إيطاليا... «الحجر الإبداعي» مقابل «الحجر الصحي»

بعيداً عن الذعر وموجات الهلع

الروائية الإيطالية داتشا مراييني
الروائية الإيطالية داتشا مراييني
TT

إيطاليا... «الحجر الإبداعي» مقابل «الحجر الصحي»

الروائية الإيطالية داتشا مراييني
الروائية الإيطالية داتشا مراييني

لدى الإيطاليين مثل يقول «الحياة مثل الضوء، إنها إشعاع وعطاء»، إلا أنهم الآن يدركون أن هذه الحياة هشّة إلى حدّ أنّ أصغر فيروس يستطيع أن يُفقدهم إيّاها. لقد كشف فيروس كورونا هشاشة الإنسان، وفقدانه لتوازنه أمام الرعب من النهاية، وعيش العزلة التي يسببها الحجر الصحي. إن لحظات الإحساس باليأس والعزلة توقظ الغرائز الأكثر بدائية عند البشر، وهذا ما يجعل الحَجر المُطلق مؤلماً جداً، وصعباً جداً، ويكاد يكون بغيضاً جداً، وهو ما يجعل الترفيه أمراً لا غنى عنه، فهو يساهم بتعديل وقت الإنسان، من وقت الموت والجنائز، إلى وقت الأمل.
وفي الوقت الذي ينتشر هذا الوباء بسرعة فائقة، ويحول مدناً بأسرها مثل ميلانو التي تعتبر مدينة الصناعة والثقافة الإيطالية إلى مدينة أشباح، ومعها عشرات المدن الشمالية، فإن إيطاليا المنكوبة تفرج عن نفسها بعناد لتتعامل مع جنون العالم ومعالجته بالفرح.
تحشد إيطاليا التي قلدتها في تجربتها، كل من فرنسا وبلجيكا وألمانيا، بتسخير كل مؤسساتها الثقافية العملاقة، وتطويعها، لتحقيق الأهداف الكبرى المتمثلة بضرورة تواصل مسيرة الحياة من خلال تسخير الإرث الثقافي والفني، السمعي والبصري، لمعظم الناس المحجورين في منازلهم، ليكونوا على تواصل مجاني مع أهم النتاجات والعروض الراقصة والموسيقية والغنائية. لقد ابتدعت إيطالياً طقوس «الحجر الإبداعي» مقابل «الحجر الصحي» الذي يفرضه فيروس كورونا على الكوكب بأسره، ويشلّ دولاً بأكملها من المطارات إلى المتاجر والمدارس والجامعات، وصولاً إلى دور العبادة والملاعب والنوادي والملاهي والمسارح ودور العروض الثقافية الفنية ودور السينما، رغم بشاعة الظروف، من أجل استعادة التواصل والتضامن. وهو واحد من الأساليب التي يقاوم عبرها البشر الذعر، بإطلاق روح السخرية، وإعادة تفكيك حالة الخواء والضعف البشريين في مواجهة عدو متغطرس وشرير.
البديل الذي سارعت إليه المراكز الفنية، التي تنتشر في جميع المدن الكبيرة والصغيرة، مثل حبات الفطر، هو الالتزام ببرامجها من خلال فتح مواقعها الإلكترونية، والقيام بعروضها بدون جمهور، لتجعل كل شيء في حياة الفن متواصلاً بإعطاء مسرة الرؤية الجميلة، وديمومة التذوق الجمالي عند الناس. ومن خلال هذه المنصات الإلكترونية الرسمية والأهلية، التي يسهل الدخول إليها بالمجان، فتخرج الناس من الانزواء والاعتزال إلى عالم يضج بالحيوية والاندهاش والمتعة الحقيقية.
الإيطاليون يعتقدون أن بلدهم ببره وبحاره، وإرثه الفني العظيم الذي يحتل نسبة تزيد على الـ40 في المائة من إرث العالم، لكل البشر، ليست لشعب دون آخر، وأن لكل إنسان نصيباً من هذا الكوكب الأزرق، ولا حق لأحد بأن يرفع جدراناً، خصوصاً في وجوه الخائفين أو الجائعين أو المرضى أو المهاجرين.
تقول لنا الروائية الإيطالية المعروفة داتشا مراييني، في اتصال تليفوني معها، إن تقدير عامة الناس ينطوي في جانب منه على مُغالطة في قراءة التاريخ، وصورة ذلك أننا قد نسينا حقيقة أنّه يمكن أن تظهر أوبئة تكون عنيفة ومعدية تجعل كل فرد يُراعي وحدته بصفتها سلاحه الأمين في الدفاع عن نفسه ضد مواطنيه، الذين يحتمل أن الوباء قد أصابهم أو قد يُصيبهم، وأنهم مؤهلون ليسكنهم، على الرغم من أن لا أعراض ظهرت عليهم، مع ذلك فقد صرنا لا نثق في بعضنا، ونشك في كل سليم معافى أنه سوف يُصاب بالفيروس ولو بعد حين».
وتضيف الروائية الإيطالية: «بعد هذه التجربة القاسية مع (كوفيد 19)، سوف تعود البشرية بعد دفن موتاها إلى ما كانت عليه، تصخب في أمكنة اللهو، والمطارات والمواصلات، ودور العرض، وأمسيات الشعر، والأفراح، والمهرجانات. إنها تشبه خلية نحل تتعرض لخطر خارجي، فتعلن حالة الطوارئ، وتختفي عن الأعين، إلى أن يزول الخطر، ليعود طنينها كما كان، ولكن هل تكون هذه التجربة الأليمة عبرة في المستقبل، للدول العظمى، كما للصغرى، وللغنية كما للفقيرة، وللأفراد والمجموعات، كما للدول، ولجميع الأعراق والديانات، وللإنسان عموماً في كل مكان؛ هذا الإنسان المتحضّر والمتفوّق جداً، الذي يضطر اليوم إلى أن يعزل نفسه رغم أنفه ليحميها من فيروس ينتشر بفعل العولمة».
آلاف المتاحف وآلاف الغاليريات والمئات من دور السينما والمسارح ودور الأوبرا خالية الآن، إلا أن العديد منها لم توقف مواعيد برامجها المثبتة، بسبب عدم وجود الجمهور، بل أصرت على ضرورة الذهاب إلى الجمهور، من أجل إبراز اللحظات الاستثنائية لجماليات الحياة، متبعة نظام التواصل الإلكتروني (أونلاين)، باعتباره نافذة مؤقتة يستكين المتلقي لعذوبة نسيمها. نحو 47 فعالية عروض فنية ضمن برنامج بلدية في مدينة روما وحدها لهذا العام، ستظل برامج افتتاحها محتفظة بمواعيده، من خلال منصة خاصة ببلدية العاصمة، جنباً إلى جنب، عشرات المسرحيات التي ستبث للجمهور مجاناً، ومعارض في مدينة ميلانو بؤرة الفيروس، مثل معرض «مي آرت» ومعرض «توت غنخ آمون»، ستفتح أبوابها على شاشات البيوت من خلال منصة وزارة الكنوز الثقافية، وافتتاح ترميم جداريات كنيسة «سانتا ماريا ديلا فالي» في مدينة ماتيرا، وكاتدرائية «كوّلاماجو» في مدينة لاكويلا. عشرات الفعاليات الموسيقية داخل الكنائس والقاعات المخصصة في عدة مدن إيطالية، التزمت بتقديم فعالياتها في مواعيدها ونقل فعالياتها مباشرة لجمهورها الإيطالي والأوروبي، جنباً إلى جنب عروض الأزياء، والقيام بنصب عشرات الشاشات السينمائية في الأحياء الفقيرة والساحات لعرض أفلام سينمائية إيطالية من أفلام الواقعية الإيطالية الجديدة. وهناك أيضاً قراءات شعرية من منازل الشعراء، ولقاءات مع كتاب ومثقفين من منازلهم مباشرة، بالإضافة إلى تقديم برامج تعليمية للأطفال في تأكيد جديد على قوة العقل البشري، والرغبة القوية في الحياة والتواصل الإنساني والحضاري، على الضد من المشككين من بعض الأحزاب السياسية الذين يستغلون أوقات المحن.


