«دويتشه بنك» يواجه تحقيقاً جنائياً في سقطات محتملة تتعلق بغسل أموال

يتضمن مراجعة لطريقة تعامل المصرف مع أنشطة مريبة

يتضمن التحقيق مراجعة لطريقة تعامل المصرف مع ما توصف بأنها تقارير عن أنشطة مريبة (رويترز)
يتضمن التحقيق مراجعة لطريقة تعامل المصرف مع ما توصف بأنها تقارير عن أنشطة مريبة (رويترز)
TT

«دويتشه بنك» يواجه تحقيقاً جنائياً في سقطات محتملة تتعلق بغسل أموال

يتضمن التحقيق مراجعة لطريقة تعامل المصرف مع ما توصف بأنها تقارير عن أنشطة مريبة (رويترز)
يتضمن التحقيق مراجعة لطريقة تعامل المصرف مع ما توصف بأنها تقارير عن أنشطة مريبة (رويترز)

تحقق السلطات الفيدرالية فيما إذا كان مصرف «دويتشه بنك» قد التزم بالقوانين التي تستهدف منع غسل الأموال وغيرها من الجرائم، أم لا، وذلك في إطار أحدث عملية تحرٍ حكومية عن سقطات وممارسات خاطئة محتملة داخل واحد من أكبر مصارف العالم، وأكثرها تعثراً واضطراباً في الوقت ذاته، بحسب 7 أشخاص مطلعين على التحقيق.
يتضمن التحقيق مراجعة لطريقة تعامل المصرف مع ما يوصف بأنها تقارير عن أنشطة مريبة أعدها موظفون به تتعلق بمعاملات مثيرة للجدل يرتبط بعضها بصهر الرئيس الأميركي ترمب، ومستشاره البارز جاريد كوشنر، بحسب أشخاص مقربين من المصرف، ومصادر أخرى مطلعة على الأمر. ويعد التحقيق الجنائي في أعمال «دويتشه بنك» من عمليات فحص وتحرٍ حكومية منفصلة، لكنها متداخلة ومتشابكة عن كيفية تدفق الأموال ذات المصادر غير المشروعة إلى النظام المالي الأميركي، على حد قول 5 أشخاص غير مصرح لهم بالحديث عن الأمر. كذلك يتم التحقيق في ممارسات مصارف أخرى.
وقد تواصل مكتب التحقيقات الفيدرالي مؤخراً مع محامٍ يمثل تامي ماكفادين، التي أبلغت عن ممارسات «دويتشه بنك»، والتي انتقدت علناً أنظمة المصرف الخاصة بمكافحة غسل الأموال، بحسب المحامي براين مكافيرتي. وقد صرحت تامي، مسؤولة سابقة عن ضمان الالتزام بمكافحة غسل الأموال في المصرف، لصحيفة «نيويورك تايمز» خلال الشهر الماضي، بأنها رصدت معاملات خاصة بشركة مملوكة لأسرة كوشنر عام 2016. لكن قرر مديرو المصرف عدم تقديم التقرير الذي أعدته وكان يتعلق بوجود نشاط مريب ومشبوه. كذلك كان لدى بعض زملائها تجارب مماثلة عام 2017 تضمنت رصد معاملات في حسابات الكيانات القانونية الخاصة بترمب، رغم أنه ليس واضحاً ما إذا كان مكتب التحقيقات الفيدرالي يحقق في طريقة تولي المصرف أمر تلك المعاملات أم لا.
العميل الفيدرالي، الذي تواصل مع محامي ماكفادين، هو نفسه الذي شارك في مقابلات تم إجراؤها مع ويليام بروكسميت، ابن مسؤول تنفيذي بارز راحل كان يعمل لدى المصرف. وقد أخبر العملاء الابن فال بروكسميت أن التحقيق في أمر «دويتشه بنك» قد بدأ بالنظر في عمل البنك لصالح روس متورطين في عمليات غسل أموال، وامتد ليشمل مجموعة كبرى من السقطات والممارسات الخاطئة المحتملة التي تتم داخل المصرف، وفي مؤسسات مالية أخرى. من الأمور التي يتم التحقيق فيها تورط المصرف المحتمل في فضيحة غسل أموال كبرى خاصة بـ«دانسك بنك» الدنماركي، بحسب أشخاص مطلعين على التحقيق.
لا يزال النطاق الأوسع للتحقيقات، فضلاً عن تفاصيل كثيرة خاصة بما يتم التدقيق فيه، غير واضح، وليس من المعلوم بعد ما إذا كانت التحقيقات سوف تسفر عن توجيه اتهامات جنائية أم لا. إضافة إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي، تجري كل من إدارة غسل الأموال واستعادة الأصول بوزارة العدل في واشنطن، ومكاتب ممثلي الادعاء العام الأميركي في كل من مانهاتن وبروكلين تحقيقات. مع ذلك رفض ممثلون لتلك الهيئات التعليق على الأمر.
