البشرية تدخل طور الإنسان «البيولوجي ـ الاستهلاكي»

تصورات جديدة عن دور الوفرة الغذائية في ظهوره

البشرية تدخل طور الإنسان «البيولوجي ـ الاستهلاكي»
TT

البشرية تدخل طور الإنسان «البيولوجي ـ الاستهلاكي»

البشرية تدخل طور الإنسان «البيولوجي ـ الاستهلاكي»

من بين الكتب التي استعرضتها الصحافة البريطانية حديثاً استوقفني كتاب من إدوين غَيْلْ Edwin Gale البروفسور الأسبق في الطب في جامعة بريستول، المعنون «النوع البيولوجي الذي غيّر نفسه» مع عنوان فرعي تابع «كيف أدى الازدهار إلى إعادة تكييف البشرية لنفسها».
يطرح الكاتب تصوراته عن أن وفرة الغذاء أدت إلى الوصول إلى نمط «المخلوق الاستهلاكي» الذي تطورت لديه سمات بيولوجية لم تكن موجودة لدى سابقيه من الأنماط البشرية. وإن كان النوع البيولوجي يتحدد بجيناته المتوارثة وبالوسط المحيط لنشأته، فإن الكاتب يرى أن هذا النوع البيولوجي الجديد من الإنسان، غيّر نفسه فعلاً بعد أن ازداد وسطه المحيط - الذي صنعه هو بنفسه - تأثيراً، مع ازدياد الوفرة وانتشار التعليم.

