقة إلى مسرح آخر ومسرحية أخرى فيتجدد الأمل بداخله، يتمنى لعب الدور الذي حفظه خلال أسبوع منذ بدأ العرض، يرهقه الترحال بين المسارح من دون تحقيق أمنيته.

لم يعد التنقل بين البوفيهات يرضي غروره الفني، فهو يرى نفسه أنضج من ممثلين كبار. لعب أدواراً هامشية في مسرحيات شعبية عن عُمد وشيوخ غفر وفلاحين، كما قدّم عروضاً جماهيرية بقصور الثقافة لكن إشباع الموهبة وحدها دون حظ هو شيء لا يمنح أجراً، فترك عروض فرق الهواة وخرج إلى الشارع ووجد مكاناً مناسباً في محطات مترو الأنفاق لتفريغ طاقته».