صباح الخالد... رجل المرحلة لمكافحة الفساد الذي «لا تحمله الجمال»

رئيس وزراء الكويت الجديد أمضى 40 سنة في العمل الدبلوماسي والسياسي

صباح الخالد... رجل المرحلة  لمكافحة الفساد الذي «لا تحمله الجمال»
TT

صباح الخالد... رجل المرحلة لمكافحة الفساد الذي «لا تحمله الجمال»

صباح الخالد... رجل المرحلة  لمكافحة الفساد الذي «لا تحمله الجمال»

أعلن أخيراً في العاصمة الكويتية عن تعيين الشيخ صباح الأحمد الصباح أمير دولة الكويت، الشيخ صباح الخالد الصباح نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية، رئيساً جديداً للحكومة. ورئيس الحكومة الجديد سياسي مخضرم تقلب في المسؤوليات الوزارية منذ فترة غير قصيرة، وهو معروف بحضوره الكبير على المستويين العربي والدولي. في حين ينظر إليه المتابعون والمحللون داخل الكويت بأنه، لما له من مزايا كالحزم والعمل الصامت، سيكون «رجل المرحلة» المولج بمكافحة ظاهرة الفساد، وكذلك، إراحة الوسط السياسي من التجاذبات التي وترت الساحة الكويتية خلال الأشهر الماضي.

يتميز الشيخ صباح الخالد الحمد الصباح، الذي دخل أخيراً «نادي رؤساء الحكومات في الكويت» كثامن شخصية تتولى منصب رئيس الوزراء منذ عام 1962، بإدارة محافظة وبشخصية كتومة وقليل الكلام.
صباح الخالد، سياسي مخضرم أمضى أكثر من 40 سنة في العمل السياسي والدبلوماسي، يعي جيداً موقع الكويت في الخارطة الإقليمية والدولية. وهو يدرك تماماً أن الكويت تقع في مرمى العواصف الإقليمية، وتتأثر بالصراعات في منطقة الخليج. كذلك يتذكر، وتذكر معه الكويتيون جميعاً، أن البلاد دفعت ثمناً باهظاً نتيجة وقوعها كدولة ثرية وصغيرة في مرمى الدول المحيطة، ولعل أبرز مثال على ذلك تهديدات العراق بضم الكويت في الستينات، واجتياحها بالكامل وتشريد أهلها في عام 1990. وهذا، بطبيعة الحال، دون أن ننسى المناخ الخليجي المتوتر بفعل تنامي الطموحات الإيرانية الإقليمية وتمدداتها في المشرق العربي.
هذا الموقع يمثل تحدياً لراسمي السياسة الخارجية في الكويت، الذين يحرصون على بناء علاقات متوازنة، تحفظ أولاً انتماءهم الخليجي، ثم وضعهم الإقليمي، وتحرص أيضا على بناء «شبكة أمان» دولية تحمي الإمارة الخليجية الصغيرة من التقلبات السياسية العاصفة.
قد لا يختلف اثنان على أن أولى مهام رئيس الوزراء الجديد معالجة ملف الفساد، الذي بلغ ذروته في التراشق الأخير بين أقطاب الحكومة. وهؤلاء هم أيضاً أقطاب بارزون في الأسرة الحاكمة، خاصّة، بعدما اتهم وزير الدفاع في الحكومة المستقيلة الشيخ ناصر صباح الأحمد زميله في الحكومة وزير الداخلية الشيخ خالد الجراح الصباح بتجاوزات مالية. وكشف عما وُصفت بأنها وثائق تظهر الاستيلاء على نحو 800 مليون دولار أميركي من صندوق لمساعدة العسكريين، عندما كان الجراح وزيرا للدفاع. كذلك ذكر الشيخ ناصر أنه أبلغ رئيس الوزراء (المستقيل الآن) جابر المبارك الصباح بهذه التجاوزات وطلب منه تشكيل لجنة للتحقيق منذ سبعة أشهر، إلا أن الشيخ جابر لم يقم بالرد عليه، الأمر الذي جعل الشيخ ناصر يحول القضية إلى النائب العام.
من جانبه، قال رئيس الوزراء السابق جابر المبارك، الذي ترأس ست حكومات في الكويت، بأنه يعتذر عن تشكيل الحكومة بعدما واجه «افتراءات وادعاءات»، ومن ثم أردف «أجد من الواجب علي أولاً أن أثبت براءتي وبراءة ذمّتي».

