مدارس فكرية غربية ثارت على الحتمية الاقتصادية

مرحلة ثرية تستحق القراءة بعيداً عن الانفعالات المباشرة بالأحداث

لويس ألتوسير
لويس ألتوسير
TT

مدارس فكرية غربية ثارت على الحتمية الاقتصادية

لويس ألتوسير
لويس ألتوسير

ربما يكون مناسباً للمؤرخين المعنيين بتاريخ الفكر المعاصر أن يشرعوا من يومهم في صياغة مراجعات حول تجربة جدّ ثريّة مسرحها الأساسي بريطانيا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكان لها الأثر البالغ في تطوير المعارف الإنسانيّة عبر فروع العلوم الاجتماعيّة، وإنقاذ الفكر الفلسفي المادي الذي أطلقته الماركسيّة قبل قرنين وكاد يتحجّر قوالب ثلجيّة في المرحلة الستالينيّة من تاريخ اليسار.
تلك التجربة؛ التي يتفق الباحثون هذي الأيّام على وسمها بمدرسة «الماركسيّة الثقافيّة» البريطانيّة، وتضم أسماء ساطعة مثل ستيوارت هول وريتشارد هوغارت وريموند ويليامز... وغيرهم، تمثل بديناميكيتها العمليّة ومعطياتها النقديّة وإنتاجاتها الفكريّة نداً موازياً بعمقه للتيار الثقافي الآخر بالغ التأثير في الغرب؛ وأعني به «مدرسة فرنكفورت»؛ إن لم يتفوّق عليه بالفعل. لقد استفادت الأخيرة من حقيقة أنها سبقت اليساريين البريطانيين إلى بناء منهجيّة نقديّة صارمة بعقدين على الأقلّ، كما كان انتقال عتاولة «الفرنكفورتيّة» من أمثال ثيودور أدورنو، وماكس هوركيمر، وهيربرت ماركوزه، إلى الولايات المتحدة بداية الأربعينات قد منحها مساحة معرفيّة وقدرة انتشار هائلتين بالاستفادة جانبياً من ماكينة الثقافة الأميركيّة الجبارة، مقارنة برفاقهم البريطانيين الذين عاشوا تجربتهم بين دمارين: الحرب العالميّة الثانية، والثاتشريّة النيوليبراليّة في وقت كانت فيه الإمبراطوريّة البريطانيّة العجوز قد فقدت أسنانها، وتحوّلت إلى مجرد جزيرة رماديّة باهتة تجاه الغرب من البرّ الأوروبيّ.
لكن التجربتين؛ كلتيهما، خرجتا اليوم من سياق القيادة الثقافيّة المباشرة، وتحطمت طاقتهما الدافعة على صخرة أزمة اليسار الوجوديّة بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتيّ، وقد مرّ ما يكفي من الوقت لإعادة قراءة المرحلة كلّها بتجرد بعيداً عن الانحيازات اللحظيّة والانفعالات المباشرة بالأحداث، لا سيما فيما يتعلق بالبريطانية منها التي لم تحظ حتى راهن الوقت بتأريخ تستحقه.
أهميّة المهمّة هذه ليست متأتية من القيمة الرّفيعة لنتاج المدرستين الألمانيّة والبريطانيّة كلتيهما الفكري فحسب؛ والذي رغم كل شيء فإنه ما زال أفضل الأدوات المعرفيّة المتوفرة لنقد تجربة العيش في المجتمعات المعاصرة، بل وأيضاً لأن المنهج الرائد الذي سلكتاه بالتوازي انطلاقاً من الفكر الفلسفي المادي يمثل ثورة مفاهيم كليّة (برادايم) أكاديميّة شاملة في تحليلها لمنتجات الميديا والإعلام ونتاجات المجموعات الحضريّة وتمثلات ثقافات الشباب والإنتاج الأدبي والفنيّ، والهياكل الثقافيّة التي أنشئت حولها مفاهيم مثل العرق والجندر، والثقافة الشعبيّة، كما طبيعة الآيديولوجيا، وهو تحليلٌ كُسرت فيه الحدود بين التخصصات المعرفيّة الضيقة كالفلسفة والتاريخ والاجتماع والأنثروبولوجيا والسّياسة والفنون واللغة؛ بحيث أمكن الحديث لأوّل مرّة عن ممارسة معرفيّة عريضة عابرة لأبواب العلم في رؤية الأشياء والأحداث والعالم. وفوق ذلك كلّه فقد أطاحت - المدرستان بالتوازي دائماً - بذلك التفريق الملفّق بين ثقافة عليا رفيعة وأخرى شعبية وضيعة، وجعلتا منهما صعيداً ثقافياً واحداً وإن ضم تمثّلات متفاوتة.
