«العصامي اليتيم» عبد الله حمدوك... هل يحمل مفتاح الحل لمعضلات السودان؟

رحلة أكاديمي من قريته الصغيرة إلى رئاسة الوزارة

«العصامي اليتيم» عبد الله حمدوك... هل يحمل مفتاح الحل لمعضلات السودان؟
TT

«العصامي اليتيم» عبد الله حمدوك... هل يحمل مفتاح الحل لمعضلات السودان؟

«العصامي اليتيم» عبد الله حمدوك... هل يحمل مفتاح الحل لمعضلات السودان؟

في أول حديث له بعد أدائه اليمين الدستورية رئيساً لوزراء السودان، في 20 من أغسطس (آب) الماضي، ترك الدكتور عبد الله حمدوك انطباعاً مغايراً لدى الرأي العام السوداني، بتشخيصه البسيط لمشاكل البلاد وكيفية الخروج منها. وأرسل رسالة بصرية ونظرية مفادها أن اختياره لوزراء حكومته سيقوم على أساس الكفاءة، مستهلاً عهده باعتراف يقول: «المهمة التي أوكلت إليّ صعبة وعظيمة، ولكن سأعمل مع الشعب السوداني للعبور بالبلاد إلى بر الأمان».
برز اسم عبد الله حمدوك وأصبح يتردد كثيراً، بعد اعتذاره عن تولي منصب وزير المالية والاقتصاد، في التشكيل الوزاري الأخير لنظام الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير قبل سقوطه بأشهر، وتحت رئاسة رئيس الوزراء الذي عيّنه البشير معتز موسى.
فُصل حمدوك، الموظف بوزارة المالية عن العمل، أثناء متابعته دراساته الجامعية العليا في جامعة مانشستر البريطانية، إبان الهجمة الشرسة للنظام السابق التي أحال بها المئات من الموظفين للصالح العام والتمكين لمنسوبيه في أجهزة الدولة. وعندما طُرح مرشحاً لرئاسة الحكومة تباينت آراء النخبة السودانية حوله. فالبعض لا يرى فيه السياسي المتمرّس القادر على قيادة البلاد بعد ثلاثة عقود من الحكم الشمولي القابض، بل يرى أن الموقع الأنسب له وزارة المالية والاقتصاد، لما يتمتع به من خبرات كبيرة في هذا المجال. وفي المقابل، رأى آخرون أن الكفاءة والخبرات إلى جانب العلاقات الخارجية التي نسجها حمدوك إبان سنوات عمله في المنظمات الأممية والدولية، من المؤهلات التي ربما تمكنه بسهولة من قيادة السودان بسلام خلال الفترة الانتقالية.

مرشح بلا منافس

«تجمّع المهنيين السودانيين» وهو الفصيل الرئيسي في قيادة الحراك الشعبي الذي قاد الثورة الشعبية السودانية، وكان الجهة التي رشّحت حمدوك لرئاسة الحكومة. ومن ثم، حظي الاختيار بتوافق مقدّر من غالبية الكتل الأخرى المكونة لقوى «إعلان الحرية والتغيير»، ولم يجد اعتراضا من قادة الجيش في المجلس العسكري الانتقالي قبل حلّه.
ويقول أحمد حضرة، عضو لجنة الترشيحات لقوى «الحرية والتغيير»، إنه خلال الاجتماعات مع حمدوك، لاختيار المرشحين في التشكيل الوزاري «بدا لنا مرتّب الذهن والتفكير، ويعرف ماذا يريد».
ثم يضيف: «لم نجد صعوبة كبيرة في التعامل معه. وحتى عندما دَفع بعدد من المرشحين للوزارات، احتفظ بحقنا في تطبيق المعايير المتفّق عليها في اختيارهم دون تدخّل من جانبه، تمسّك بحقه أيضاً في اختيار المرشحين بالمعايير ذاتها، من دون أن يبصم بالعشرة على القوائم المقدمة من قوى الحرية والتغيير، وكان يشدد على التمثيل العادل لأقاليم البلاد والمرأة في الحكومة». أما القيادي الإسلامي السابق المحبوب عبد السلام، فقال إن مهمة حمدوك تواجه بواقع غير منتظم وكثير التعقيدات والتشوّهات، وتتساوى فرص نجاحه وفشله في قيادة البلاد خلال المرحلة الانتقالية، لكنه يستدرك مشيراً إلى أن «حمدوك يتميز دائماً بأنه شديد التركيز على العمل الذي يؤديه».