النشأة والخلفية
الشيخ صباح خالد الحمد الصباح، من مواليد 1953 في العاصمة الكويتية الكويت. ونشأ وترعرع فيها، وأنهى دراسته الجامعية بحصوله على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة الكويت عام 1977.
كانت وزارة الخارجية هي الميدان الأول الذي احتضن صباح الخالد كأول وظيفة له بعد تخرّجه في الجامعة، في ظل عميد الدبلوماسيين العرب الأمير الحالي الشيخ صباح الأحمد. إذ أنه التحق بوزارة الخارجية عام 1978 بدرجة مُلحق دبلوماسي، وعمل في الإدارة السياسية بقسم الشؤون العربية في الوزارة خلال الفترة بين 1978 إلى 1983. ثم عمل مع وفد الكويت الدائم لدى الأمم المتحدة بنيويورك خلال الفترة من 1983 إلى 1989.
في أعقاب تلك المرحلة، أسند إلى الشيخ صباح منصب نائب مدير إدارة الوطن العربي في وزارة الخارجية خلال الفترة من 1989 إلى 1992. وأصبح مديرا لإدارة مكتب وكيل وزارة الخارجية خلال الفترة من 1992 إلى 1995.
وبعدها عيّن سفيراً للكويت لدى المملكة العربية السعودية ومندوبا للكويت لدى منظمة المؤتمر الإسلامي من 1995 إلى 1998. وحصل على وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى عام 1998.
خلال نحو عشر سنوات انقطع رئيس الوزراء الكويتي الجديد عن العمل في الخارجية، إذ عيّن رئيساً لجهاز الأمن الوطني بدرجة وزير عام 1998. ثم أسند إليه منصب وزير الشؤون الاجتماعية والعمل في يوليو (تموز) 2006 ومارس 2007، ثم عيّن وزيرا للإعلام في مايو (أيار) 2008، ويناير (كانون الثاني) 2009. قبل أن يعود مجدداً إلى الحكومة ويتسلم حقيبة وزارة الخارجية عام 2011. بعدها، في فبراير (شباط) 2012، عُيّن نائباً لرئيس مجلس الوزراء وزيراً للخارجية ووزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء، وأعيد تعيينه في ديسمبر (كانون الأول) 2012، ويوليو (تموز) 2013. ومجدداً عيّن نائباً لرئيس مجلس الوزراء وزيراً للخارجية، وكذلك في يناير (كانون الثاني) 2014. وتكرر تعيينه نائبا لرئيس مجلس الوزراء وزيرا للخارجية. وفي ديسمبر (كانون الأول) (كانون الأول) 2016 واستمر في المنصبين حتى استقالة حكومة الشيخ جابر المبارك، وتكليفه بتشكيل الحكومة الجديد في وقت سابق من الأسبوع.