ربما تبدو التصورات التي يقدمها الكاتب غريبة في كونها تتحدث عن نمط «بيولوجي» حديث، إلا أن علينا أن نتذكر أن النشاطات البشرية قادت إلى خلق بيئة غير مسبوقة على الأرض، فقد أدت الثورة الصناعية، وخصوصاً منذ نهاية أعوام الأربعينات في القرن الماضي إلى انطلاقة عظمى في ميدان الأبحاث والتصنيع؛ ما زاد من تلوث البيئة بالمواد الجديدة والانبعاثات الضارة وملوثات التربة والجو والماء. وقد ارتد هذا الأمر على الإنسان على شكل أمراض تنفسية وقلبية وسرطانية، بل إنه أثر حتى على بنية الإنسان البيولوجية؛ إذ أشار العديد من الأبحاث مثلاً إلى تدهور القدرات التناسلية للرجال في أوروبا بعد أن قلّت حيوية وحركية الحيوانات المنوية وأعدادها لديهم، بتأثير الملوثات حسبما يعتقد.
وإضافة إلى ذلك، يبدو أن تأثير الإنسان على الأرض قاد مجموعات من العلماء في الجيولوجيا إلى اعتماد نوع جديد من العصور الجيولوجية يمثل «العصر الجيولوجي الناجم عن التأثير البشري».
ويسمى هذا العصر «الأنثروبوسين»، وهو حقبة مقترحة يعود تاريخها إلى بداية التأثير البشري الكبير على جيولوجيا الأرض والنظم الإيكولوجية، بما في ذلك، على سبيل المثال، تغير المناخ بسبب الإنسان.
النمط الجديد للإنسان الذي يتحدث عنه البروفسور غيل في كتابه يشتمل على خصائص بيولوجية ملاحظة، منها أن الإنسان المعاصر أضحى أكثر طولاً، وأكثر شحماً، وأطول عمراً، وأكثر تعاطفاً مع الآخرين، بل - وربما كما يقول - أكثر ذكاءً من كل أسلافه السابقين.
ووفقاً للكاتب الذي يستطرد في تأملاته، فإن الإنسان مر في الماضي بأول نمط، هو «الصياد - جامع القوت» الذي كان يتسم بطول قامته وطول رجليه ورشاقته؛ ما أهله لملاحقة الغزلان لزمن طويل، ويتمتع بأسنان ممتازة لانتفاء الحبوب والسكر من غذائه، كما أنه لم يتعرض لأي جائحات من الأمراض؛ لأن مجموعاته الصغيرة كانت تعيش متناثرة. ولا يعرف عنه معاناته من مرض السكري أو أمراض الشرايين، وعند الهرم لم يكن يزداد وزناً ولا يرتفع لديه ضغط الدم.
أما النمط الثاني للإنسان من الناحية التاريخية، فهو «الإنسان الزراعي» الذي ظهر بانطلاق الثورة الزراعية قبل 10 آلاف عام التي أدت إلى ازدياد تعاسة الإنسان، وفقاً للمؤلف. إذ هنا بدأت حياة الاستقرار وقلّ التنوع الغذائي؛ ما أدى إلى صغر حجم الإنسان وعيشه لأعمار أقصر، مصاباً بفقر الدم متعرضاً للفيروسات التي تنتقل من قطعان الماشية أو الحيوانات البرية التي تدور حول مستوطناته. وفي الوقت نفسه، ظهرت «المرأة الزراعية» التي ازدادت قوة عضلات اليدين لديها بعد أن عكفت على طحن الحبوب على مدار الزمن.
ويضم الكتاب مقتطفات تضفي عليه نوعاً من الظرافة عند حديثه عن عادات تسمين العروس لدى قبائل في نيجيريا داخل غرفة خاصة لأشهر عدة، ومخاطر استخدام الاسترويدات المصنعة للكمال الجسماني.
وعودة إلى النمط الجديد للإنسان، يتحدث الكاتب عن بزوغ فجر الوفرة الغذائية مع تطوير الأسمدة الزراعية. ويقول، إن السمنة هي أهم خصائص وعلامات النمط «البيولوجي الاستهلاكي» الجديد، مشيراً إلى أن السمنة ليست مرضاً، بل إنها جانب من نمط الإنسان الجديد؛ ولهذا فهو لا يوافق على مصطلح «وباء السمنة» الشائع؛ إذ إنه لا يشكل على سبيل المثل الخطر الذي تشكله أخطار التغيرات المناخية في الأرض.
ويقول، إن «ازدياد السمنة قد تصادف مع الانحسار المدهش لأعداد الوفيات بأمراض الشرايين التاجية في القلب»، مضيفاً أن سبب ذلك غير معروف، ربما قد يكون ناجماً عن سرعة التدخل العلاجي والإقلاع عن التدخين.
وعموماً، فإن «الإنسان أكثر تكيفاً الآن مع السمنة من السابق»؛ إذ أصبح الرقم 60 سنة للعمر حالياً معياراً شائعاً مقابل الرقم 50 سنة في السابق، كما أن «وزن 80 كيلوغراماً الآن قد حل كمعيار محل الـ70 كيلوغراماً في السابق».
وبشكل ظريف يقول، إن الحديث عن السمنة هو عملية تمييز اجتماعي؛ فالرفاهية والغنى يرتبطان بالرشاقة، بينما ترتبط السمنة بالفقر، و«هكذا أصبح النبذ أو العزل الاجتماعي مرتبطاً بالسمنة؛ إذ يغدو الأغنياء أكثر غنى بينما يغدو الفقراء أكثر سمنة»!
ويشير الكاتب إلى أن محو الأمية وانتشار التعليم أديا إلى ازدياد تعاطف النمط الجديد مع الإنسان مع أقرانه.
وتعتبر المراهقة أيضاً إحدى خصائص النمط الجديد للإنسان؛ «فالأطفال يدخلون الآن طور المراهقة في أعمار أصغر بـ4 سنوات تقريباً عما مضى». وتشير الإحصاءات في السويد مثلاً إلى أن متوسط العمر لأول دورة شهرية للفتيات انخفض من 16.5 إلى 12.5 سنة من بين القرنين التاسع عشر والعشرين.
ويشير الكاتب إلى أن المجتمعات المعاصرة تلجأ إلى وضع كبار السن في «خانة المرضى» بدلاً من أن تتقبل حقيقة أن العمر المتقدم –بكل صعوباته - هو جانب من جوانب النمط الجديد من الإنسان. ويقول منتقداً، إن نطاق «المعايير الاعتيادية» التي تتعلق بالوزن أو ضغط الدم وغيرهما يتم تحديدها لنطاق من البالغين الشباب... ولذا؛ فإن أي تغير في تلك المعايير، خصوصاً لدى كبار السن يعتبر غير صحي... وأن علينا أن نجبر على اعتبار حبوب الدواء جزءاً من الحياة مع تقدم العمر».

The Species That Changed itself
How Prosperity reshaped Humanity
By Edwin gale



فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.