موريتانيا 2019... عام من التناوب والصدام

ميزه صراع داخل دهاليز الحكم و«حالة طوارئ غير معلنة»

الرئيس  الجديد ولد الغزواني (أ.ف.ب) - الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز (أ.ف.ب)
الرئيس الجديد ولد الغزواني (أ.ف.ب) - الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز (أ.ف.ب)
TT

موريتانيا 2019... عام من التناوب والصدام

الرئيس  الجديد ولد الغزواني (أ.ف.ب) - الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز (أ.ف.ب)
الرئيس الجديد ولد الغزواني (أ.ف.ب) - الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز (أ.ف.ب)

كان 2019 عاماً ترقبه الموريتانيون بفارغ الصبر لأنه حمل الإجابة عن سؤال ديمقراطي أرَّقَهم كثيراً، يتعلق بمدى التزام الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز بنص الدستور، وهو الذي وصل إلى الحكم في آخر انقلاب عسكري تشهده موريتانيا (2008)، لكنه سرعان ما نظَّم انتخابات فاز بها عام 2009. ومع نهاية ولايتين رئاسيتين يمنحهما له الدستور (مدة كل منهما خمس سنوات)، كان جميع الموريتانيين يتساءلون إن كان الرجل سيلتزم بالدستور ويخرج من الباب الكبير، وهو ما حدث بالفعل شهر يونيو (حزيران) الماضي، حين سلم السلطة لصديقه ورفيق السلاح محمد ولد الغزواني. لكن عملية التناوب السلمي على السلطة، التي احتفى بها الموريتانيون، سبقتها مطبات بالجملة، وأعقبها صراع داخل دهاليز الحكم، وحدثت في أوج «حالة طوارئ غير معلنة».
بدأت القصة منتصف شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، عندما كان موعد الانتخابات الرئاسية على الأبواب (بعد 6 أشهر فقط)، حيث قدَّم مجموعة من نواب حزب «الاتحاد من أجل الجمهورية» الحاكم عريضة تطالب بإعادة كتابة دستور البلاد عبر البرلمان، وقَّع عليها أكثر من مائة نائب (مجموع عدد نواب البرلمان 151 نائباً). وقال أحد الموقعين إن الهدف منها هو «كسر الموانع الدستورية لتقدم الرئيس (ولد عبد العزيز) لولاية ثالثة»، كما نظمت في الأيام ذاتها مهرجانات وندوات، تصدرها سياسيون ونافذون قبليون ورجال أعمال يطالبون ولد عبد العزيز بتعديل الدستور للبقاء في الحكم.
كان الوضع آنذاك يوحي بما يشبه الإجماع السياسي على ضرورة بقاء الرئيس في الحكم، مع استثناءات قليلة تمثلها أحزاب المعارضة التقليدية، التي تظاهرت رفضاً لتعديل الدستور. لكنها كانت أضعف من أن تمنع الأغلبية الرئاسية الحاكمة من تنفيذ رغبتها. كما سُمعت أصوات قليلة داخل الأغلبية الرئاسية ترفض تعديل الدستور، ولو أنها كانت محدودة العدد وضعيفة التأثير. لكن الموريتانيين الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي عبروا عن رفض غير مسبوق لخطوة تعديل الدستور، ونظموا حملات قوية ضد النواب والسياسيين المطالبين به، كما أن تقارير «سرية»، أعدتها جهات أمنية موريتانية، أكدت أن الشارع يعارض «الولاية الثالثة».
ولد عبد العزيز، الذي سبق أن أعلن عدة مرات عدم رغبته في الترشح لولاية رئاسية ثالثة، التزم الصمت هذه المرة وكان وقتها خارج البلاد في جولة عربية، بينما كان بعض أفراد عائلته المقربين يلتقون بنواب البرلمان، ويحرضونهم على مواصلة التحرك نحو تعديل الدستور، وهو ما بدا أن الطريق نحوه سالكة، ذلك أن البرلمان الذي جرى انتخابه نهاية العام الماضي (2018)، نال فيه ولد عبد العزيز أغلبية ساحقة، هو من اختارها شخصياً، ودقق في أسمائها قبل ترشيحها للانتخابات، كما أسند رئاسة البرلمان إلى عقيد متقاعد تربطه به صداقة شخصية.
