خدام: استقبلنا رفيق الحريري بناء على اقتراح جنبلاط... وحافظ الأسد «امتحنه» (الحلقة الثالثة)

روى في فصول من مذكراته تنشرها «الشرق الأوسط» أنه ذهب إلى بيروت لتحذير رئيس الوزراء اللبناني السابق قبل اغتياله في 2005

دخان يتصاعد من مكان تفجير موكب رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري في 14 فبراير 2005 (غيتي - أ.ف.ب)
دخان يتصاعد من مكان تفجير موكب رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري في 14 فبراير 2005 (غيتي - أ.ف.ب)
TT

خدام: استقبلنا رفيق الحريري بناء على اقتراح جنبلاط... وحافظ الأسد «امتحنه» (الحلقة الثالثة)

دخان يتصاعد من مكان تفجير موكب رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري في 14 فبراير 2005 (غيتي - أ.ف.ب)
دخان يتصاعد من مكان تفجير موكب رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري في 14 فبراير 2005 (غيتي - أ.ف.ب)

يستعرض نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام، في الحلقة الثالثة من مذكراته التي تنشر «الشرق الأوسط» فصولا منها، العلاقة مع رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري منذ التعرف عليه في 1982 وموافقة الرئيس الراحل حافظ الأسد على أن يشكل الحكومة في 1992، وصولاً إلى اغتياله في 2005.
ويقول خدام إنه في أبريل (نيسان) العام 1982، استقبل الحريري «بناء على طلب من السيد وليد جنبلاط». ويروي كيف قام الأسد بـ«امتحان» الحريري قبل الموافقة على تشكيله الحكومة في 1992. ويقول: «فجأة، سأله الرئيس: «إذا كنت رئيساً للحكومة اللبنانية واختلفنا مع المملكة العربية السعودية، كيف ستتصرف؟». أجابه رفيق: «سيادة الرئيس، أنا لبناني أحب وطني، وأنا سعودي، ولحم أكتافي من المملكة العربية السعودية. بالتالي، لا أستطيع أن أتخلى عن المملكة العربية السعودية لأني لست من ناكري الجميل، وأنا قومي عربي أعتبر سوريا حاضنة العرب، ولا أستطيع إلا أن أكون مع سوريا. بالتالي: إذا حصل خلاف سأعمل على إزالته وعلى عودة المياه إلى مجاريها، وإذا فشلت سأعتزل وأعيش في منزلي». أجابه الرئيس حافظ: «لو قلت غير هذا الكلام لما صدقتك، وكنت ستفقد ثقتي. سأطلب من أبو جمال (خدام) إبلاغ الرئيس اللبناني بأننا نؤيد ترشيح رفيق الحريري».
وبعدما يتحدث خدام عن «الحملات الأمنية» التي تعرض لها الحريري بعد رحيل حافظ الأسد في 2000 و«علاقة التوتر» بين الرئيس بشار الأسد والحريري، يشير إلى قول وزير الخارجية فاروق الشرع في اجتماع حزبي في 2004، أن الحريري «متآمر على سوريا، ومرتبط بالولايات المتحدة الأميركية وفرنسا ضد سوريا»، وقول الأسد في اجتماع حزبي بداية 2005: «هناك مؤامرة أميركية - فرنسية، يشارك بها الحريري الذي يتآمر علينا، وهو يوحد طائفته حوله، وهذا يشكل خطراً على سوريا».
في مطلع شهر فبراير (شباط) 2005، ذهب خدام إلى بيروت لتحذير الحريري الذي اغتيل في 14 فبراير. ويقول إنه عندما تلقى خبر موت الحريري شعر بـ«الحزن، لأنني فقدت صديقاً كان يعمل لخدمة سوريا وخدمة لبنان».
في شهر أبريل (نيسان) عام 1982، استقبلتُ السيد رفيق الحريري بناءً على طلب من السيد وليد جنبلاط، وكانت المرة الأولى التي أجتمع فيها معه، وكل ما كنت أعرفه عنه أنه رجل أعمال سعودي من أصل لبناني.
كانت الجلسة مركزة على معرفة اتجاهه وتطلعاته وعلاقاته بالمسألة اللبنانية. كان الحريري متحفظاً، يتحدث بعبارات لا تعطي مدلولاً، لأني شعرت أنه أيضاً يريد معرفة توجهنا في القضية اللبنانية. وبعد انتهاء الجلسة طلب أن يزورني مرة ثانية، فرحبت به.
الاجتماع الثاني، كان بعد أسبوعين. دخلنا في النقاش حول القضية اللبنانية، ودام الاجتماع خمس ساعات، وتناولنا طعام الغداء في منزلي. وتحدث الحريري بصراحة عن نشأته والظروف التي مر بها، وانتمائه لـ«حركة القوميين العرب»، ومشاركته في تهريب جورج حبش (الأمين العام لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين») من السجن السوري.
كما تحدث عن سفره للعمل في المملكة العربية السعودية، والمراحل التي مر بها، بدءاً من مشروعه الأول إلى المشاريع الكبرى التي تعهدها، كما تحدث عن لبنان. وقال: «لبنان وطني الذي نشأت فيه، وعائلتي تعيش فيه، وهو جزء من حياتي، لذلك اسمحوا لي أن أُكثر من مجيئي إلى سوريا من أجل الوصول إلى حل للأزمة اللبنانية».
وجرى حديثٌ مفصلٌ عن الأزمة اللبنانية، وعن أسبابها وظروفها. وكانت وجهة نظري أن الأزمة تعود إلى سببين: الأول هو النظام الطائفي في لبنان، الذي حال دون انصهار اللبنانيين في شعب واحد. والسبب الثاني، يتعلق بظروف المقاومة الفلسطينية التي وجدت نفسها في صراع مع التشكيلات السياسية ذات الطابع المسيحي.
اتفقنا على التحليل، وناقشنا كيفية التعامل مع الأسباب والوصول إلى حلول. وطال النقاش، ووعد الحريري بتقديم مشروع مكتوب كي نناقشه. وفعلاً، في اللقاء التالي، أتى بالمشروع وناقشناه. كانت لدي بعض الاعتراضات، لأن المشروع أبقى على الطابع الطائفي في مؤسسات الدولة الدستورية وتوزيع الوظائف على الطوائف. كانت وجهة نظره أن هذه القضايا تُحل بالتدريج، فأجبته: «الدستور اللبناني الموضوع في العشرينات من القرن الماضي فيه نص بإلغاء الطائفية السياسية بعد فترة، وهذه الفترة استمرت منذ عام 1920 حتى الآن. بالتالي، إذا لم يكن هناك زمن محدد وحاسم للمرحلة الانتقالية، ستبقى الطائفية وسيبقى الصراع الذي شهده اللبنانيون منذ سنوات كثيرة». اتفقنا على تحديد المدة للمرحلة الانتقالية، وأخذ المشروع إلى لبنان، وعرضه على الأطراف اللبنانية. بعضهم وافق، وبعضهم اعترض، وأريد التمسك بالصيغة الطائفية.
كان الحريري يتردد أسبوعياً إلى دمشق، مرات من أجل النقاش حول القضية الوطنية اللبنانية، ومرات يحمل رسائل من الراحل الملك فهد بن عبد العزيز إلى الرئيس حافظ الأسد.
وفي عام 1992، جرت انتخابات في لبنان. وبموجب الدستور، يجب أن تستقيل الحكومة ويجري تشكيل حكومة جديدة.
كنت في بانياس. اتصل بي القصر الجمهوري وأبلغني أن الرئيس حافظ الأسد يريد أن أذهب إليه، وكان في اللاذقية على الساحل. ذهبت إليه، وكان موضوع النقاش رئيس الوزارة الجديد في لبنان، ناقشنا جميع أسماء الشخصيات السياسية المعروفة في لبنان، ولم يجرِ الاتفاق على أي منهم، لأنه ليس بينهم من يشكل جامعاً بين الأطراف اللبنانية.
سألني الأسد عن رفيق، وما إذا كان يأتي إلى دمشق، فأجبته أنه يأتي أسبوعياً. سألني عن رأيي وما إذا كان رفيق يصلح لهذه المهمة، فأجبته أنه يتمتع بمزايا كثيرة، وله صلات مع كل الأطراف اللبنانية، مسلمين ومسيحيين، وله صلات جيدة معنا ومع المملكة العربية السعودية ومعظم الدول العربية، وبعض الدول الغربية. قال: «المشكلة هي أنه إذا اختلفنا مع المملكة العربية السعودية، مع من سيقف؟»، فأجبته: «هذا السؤال يجب أن تسأله أنت لرفيق، وأنت تستطيع الاستنتاج أكثر، لأنك أنت من طرحت السؤال».
طلب مني الرئيس الأسد دعوة الحريري، فعدت إلى دمشق، واتصلت به هاتفياً، وطلبت منه المجيء فوراً إلى دمشق. وبالفعل، بعد أقل من أربع ساعات، وصل إلى دمشق، واستقبلته. سألني: «لماذا هذا الطلب؟» فأجبته: «هناك موضوع يريد الرئيس أن يسألك عنه». ألح عليّ لمعرفة هذا الموضوع، فأجبته: «ليس أنا الذي لدي الموضوع لأطرحه عليك». وحرصت من هذا الجواب على أن يذهب دون معرفة مسبقة لسبب دعوته، حتى يكون جوابه طبيعياً غير معد.
في اليوم التالي، ذهب الحريري إلى اللاذقية، واستقبله الرئيس الأسد لمدة تزيد عن ثلاث ساعات، وهو يناقشه بقضايا ليس لها علاقة بلبنان. وبعد أكثر من ساعتين، سأله عن لبنان، وعن الرئيس إلياس الهراوي والسياسيين اللبنانيين. وكان يجيب بكل بساطة دون أن يتحامل على أحد أو يكثر المديح على أحد. فجأة، سأله الرئيس: «إذا كنت رئيساً للحكومة اللبنانية واختلفنا مع المملكة العربية السعودية، كيف ستتصرف؟». أجابه رفيق: «سيادة الرئيس، أنا لبناني أحب وطني، وأنا سعودي، ولحم أكتافي من المملكة العربية السعودية. بالتالي، لا أستطيع أن أتخلى عن المملكة العربية السعودية لأني لست من ناكري الجميل، وأنا قومي عربي أعتبر سوريا حاضنة العرب، ولا أستطيع إلا أن أكون مع سوريا. بالتالي: إذا حصل خلاف سأعمل على إزالته وعلى عودة المياه إلى مجاريها، وإذا فشلت سأعتزل وأعيش في منزلي».
أجابه الرئيس حافظ: «لو قلت غير هذا الكلام لما صدقتك، وكنت ستفقد ثقتي. سأطلب من أبي جمال إبلاغ الرئيس اللبناني بأننا نؤيد ترشيح رفيق الحريري».
هكذا أصبح رفيق الحريري رئيساً لوزراء لبنان، والتزم بكل كلمة قالها أمامي وأمام الرئيس حافظ، وقدم خدمات كبيرة لسوريا عبر علاقاته الخارجية. كما سبق ذلك، وقبل أن تطرح قضية الحكومة في لبنان، عرض الحريري، كهدية لسوريا، بناء «قصر المؤتمرات» والفندق المرتبط به، كما أكمل بناء قصر الرئاسة الجديد.
تعرض الرئيس الحريري لحملات من بعض أجهزة الأمن السوري، وتعززت هذه الحملات بعد وفاة الرئيس الأسد في عام 2000، الذي كان يعرف ما يمكن للحريري أن يقدمه من خدمات للبنان وسوريا.