مقالات ذات صلة

«كورونا» قد يساعد الجسم في مكافحة السرطان

صحتك أطباء يحاولون إسعاف مريضة بـ«كورونا» (رويترز)

«كورونا» قد يساعد الجسم في مكافحة السرطان

كشفت دراسة جديدة، عن أن الإصابة بفيروس كورونا قد تساعد في مكافحة السرطان وتقليص حجم الأورام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
أوروبا الطبيب البريطاني توماس كوان (رويترز)

سجن طبيب بريطاني 31 عاماً لمحاولته قتل صديق والدته بلقاح كوفيد مزيف

حكم على طبيب بريطاني بالسجن لأكثر من 31 عاماً بتهمة التخطيط لقتل صديق والدته بلقاح مزيف لكوفيد - 19.

«الشرق الأوسط» (لندن )
الاقتصاد السعودية تصدرت قائمة دول «العشرين» في أعداد الزوار الدوليين بـ 73 % (واس)

السعودية الـ12 عالمياً في إنفاق السياح الدوليين

واصلت السعودية ريادتها العالمية بقطاع السياحة؛ إذ صعدت 15 مركزاً ضمن ترتيب الدول في إنفاق السيّاح الدوليين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
صحتك تم تسجيل إصابات طويلة بـ«كوفيد- 19» لدى أشخاص مناعتهم كانت غير قادرة على محاربة الفيروس بشكل كافٍ (رويترز)

قرار يمنع وزارة الصحة في ولاية إيداهو الأميركية من تقديم لقاح «كوفيد»

قرر قسم الصحة العامة الإقليمي في ولاية إيداهو الأميركية، بأغلبية ضئيلة، التوقف عن تقديم لقاحات فيروس «كوفيد-19» للسكان في ست مقاطعات.