نشأ تيار «الماركسيّة الثقافيّة» البريطاني بوصفه محاولة من مثقفين وأكاديميين - جاء كثيرون منهم من خارج النّخب الإنجليزيّة التقليديّة - لفهم التحوّلات المفصليّة التي كانت تعيشها بلادهم بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية في الثقافة والفكر والمجتمع بدت الأدوات الماركسيّة التقليديّة - التي هيمن عليها الاتحاد السوفياتي والشيوعيون الكلاسيكيّون وتمحورت حول العوامل الاقتصادية والسياسيّة - غير كافية لفهمها، ناهيك بنقدها. لقد تأكد حينها أن الطبقات العاملة في الغرب لن تقوم بثورات على نسق الثورة الروسيّة عام 1917، فكان مهماً للجميع البحث عن صيغ أخرى مختلفة من الصّراع الاجتماعي وبناء أدوات مواجهة ممكنة في ظل قواعد اللّعب داخل ديمقراطيّات الرأسماليّة المتأخّرة.
مدرسة فرنكفورت (انطلقت من معهد العلوم الاجتماعيّة بجامعة غوته في فرنكفورت بألمانيا؛ ولذا جاءت التسمية) التي سبقت التيار البريطاني بعقدين تقريباً كانت نشأت في ظل ظروف مماثلة عاشتها ألمانيا إثر الحرب العالميّة الأولى، وشهدت رأي العين فشل الثورات اليساريّة الأوروبيّة جميعها باستثناء نموذج «الحزب الطليعي» في روسيا عام 1917، كما عاصرت صعود الفاشيات بوصفها أداة ثورة مضادة من قبل تحالف البرجوازيات - الأرستقراطيات في غير ما بلد. وقد قدّمت فرنكفورت إسهامات لافتة ثمنت بمجملها دور العوامل الثقافيّة والآيديولوجية في الحياة الاجتماعية المعاصرة، وبحثت هناك تحديداً عن الأسباب التي تفسّر خنوع الطبقات المحكومة.
ومع أن المفكّر الإيطالي أنطونيو غرامشي كان سبق الجميع في تثوير الفكر الماركسي وتوظيفه أداةً معرفيّة شاملة الطابع لتحليل المنهجيّات العمليّة التي تلجأ إليها الطبقات الحاكمة في فرض هيمنتها على المجتمع، إلا إن الهزيمة القاسية التي لحقت باليسار الإيطالي ما بعد الحرب العالميّة الأولى، وإبعاد غرامشي إلى السجن وقتله البطيء هناك من قبل السّلطات الفاشستيّة، وعدم ترجمة أعماله أو نشرها في العالم الغربي حتى بداية السّبعينات من القرن الماضي... تسبب ذلك كله في تأخر اطلاع منسوبي المدرستين لعقود عدة على التجربة الإيطاليّة المثيرة للاهتمام.
ما جمع بين المدارس الفكريّة الثلاث هذه كان رفضها الحتميّة الاقتصادية التي بدا أن ماركسيّة تلك الأيّام بقيت مصرّة على أولويتها في تفسير سلوك المجتمعات. ومع ذلك، فإن اختلافات منهجية كثيرة جعلتها أيضاً تتمايز؛ بل وتتباعد أحياناً. فبينما كان توجُّه «فرنكفورت» فهم نتاجات الثقافة المعاصرة بوصفها أدوات سيطرة تستهدف تحويل الكتل الشعبيّة إلى مستهلكين سلبيين للأفكار، وتجعلهم تدريجياً غير قادرين على نقد ما يعرض عليهم أو إدراك تأثيره على سلوكهم المجتمعي أو فهم علاقتهم بالعالم، فإن «الماركسيّة الثقافيّة» البريطانيّة، ورغم اعترافها بسيطرة الطبقات الحاكمة على معظم الإنتاج الثقافي، كان ديدنها أن ترى الأمور من وجهة نظر متلقي ذلك الإنتاج، وتدلّل على أن ذلك المتلقي بإمكانه أيضاً أن يستهلك تلك المادة بصفة نقديّة وأن يستجيب لها بطرق مبدعة، لتتحول بذلك الثقافة - في عُرفها - ساحة مواجهة بين الجانبين لا يمكن حسمها