وفيما كانت الأمور توحي بأن ولد عبد العزيز في طريقه نحو البقاء في السلطة لولاية رئاسية ثالثة، صدر بيان مفاجئ عن رئاسة الجمهورية في 15 من يناير (كانون الثاني)، يطالب النواب والسياسيين بـ«التوقف الفوري» عن الدعوة إلى تعديل الدستور، وهو البيان الذي تمت تلاوته عبر التلفزيون الحكومي، وكان يتحدث باسم الرئيس الذي لا يزال موجوداً آنذاك خارج البلاد، ويؤكد على لسانه أنه سيحترم الدستور، ولن يترشح لولاية رئاسية ثالثة، وقد أثار هذا البيان، وظروف إصداره وملابساته، شكوك الموريتانيين، لدرجة أنهم وصفوه بأنه «انقلاب هادئ»، قام به قادة المؤسسة العسكرية لقطع الطريق على بقاء ولد عبد العزيز في السلطة، لأنهم يرون في ذلك تهديداً لأمن البلد.
في تلك الفترات كان الجنرال محمد ولد الغزواني، الذي تقاعد في أكتوبر (تشرين الأول) 2018، يشغل منصب وزير الدفاع في حكومة ولد عبد العزيز، ويقدم من طرف المراقبين على أنه الرئيس المحتمل لموريتانيا بعد ولد عبد العزيز، نظراً إلى العلاقة القوية التي تربطهما، الممتدة لأكثر من 40 عاماً، أفشلا خلالها محاولتين انقلابيتين، ونفذا انقلابين عسكريين ناجحين، وخاضا معاً حرباً شرسة ضد الإرهاب، وكان ولد الغزواني خلال السنوات العشر الماضية الذراع العسكرية والأمنية لصديقه المنشغل بالعمل الحكومي والشأن السياسي.
ومع نهاية فبراير (شباط) الماضي، اجتمع ولد عبد العزيز بعدد من المقربين منه، وأعلن أمامهم أن ولد الغزواني هو مرشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة، وأن على الجميع أن يقف معه، لأن فوزه بالانتخابات «استمرار» لحكمه ونهجه في التسيير، بينما ظل ولد الغزواني يلتزم الصمت، وهو العسكري الهادئ الذي اشتهر بأنه يستمع أكثر مما يتحدث، وكان أول خطاب يوجهه للموريتانيين في فاتح مارس (آذار) الماضي، حين أعلن ترشحه للرئاسيات، مؤكداً أنه يترشح من أجل «رفع التحديات الماثلة ومواجهة المخاطر المحدقة».
وفي حين كان ولد عبد العزيز وولد الغزواني يمهدان الطريق للتناوب على سدة الحكم، كانت المعارضة عاجزة عن توحيد كلمتها، وخوض الانتخابات بمرشح موحد، يكون أكثر قدرة على مواجهة المرشح المدعوم من السلطة، فكان عدد المرشحين للانتخابات ستة مترشحين؛ أربعة منهم من المعارضة، يتقدمهم الوزير الأول الأسبق سيدي محمد ولد ببكر، والناشط الحقوقي بيرام ولد الداه اعبيد، والمعارض التاريخي محمد ولد مولود، بالإضافة إلى النائب البرلماني السابق كان حاميدو بابا.