مسيرته العملية
بعدما نال حمدوك درجة الدكتوراه من كلية الدراسات الاقتصادية من جامعة مانشستر، بدأ حياته العملية في زيمبابوي مستشاراً في شركة خاصة، ثم مستشاراً في منظمة العمل الدولية في زيمبابوي أيضاً، حتى عام 1997. ومن هناك انتقل للعمل مع «بنك التنمية الأفريقي» في ساحل العاج حتى عام 2001، ثم انضم إلى اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة لهيئة الأمم المتحدة ومقرها في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. وبعدها، تنقّل في عدة مواقع تابعة للأمم المتحدة حتى أصبح نائب الأمين التنفيذي للجنة الاقتصادية لأفريقيا.

قبول إقليمي ودولي
الدكتور عبد الله حمدوك عمل خلال الفترة من 2003 حتى 2008، مديراً إقليمياً لأفريقيا والشرق الأوسط بالمعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية (IDEA)، وفي 2016 عيّن أميناً تنفيذياً للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا. وإلى جانب ذلك يعد رئيس وزراء السودان الجديد، خبيراً اقتصادياً في مجال إصلاح القطاع العام والحوكمة والاندماج الإقليمي، وإدارة الموارد وإدارة الأنظمة الديمقراطية والمساعدة الانتخابية.
وفي ضوء هذا السجلّ، فإنه عقب توليه رئاسة الوزراء أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، ودول المنطقة العربية والأفريقية ترحيبها ودعمها لحكومته في الفترة الانتقالية.
ومن جانب آخر، يعول السودان على حمدوك لكسر العزلة الدولية المفروضة على النظام بسبب إخفاقات سياسات النظام السابق، وفي هذا، قال في تصريحات إن تفاهمات كبيرة تجري مع الولايات المتحدة لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
وحول احتمالات نجاحه، يقول أحد المقربين منه، إن لحمدوك معرفة عميقة بمشاكل البلاد، وذلك رغم وجوده في الخارج لسنوات طويلة، ويتابع: «ثم إنه يعرف تماماً من أين يبدأ، وهو أكثر حرصاً على إنجاح الفترة الانتقالية، لذلك تجده دائما يتلمّس التعاون مع الجميع لإيجاد الحلول».
من ناحية ثانية، يقول حامد علي التيجاني، أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة بالجامعة الأميركية بالقاهرة، لـ«الشرق الأوسط» إن حمدوك «شخصية تميل أكثر إلى التوافق والوسطية في التعامل مع الآخرين... ونتوقع منه أن يعطي الأولوية لمسألة وقف الحرب وإحلال السلام، لأنها المدخل الحقيقي للإصلاح السياسي والاقتصادي في البلاد». ويتابع: «إذا أراد حمدوك أن يصل إلى تلك الغايات، فعليه أن يلجأ إلى تحقيق السلم الاجتماعي، وإقامة شراكة حقيقية مع المتضررين من الحرب في أقاليم السودان كافة، وليس الجنوح للمحاصصات الحزبية التي تسعى لها النخب». ثم يضيف: «كذلك من المسائل المهمة التي ستواجهه خلال فترة حكمه، تتمثّل في كيفية إدارة التنوّع والتعدّد، وهي المعادلة الحقيقة التي يفترض أن يوليها اهتمامه الشديد». التيجاني يشير أيضاً إلى أن رئيس الوزراء، باختياره الدكتور إبراهيم البدوي وزيراً للمالية، وهو من أفضل الكفاءات السودانية في الاقتصاد، الأجدر لمعالجة وإصلاح الاقتصاد باعتباره المرتكز الذي تقوم عليه التنمية، إلى جانب إجراء عمليات إصلاح قانوني، يستطيع أن يقيم فترة انتقالية ناجحة، ويردف: «السودان سيشهد خلال الفترة المقبلة انفتاحاً كبيراً على العالم، ولا بد من التعاطي مع المجتمع الدولي لرفع كل العقوبات المفروضة عليه».
ويلحظ التيجاني ما يسميه حاجة رئيس الوزراء لفريق عمل متكامل في الحكومة، الأمر الذي يتطلب منه اتخاذ كثير من القرارات الحاسمة وفي الأوقات الصحيحة، فيقول: «شخصية حمدوك متّزنة ولا تميل إلى المواجهات، كما أن خطابه السياسي رزين بعيداً عن التطرف، وهذه السمات ضرورة في رجل الدولة ويحتاج لها السودان في هذه المرحلة».
وفي السياق نفسه، يكشف القيادي بقوى إعلان الحرية والتغيير المحامي ساطع الحاج، أن اختيار الدكتور عبد الله حمدوك مرشحا لرئاسة الحكومة في الفترة الانتقالية، جاء بعد مشاورات ونقاشات طويلة، وأجمعت بشكل كامل الكتل المكونة لقوى إعلان الحرية والتغيير، على أنه الشخصية المؤهلة لقيادة البلاد في هذه المرحلة. ويضيف: «لا شك أن حمدوك من الكفاءات السودانية المقدرة، وله القدرة الكبيرة على مواجهة المشاكل التي تواجه الحكومة خلال الفترة الانتقالية... وإضافة لذلك فإن حمدوك سياسي من الطراز الأول، فهو يمتلك قدرة فائقة على قراءة المشهد بشكل سليم، والوصول إلى حلول لكل المشاكل التي ستعترضه خلال توليه المنصب».