وبعد تسلم بشار السلطة، بدأ حملة على الحريري، وكان يحرضه على ذلك مجموعة من اللبنانيين الذين كانوا سابقاً مرتبطين بشقيقه باسل، ولهم مصالح في الدولة اللبنانية. ونشأت حالة من التوتر لدى بشار ضد الحريري، ما أدى إلى دفع أصدقاء بشار في لبنان لشن المزيد من الحملات على الحريري. وأدت هذه الحملات إلى زيادة عزلة بشار العربية والدولية، فوجد نفسه أمام خيار واحد وهو الارتماء في أحضان إيران.
بعد مناقشات عديدة معه هدأ الوضع. وفي تلك الفترة، كان من المفترض إجراء انتخابات رئاسية في لبنان، لكن بشار تمسك بالتمديد للرئيس إميل لحود، فاشتدت الحملة في أوساط المسلمين وبعض القوى الوطنية وبعض التيارات السياسية، ضد عملية التمديد.
في تلك المرحلة، بدأت علامات حملة جديدة من بشار ضد الرئيس الحريري. وظهر ذلك بوضوح في اجتماع لـ«الجبهة الوطنية التقدمية» (تحالف أحزاب مرخصة بقيادة «البعث»). وخلال هذا الاجتماع، تحدث وزير الخارجية فاروق الشرع عن الوضع السياسي، وسئل عن العلاقات مع الحريري، فأجاب: «متآمر على سوريا، ومرتبط بالولايات المتحدة الأميركية وفرنسا ضد سوريا».
بعد وصول هذا الخبر لي، اتصلت بالرئيس بشار، وسألته: «هل هناك جديد في موضوع الحريري؟». فأجابني: «لا». سألته: «هل أنت أعطيت التعليمات لفاروق لمهاجمة الحريري؟». وشرحت له الحديث في «الجبهة». أجابني: «لا، لماذا يتحدث فاروق عن لبنان؟ وماذا يعرف عن لبنان؟». فقلت له: «إذا تسرب هذا الحديث من أعضاء الجبهة إلى الولايات المتحدة الأميركية وإلى فرنسا وإلى الحريري، ألا تقدر خطورة ردود الفعل على إثارة هذه الاتهامات؟ ألا يكفي الحصار الذي نعيشه؟». أجابني: «سأوبخه، لكن أتمنى أن تتصل بالرئيس الحريري وتقول له إن سوريا متمسكة به وسأستقبله بعد أيام».
وفي 18 أغسطس (آب) عام 2004، اجتمعت ببشار، لأنني كنت مزمعاً السفر إلى فرنسا لإجراء بعض الفحوص الطبية. تحدثنا عن لبنان، وكان المطروح في الساحة اللبنانية التمديد للرئيس لحود، وكانت معظم القوى اللبنانية والدول العربية والأجنبية معارضة لهذا التمديد. قلت له: «مصلحة سوريا ومصلحتك ألا تتبنى عملية التمديد، فأنت لا تستطيع تحملها، ولا تستطيع سوريا تحمل نتائجها». قال: «أنا قررت عدم الموافقة على التمديد، وأبلغت ذلك إلى الرئيس لحود».
سافرت إلى فرنسا، وبعد أيام اتصل بي الحريري هاتفياً، وقال لي: «بشار قرر التمديد»، فأجبته: «مستحيل، منذ أيامٍ أكد لي أنه لن يمدد». سألني: «ماذا تنصحني أن أفعل؟». فأجبته: «أنصحك أن تحضر جلسات المجلس النيابي، وأن توافق على التمديد، وتذهب مباشرة إلى خارج البلاد». قال لي: «طلبني بشار في ساعة مبكرة وكان منفعلاً، وعلى الواقف، قال لي: أنا من يقرر تسمية رئيس الجمهورية في لبنان، ولست أنت. ومن يتحدى قراري، يجب أن يعرف ماذا سأفعل. لا أطلب منك الآن موافقة، لكن، اذهب إلى لبنان، وفكر بما قلته لك».
عدت من باريس، واجتمعت في السادس من سبتمبر (أيلول) مع الرئيس بشار، وتحدثنا عن الوضع في لبنان. سألته: «لماذا تراجعت عن كلامك برفض التمديد؟ لقد وضعت سوريا في قلب دائرة الخطر، بينما كانت على حافة هذه الدائرة». أجابني: «جاءني رجل أميركي وطمأنني إلى أن الولايات المتحدة الأميركية لن تتخذ أي إجراء». فأجبته: «هل تأخذ التطمين من شخص لا تعرف صفته ومكانته؟ اليوم سوريا في مأزق مع الخارج الأجنبي والعالم العربي». سألني: «ماذا يمكن أن أفعل؟». فأجبته: «العمل على توحيد القوى اللبنانية ليستقر لبنان، واستدعاء نبيه بري ورفيق الحريري ووليد جنبلاط وبعض الشخصيات المسيحية للاتفاق على مصالحة لبنانية تدعمها سوريا». وافق، لكنه مع الأسف لم يفعل شيئاً.
بعد أيام، جرى اتصال من القصر الجمهوري بالرئيس الحريري لمقابلة الرئيس بشار. وبالفعل، حضر الحريري الذي كان قد أعلن أنه سيستقيل، وسألني قبل أن يجتمع إلى الرئيس الأسد: «ماذا أفعل؟ أنا لا أريد البقاء في السلطة». فأجبته: «ابق مصراً على استقالتك، وإذا ضغط، اعرض عليه مسألة المصالحة الوطنية اللبنانية بين جميع الأطراف».
وبالفعل، خلال اللقاء، كان رفيق متشدداً بموقفه في الاستقالة. وسأله الرئيس الأسد: «ما هي شروطك للعودة عن الاستقالة؟». فأجابه: «اجتماع مصالحة وطنية، وحكومة وحدة وطنية يشارك فيها الجميع دون استثناء، وحرية في القرار، وعدم تدخل الرئيس لحود في شؤون الحكم». أجابه الأسد: «أنا موافق على ذلك. شكل الحكومة كيفما تريد، وأنا ليس لدي مرشح». قال له الحريري «إذا كان لديك بعض المرشحين، لا مشكلة لدي»، فأجابه بشار: «اختر من تريد، لكن أود أن يكون سليمان فرنجية في هذه الوزارة». أجابه رفيق: «هذا ممكن، واستيعاب سليمان فرنجية أمر مفيد».
مضت أيام وأسابيع ولم تشكل الحكومة. وفي أوائل أكتوبر (تشرين الأول)، جرت محاولة لاغتيال مروان حمادة، فأضافت عنصراً جديداً إلى التوترات في لبنان. ونظراً للصداقة بيني وبين مروان حمادة، الذي كان أحد اللبنانيين الذين ساهموا في تقريب وجهات النظر بين الأطراف والقوى اللبنانية، قررت السفر إلى بيروت لزيارته في المستشفى. أبلغت الأسد أني سأذهب إلى بيروت للاطمئنان على حمادة، فأجابني: «سيتهموننا بارتكاب هذه الجريمة».
