في أول حديث له بعد أدائه اليمين الدستورية رئيساً لوزراء السودان، في 20 من أغسطس (آب) الماضي، ترك الدكتور عبد الله حمدوك انطباعاً مغايراً لدى الرأي العام السوداني، بتشخيصه البسيط لمشاكل البلاد وكيفية الخروج منها. وأرسل رسالة بصرية ونظرية مفادها أن اختياره لوزراء حكومته سيقوم على أساس الكفاءة، مستهلاً عهده باعتراف يقول: «المهمة التي أوكلت إليّ صعبة وعظيمة، ولكن سأعمل مع الشعب السوداني للعبور بالبلاد إلى بر الأمان».
برز اسم عبد الله حمدوك وأصبح يتردد كثيراً، بعد اعتذاره عن تولي منصب وزير المالية والاقتصاد، في التشكيل الوزاري الأخير لنظام الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير قبل سقوطه بأشهر، وتحت رئاسة رئيس الوزراء الذي عيّنه البشير معتز موسى.
فُصل حمدوك، الموظف بوزارة المالية عن العمل، أثناء متابعته دراساته الجامعية العليا في جامعة مانشستر البريطانية، إبان الهجمة الشرسة للنظام السابق التي أحال بها المئات من الموظفين للصالح العام والتمكين لمنسوبيه في أجهزة الدولة. وعندما طُرح مرشحاً لرئاسة الحكومة تباينت آراء النخبة السودانية حوله. فالبعض لا يرى فيه السياسي المتمرّس القادر على قيادة البلاد بعد ثلاثة عقود من الحكم الشمولي القابض، بل يرى أن الموقع الأنسب له وزارة المالية والاقتصاد، لما يتمتع به من خبرات كبيرة في هذا المجال. وفي المقابل، رأى آخرون أن الكفاءة والخبرات إلى جانب العلاقات الخارجية التي نسجها حمدوك إبان سنوات عمله في المنظمات الأممية والدولية، من المؤهلات التي ربما تمكنه بسهولة من قيادة السودان بسلام خلال الفترة الانتقالية.
مرشح بلا منافس
«تجمّع المهنيين السودانيين» وهو الفصيل الرئيسي في قيادة الحراك الشعبي الذي قاد الثورة الشعبية السودانية، وكان الجهة التي رشّحت حمدوك لرئاسة الحكومة. ومن ثم، حظي الاختيار بتوافق مقدّر من غالبية الكتل الأخرى المكونة لقوى «إعلان الحرية والتغيير»، ولم يجد اعتراضا من قادة الجيش في المجلس العسكري الانتقالي قبل حلّه.
ويقول أحمد حضرة، عضو لجنة الترشيحات لقوى «الحرية والتغيير»، إنه خلال الاجتماعات مع حمدوك، لاختيار المرشحين في التشكيل الوزاري «بدا لنا مرتّب الذهن والتفكير، ويعرف ماذا يريد».
ثم يضيف: «لم نجد صعوبة كبيرة في التعامل معه. وحتى عندما دَفع بعدد من المرشحين للوزارات، احتفظ بحقنا في تطبيق المعايير المتفّق عليها في اختيارهم دون تدخّل من جانبه، تمسّك بحقه أيضاً في اختيار المرشحين بالمعايير ذاتها، من دون أن يبصم بالعشرة على القوائم المقدمة من قوى الحرية والتغيير، وكان يشدد على التمثيل العادل لأقاليم البلاد والمرأة في الحكومة». أما القيادي الإسلامي السابق المحبوب عبد السلام، فقال إن مهمة حمدوك تواجه بواقع غير منتظم وكثير التعقيدات والتشوّهات، وتتساوى فرص نجاحه وفشله في قيادة البلاد خلال المرحلة الانتقالية، لكنه يستدرك مشيراً إلى أن «حمدوك يتميز دائماً بأنه شديد التركيز على العمل الذي يؤديه».
مسيرته العملية
بعدما نال حمدوك درجة الدكتوراه من كلية الدراسات الاقتصادية من جامعة مانشستر، بدأ حياته العملية في زيمبابوي مستشاراً في شركة خاصة، ثم مستشاراً في منظمة العمل الدولية في زيمبابوي أيضاً، حتى عام 1997. ومن هناك انتقل للعمل مع «بنك التنمية الأفريقي» في ساحل العاج حتى عام 2001، ثم انضم إلى اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة لهيئة الأمم المتحدة ومقرها في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. وبعدها، تنقّل في عدة مواقع تابعة للأمم المتحدة حتى أصبح نائب الأمين التنفيذي للجنة الاقتصادية لأفريقيا.
قبول إقليمي ودولي
الدكتور عبد الله حمدوك عمل خلال الفترة من 2003 حتى 2008، مديراً إقليمياً لأفريقيا والشرق الأوسط بالمعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية (IDEA)، وفي 2016 عيّن أميناً تنفيذياً للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا. وإلى جانب ذلك يعد رئيس وزراء السودان الجديد، خبيراً اقتصادياً في مجال إصلاح القطاع العام والحوكمة والاندماج الإقليمي، وإدارة الموارد وإدارة الأنظمة الديمقراطية والمساعدة الانتخابية.