أولويات الحكومة
وحقاً، من خلال المقابلات التي أجريت مع رئيس الوزراء الجديد، تحدث الرجل عن أهم القضايا والتحديات التي ستواجه حكومته، فقال إن أبرزها بناء اقتصاد وطني يقوم على الإنتاج وليس الهبات والمنح، فضلا عن إصلاح مؤسسات الدولة ومحاربة الفساد، وبناء دولة القانون والعدل، وإقامة علاقات خارجية، تنبني على أساس مصالح السودان، وتمثيل النساء في الجهاز التنفيذي بكل عدالة.
وللعلم، يعد ملف إعفاء ديون السودان الخارجية والمقدرة بنحو 60 مليار دولار أميركي، من أبرز الملفات الساخنة التي تنتظر على طاولة حكومة حمدوك.
وكان حمدوك قد كشف في تصريحات له عن شروعه في نقاشات مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، الهدف منها إعادة هيكلة ديون السودان، بيد أنه أشار إلى أن التفاوض قد يستغرق أشهرا، قبل أن تتمكن حكومته من الحصول على تمويل للتغلب على الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها البلاد. وأوضح أن حكومته بحاجة إلى خطط للحصول على المساعدات والمنح من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، خلال الفترة المقبلة للخروج بالبلاد من الأوضاع الاقتصادية المتردية التي تعيشها.
أما الملف الثاني الملتهب الذي ينتظر حمدوك، فهو تحقيق السلام عبر التفاوض مع الحركات المسلحة في مناطق النزاعات، أي دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. وهو الملف الذي ينتظر أن تضطلع به الحكومة خلال الستة أشهر الأولى من الفترة الانتقالية، وفقا لما نصت عليه الوثيقة الدستورية.
وحمدوك بحسب تصريحاته، يرى أن ملفي الاقتصاد والسلام مرتبط أحدهما بالآخر وبشدة. وهو يركز على إنهاء الحرب وإحلال السلام، للقضاء على «اقتصاد الحرب»، ويلفت النظر إلى أن نسبة تزيد على 70 في المائة من ميزانية البلاد كانت عبارة عن ميزانية حرب، بوقف الحرب وإقامة السلام، يمكن توظيفها في إعادة تصحيح أوضاع الاقتصاد.