بدأ بشار بشن حملة على الحريري دون أن يكون لها أي مبرر، وطلب من أنصاره في لبنان أن يشنوا حملة محاسبة ضد الحريري، وهذا ما دفعه إلى الاعتذار عن عدم تشكيل الحكومة بعد مضي أكثر من شهر على تكليفه. سألته هاتفياً: «لماذا لم تشكل الحكومة؟». فأجاب: «جماعتكم وضعوا العراقيل». وبعد اتصالي مع الحريري، اتصلت بالأسد، وسألته: «هل لديك فكرة عن التأخر في تشكيل الحكومة في لبنان؟». فأجاب: «ليس لنا علاقة. ليتصرف الحريري كما يريد، نحن لن نتدخل لمساعدته».
وفي منتصف يناير (كانون الثاني) 2005، عقدت القيادة القطرية لحزب «البعث» اجتماعاً لمناقشة بعض القضايا الحزبية. في هذا الاجتماع، قال الأسد: «سأتحدث عن لبنان. هناك مؤامرة أميركية - فرنسية، يشارك بها الحريري الذي يتآمر علينا، وهو يوحد طائفته حوله، وهذا يشكل خطراً على سوريا».
فوجئ أعضاء القيادة بهذا الحديث، وخرجوا من الاجتماع، وهم يتساءلون عن أسباب هذا التحول من قبل الأسد. بعد خروجي من الاجتماع، اتصلت به هاتفياً، وسألته: «ما هي المصلحة في الحملة على فرنسا وعلى الولايات المتحدة وعلى الحريري؟ هل قدرت خطورة هذا الحديث إذا تسرب؟ وماذا تعني بأن توحيد الطائفة السنية يشكل خطراً على سوريا؟ هل توحيد الطائفة الشيعية حول حسن نصر الله، والموارنة حول سليمان فرنجية، لا يشكل خطراً؟ فقط السنة؟ هل نسيت أن سوريا ذات أكثرية سنية؟ هل تقدر خطر ما قلته؟». لم يجب على كلامي، كل ما قاله: «هناك مؤامرة».
في اليوم التالي، استقبلت محسن دلول، وهو ذو صلة قوية مع الحريري، وأطلعته على حديث بشار، وطلبت منه إبلاغه لرفيق، وأن عليه أن يغادر لبنان فوراً، لأن الحقد عليه كبير. غادر دلول دمشق إلى بيروت وأبلغ الحريري رسالتي.
في مطلع شهر فبراير (شباط) 2005، ذهبت إلى بيروت لإجراء فحوصات في مستشفى الجامعة الأميركية، وبعد أن أنهيت الفحوصات توجهت إلى منزل الحريري، وكان عنده بعض الضيوف. ذهبنا إلى مكتبه في المنزل، وسألني: «ما هو الموضوع الذي أبلغني إياه محسن؟». فأجبته: «كان حديث بشار واضحاً، والاتهام بالتآمر عقوبته الموت. لذلك عليك أن تغادر بيروت اليوم قبل الغد». سألني: «كيف هي العلاقة بين بشار وشقيقه ماهر؟ هل هناك خلافات بينهما؟». فأجبته: «ليست هناك خلافات». قال لي: «ماهر بعث لي رسالة، يقول فيها: إننا نحبك وسنساعدك، وعندما تأتي إلى دمشق أنتظر زيارتك. نحن نريد دعمك». وسألني: «لماذا يبعث هذا الكلام إذا كان لديهم النية في قتلي؟». فأجبته: «هذه الرسالة التي بعثها ماهر تهدف إلى إبقائك في لبنان حتى ينفذوا جريمتهم». بعدما تناولنا الغذاء، ودعته وتمنيت عليه أن يسرع في السفر، فأجابني: «لكن لدي التصويت على قانون الانتخابات». قلت له: «يا أبا بهاء، ما الأهَم: حياتك أم الانتخابات؟ إذا خرجت تستطيع أن تعمل لمصلحة لبنان، وإذا بقيت سينفذون الجريمة». وعدت إلى دمشق.
وفي الرابع عشر من فبراير (شباط)، كان لدينا اجتماع في القيادة القطرية. وبعد الاجتماع، دخلت إلى غرفة الدكتور أحمد ضرغام، عضو القيادة، وكان حاضراً بعض أعضاء القيادة، وكان التلفزيون مفتوحاً، وكانت المفاجأة التي أذهلت أعضاء القيادة: نبأ انفجار قنبلة كبيرة أمام موكب الحريري الذي كان عائداً من المجلس النيابي إلى منزله، حيث نقل إلى المستشفى وقد فارق الحياة. كان إلى جانبي أحد أعضاء القيادة، فقال لي: «نفذَ ما تحدثَ عنه في القيادة».
عدت إلى البيت حزيناً، لأنني فقدت صديقاً كان يعمل لخدمة سوريا وخدمة لبنان. وتذكرت كيف بدأت علاقتي مع «أبي بهاء»، واستقبالي له أول مرة بطلب من جنبلاط وزياراته لي، حيث كان كلما جاء إلى بيروت يمر بدمشق. وتذكرت موقف الرئيس حافظ من الحريري، وكيف كان يحميه من حملات أجهزة الأمن السورية. وفي إحدى المرات، جرت محاولة من قبل لبنانيين قريبين من النظام السوري وبشار لإخراج الحريري من الوزارة، فكان موقف الرئيس حافظ شديداً، وقوله إن الحريري «كان يخدم سوريا ويستخدم علاقاته العربية والدولية لصالح سوريا».
يوم اغتيال الحريري، توجهت إلى لبنان، ووجدت حشوداً كبيرة أمام منزله. وعند نزولي من السيارة، سمعت شخصاً يقول: «ماذا يفعل هذا هنا؟»، فأجابه آخر: «هذا صديق أبي بهاء، وليس من أولئك الذين يكرهونه».
بقيت حوالي ساعتين، وعدت إلى دمشق.
ويوم الدفن، اتصلت مع أبو سليم دعبول، سكرتير الأسد، وأعلمته أني سأشارك في جنازة المرحوم الحريري. اتصل بي «أبو سليم»، وقال: «يقول الرئيس بشار إنك إذا كنت تريد المشاركة، فاذهب بصورة شخصية وليس كنائب للرئيس». أجبته: «إني ذاهب بصورة شخصية».
توجهت إلى بيروت ومعي «أم جمال» وأولادي، وشاركت في الجنازة. وفي مكان قريب من المدفن، كان يجلس عدد من الشخصيات العربية والأجنبية، وكان قريباً مني الشيخ أمين الجميل والرئيس نبيه بري، الذي أصر على دعوتي للغداء في منزله، وكان الرجل حزيناً من جهة، وقلقاً من جهة ثانية من أن يتعرض لما تعرض له الرئيس الحريري.