الدبلوماسية الكويتية: شبكة أمان
في الحقيقة، علاقات الكويت الخليجية هي مدماك أمنها القومي، كما يجمع المحلِّلون وكبار الساسة الكويتيون. وهنا تحتل مكانة خاصة العلاقة مع المملكة العربية السعودية التي هبّت في 1990 لإدارة أكبر عملية عسكرية شهدتها المنطقة والشرق الأوسط، من أجل تحرير البلاد ودحر الاحتلال العراقي وإعادة الشرعية إلى نصابها.
كذلك سعت الكويت لعلاقات متوازنة مع العراق الجديد، واستضافت في فبراير (شباط) 2018 مؤتمر إعمار العراق، وهو المؤتمر الذي اجتذب أكثر من 76 دولة وأكثر من 2100 شركة تمثل القطاع الخاص من مختلف دول العالم للمشاركة في خطط إعمار العراق، بعد دحر تنظيم داعش الإرهابي.
ورأى المراقبون، في حينه، أن الخطوة الكويتية اجتذبت احترام العالم، كونها مثلت تعبيراً رمزياً عن طي صفحة الماضي، ولعب دور فاعل في ترسيخ الاستقرار الإقليمي ومنع عودة التوتر إلى المنطقة.
وعلى الصعيد الدولي، افتتحت الكويت في 24 يناير (كانون الثاني) 2017 المركز الإقليمي لمنظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) و«مبادرة إسطنبول للتعاون»، وذلك عندما أطلق «ناتو» من الكويت شراكة مع دول الخليج للتصدي للإرهاب.
ومن ثم، ظلّت علاقات الكويت القائمة على حفظ التوازن الإقليمي ومنع التدخلات الأجنبية، وتقديم حزم المساعدات المتكررة للدول الأقل نمواً وسيلة لإمداد البلاد بشبكة أمان دبلوماسي.
وفي حوارٍ له حدد الشيخ صباح الخالد الحمد الصباح، عندما كان يتولى حقيبة وزارة الخارجية، ملامح المكانة الدولية والتاريخية لدولة الكويت بالقول: «لا توجد دولة بمنأى عن المخاطر والتهديدات والتحديات من حولها، والدول الإقليمية هي دول مؤثرة ومتأثرة أيضاً بهذا المخاض». وأضاف «وسط هذه المخاض الدولي والإقليمي تختار الأمم المتحدة تكريم أمير البلاد كقائد للعمل الإنساني، لتؤكد مكانة الكويت كمركز للعمل الإنساني»». ومما يُذكر في هذا السياق أن الصندوق الكويتي للتنمية قدم 7.18 مليار دولار أميركي لـ105 دول حول العالم.

قضية الفساد

من جهة ثانية، على صعيد مكافحة الفساد، تنسب للأمير الشيخ صباح الأحمد، عبارة قالها حين كان رئيساً للوزراء، هي «فساد البلدية ما تشيله البعارين»، أي أن حجم الفساد في بلدية الكويت، لا تقوى على حمله الجِمال. هذه عبارة تختصر حجم المعاناة من تفشي ظاهرة الفساد في بلد ثري لكنه يشهد تراجعاً واضحاً في موقعه المالي سنة بعد سنة، مع تآكل أصول الصندوق السيادي. وللعلم، في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أصدر ديوان المحاسبة الكويتي تحذيراً من استنزاف احتياطيات الدولة التي قدّرها بـ75 مليار دولار، وقال الديوان في تقرير بأن أصول صندوق الاحتياطي العام تراجعت 5.4 في المائة إلى 22.88 مليار دينار كويتي (75.45 مليار دولار) في الربع الثاني من 2019.
وفي السياق ذاته، تضمنت آخر ميزانية للدولة، التي أقرها مجلس الأمة الكويتي (البرلمان)، في بداية يوليو (تموز) 2019 عجزاً يُتوقع أن يبلغ 22 مليار دولار، إذ قُدّرت الإيرادات في موازنة 2019 – 2020 بنحو 53 مليار دولار، والنفقات بنحو 74 مليار دولار. ويوازي العجز المتوقع في هذه الموازنة نحو 15.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وهذه السنة الخامسة على التوالي التي تشهد فيها موازنة الدولة الخليجية عجزاً في موازنتها.
ما يستحق الإشارة أن الكويت أحرزت العام الماضي تقدّماً مقداره 7 مراكز في مؤشر مدركات الفساد وفق تقرير «منظمة الشفافية الدولية» للعام 2018، حيث احتلت الكويت المركز 78 بعدما كانت في المركز الـ85 من أصل 180 دولة مدرجة في المؤشر العام 2017. وفي العام (2017) تخلفت الكويت 10 مراكز أخرى إلى المركز 85، محققة 39 نقطة من أصل 100. لتصبح الخامسة في مستوى الفساد على نطاق دول الخليج، والثانية على المستوى العربي، وذلك أيضاً وفقاً لتقرير «منظمة الشفافية الدولية» الصادر في 22 فبراير- شباط 2018. وكان تقرير «الشال» الاقتصادي، قد أشار إلى أنه في عام 2016. تخلفت الكويت 20 مركزاً على مؤشر مدركات الفساد، من المركز الـ55 إلى المركز الـ75.
على صعيد متصل، بحسب تقارير إعلامية، توجد في الكويت اليوم 42 ألف قضية خاصة لسرقات المال العام. وقبل أن يفجّر وزير الدفاع السابق قضية (صندوق الجيش) وصفقة اليوروفايتر، مرّت عشرات القضايا الكبيرة التي لم تحسم بعد، أبرزها قضية الناقلات وقضية هاليبرتون، والجدل بشأن مصفاة فيتنام، وصندوق الاستثمارات في إسبانيا، وقضية داو كميكال، ثم قضية التأمينات، وقضية ضيافة الداخلية، مروراً بالجدل بشأن قضايا تنموية مثل المطار ومشروع استاد جابر... وغيرها.
وللعلم، كان رئيس مجلس الوزراء السابق الشيخ جابر المبارك الصباح قد عبّر صراحة عن صدمته و«استيائه» من تراجع مركز الكويت في مؤشر مدركات الفساد العالمي لعام 2017. «نظراً لما يمثله هذا الأمر من إساءة لمكانة الكويت وسمعتها»، حسبما قال.
ومن أجل معالجة هذا الوضع، قرر مجلس الوزراء الكويتي تشكيل لجنة برئاسة الهيئة العامة لمكافحة الفساد، بعضوية ممثلين عن وزارة الخارجية، ووزارة المالية، ووزارة العدل، ووزارة الشؤون الاجتماعية، ووزارة التجارة والصناعة، ووزارة الإعلام، وكذلك، الأمانة العامة للمجلس الأعلى للتخطيط والتنمية، والجهاز المركزي للمناقصات العامة، ووحدة التحريات المالية والجهات الأخرى ذات الصلة. وستتولى هذه اللجنة «مراجعة تلك المؤشرات وإعداد الآليات والتدابير اللازمة لتعديل ترتيب دولة الكويت على مؤشر مدركات الفساد العالمي، وفق معايير الشفافية والنزاهة واحترام القانون والحريات».