«الشرق الأوسط» (أيداهو)
أوروبا أحد العاملين في المجال الطبي يحمل جرعة من لقاح «كورونا» في نيويورك (أ.ب)

انتشر في 29 دولة... ماذا نعرف عن متحوّر «كورونا» الجديد «XEC»؟

اكتشف خبراء الصحة في المملكة المتحدة سلالة جديدة من فيروس «كورونا» المستجد، تُعرف باسم «إكس إي سي»، وذلك استعداداً لفصل الشتاء، حيث تميل الحالات إلى الزيادة.

يسرا سلامة (القاهرة)

«دماغ السحلية»... أسباب انشغالنا بآراء الآخرين عنا

صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
TT

«دماغ السحلية»... أسباب انشغالنا بآراء الآخرين عنا

صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)

وجدت دراسة جديدة، أجراها فريق من الباحثين في كلية الطب بجامعة نورث وسترن الأميركية، أن الأجزاء الأكثر تطوراً وتقدماً في الدماغ البشري الداعمة للتفاعلات الاجتماعية -تسمى بالشبكة المعرفية الاجتماعية- متصلة بجزء قديم من الدماغ يسمى اللوزة، وهي على اتصال باستمرار مع تلك الشبكة.

يشار إلى اللوزة تُعرف أيضاً باسم «دماغ السحلية»، ومن الأمثلة الكلاسيكية لنشاطها الاستجابة الفسيولوجية والعاطفية لشخص يرى أفعى؛ حيث يصاب بالذعر، ويشعر بتسارع ضربات القلب، وتعرّق راحة اليد.

لكن الباحثين قالوا إن اللوزة تفعل أشياء أخرى أكثر تأثيراً في حياتنا.

ومن ذلك ما نمر به أحياناً عند لقاء بعض الأصدقاء، فبعد لحظات من مغادرة لقاء مع الأصدقاء، يمتلئ دماغك فجأة بأفكار تتداخل معاً حول ما كان يُفكر فيه الآخرون عنك: «هل يعتقدون أنني تحدثت كثيراً؟»، «هل أزعجتهم نكاتي؟»، «هل كانوا يقضون وقتاً ممتعاً من غيري؟»، إنها مشاعر القلق والمخاوف نفسها، ولكن في إطار اجتماعي.

وهو ما علّق عليه رودريغو براغا، الأستاذ المساعد في علم الأعصاب بكلية فاينبرغ للطب، جامعة نورث وسترن، قائلاً: «نقضي كثيراً من الوقت في التساؤل، ما الذي يشعر به هذا الشخص، أو يفكر فيه؟ هل قلت شيئاً أزعجه؟».

وأوضح في بيان صحافي صادر الجمعة: «أن الأجزاء التي تسمح لنا بالقيام بذلك توجد في مناطق الدماغ البشري، التي توسعت مؤخراً عبر مسيرة تطورنا البشري. في الأساس، أنت تضع نفسك في عقل شخص آخر، وتستنتج ما يفكر فيه، في حين لا يمكنك معرفة ذلك حقّاً».

ووفق نتائج الدراسة الجديدة، التي نُشرت الجمعة في مجلة «ساينس أدفانسز»، فإن اللوزة الدماغية، بداخلها جزء محدد يُسمى النواة الوسطى، وهو مهم جدّاً للسلوكيات الاجتماعية.

كانت هذه الدراسة هي الأولى التي أظهرت أن النواة الوسطى للوزة الدماغية متصلة بمناطق الشبكة المعرفية الاجتماعية التي تشارك في التفكير في الآخرين.

لم يكن هذا ممكناً إلا بفضل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، وهي تقنية تصوير دماغ غير جراحية، تقيس نشاط الدماغ من خلال اكتشاف التغيرات في مستويات الأكسجين في الدم.

وقد مكّنت هذه المسوحات عالية الدقة العلماء من رؤية تفاصيل الشبكة المعرفية الاجتماعية التي لم يتم اكتشافها مطلقاً في مسوحات الدماغ ذات الدقة المنخفضة.

ويساعد هذا الارتباط باللوزة الدماغية في تشكيل وظيفة الشبكة المعرفية الاجتماعية من خلال منحها إمكانية الوصول إلى دور اللوزة الدماغية في معالجة مشاعرنا ومخاوفنا عاطفياً.

قالت دونيسا إدموندز، مرشح الدكتوراه في علم الأعصاب بمختبر «براغا» في نورث وسترن: «من أكثر الأشياء إثارة هو أننا تمكنا من تحديد مناطق الشبكة التي لم نتمكن من رؤيتها من قبل».

وأضافت أن «القلق والاكتئاب ينطويان على فرط نشاط اللوزة الدماغية، الذي يمكن أن يسهم في الاستجابات العاطفية المفرطة وضعف التنظيم العاطفي».

وأوضحت: «من خلال معرفتنا بأن اللوزة الدماغية متصلة بمناطق أخرى من الدماغ، ربما بعضها أقرب إلى الجمجمة، ما يسهل معه استهدافها، يمكن لتقنيات التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة استهداف اللوزة الدماغية، ومن ثم الحد من هذا النشاط وإحداث تأثير إيجابي فيما يتعلق بالاستجابات المفرطة لمشاعر الخوف والقلق».