خدام: الأسد اقترح إعطاء المعارضة العراقية وعوداً وهمية... وخاتمي حذر من دولة كردية (الحلقة الأولى)
خدام: الأسد غيّر رأيه ومدد للحود فاصطدمت سوريا بالإرادة الدولية (الحلقة الثانية)
خدام: هاجمت قواتنا ثكنة «حزب الله»... وهذا ما دار مع السفير الإيراني (الحلقة الرابعة)
خدام: بوش أبلغنا برسالة خطية أن عون «عقبة»... والأسد اعتبرها «ضوءاً أخضر» لإنهاء تمرده (الحلقة الخامسة)
خدام: صدام بعث برسائل سرية إلى خامنئي ورفسنجاني... واقترح قمة بحضور «المرشد» (الحلقة السادسة)
رفسنجاني في رسالة لصدام: تتحدث عن القومية العربية وتنتقد رفضنا لاحتلال الكويت (الحلقة السابعة)
خدام: قلت لعرفات إنك تكذب وتتآمر على فلسطين ولبنان وسوريا (الحلقة الثامنة)
خدام: السعودية لعبت دوراً بارزاً لدى أميركا في حل «أزمة الصواريخ» مع إسرائيل (الحلقة التاسعة)
خدام: كنت أول وآخر مسؤول سوري يلتقى الخميني... وهذا محضر الاجتماع (الحلقة 10)

