الأدب والفلسفة... عضوان في عائلة واحدة

كتاب «مقدمة كمبردج» يقدم رؤية عن الكيفية التي يعملان بها

أنتوني جَيْ. كاسكاردي
أنتوني جَيْ. كاسكاردي
TT

الأدب والفلسفة... عضوان في عائلة واحدة

أنتوني جَيْ. كاسكاردي
أنتوني جَيْ. كاسكاردي

تشارك الأدبُ والفلسفة منذ أزمانٍ بعيدة اهتماماً بأسئلة الحقيقة، والقيمة، والشكل؛ ولكن رغم ذلك فقد أظهرا تباعداً حاداً بينهما منذ عصور قديمة وحتى يومنا هذا، وظهر ذلك التباعد في مقاربة كلّ منهما لتلك الأسئلة، وفي علاقة كلّ منهما مع الآخر. يُضافُ لذلك أن الاختلافات العميقة بين الكُتّاب الأفراد، والحقب التاريخية، واللغات فرضت تحدّياتٍ على كلّ من ينشد فهم العلاقة بين هذين الحقلين المعرفيين.
يوفّرُ كتاب «مقدّمة كمبردج في الأدب والفلسفة Cambridge Introduction to Literature and Philosophy» - الصادر بطبعة ثانية عام 2019 عن جامعة كمبردج - دليلاً مركّباً معمّقاً وتأصيلياً لفهم هذه الإشكالية الكبيرة عبر مقاربة تعتمد الكشف عن الاهتمامات العميقة التي يتشارك بها الأدب والفلسفة في الوقت ذاته الذي لا تغفلُ فيه المقدّمة عن تقديم أطروحة بيّنة بشأن الاختلافات الحاسمة بينهما. تُلقي هذه المقدّمة أضواء كاشفة جديدة على الكثير من المناقشات الجدلية القائمة، وتوفّر لطلبة وأساتذة كلّ من النقد الأدبي، والنظرية النقدية، والفلسفة الفرصة للتفكّر الهادئ والرصين غير المسبوق في تلك الأسئلة التي شغلت التقاليد الفكرية الغربية طويلاً منذ بداياتها وحتى عصرنا الحاضر.
يعمل البروفسور أنتوني جَيْ. كاسكاردي Anthony J. Cascardi عميداً لقسم الفنون والإنسانيات بجامعة كاليفورنيا - بيركلي، وفي الوقت ذاته يشغل منصب أستاذ مميّز Distinguished Professor في الأدب المقارن، والبلاغة، والدراسات الإسبانية في الجامعة ذاتها، وقد نشر الكثير من الكتب التي صارت مرجعيات معتمدة في ميادينها البحثية.
يؤكّد المؤلف في تقديمه الممتاز للكتاب، أنّ الأدب والفلسفة يشبهان في نواحٍ كثيرة عضوين في عائلة واحدة: يتنازعان أحياناً بخصومة عنيفة، وفي أحيان أخرى يتشاركان الهدوء والدعة من خلال إنكار وجود الآخر أو من خلال مشاركة كلّ الاهتمامات الثنائية الممكنة، ثم يؤكّد المؤلف أيضاً أنّ هذا الكتاب هو مقدّمة للكشف عن صلة القرابة التي تقبعُ في الجذور العميقة للعلاقة بين الأدب والفلسفة، وكذلك للكشف عن الخصومات النزاعية بينهما.
يبدأ الكتاب مادّته بتأكيد حقيقة أنّ الأدب والفلسفة - مثل أي أعضاء في العائلة ذاتها - يتشاركان تأريخاً يحملُ كلّ اهتماماتهما المشتركة، وبالنظر لكون التأريخ مادة ضاربة في القدم إلى حدّ أنّ أفلاطون، في أقلّ التقديرات، دعاه «الأزمنة القديمة»؛ فإنّ المترتّبات الناتجة من التأريخ ووقعها على الحاضر ستكون – بلا شك - كثيرة. إنّ التحدّيات الأدبية أمام الفلسفة، والتي لا تقلّ عنها شأناً بعض الممانعات الفلسفية تجاه الأدب، تمضيان في الاستمرار بموقفهما - جزئياً - بسبب أنّ مُناصري كلّ طرفٍ يؤمنون إيماناً قاطعاً بوجود قيمة أساسية جوهرية لديهم لا يمتلك الآخرون القدرة على رؤيتها؛ غير أنّ موضوعة هذا الكتاب ليست التأكيد على موضع الاختلافات بين الأدب والفلسفة فحسب. إنّ الصلات القرابية الوثيقة بين الفلسفة والأدب جوهرية وعميقة، وعلى هذا الأساس فإنّ الاختلافات المزعومة بينهما قلّما تكون أمراً مؤثّراً إلّا في الحالات التي يُرادُ من ورائها التأكيد على كون الأدب والفلسفة يتشاركان اهتماماتٍ أساسية وجوهرية؛ إذ إنّ موضوعاتٍ من قبيل الحقيقة، والقيمة، والشكل (التي تمثل عناوين ثلاثة للمحاور التي جعلها المؤلف هياكل تنظيمية لهذه المقدّمة) هي ليست مملكة حصرية لأي من الأدب