هكذا، وفي الدور الأول من الانتخابات فاز ولد الغزواني بنسبة زادت قليلاً على 52 في المائة. لكن هذه الانتخابات، التي وُصِفت من طرف المراقبين بأنها «الأقرب للشفافية» في تاريخ البلاد، أظهرت عمق الأزمة الاجتماعية والعرقية في موريتانيا، وكشفت مستوى صعود النزعة الشرائحية بشكل غير مسبوق، إذ أشارت تقارير «سرية» إلى أن التصويت في مناطق واسعة من موريتانيا كان «تصويتاً مبنياً على العرق»؛ حيث صوتت الأعراق (العرب، الزنوج، العبيد السابقون) للمرشحين الذين ينحدرون من العرق ذاته، دون النظر في البرامج الانتخابية أو الانتماء السياسي، وهو ما أدخل البلد في أزمة خانقة خلال الأيام التي أعقبت الاقتراع.
بعد الانتخابات اندلعت عدة احتجاجات، وحدثت أعمال شغب في أحياء من العاصمة نواكشوط، تقطنها أغلبية من الزنوج، كان المحتجون يرفعون فيها شعارات منددة بـ«التزوير»، لكنهم سرعان ما اصطدموا بالأمن، وانتشرت شائعات على مواقع التواصل الاجتماعي بسقوط قتلى وجرحى، وهو ما نفته السلطات التي قطعت خدمة الإنترنت عن الهواتف الجوالة، خشية انتشار الشائعات، لا سيما أن ذلك تزامن مع تصاعد أعمال الشغب والاحتجاجات، التي أرغمت السلطات على نشر وحدات من الجيش في بعض أحياء العاصمة نواكشوط، وبعض المدن على الحدود مع السنغال، وقطع خدمة الإنترنت بشكل كامل لأكثر من أسبوع، عاشته البلاد في وضعية «طوارئ غير معلنة».
حينها، لم يجد الموريتانيون الوقت للاحتفال بـ«العرس الديمقراطي»، الذي عاشته بلادهم. أما السلطات فقد أعلنت أنها سيطرت على الوضع وأحبطت «مؤامرة»، تقف وراءها «أيادٍ خارجية»، كانت تسعى إلى زعزعة الأمن في البلاد، معلنةً اعتقال أكثر من مائة أجنبي، وترحيلهم إلى بلدانهم (السنغال، غامبيا، مالي). كما اعتقل عشرات الناشطين السياسيين، أغلبهم من أنصار المرشح، كان حاميدو بابا، الذي حل في المرتبة الرابعة، ويعتقد أنصاره أن أصواتهم سرقت، وكانوا هم من أشعل فتيل الاحتجاجات في نواكشوط.
في ظل هذه الأجواء، وجد ولد الغزواني أمامه أجواء أمنية متوترة، ووضع سياسي متأزم. فالمعارضة ترفض الاعتراف بفوزه وتتهمه بالتزوير، والأوضاع الاقتصادية صعبة جداً، في ظل الحديث عن مديونية خارجية وصلت إلى 100 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وأزمة اجتماعية وعرقية معقدة، وصفها مراقبون بأنها «قنبلة موقوتة».
بعد تنصيبه رئيساً للبلاد، فاتح أغسطس (آب)، بدأ ولد الغزواني بعقد لقاءات مع قادة المعارضة، وفتح باب التشاور معهم، ما مكنه من تهدئة الأوضاع السياسية، والعمل على ما سماه «تطبيع» العلاقة بين المعارضة والسلطة، منهياً قطيعة هيمنت على العلاقة بين الطرفين خلال السنوات العشر، التي حكم فيها صديقه موريتانيا، وكان ذلك هو أول اختلاف أبانه الرجل في تسيير مقاليد الحكم، على الرغم من أنه كان يظهر منذ البداية اختلافاً في الخطاب والمبادئ والتوجهات، لكنه ظل بطبعه الهادئ يميل إلى إحداث التغيير، بقدر معين من السلاسة والحذر، على حد تعبير أحد المقربين منه.