خدام: حافظ الأسد كان سريع التأثر بأفراد عائلته... وعلاقتنا وصلت أحياناً إلى القطيعة (الحلقة الـ 11 والأخيرة)



تحذيرات مصرية من عرقلة «مسار اتفاق غزة» وتجزئة الإعمار

فلسطينيون يسيرون وسط الملاجئ في مخيم النصيرات للنازحين الفلسطينيين بغزة (أ.ف.ب)
فلسطينيون يسيرون وسط الملاجئ في مخيم النصيرات للنازحين الفلسطينيين بغزة (أ.ف.ب)
TT

تحذيرات مصرية من عرقلة «مسار اتفاق غزة» وتجزئة الإعمار

فلسطينيون يسيرون وسط الملاجئ في مخيم النصيرات للنازحين الفلسطينيين بغزة (أ.ف.ب)
فلسطينيون يسيرون وسط الملاجئ في مخيم النصيرات للنازحين الفلسطينيين بغزة (أ.ف.ب)

تتواصل جهود الوسطاء للدفع بالمرحلة الثانية في اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وسط مخاوف وتحذيرات مصرية، من عرقلة ذلك المسار المرتقب أن يدخل حيز التنفيذ بعد أقل من أسبوع في يناير (كانون الثاني) المقبل.

ذلك الموقف المصري، الرافض لتجزئة الإعمار أو تقسيم قطاع غزة أو وضع شروط إسرائيلية بشأن قوات الاستقرار في القطاع، يحمل رسائل مهمة للضغط على إسرائيل قبل لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 29 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وفق تقديرات خبراء تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، وتوقعوا أن تضغط واشنطن لبدء المرحلة الثانية في ضوء تلك الرسائل المصرية.

وأعلن وزير الخارجية الألماني، يوهان فاديفول، في تصريحات، الجمعة، أن ألمانيا لن تشارك في المستقبل المنظور في قوة دولية للاستقرار في غزة ضمن خطة السلام الخاصة بالقطاع المتوقع أن تنتشر الشهر المقبل.

هذه الخطوة تعزز مخاوف مصرية، تحدث بها رئيس الهيئة العامة للاستعلامات المصرية، ضياء رشوان، متهماً نتنياهو بأنه «يحاول إعادة صياغة المرحلة الثانية وحصرها في مطلب نزع سلاح المقاومة، وهو ما لا ينص عليه الاتفاق، وتدركه الولايات المتحدة جيداً»، مشيراً إلى مساعٍ إسرائيلية لإقحام قوة حفظ الاستقرار في أدوار لا تتعلق بتكليفها، مثل نزع السلاح، وهو أمر لن توافق عليه الدول المشاركة.

