الحبيب الجملي رئيس الحكومة المكلف في تونس... تكنوقراطي أولويته الأمن الغذائي ومكافحة الفقر

جدل حول علاقته بـ«النهضة» ومشروعه عن «الاقتصاد التضامني الاجتماعي»

الحبيب الجملي رئيس الحكومة المكلف في تونس... تكنوقراطي أولويته الأمن الغذائي ومكافحة الفقر
TT

الحبيب الجملي رئيس الحكومة المكلف في تونس... تكنوقراطي أولويته الأمن الغذائي ومكافحة الفقر

الحبيب الجملي رئيس الحكومة المكلف في تونس... تكنوقراطي أولويته الأمن الغذائي ومكافحة الفقر

أثار تكليف الحبيب الجملي... التكنوقراطي المختص في الزراعة والاقتصاد «الاجتماعي التضامني»، بتشكيل الحكومة الجديدة، جدلاً كبيراً في تونس بين المناصرين للقرار والمعارضين له. وتباينت التقديرات لاستقلاليته عن حزب «حركة النهضة» وعن التيار الإسلامي عموماً.
وأخذ الجدل أبعاداً جديدة عندما أعلن الأمين العام لـ«النهضة» وممثلها الأبرز في الحكومة منذ 5 سنوات الوزير زياد العذاري، استقالته من كل مسؤولياته الحزبية، احتجاجاً على اختيار الجملي. ووصف العذاري الاختيار بـ«أنه قرار غير صائب»، وقال عن الجملي إنه «قريب من الإسلاميين»، و«ليس في مستوى التحديات الاقتصادية والسياسية العالمية التي تواجه تونس حالياً».
فمن هو الحبيب الجملي الإنسان والسياسي؟ وهل سينجح في تشكيل حكومة ائتلافية متناسقة مع الرئيس قيس سعيّد ومستشاريه ومع الفسيفساء السياسية والحزبية التي أفرزتها الانتخابات البرلمانية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي؟ وهل سيلقى دعماً من النقابات والمعارضة اليسارية والقومية التي ضغطت على قيادة «النهضة» لمنعها من ترشيح شخصية سياسية حزبية معروفة من داخلها، أم يحصل العكس؟

تسبب تكليف المهندس الحبيب الجملي، منتصف الشهر الماضي، بتشكيل الحكومة التونسية من قبل الرئيس قيس سعيّد في حيرة غالبية السياسيين والصحافيين والنقابيين، الذين أجمعوا أنهم ما كانوا يعرفونه، بما في ذلك غالبية القيادات الوسطى لحزب «حركة النهضة» التي رشحته. ولم تساعد البرقية الموجزة، التي نشرت بمناسبة تعيينه، في التعريف بتجاربه السياسية والاقتصادية ومشواره العلمي والمسؤوليات التي سبق أن تحملها في الدولة وفي مؤسسات الدراسات والاستشارات والاستثمار في القطاع الخاص.
بل لقد أدت إلى تعميق أزمة ثقة كثير من الزعماء السياسيين والنقابيين فيه، خصوصاً أنه عين في «آخر لحظة» عوضاً عن المنجي مرزوق، الخبير الدولي في اقتصاد المعرفة وتكنولوجيا الاتصالات الوزير السابق للصناعة والطاقة.