التفاوض لا السلاح
هذا، وينتظر أن تشرع حكومة عبد الله حمدوك المدنية في التفاوض المباشر مع قادة الحركات المسلحة، بعد تكوين مفوضية السلام التي سيتقاسم مهامها مجلس السيادة والحكومة التنفيذية. وهو الأمر الذي أشار إليه بوضوح في مؤتمر الصحافي الذي أعلن فيه تشكيل حكومته أول من أمس، بقوله إنه ومجلس السيادة شرعا في تكوين لجنة أولية تمهد لتكوين مفوضية السلام، التي ينتظر تكوينها للتفاوض مع حركات الكفاح المسلح. واستخدم حمدوك في خطاب تشكيل الحكومة لهجة تصالحية هادئة وجهها لقادة الحركات المسلحة، ووصفهم فيها بأنها «رفاق الكفاح المسلح»، ومن جهتهم، فقد صدرت عن قادة الحركات المسلحة تصريحات إيجابية تجاه الرجل أبدوا خلالها قبولهم لتوجهاته السياسية ونظرته لقضايا الحرب والسلام، وأعلنوا استعدادهم للدخول في تفاوض معه على الفور.

المولد والنشأة
> ولد عبد الله حمدوك في الأوّل من يناير (كانون الثاني) 1956 في قرية الدبيبات الصغيرة، في جنوب كردفان. وهي منطقة تقع على خط التماس بين مجموعة الثقافات العربية والأفريقية، ويقع فيها تقاطع خط السكة الحديد الذي كان يتجه أحد فروعه إلى مدينة نيالا بجنوب دارفور، ويتفرّع الآخر إلى واو في جنوب السودان.
فقد حمدوك والده وهو صغير السن، لكنه شقّ طريقه بعصامية لافتة، وتلقى تعليمه في مدارسها، قبل أن يلتحق بمعهد المعلمين. إذ كان ينوي العمل معلماً، بيد أنه دخل كلية الزراعة في جامعة الخرطوم وتخرج فيها ببكالوريوس في الاقتصاد الزراعي. ولاحقاً تابع دراسته العليا في بريطانيا؛ حيث حاز درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة مانشستر.
وعنه يقول ابن منطقته الصحافي محمد الأسباط، إنه كان عصامياً فقد والده وهو صغير السن، وكفله أحد أعمامه، إلى أن تخرج في الجامعة. ويضيف الأسباط أن حمدوك كان مثالاً للرجل الوفي، الذي لم تنقطع علاقته بمنطقته على الرغم من وضعه الاجتماعي والمهني، متابعاً: «أثناء عمله في وزارة المالية كان مواصلا لأهل الدبيبات لم ينقطع عنهم، ولم ينس أبناء عمه الذين ساعدوا في تربيته وتعليمه». ثم يقول عنه إنه رجل هادئ في تعامله مع الأحداث ويتريّث كثيراً قبل اتخاذ القرارات، و«هذه الصفات مجتمعة تجعل منه شخصية مقبولة من الجميع، وقد تساعد حكومته الانتقالية في تحقيق أهداف ثورة ديسمبر (كانون الأول)». وبحسب الأسباط، فإن حمدوك تزوج من الدكتورة آمنة عبد الله، وهي «بنت الخرطوم 2» أحد أرقى أحياء العاصمة السودانية الخرطوم، وهي حائزة درجة الدكتوراه أيضاً، وعلّمت في كثير من المنظمات الأممية والدولية، وله منها بنين وبنات.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.