وأكد رشوان، الخميس، وفق ما أوردت قناة «القاهرة الإخبارية» الفضائية، أن «محاولات نتنياهو قد تؤدي إلى تأجيل أو إبطاء التنفيذ، لكنها لن تنجح في إيقاف المرحلة الثانية»، مشيراً إلى أن «نتنياهو يسعى بكل السبل لتجنب الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، ودفع واشنطن إلى مواجهة مع طهران، بما قد يعيد إشعال غزة ويُفشل المرحلة الثانية من الاتفاق».

والخميس، نقل موقع «واي نت» الإخباري الإسرائيلي عن مصدر عسكري قوله إن نتنياهو سيُطلع ترمب على معلومات استخباراتية عن خطر الصواريخ الباليستية الإيرانية خلال اجتماعهما المرتقب قبل نهاية العام الحالي، لافتاً إلى أن بلاده قد تضطر لمواجهة إيران إذا لم تتوصل أميركا لاتفاق يكبح جماح برنامج الصواريخ الباليستية - الإيرانية.

أمين عام «مركز الفارابى للدراسات السياسية»، الدكتور مختار غباشي، قال إن التصريحات المصرية واضحة وصريحة، وتحمل رسائل للكيان الإسرائيلي وواشنطن قبل الزيارة المرتقبة، مؤكداً أن الغضب المصري عندما يصل لهذه المرحلة من الرسائل المباشرة، تضع واشنطن في حساباتها الوصول لنقطة تقارب بين القاهرة وتل أبيب.

وأكد المحلل السياسي الفلسطيني، نزار نزال، أن التصريحات المصرية تحمل في طياتها رسائل ومخاوف حقيقية من ترسيخ إسرائيلي للوضع القائم من منظور أمني وليس سياسياً، على أمل أن تتحرك واشنطن بجدية لوضع نهاية له.

منازل مدمرة في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة (أ.ف.ب)

ولا يتوقف الموقف المصري عند مجرد المخاوف، بل يحمل تحذيرات واضحة، وقال وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، الخميس، في مقابلة مع التلفزيون المصري، إن «هناك خطين أحمرين في غزة، الخط الأحمر الأول يتمثل في عدم الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، هذا مستحيل، المنطقتان تشكلان وحدة واحدة لا تتجزأ للدولة الفلسطينية القادمة، والخط الأحمر الثاني عدم تقسيم قطاع غزة».

وأضاف أن «الكلام اللغو الذي يقال عن وجود تقسيم القطاع إلى مناطق حمراء وخضراء أو أن الأماكن التي تقع تحت سيطرة إسرائيل مباشرة تأكل وتشرب وترى إعماراً، بينما الـ90 في المائة من الفلسطينيين الموجودين في الغرب تحت دعاوى أن (حماس) موجودة لا يأكلون ولا يشربون، هذا عبث ولن يتم ولن يتم التوافق عليه».

وفي ضوء ذلك، شدد مختار غباشي على أن مصر عندما تعلن خطوطاً حمراء، فهذا حد فاصل، وثمة مخالفات على أرض الواقع غير مقبولة، للقاهرة، مشيراً إلى أن القاهرة تتعمد هذه الرسائل في هذا التوقيت على أمل أن تعزز مسار الوسطاء نحو بدء المرحلة الثانية قريباً، خاصة أنه «إذا أرادت واشنطن فعلت ما تريد، خصوصاً إن كان الأمر يتعلق بضغط على الكيان لوقف مساراته المعرقلة للاتفاق».

وذكرت صحيفة «إسرائيل اليوم»، الخميس، أن لقاء نتنياهو وترمب المرتقب سيختتم ببيان عن التقدم المحرز نحو المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار بقطاع غزة.

وأكد رشوان أن جميع الشواهد تؤكد أن الإدارة الأميركية حسمت موقفها من بدء المرحلة الثانية مطلع يناير المقبل، لافتاً إلى أن استقبال ترمب لرئيس الوزراء الإسرائيلي في 29 ديسمبر الحالي يرجح أن يكون إشارة الانطلاق الفعلية للمرحلة الثانية دون لبس.

ويتوقع نزار نزال أن يحاول نتنياهو في مقابلة ترمب، تمرير سردية بقاء إسرائيل في الخط الأصفر وتقسيم غزة وبدء الإعمار في الجزء الذي يقع تحت سيطرتها، موضحاً: «لكن الرسائل المصرية التحذيرية خطوة استباقية لتفادي أي عراقيل جديدة أو تناغم أميركي إسرائيلي يعطل مسار الاتفاق».


ضربة سعودية تحذيرية في حضرموت... والانتقالي «منفتح على التنسيق»

قوات في عدن خلال مسيرة مؤيدة للمجلس الانتقالي الجنوبي المطالب بالانفصال عن شمال اليمن (إ.ب.أ)
قوات في عدن خلال مسيرة مؤيدة للمجلس الانتقالي الجنوبي المطالب بالانفصال عن شمال اليمن (إ.ب.أ)
TT

ضربة سعودية تحذيرية في حضرموت... والانتقالي «منفتح على التنسيق»

قوات في عدن خلال مسيرة مؤيدة للمجلس الانتقالي الجنوبي المطالب بالانفصال عن شمال اليمن (إ.ب.أ)
قوات في عدن خلال مسيرة مؤيدة للمجلس الانتقالي الجنوبي المطالب بالانفصال عن شمال اليمن (إ.ب.أ)

فيما أعاد البيان الصادر عن وزارة الخارجية السعودية رسم المسار المطلوب للتهدئة، شرق اليمن، إذ شدد على وقف التحركات العسكرية الأحادية، مع المطالبة بعودة قوات المجلس الانتقالي الجنوبي إلى مواقعها السابقة خارج حضرموت والمهرة، أكدت الرياض موقفها ميدانياً عبر توجيه ضربة جوية تحذيرية، وفق ما أكدته مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط».