- ابن الجهات المهمشة
لكن لقاءات التشاور المكثفة التي عقدها الجملي مع قيادات نحو 50 حزباً ونقابة، ومع مثقفين مستقلين، ساهمت في الكشف عن جانب من الغموض الذي يحف بسيرته الذاتية المهنية والشخصية والمهنية والسياسية.
الحبيب الجملي من مواليد قرية صغيرة في محافظة ولاية القيروان، اسمها الكبارة، تبعد عن العاصمة تونس نحو 250 كلم ونحو مائة كلم عن المدن السياحية الساحلية التي ولد فيها غالبية كبار السياسيين طوال السنوات الـ65 الماضية، بينهم الرئيسان الحبيب بورقيبة (1955 - 1987) وزين العابدين بن علي (1987 - 2011) وغالبية رؤساء الحكومات السابقين. وحقاً، لم يسبق تعيين أي مسؤول كبير في الدولة من أبناء هذه الجهة الداخلية الفقيرة، إذا ما استثنينا مصطفى الفيلالي الذي عين وزيراً ومديراً للحزب الحاكم في عقد الستينات، ثم عزل ليتفرغ لمهمات ثقافية وأكاديمية على غرار عدد كبير من أبناء موطنه، وبينهم المؤرخ الجامعي الكبير الهادي التيمومي.
ولا تبعد قرية الكبارة، التابعة لمدينة نصر الله ومنطقة قبائل الجلاص عن محافظة سيدي بوزيد وتجمعات البدو والفلاحين التابعين لقبائل الهمامة والفراشيش والجلاص، الذي فجروا التحركات الشبابية الاحتجاجية في أواخر 2010، ثم في ثورة المهمشين والطبقة الوسطى مطلع 2011 في عدد من المدن التونسية، بينها العاصمة تونس.

- تكنوقراطي مستقل سياسياً
في الحقيقة، لا يُعرف للجملي أي توجه سياسي أو حزبي، سواء قبل الثورة التونسية أو بعدها، إلا أنه تولى منصب مساعد وزير الفلاحة بين أواخر عام 2011 ومطلع 2014، في عهد حكومتي الائتلاف الثلاثي بين «النهضة» وحزبين علمانيين برئاسة حمادي الجبالي وعلي العريّض.
وقد كان، وفق رجال الأعمال والإداريين الذين تعاملوا معه في تلك الفترة، «الوزير الفعلي» المشرف على قطاع الزارعة والصيد البحري «بحكم انشغال الوزير محمد بن سالم القيادي في المكتب التنفيذي في (النهضة) وقتها بأنشطته السياسية والبرلمانية»، مثلما جاء في تصريح المولدي الرمضاني، الأمين العام لنقابة الفلاحين في محافظة القيروان لـ«الشرق الأوسط».
من جهة ثانية، نوه وزير الفلاحة الأسبق محمد بن سالم بخصال الحبيب الجملي، وأشار خصوصاً، لما عرف به من هدوء وتواضع ونظافة يدين، واستعدادٍ «للعمل بجد ونجاعة»، طوال أكثر من 14 ساعة يومياً. كذلك أكد قياديون من «النهضة»، ومن خارجها، على استقلالية الجملي وعدم انتمائه إلى أي هيكل من هياكل الحركة «رغم صداقته لها»، على حد تعبير زعيمه راشد الغنوشي ورئيس مجلس الشورى عبد الكريم الهاروني. لكن - كما سبقت الإشارة - هذه «التطمينات» قابلها تشكيك في استقلاليته من قبل قياديين حاليين وسابقين في الحركة، بينهم الوزير والأمين العام السابق زياد العذاري، وحاتم بولوبيار القيادي السابق الذي انشق قبل بضعة أشهر وترشح للرئاسة في سبتمبر (أيلول) الماضي.