وفي ضوء هذا السجلّ، فإنه عقب توليه رئاسة الوزراء أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، ودول المنطقة العربية والأفريقية ترحيبها ودعمها لحكومته في الفترة الانتقالية.
ومن جانب آخر، يعول السودان على حمدوك لكسر العزلة الدولية المفروضة على النظام بسبب إخفاقات سياسات النظام السابق، وفي هذا، قال في تصريحات إن تفاهمات كبيرة تجري مع الولايات المتحدة لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
وحول احتمالات نجاحه، يقول أحد المقربين منه، إن لحمدوك معرفة عميقة بمشاكل البلاد، وذلك رغم وجوده في الخارج لسنوات طويلة، ويتابع: «ثم إنه يعرف تماماً من أين يبدأ، وهو أكثر حرصاً على إنجاح الفترة الانتقالية، لذلك تجده دائما يتلمّس التعاون مع الجميع لإيجاد الحلول».
من ناحية ثانية، يقول حامد علي التيجاني، أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة بالجامعة الأميركية بالقاهرة، لـ«الشرق الأوسط» إن حمدوك «شخصية تميل أكثر إلى التوافق والوسطية في التعامل مع الآخرين... ونتوقع منه أن يعطي الأولوية لمسألة وقف الحرب وإحلال السلام، لأنها المدخل الحقيقي للإصلاح السياسي والاقتصادي في البلاد». ويتابع: «إذا أراد حمدوك أن يصل إلى تلك الغايات، فعليه أن يلجأ إلى تحقيق السلم الاجتماعي، وإقامة شراكة حقيقية مع المتضررين من الحرب في أقاليم السودان كافة، وليس الجنوح للمحاصصات الحزبية التي تسعى لها النخب». ثم يضيف: «كذلك من المسائل المهمة التي ستواجهه خلال فترة حكمه، تتمثّل في كيفية إدارة التنوّع والتعدّد، وهي المعادلة الحقيقة التي يفترض أن يوليها اهتمامه الشديد». التيجاني يشير أيضاً إلى أن رئيس الوزراء، باختياره الدكتور إبراهيم البدوي وزيراً للمالية، وهو من أفضل الكفاءات السودانية في الاقتصاد، الأجدر لمعالجة وإصلاح الاقتصاد باعتباره المرتكز الذي تقوم عليه التنمية، إلى جانب إجراء عمليات إصلاح قانوني، يستطيع أن يقيم فترة انتقالية ناجحة، ويردف: «السودان سيشهد خلال الفترة المقبلة انفتاحاً كبيراً على العالم، ولا بد من التعاطي مع المجتمع الدولي لرفع كل العقوبات المفروضة عليه».
ويلحظ التيجاني ما يسميه حاجة رئيس الوزراء لفريق عمل متكامل في الحكومة، الأمر الذي يتطلب منه اتخاذ كثير من القرارات الحاسمة وفي الأوقات الصحيحة، فيقول: «شخصية حمدوك متّزنة ولا تميل إلى المواجهات، كما أن خطابه السياسي رزين بعيداً عن التطرف، وهذه السمات ضرورة في رجل الدولة ويحتاج لها السودان في هذه المرحلة».
وفي السياق نفسه، يكشف القيادي بقوى إعلان الحرية والتغيير المحامي ساطع الحاج، أن اختيار الدكتور عبد الله حمدوك مرشحا لرئاسة الحكومة في الفترة الانتقالية، جاء بعد مشاورات ونقاشات طويلة، وأجمعت بشكل كامل الكتل المكونة لقوى إعلان الحرية والتغيير، على أنه الشخصية المؤهلة لقيادة البلاد في هذه المرحلة. ويضيف: «لا شك أن حمدوك من الكفاءات السودانية المقدرة، وله القدرة الكبيرة على مواجهة المشاكل التي تواجه الحكومة خلال الفترة الانتقالية... وإضافة لذلك فإن حمدوك سياسي من الطراز الأول، فهو يمتلك قدرة فائقة على قراءة المشهد بشكل سليم، والوصول إلى حلول لكل المشاكل التي ستعترضه خلال توليه المنصب».
أولويات الحكومة
وحقاً، من خلال المقابلات التي أجريت مع رئيس الوزراء الجديد، تحدث الرجل عن أهم القضايا والتحديات التي ستواجه حكومته، فقال إن أبرزها بناء اقتصاد وطني يقوم على الإنتاج وليس الهبات والمنح، فضلا عن إصلاح مؤسسات الدولة ومحاربة الفساد، وبناء دولة القانون والعدل، وإقامة علاقات خارجية، تنبني على أساس مصالح السودان، وتمثيل النساء في الجهاز التنفيذي بكل عدالة.
وللعلم، يعد ملف إعفاء ديون السودان الخارجية والمقدرة بنحو 60 مليار دولار أميركي، من أبرز الملفات الساخنة التي تنتظر على طاولة حكومة حمدوك.