وأوضحت المصادر أن الضربة جاءت لإيصال رسالة مفادها عدم السماح بفرض وقائع جديدة بالقوة أو تجاوز الأطر المؤسسية التي تحكم الملف الأمني في المحافظات الشرقية، محذرةً من أن أي تصعيد إضافي سيقابل بإجراءات أشد صرامة.

الخارجية السعودية كانت وصفت تحركات «الانتقالي» بأنها أحادية وأضرت بمسار التهدئة، داعيةً إلى خروج عاجل ومنظم للقوات وتسليم المعسكرات تحت إشراف التحالف وبالتنسيق مع مجلس القيادة الرئاسي والسلطات المحلية.

من جهته، أصدر المجلس الانتقالي الجنوبي بياناً، الجمعة، حاول فيه تبرير تحركاته العسكرية، معتبراً أنها جاءت استجابةً لـ«دعوات شعبية جنوبية» لمواجهة التهديدات الإرهابية وقطع خطوط تهريب الحوثيين.

وأكد «الانتقالي»، في بيانه، أنه منفتح على أي تنسيق أو ترتيبات مع السعودية، معتبراً الضربة الجوية «قصفاً مستغرباً» لا يخدم مسارات التفاهم.

وقال مراقبون لـ«الشرق الأوسط» إن التنسيق والترتيبات سيكون مرحباً بهما من قبل السعودية إذا كانت تصب في إنهاء التصعيد وخروج قوات «الانتقالي الجنوبي» واستلام قوات «درع الوطن» الجنوبية والسلطة المحلية المعسكرات والأمن في محافظتي حضرموت والمهرة. والجلوس للتشاور والحوار من دون الحاجة لاستخدام القوة.

ويتوقع مراقبون أن تؤدي الضربة التحذيرية إلى توصيل رسالة واضحة بأن الرياض قد تضطر للانتقال من سياسة الاحتواء الهادئ إلى فرض خطوط حمر لمنع أي تصعيد بالقوة.

وتشير مصادر «الشرق الأوسط» إلى أن أي تسوية مستقبلية ستقوم على عودة الأوضاع إلى ما قبل التصعيد، مدخلاً أساسياً للحفاظ على وحدة الصف اليمني، ومنع انزلاق المحافظات الشرقية إلى مسار يهدد جهود السلام.

كان البيان السعودي أكد على دعم الرياض الكامل لوحدة اليمن وأمنه واستقراره، مشدداً على أن معالجة القضية الجنوبية العادلة لا تتم عبر القوة، بل من خلال حوار سياسي شامل، ضمن المرجعيات المتفق عليها، وفي مقدمتها اتفاق الرياض وإعلان نقل السلطة.

وكشف البيان عن تنسيق سعودي - إماراتي لإرسال فريق عسكري مشترك إلى عدن، لوضع آلية لإعادة انتشار القوات ومنع تكرار التصعيد، في خطوة عدها مراقبون انتقالاً من التحذير السياسي إلى الضبط التنفيذي الميداني.


بعد 9 أشهر... الحوثيون يعترفون بمقتل قادة طيرانهم المسيّر

مركبات عسكرية تحمل نعوشاً وصوراً لكبار قادة الحوثيين العسكريين الذين قُتلوا في غارة جوية أميركية (إ.ب.أ)
مركبات عسكرية تحمل نعوشاً وصوراً لكبار قادة الحوثيين العسكريين الذين قُتلوا في غارة جوية أميركية (إ.ب.أ)
TT

بعد 9 أشهر... الحوثيون يعترفون بمقتل قادة طيرانهم المسيّر

مركبات عسكرية تحمل نعوشاً وصوراً لكبار قادة الحوثيين العسكريين الذين قُتلوا في غارة جوية أميركية (إ.ب.أ)
مركبات عسكرية تحمل نعوشاً وصوراً لكبار قادة الحوثيين العسكريين الذين قُتلوا في غارة جوية أميركية (إ.ب.أ)

بعد 9 أشهر من الإنكار والتكتم، أقرّت الجماعة الحوثية بخسارة إحدى أهم وحداتها القتالية، مع تشييع قائد سلاح الطيران المسيّر اللواء زكريا حجر وعدد من أبرز معاونيه، الذين يرجح أنهم قُتلوا في غارة أميركية استهدفتهم داخل أحد المنازل بحي الجراف شرق صنعاء خلال شهر رمضان الماضي.

الاعتراف الحوثي المتأخر أعاد فتح ملف الخسائر العسكرية الثقيلة التي مُني بها جناح الجماعة العسكري، وكشف جانباً من حجم الضربات التي طالت بنيته القيادية والتقنية خلال الأشهر الماضية.

وجاء هذا الإقرار من قبل الجماعة المتحالفة مع إيران بعد أشهر من إقرار مماثل بمقتل رئيس هيئة أركانها محمد الغماري، عبر مراسم تشييع نُظمت في صنعاء.

وشملت مراسم تشييع حجر، التي أقيمت الخميس، كلاً من مدير العمليات في وحدة الطيران المسيّر اللواء محمد الحيفي، واللواء عبد الله حجر، والعميد أحمد حجر، والعميد حسين الهاشمي. ويُعد هؤلاء من أبرز القادة في وحدة الطيران المسيّر التي أُنشئت بإشراف وتدريب مباشر من الحرس الثوري الإيراني والجناح العسكري لـ«حزب الله» اللبناني، وشكّلت خلال السنوات الماضية أحد أهم أذرع الحوثيين في تنفيذ الهجمات العابرة للحدود.