- رجل أعمال وموظف سابق
أيضاً، تكشف السيرة الذاتية التفصيلية للجملي أنه استبق الـ14 سنة التي أمضاها موظفاً في القطاع العام، ثم المسؤوليات التي تحملها في مكاتب الدراسات والاستشارات وفي الشركات الخاصة، بدراسات جامعية حصل في أعقابها على ماجستير في الاقتصاد الفلاحي والتصرف في المؤسسات ذات الصبغة الفلاحية. وأيضاً حصل على عدد من الشهادات العلمية والجامعية بعد مشاركته في دورات تدريب في تونس وفي عدد من العواصم الأوروبية والعربية حول تخصصه في مجال «منظومات الإنتاج الفلاحي وسياسات تنمية القطاع الفلاحي وهيكلته».
واشتغل الجملي ما بين 1987 و2001 في مؤسسات تابعة لوزارة الفلاحة والصيد البحري، تنقل خلالها بين عدة مسؤوليات إدارية وفنية وبحثية. وكلّف بالمشاركة في أشغال عدة لجان داخلية ووطنية ومجالس إدارة شركات عمومية ذات صلة بالقطاع الفلاحي.
وترأس رئيس الحكومة المكلف ما بين 1992 و1995 خلايا الدراسات والأبحاث التطبيقية في المؤسسة الحكومية التابعة لوزارة الفلاحة «ديوان الحبوب». ومكنته هذه المسؤوليات من أن يكلف مع فريق من المهندسين بمتابعة مقررات تهم استراتيجية الأمن الغذائي وتطوير إنتاجية تونس من القمح عبر ما سمي بـ«مشروع القمح الأميركي - التونسي». وكان الفريق قد كلف أساساً بإجراء البحوث التطبيقية والإرشاد الميداني للمزارعين حول اعتماد التقنيات الحديثة في إنتاج الحبوب والبقول الجافة «في سياق الحزمة الفنية الملائمة لمختلف جهات شمال ووسط البلاد»، حسب رئيس نقابة المزارعين التونسيين عبد المجيد الزار.
منذ 2001، استقال الحبيب الجملي من الوظيفة الحكومية، واقتحم تجربة الاستثمار المالي في القطاع الزراعي، وتحمل مسؤوليات في مكاتب دراسات تعنى أساساً بالقطاع الزراعي والاقتصاد التضامني والاجتماعي. وينوه أصدقاء الجملي القدامى في وزارة الفلاحة بأنه لم يغادر الوظيفة الحكومية، إلا بعدما أنجز دراستين تطبيقيين هما «الأوليان من نوعهما في تونس» اعتمدا رسمياً إثر مناقشتهما والمصادقة عليهما في ورشتين عامتين موسعتين عقدتا للغرض (1999 - 2000)، وتعلقت الأولى بمعالجة معضلات تجميع الإنتاج الزراعي، وتحسين ظروف خزن المحصول وتسويقه وتصديره. وتعلقت الدراسة الثانية بإعداد منوال لتحليل ومراقبة جودة الحبوب بتونس خلال مختلف مراحل تسويقها.

- الأمن الغذائي والصناعة الزراعية
في المقابل، اتهم الجملي من قبل عدد من المعارضين له بافتقاره لـ«رؤية اقتصادية شاملة»، باعتباره أمضى عشرات من عمره بين مؤسسات إدارية وشركات عمومية وخاصة تعنى بقطاع الزراعة دون غيره من القطاعات. وقال حسن الزرقوني، الخبير في علم الاتصال واستطلاعات الرأي، إن رئيس الحكومة المكلف «ليس شخصية وطنية معروفة بشبكة علاقات متطوّرة مع الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين والإعلاميين في تونس ودولياً». واعتبر الزرقوني أن «هذا النقص سيحرم تونس من طمأنينة شركائها الاقتصاديين الكبار، بينهم باريس والاتحاد الأوروبي والبنك العالمي وصندوق النقد الدولي وبنوك الاستثمار العربية والأفريقية والأوروبية...».
بيد أن أنصار الجملي، مثل الناطق الرسمي باسم «حركة النهضة» البرلماني عماد الخميري، يرفضون هذه الاتهامات، ويتحدثون عن «ثراء خبرته المهنية وتنوّعها في أغلب المجالات الاقتصادية العمومية والخاصة»، بدءاً من القطاعات المؤثرة في سياسات تحقيق الأمن الغذائي ومحاربة الفقر عبر مضاعفة فرص التشغيل في قطاعات الفلاحة والصيد البحري والصناعات الزراعية والتجارة الداخلية والخارجية. كما أنهم يعتبرون أن الجملي يتميز بمعرفته الميدانية الدقيقة للاقتصاد التونسي، وما يعتريه من نواقص هيكلية وظرفية، وما تجابهه من إشكاليات عديدة «بما فيها ذات الصبغة السياسية».