غير أن أقدار السياسة في موريتانيا، بلد الانقلابات العسكرية والتحولات غير المتوقعة، كانت تخبئ للرجلين ما لم يكن في الحسبان. ففي حين كانت المعارضة تدلي بتصريحات «إيجابية» تجاه ولد الغزواني، وحصيلة مائة يوم أولى من حكمه، عاد ولد عبد العزيز إلى أرض الوطن بعد ثلاثة أشهر من الغياب، وبدأ منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي لقاءات مع قادة حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم، إيذاناً بعودته للساحة السياسية، وهو أمرٌ يبدو أنه لم يكن محل ارتياح لدى الرئيس الحالي، لأن الساحة لا تتسع للرجلين، ومقعد الحكم لا يقبل القسمة على اثنين.
هكذا إذا اندلعت أزمة حادة بين الرجلين، رفض الموريتانيون في البداية تصديقها. لكنها تأكدت حين غاب ولد عبد العزيز عن احتفالات عيد الاستقلال الوطني (28 نوفمبر الماضي)، رغم الدعوة الرسمية التي تلقاها كرئيس سابق. غير أن مقعده ظل شاغراً خلال الحفل، الذي حضره رئيسان سابقان وقيادات في المعارضة، لكن الشيء الذي قطع الشك باليقين هو القرار المفاجئ، الذي اتخذه ولد الغزواني عشية الاستقلال، وذلك بإقالة قائد كتيبة الأمن الرئاسي، وهو الذي يوصف بأنه أحد المقربين من الرئيس السابق، وحينها تأكد الموريتانيون من أن الأزمة بين «الصديقين» وصلت إلى طريق مسدود.
لقد نجح ولد الغزواني في تقليم مخالب صديقه، وأكد سيطرته على مراكز القوة في البلد. فقد انتزع منه أولاً أغلبيته البرلمانية، التي وقعت على عريضة تصفه بأنه «المرجعية الحصرية» للحزب الحاكم، وثانياً قطع الصلة بينه وبين أعوانه داخل المؤسسة العسكرية، عندما أقال بعض المحسوبين عليه في الاستخبارات، وقلّص قوة كتيبة الأمن الرئاسي التي اشتهرت بأنها تدين بالولاء للرئيس السابق، كما جرّده من الحزب، الذي أسسه قبل عشر سنوات (منذ عام 2009)، وأنفق كثيراً من الجهد خلال السنوات الأخيرة في رعايته وتقويته، حيث أعلنت لجنة تسيير الحزب في مؤتمر صحافي أن ولد الغزواني هو صاحب القرار في الحزب.
لقد تعود الموريتانيون على الانقلابات العسكرية، التي تحمل رئيساً جديداً وتطيح برئيس قديم، إلا أنهم يعتقدون أن ما حدث بين ولد عبد العزيز وولد الغزواني، هو انقلاب من نمط آخر. ذلك أنه للمرة الأولى يقوم «رئيس حالي» بانقلاب محكم للإطاحة بـ«رئيس سابق»، وذلك لتجريده من أوراق قوة كان يمكن أن يستخدمها ضده في أي وقت.
إلا أن ولد الغزواني، وبعد أن ينقشع غبار المعارك السياسية، سيجد نفسه أمام تحديات كبيرة، أولها الأزمة الاقتصادية الخانقة لبلد غارق في الديون، ومشكل اجتماعي خطير في ظل تصاعد وتيرة الشحن العرقي والشرائحي في البلد. إضافة إلى الوضع الإقليمي المتردي، خصوصاً في منطقة الساحل الأفريقي، حيث تتمدد جماعات إرهابية خطيرة. إنها ملفات تجعل مهمة الرجل ليست بالسهلة خلال السنوات الخمس المقبلة، وإن كانت نقطة ضوء صغيرة تلوح في آخر النفق بفضل اكتشافات الغاز قبالة السواحل الموريتانية، حيث تحدثت التقديرات عن احتياطي يصل إلى 60 تريليون قدم مكعب من الغاز، سيبدأ إنتاجه وتسويقه عام 2022.


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».