والفلسفة؛ ولكن رغم ذلك فإنّ كلاً منهما يسعى للمضي في مسلكه بوسائل مختلفة تماماً (وأحياناً تكون النتائج المتحصّلة من هذا السعي مختلفة) في مقاربة كلّ منهما لموضوعات الحقيقة والقيمة والشكل؛ وعليه توفّرُ هذه المقدّمة - كما يؤكّد المؤلف في غير موضع - وسيلة لفهم صلات التقارب والاختلافات التي تبدو نتيجة حتمية بين الأدب والفلسفة، كما توفّرُ هذه المقدّمة للقارئ صورة واسعة عن حقل معرفي يسوده التنازع الخلافي الشديد أحياناً؛ لكن وراء تلك الصورة الخلافية الواسعة يكمن الجواب الحاسم للسؤال التالي (لِمَ يتوجب على الأدب والفلسفة أن يكون كلّ منهما ذا أهمية قصوى للآخر حتى في الحالات التي يعجزان فيها دوماً عن إدراك هذه الحاجة ؟).
قد يقع المرء، على سبيل المثال، تحت غواية التفكير بأنّ الأدب يستطيب التعامل مع الروايات التخييلية، وأنّ التزام الفلسفة الصارم بالحقيقة أمرٌ يستوجب استنكار المنحى التخييلي في الأدب؛ لكنّ هذا الأمر سرعان ما ينجلي خطله؛ لأنّ ثمة الكثير من اللجوء إلى التخييل في بعض أنواع الفلسفة بقدر ما يوجد في الأدب، وبالشاكلة ذاتها ثمّة الكثير من الأدب القائم على الوقائع المادية؛ لكن هناك أيضاً ولعاً أدبياً بالحقيقة التي قد لا تعتمد على الثقة المطلقة بالوقائع الصلبة، أو يمكن أن يجد المرء غواية في القول بأنّ الفلسفة تُعنى بتخليق أدلّة حجاجية صالحة، وأنّ الأدب لا يشاركُها هذا الاهتمام، بل يعتمدُ في المقابل على معقولية مواضعاته المُدّعاة. ثمّة تأريخ طويل من التفكّر في الأدب بتوسّل هذه المفردات التي تمتدّ عميقاً في مجاهل الزمن حتى أرسطو في أقلّ التقديرات؛ لكنّ هذه مقاربة لا يمكن الاعتماد عليها - كذلك - في التفريق بين الأدب والفلسفة.
صُممت هذه المقدّمة لعرض بيان مجملٍ للمثابات المشرقة التي لمعت في سماء الأدب والفلسفة؛ غير أنّ الغرض من هذا العرض يذهب مذهباً أبعد من محض إلقاء الضوء على الاهتمامات الثنائية التي يتشاركُها الأدب والفلسفة؛ إذ يحصل أحياناً أن يوضّح هذا العرض اختلافاتٍ حادّة بينهما غير أنّها تقدّم في الوقت ذاته رؤية عن الكيفية التي يمكنُ بها لكلّ من الأدب والفلسفة امتلاك القدرة على التنويه بالعرفان والتقدير تجاه الموضوعات التي يرى فيها الطرف الآخر منطوية على قيمة عظمى. إنّ المسير على هذا النحو يقودُ إلى سلسلة من تساؤلات إضافية، منها: كيف يعمل الأدب - بالضبط - من الناحية الفلسفية (هذا إن فعل حقاً)؟ ما الوسائل التي يظنّ المرء أنّ الفلسفة تلجأ إليها في توظيف القيم التي يراها الأدب أثيرة لديه (مثل: الأسلوب، القدرة التعبيرية)؟ ما أهمية هذه الاختلافات المتمايزة بين الأدب والفلسفة بالنسبة لأسئلة الحقيقة، والقيمة، والشكل؟
إنّ تناول موضوعات من قبيل التشابه والاختلاف، والتقارب والمبيعدة بين الأدب والفلسفة لهو أمرٌ خليق بجعلنا نرى المواضع التي يكتشف كلّ منهما حدوده الخاصة اللصيقة به فضلاً عن المشتركات الجوهرية بينهما، وأحسبُ أنّ «مقدّمة كمبردج في الأدب والفلسفة» نجحت في تناول هذه المشتركات والاختلافات بين الأدب والفلسفة رغم مشقة هذه المقاربة البحثية التي تستلزم قارئاً ذاً ذائقة أدبية – فلسفية مركّبة اجتهدت في قراءاتها منذ بواكير نشأتها الفكرية.
يقدّم المؤلف عقب الأجزاء الثلاثة للكتاب خلاصة كاشفة لحدود كلّ من الأدب والفلسفة، كما لا ينسى أن يقدّم مسرداً تعريفياً بالمصطلحات التقنية الواردة في الكتاب، وتلك خصيصة مميزة لكلّ كتب «مقدّمات كمبردج» التي أراها رافداً مهماً في تعزيز ثقافة القارئ الشغوف أينما كان في هذا العالم.
- كاتبة وروائية ومترجمة عراقية تقيم في الأردن



«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.