بالمطلق لصالح أحدهما. وحده غرامشي، مع ذلك، كان قدّم خريطة دقيقة ومتكاملة لآلية عمل منتجي الثقافة في المجتمعات المعاصرة، والتي يمكن للطبقات المحكومة الاستفادة منها في بناء أساليب المواجهة. وللحقيقة فإن الأميركيين الذين اطلعوا على التجارب الثلاث انقسموا بينها؛ وإن كان غرامشي تحديداً حاز إعجاب مثقفي الإمبراطوريّة وأجهزتها الذين استعاروا بعضاً من أفكاره في بناء برامجهم لاستهداف مجتمعات تسعى الإمبراطوريّة لمد مظلّتها فوقها لا سيّما خلال الحرب الباردة وما تلاها من ثورات ملونة.
أيضاً فإن المدارس الثلاث تباينت كثيراً في الصّيغة التي تبنتها لناحية العلاقة بين النظريّة والممارسة. «فرنكفورت» رفضت وجود علاقة مباشرة بينهما، وعدّت الفكر النقدي عملاً ثورياً متكاملاً ليس له أن يرتبط بالضرورة بنضالات الطبقات العاملة. ومع أنهم بمجملهم كانوا يقبلون فكرة لينين بأن الطبقات العاملة ليس بمقدورها إنجاز شيء دون حزب ثوريّ، إلا إنهم رفضوا بشدّة التجربة البلشفيّة بوصفها تؤدي إلى ديكتاتورية بيروقراطيّة تخنق الأصوات المعارضة. وقد تجنّب أغلبهم العلاقات المباشرة بالأحزاب الرّاديكاليّة. في المقابل، لم تجد «الماركسيّة الثقافيّة» بطبعتها البريطانيّة - رغم احتكاكات سلبيّة الطابع أحياناً مع الطبقة العاملة أو نقاباتها على الأقل - أي تبرير للتعالي على الجمهور، بل وعدّت دائماً أن مهمتها في المحصلة توعيته وتنويره، ولذلك فإنها احتفظت دائماً بمسحة شعبويّة، وكثيراً ما التقى رموزها بمجموعات من الطبقة العاملة في إطار أنشطة تثقيفيّة كانت تنظّم باستمرار من قبل جمعيات العمّال. أما «الغرامشيّة» بوصفها فكراً؛ فقد كانت نتاج قراءة واعية بعين مثقفة لتجربة مباشرة مديدة في قيادة النشاط العمالي على الأرض، وتحليل للخبرات اليوميّة من المصانع والمتاريس والشوارع، في صحف ومنشورات تقرأها أساساً الطبقة العاملة.
لم تكن تلك التجارب وحدها صيغ انتقال اليسار في الغرب من الماركسيّة الكلاسيكيّة إلى آفاق أرحب من خلال التدقيق بمسائل الثقافة واعتبارها الأساس في تمتين الهيمنة التي تمنحها العوامل الاقتصادية. فالفرنسيون مثلاً أنتجوا بدورهم تياراً من النقاد المثقفين الذين قدموا فلسفات جريئة انطلق معظمها بشكل أو بآخر من ماركس، لكنها انتقلت إلى فضاءات أبعد. لقد قرأ الفرنسيّون غرامشي قبل غيرهم من الأوروبيين، وتأثروا به بشكل أو بآخر، لكن أعمالهم بقيت على العموم متمحورة حول إنجازات مفكرين نجوم أفراد أمثال رولاند وفوكو وألتوسير، دون أن تتحول يوماً إلى مدرسة متكاملة كما عند الألمان والإنجليز.
إنها مرحلة ثريّة تستحق التسجيل.


مقالات ذات صلة

غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
ثقافة وفنون «حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة

فاضل ثامر
ثقافة وفنون أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

في مجموعته القصصية «العاقرات يُنجبن أحياناً»، يُجري الكاتب المصري أحمد إيمان زكريا مفاوضات ضمنية بين المُمكن والمستحيل بما يُشبه لعبة الشدّ والجذب

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

في ديوانها الرابع «ذهبُ أجسادهن» الصادر عن دار «كتب» ببيروت، تسعى الشاعرة المغربية عائشة بلحاج إلى رصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.