- التعاونيات والتعاضديات
في الوقت نفسه، يعتبر الحبيب الجملي «مهندس تأسيس التعاونيات والتعاضديات» إبان توليه مسؤولية وكيل وزير زراعة عامي 2012 و2013، وهي خطة ساهمت في تجميع الفلاحين وتحسين مردودهم وإنتاجيتهم وفرص تسويق إنتاجهم محلياً ودولياً، حسب المولدي رمضاني الأمين العام لنقابة اتحاد المزارعين في محافظة القيروان. وعمل الجملي على إرساء أسلوب جديد في تسيير وزارة الزراعة ومعالجة مختلف الملفات العالقة ومتابعة المستجدات «بأسلوب أدرك آثاره الإيجابية عدد مهم من الكفاءات العاملة بالمصالح المركزية والجهوية التابعة للوزارة، فضلاً عن كثير من المتعاملين معها».
أيضاً أشرف الجملي على إعداد «لوحة قيادة» لمتابعة تنفيذ مختلف المشروعات والبرامج التنموية جهوياً ووطنياً، وأشرف على عدد من لجان التفكير والاستشراف الاقتصادي الوطنية. ووضع أسس رسم «خطة عمل واستراتيجية شاملة للنهوض بالاقتصاد التونسي، وتمكينه من لعب دور متقدم في تطوير الاقتصاد الوطني ورفع التحديات المفروضة على البلاد، وعلى رأسها الأمن الغذائي، وتجاوز عدد الفقراء في أرياف تونس وجهاتها المهمشة إلى أكثر من مليون ونصف المليون».

- العلاقة مع النقابات واليسار
مع هذا، لم يقنع الجملي كثيراً من زعماء النقابات والأحزاب اليسارية بشخصيته وخبرته، بما في ذلك حمة الهمامي، زعيم حزب العمال الشيوعي، والجبهة الشعبية اليسارية القومية ونور الدين الطبوبي أمين عام اتحاد نقابات العمال، وسمير ماجول رئيس نقابة الصناعيين والتجار. ويبدو أن رئيس الحكومة المكلف استبق الصراعات التي تنتظره مع النقابات والأطراف اليسارية والقومية التي تسيرها عبر جلسات استماع «ماراثونية» عقدها مع غالبية زعمائها.
لكن شهادات الشخصيات التي استقبلها، أجمعت على التنويه على قدرته على الاستماع والتركيز مع مخاطبيه، والترحيب بمقترحاتهم وتسجيلها والتعهد بمتابعتها وبتطوير مشروع البرنامج الحكومي الذي قدمته إليه «حركة النهضة»، واقترحت تعيينه بموجبه باعتبارها الحزب الفائز بالمرتبة الأولى، مثلما ورد على لسان الأمين العام السابق لاتحاد الشغل حسين العباسي، والحقوقي والإعلامي صلاح الدين الجورشي، اللذين كانا من بين تلك الشخصيات.
وبالتالي، فالسؤال المطروح الآن هو مدى قدرة الجملي على النجاح في مشواره بفضل خيار توسيع جلسات الاستماع والتشاور وتشريكه الزعامات التاريخية للنقابات والأحزاب، وانفتاحه على كل التيارات، وتعهده بإعطاء أولوية لملفات التنمية وبالاستقلالية عن كل الأحزاب. وللعلم، الدستور يمنحه شهرين كاملين للإعلان عن تشكيلته الحكومية يمتدان حتى الـ14 من يناير (كانون الثاني) المقبل. وهو ذكرى اندلاع شرارة الثورة التونسية والانتفاضات العربية.


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».