وكان حمدوك قد كشف في تصريحات له عن شروعه في نقاشات مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، الهدف منها إعادة هيكلة ديون السودان، بيد أنه أشار إلى أن التفاوض قد يستغرق أشهرا، قبل أن تتمكن حكومته من الحصول على تمويل للتغلب على الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها البلاد. وأوضح أن حكومته بحاجة إلى خطط للحصول على المساعدات والمنح من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، خلال الفترة المقبلة للخروج بالبلاد من الأوضاع الاقتصادية المتردية التي تعيشها.
أما الملف الثاني الملتهب الذي ينتظر حمدوك، فهو تحقيق السلام عبر التفاوض مع الحركات المسلحة في مناطق النزاعات، أي دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. وهو الملف الذي ينتظر أن تضطلع به الحكومة خلال الستة أشهر الأولى من الفترة الانتقالية، وفقا لما نصت عليه الوثيقة الدستورية.
وحمدوك بحسب تصريحاته، يرى أن ملفي الاقتصاد والسلام مرتبط أحدهما بالآخر وبشدة. وهو يركز على إنهاء الحرب وإحلال السلام، للقضاء على «اقتصاد الحرب»، ويلفت النظر إلى أن نسبة تزيد على 70 في المائة من ميزانية البلاد كانت عبارة عن ميزانية حرب، بوقف الحرب وإقامة السلام، يمكن توظيفها في إعادة تصحيح أوضاع الاقتصاد.
التفاوض لا السلاح
هذا، وينتظر أن تشرع حكومة عبد الله حمدوك المدنية في التفاوض المباشر مع قادة الحركات المسلحة، بعد تكوين مفوضية السلام التي سيتقاسم مهامها مجلس السيادة والحكومة التنفيذية. وهو الأمر الذي أشار إليه بوضوح في مؤتمر الصحافي الذي أعلن فيه تشكيل حكومته أول من أمس، بقوله إنه ومجلس السيادة شرعا في تكوين لجنة أولية تمهد لتكوين مفوضية السلام، التي ينتظر تكوينها للتفاوض مع حركات الكفاح المسلح. واستخدم حمدوك في خطاب تشكيل الحكومة لهجة تصالحية هادئة وجهها لقادة الحركات المسلحة، ووصفهم فيها بأنها «رفاق الكفاح المسلح»، ومن جهتهم، فقد صدرت عن قادة الحركات المسلحة تصريحات إيجابية تجاه الرجل أبدوا خلالها قبولهم لتوجهاته السياسية ونظرته لقضايا الحرب والسلام، وأعلنوا استعدادهم للدخول في تفاوض معه على الفور.
المولد والنشأة
> ولد عبد الله حمدوك في الأوّل من يناير (كانون الثاني) 1956 في قرية الدبيبات الصغيرة، في جنوب كردفان. وهي منطقة تقع على خط التماس بين مجموعة الثقافات العربية والأفريقية، ويقع فيها تقاطع خط السكة الحديد الذي كان يتجه أحد فروعه إلى مدينة نيالا بجنوب دارفور، ويتفرّع الآخر إلى واو في جنوب السودان.
فقد حمدوك والده وهو صغير السن، لكنه شقّ طريقه بعصامية لافتة، وتلقى تعليمه في مدارسها، قبل أن يلتحق بمعهد المعلمين. إذ كان ينوي العمل معلماً، بيد أنه دخل كلية الزراعة في جامعة الخرطوم وتخرج فيها ببكالوريوس في الاقتصاد الزراعي. ولاحقاً تابع دراسته العليا في بريطانيا؛ حيث حاز درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة مانشستر.
وعنه يقول ابن منطقته الصحافي محمد الأسباط، إنه كان عصامياً فقد والده وهو صغير السن، وكفله أحد أعمامه، إلى أن تخرج في الجامعة. ويضيف الأسباط أن حمدوك كان مثالاً للرجل الوفي، الذي لم تنقطع علاقته بمنطقته على الرغم من وضعه الاجتماعي والمهني، متابعاً: «أثناء عمله في وزارة المالية كان مواصلا لأهل الدبيبات لم ينقطع عنهم، ولم ينس أبناء عمه الذين ساعدوا في تربيته وتعليمه». ثم يقول عنه إنه رجل هادئ في تعامله مع الأحداث ويتريّث كثيراً قبل اتخاذ القرارات، و«هذه الصفات مجتمعة تجعل منه شخصية مقبولة من الجميع، وقد تساعد حكومته الانتقالية في تحقيق أهداف ثورة ديسمبر (كانون الأول)». وبحسب الأسباط، فإن حمدوك تزوج من الدكتورة آمنة عبد الله، وهي «بنت الخرطوم 2» أحد أرقى أحياء العاصمة السودانية الخرطوم، وهي حائزة درجة الدكتوراه أيضاً، وعلّمت في كثير من المنظمات الأممية والدولية، وله منها بنين وبنات.