الكويت في سطور

> دولة الكويت، تحتل رقعة أرض تبلغ مساحتها 17818 كيلومترا مربعاً في الجهة الغربية عند أقصى شمال الخليج العربي، وتحدها شمالاً وغرباً العراق، وجنوباً وغرباً المملكة العربية السعودية، وشرقاً الخليج العربي، وتقابل ساحلها عدة جزر أهمها فيلكا وبوبيان.
> استقلت الكويت رسمياً عام 1961 في عهد أميرها الشيخ عبد الله السالم الصباح، ويقدّر عدد سكانها اليوم بأكثر من 4 ملايين و600 ألف نسمة نحو 75 في المائة منهم مسلمون.
> تعاقب على حكم الكويت من آل الصباح منذ مطلع القرن الـ20 كل من: الشيخ مبارك (الكبير) الصباح (1896 – 1915)، ثم الشيخ جابر المبارك -الابن الأكبر للشيخ مبارك- (1915 – 1917)، فالشيخ سالم المبارك -الابن الأصغر للشيخ مبارك- (1917 – 1921)، الشيخ أحمد الجابر -ابن الشيخ جابر المبارك- (1921 – 1951)، الشيخ عبد الله السالم - ابن الشيخ سالم- (1951 – 1965)، الشيخ صباح السالم -أخو الشيخ عبد الله السالم- (1965 – 1977)، الشيخ جابر الأحمد -ابن الشيخ أحمد الجابر- (1977 – 2006)، الشيخ سعد العبد الله السالم -ابن الشيخ عبد الله السالم- (2006)، الشيخ صباح الأحمد -ابن الشيخ أحمد الجابر وأخو الشيخ جابر الأحمد- (منذ 2006 وحتى الآن).
> يتركز معظم سكان الكويت في العاصمة الكويت وضواحيها من الجهراء غرباً إلى الفحيحيل جنوباً.
> يقدر الناتج القومي الإجمالي-القدرة الشرائية (2018) بنحو 303 مليارات دولار أميركي، ومعدل دخل الفرد نحو 70 ألف دولار.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.