نوح سميث
كاتب في «بلومبيرغ»
TT

العالم يغرق في رؤوس الأموال

شهد العالم تحولا هائلا في الاقتصاد العالمي خلال العقود القليلة الماضية. فقد بات رأس المال وفيرا بعد أن كان نادراً، لكن لهذا الأمر آثاره الكبيرة على السياسات التي تتراوح ما بين الضرائب والتقشف وسن النظم المالية. بيد أن خبراء الاقتصاد الذين لم يستوعبوا هذا التحول يبدون غير معنيين بالأمر أو بعيدين عن أرض الواقع، فقد بات من السهل على الشركات والحكومات الاقتراض، وانخفضت أسعار الفائدة بوتيرة ثابتة منذ ذروتها في أوائل الثمانينات.
قد يمثل بعض من هذه الحالة انخفاضا في التضخم، مما يقلل من أسعار الفائدة الاسمية، لكن معدلات حقيقية قد انخفضت أيضا. كما أنها ليست مجرد عودة إلى الحياة الطبيعية بعد ارتفاع في أسعار الفائدة في الثمانينات.
يقدر خبراء الاقتصاد ماركو ديل نيجرو، ودومينيكو جيانوني، ومارك جيانوني، وأندريا تامبالوتي، أن أسعار الفائدة الحقيقية العالمية أصبحت الآن أقل من أي وقت مضى. وفي الوقت نفسه، يصعب التنبؤ بعائدات الأسهم، لكن نسب السعر إلى الأرباح المرتفعة تاريخياً تشير إلى أن العوائد المستقبلية ستكون أقل مما كانت عليه في العقود الماضية.
لماذا تنخفض أسعار الفائدة؟ أحد الاحتمالات ببساطة هو أن النمو يتباطأ وأن كل رأس المال هذا يطارد مجموعة متقلصة من الاستثمارات المربحة. ورغم أن هذا التفسير يمكن أن ينطبق على الولايات المتحدة والبلدان الغنية الأخرى، فإنه أقل منطقية في السياق العالمي. فقد ظل النمو الاقتصادي العالمي ثابتاً عند نحو 3 في المائة منذ سبعينات القرن الماضي.
دقق الخبير الاقتصادي ديل نييغرو وآخرون في الأرقام ووجدوا أن النمو ليس سببا رئيسيا لانخفاض أسعار الفائدة الحقيقية. وبدلا من ذلك، استشهدوا بالرغبة المتزايدة في السلامة والسيولة، لكن هذا لا يعني أن المستثمرين يتخلون عن الاستثمارات ذات المخاطر العالية. فقد ظلت هوامش اقتراض الشركات، باستثناء فترات الركود، ثابتة تقريباً منذ سبعينات القرن الماضي.
ليست الحكومات فقط هي التي تجد أنه من الأسهل اقتراض الأموال، إذ إن الشركات هي الأخرى تفعل الشيء ذاته. يعد تدفق الدولارات الاستثمارية إلى المشروعات رفيعة المستوى ذات العوائد المتوقعة المنخفضة مثل مشروع «وي وورك» - أو نحن نعمل - من علامات عصرنا الحالي.
هناك العديد من الأسباب المحتملة لوفرة رأس المال، بما في ذلك صعود الصين، والتغيرات في الهيكل السكاني العالمي، وزيادة تفاوت الثروات، وزيادة سهولة الاستثمار عبر الإنترنت وما إلى ذلك. لكن وفرة رأس المال غيرت أيضاً الطريقة التي ينبغي أن يفكر بها المسؤولون المنتخبون ومحافظو البنوك المركزية والاقتصاديون في السياسة.
جرى تفصيل عدد من السياسات الحكومية لتحفيز الاستثمار في الأصول المالية، إذ يجري فرض الضريبة على الأرباح الرأسمالية وأرباح الأسهم بمعدل أقل من الدخل العادي لتشجيع الاستثمار في الأسهم والسندات.
هناك تداعيات على سياسة الاقتصاد الكلي أيضا. فتقليديا، تستند الحجة ضد العجز الحكومي إلى فكرة «الازدحام»، وتستند الفكرة في ذلك إلى أن المزيد من الاقتراض الحكومي يمتص دولارات الاستثمار التي يمكن استخدامها في تمويل مشاريع خاصة أكثر إنتاجية، مما يؤدي إلى تعطيش قطاع التمويل. ولكن مع انخفاض أسعار الفائدة، يبدو هذا الخوف بعيداً ومفرطاً حيث يقدر أوليفييه بلانشارد، كبير خبراء الاقتصاد السابق في صندوق النقد الدولي، أن أسعار الفائدة المنخفضة تعني أن الولايات المتحدة يمكنها زيادة نسبة الناتج المحلي الإجمالي للديون بواقع 60 نقطة مئوية (104 في المائة اليوم) دون عواقب سلبية. بالطبع، يجب أن توضع أموال الحكومة في غرض مفيد، رغم أن الاقتراض لإعادة التوزيع قد يكون ذا مغذى.
قد تتجنب الحكومات رفع الضرائب على رأس المال والثروة والاقتراض أكثر من خوفها من الإضرار بالاستثمار التجاري (وهو شيء يختلف تماماً عن الاستثمار المالي). ومن شأن انخفاض الإنفاق الرأسمالي أن يضر بالأجور ويقلل من مستويات المعيشة على المدى الطويل. لكن حقيقة انخفاض أسعار الفائدة تعني أنه إذا لم تستثمر الشركات، فذلك ليس بسبب نقص رأس المال في النظام، بل لأنه يجري سكب المال ببذخ على بعض المقترضين بينما يتم حجبه بشكل انتقائي عن الشركات الأخرى التي يمكن أن تستخدمه بشكل أفضل.
لذلك هناك خطر من أن تطبق الحكومات حلولاً قديمة مصممة لعصر ندرة رأس المال حتى عصر الوفرة اليوم. ولكن هناك أيضاً احتمال أن يكون الانتقال إلى أساليب جديدة قد تجاوز الحد. حتى مع استفادة الحكومات من وفرة رأس المال من خلال زيادة الضرائب والعجز، فإنه من الواجب عليها مراقبة الظروف بعناية في حال عودة ندرة رأس المال مرة أخرى.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»