الحوثيون تعمّدوا التكتم على خبر مقتل حجر 9 أشهر (إعلام محلي)

وعلى الرغم من أن هذه الخسارة تُعد ثاني أكبر خسارة تعترف بها الجماعة بعد مقتل الغماري، فإن اللافت في مراسم التشييع كان الغياب شبه الكامل للقيادات العسكرية البارزة. إذ غاب وزير دفاع الجماعة محمد العاطفي، الذي تُرجّح مصادر إصابته في غارة إسرائيلية استهدفت اجتماعاً للحكومة غير المعترف بها في نهاية أغسطس (آب) الماضي، ومنذ ذلك الحين اختفى عن الأنظار.

كما غاب رئيس هيئة الأركان الجديد يوسف المدني، إلى جانب معظم القادة العسكريين، واقتصر الحضور على مفتي الجماعة شمس الدين شرف الدين، والقائم بأعمال رئيس الحكومة غير المعترف بها محمد مفتاح، في مؤشر فسّره مراقبون بحجم الإرباك الذي تعانيه القيادة العسكرية للجماعة.

ضربات موجعة

يرى مراقبون عسكريون أن الهجمات الأميركية التي استهدفت مخابئ القادة الحوثيين ومخازن أسلحتهم ومراكز القيادة والسيطرة، قبل التوصل إلى هدنة بين الطرفين، كادت أن تُخرج القوة الصاروخية وسلاح الطيران المسيّر عن الخدمة. فقد خسر الحوثيون خلال تلك الضربات أبرز كوادرهم المتخصصة، من قائد الوحدة ومسؤول العمليات والدراسات، إلى المسؤولين التقنيين والمشرفين على ورش تركيب وتجهيز الطائرات المسيّرة، إضافة إلى مختصين بعمليات الإطلاق والتوجيه.

غياب القادة العسكريين لجماعة الحوثي عن مراسم التشييع (إعلام محلي)

وفي هذا السياق، وصفت منصة «ديفانس أونلاين» المتخصصة في الشؤون العسكرية والأمنية زكريا حجر (39 عاماً) بأنه خبير محوري في منظومة الصواريخ وبرنامج الطيران المسيّر لدى الحوثيين، وأحد الفنيين الذين عملوا إلى جانب خبراء ومستشارين من «الحرس الثوري» و«فيلق القدس»، إضافة إلى جنسيات عربية، على تطوير القدرات القتالية للجماعة.

وأشارت المنصة إلى أن حجر يرتبط بعلاقة مصاهرة مع عائلة عبد الملك الحوثي، وأن عدداً من إخوته وأفراد أسرته يشغلون مواقع مهمة داخل هياكل الجماعة.

وحسب المعلومات، جرى تعيين حجر عقب اجتياح صنعاء ضمن هياكل وزارة الدفاع التابعة للجماعة، ومنح رتبة عسكرية رفيعة، قبل أن يتولى الإشراف على برنامج الطيران المسيّر ضمن منظومة «القوة النوعية» المرتبطة بالمجلس الجهادي للحوثيين. وتؤكد مصادر متطابقة أن هذه الوحدة لعبت دوراً رئيسياً في الهجمات التي استهدفت العمق اليمني ودول الجوار وخطوط الملاحة الدولية.

اعترافات متأخرة

تشير منصة «ديفانس أونلاين» إلى أن حجر يُعد من العناصر المطلوبين للقضاء اليمني، وقد ورد اسمه ضمن قائمة قيادات خضعت للمحاكمة أمام القضاء العسكري في مأرب منذ مطلع 2022، بتهم تتعلق بالتمرد والقتل والإرهاب.

كما أدرجه التحالف الداعم للشرعية ضمن قوائم الإرهاب في أغسطس (آب) من العام نفسه، إلى جانب أربعة آخرين، لارتباطهم المباشر بعمليات إطلاق الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، وتهريب الأسلحة الإيرانية، والمشاركة في الهجمات على الشحن الدولي في البحر الأحمر والبحر العربي وخليج عدن.

ويؤكد الصحافي المتخصص في شؤون الحوثيين، عدنان الجبرني، أن وحدة الطيران المسيّر تلقت «ضربات قاتلة» جراء الغارات الأميركية التي نُفذت خلال الأشهر الأولى من ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترمب. وأوضح أن حجر قُتل في غارة استهدفت منزلاً بحي الجراف، ومعه اثنان من أبرز مساعديه، أثناء تناول وجبة الإفطار في شهر رمضان، إلا أن الجماعة فرضت تعتيماً مشدداً على هوية المستهدفين.

ناشطون حوثيون كشفوا عن مقتل ثمانية من أشقاء حجر خلال تجنيدهم مع الجماعة (إكس)

وفي نعي آخر، أقرت قيادات حوثية بأن حجر قُتل قبل مصرع محمد الغماري، الذي يُرجّح أنه لقي حتفه في غارة استهدفت منزلاً بحي حدة جنوب صنعاء، كان الحوثيون قد استولوا عليه وحولوه إلى مركز للعمليات العسكرية، رغم ترويج شائعات آنذاك عن نجاته ومغادرته المكان قبل دقائق من الضربة.

وتجمع مصادر حكومية ومراقبون على أن هذه الخسائر القيادية والتقنية كانت عاملاً رئيسياً وراء عرض الحوثيين هدنة مع الجانب الأميركي، التزموا بموجبها بوقف استهداف السفن في جنوب البحر الأحمر وخليج عدن، مقابل وقف الضربات الأميركية التي استهدفت قيادات مهمة في جناحهم العسكري، ودمرت مخازن سرية للأسلحة ومراكز للقيادة والسيطرة في صنعاء وصعدة والحديدة.

ويذهب هؤلاء إلى أن الاعتراف المتأخر بمقتل قادة الطيران المسيّر يعكس حجم الضرر الذي أصاب أحد أهم أذرع الجماعة، ويؤشر إلى مرحلة جديدة من إعادة ترتيب الصفوف تحت ضغط الخسائر.