على الجانب الآخر، ذكر «دويتشه بنك» أنه يتعاون مع جهات التحقيق، ويتخذ خطوات لتحسين أنظمة مكافحة غسل الأموال به. مع ذلك كان لعملية التدقيق الحكومية من جانب منظمين، وأعضاء في الكونغرس، ووزارة العدل، ومكتب التحقيقات الفيدرالي تأثير سلبي على المصرف، حيث أدت إلى انخفاض أسهمه في سوق الأوراق المالية إلى أدنى مستوياته تقريباً، وذلك بسبب شكوك المستثمرين في مستقبل المصرف.
وتركز التحقيقات، التي يجريها الكونغرس، على العلاقة الوثيقة التي تربط ترمب وعائلته بـ«دويتشه بنك»، فعلى مدى العقدين الماضيين كان هو المؤسسة المالية الأساسية التي ترغب في استمرار العمل مع ترمب، رغم تاريخه الطويل في التخلف عن سداد الديون. وكان المصرف قد أقرضه مبالغ تزيد على ملياري دولار، وكان منها مبلغ قيمته 350 مليون دولار مستحق الدفع وقت أدائه اليمين الدستورية رئيساً للولايات المتحدة.
- الكونغرس يحقق في علاقة «دويتشه بنك» بترمب
وقد استدعت لجنتان في الكونغرس «دويتشه بنك» للتعليق على سجلات تتعلق بالرئيس الأميركي دونالد ترمب وعائلته تضمنت سجلات خاصة بطريقة تولي المصرف أمر معاملات من المحتمل أن تكون مريبة ومشبوهة. وقد أقام الرئيس دعوى قضائية لمنع كل من «دويتشه بنك» و«كابيتال وان»، حيث يودع أمواله أيضاً، من الاستجابة لأوامر الاستدعاء تلك. ورفض قاضٍ فيدرالي طلب ترمب بالحصول على أمر قضائي مانع، واستأنف الرئيس على ذلك الحكم.
جدير بالذكر أن وزارة العدل تحقق في أمر «دويتشه بنك» منذ عام 2015 حين كان ينظر العملاء الفيدراليون فيما إذا كان له دور، أم لا، في غسل مليارات الدولارات لصالح أثرياء روس في إطار خطة تعرف باسم «تداول المرآة» - وهو نظام تداول يتيح للمتداولين نسخ أو تتبع عمليات التداول من خلال متداولين آخرين. وكان عملاء المصرف يستخدمونه في تحويل مبالغ مالية بالروبل الروسي إلى مبالغ بالدولار واليورو من خلال سلسلة معقدة من تداولات الأوراق المالية في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. وفي بداية 2017، فرض منظمون فيدراليون، وآخرون تابعون للولايات المختلفة في أميركا، إلى جانب السلطات البريطانية جزاءات وغرامات مالية مدنية تقدر بملايين الدولارات على «دويتشه بنك» بسبب ذلك النوع من الممارسات، لكن لم يقم ممثلو الادعاء العام دعوى جنائية ضد المصرف أبداً. وقد دفع ذلك بعض المسؤولين التنفيذيين في مصرف «دويتشه بنك» إلى الاعتقاد بأنهم في مأمن، بحسب ما ذكره أشخاص مطلعون على الأمر.
وبحلول الخريف، كان العملاء الفيدراليون يحققون في مجموعة متنوعة من ممارسات خاطئة تتم في مكافحة غسل الأموال وغيرها من الممارسات المريبة المحتملة الأخرى داخل المصرف. وقد التقى عملاء فيدراليون خلال العام الحالي مع فال بروكسميت، الذي انتحر والده في يناير (كانون الثاني) 2014. وقد أعطاهم بروكسميت وثائق داخلية خاصة بالمصرف، إضافة إلى معلومات استعادها من حسابات البريد الإلكتروني الشخصية الخاصة بوالده. وكان ويليام حتى يوم وفاته عضواً في مجلس الإشراف في منشأة كبيرة تابعة لـ«دويتشه بنك» في الولايات المتحدة الأميركية، وهي «دويتشه بنك تراست كامبني أميركاز» التي انتقدها منظمون لضعف أنظمة مكافحة غسل الأموال بها.
- عمليات البنك في جاكسونفيل
يتم كثير من عمليات غسل الأموال داخل المصرف في مدينة جاكسونفيل في ولاية فلوريدا، حيث كانت تعمل ماكفادين ضمن مئات الموظفين الذين يتولون التدقيق في معاملات رصدتها وسجلتها أنظمة الكومبيوتر كمعاملات من المحتمل أن تكون مشبوهة ومثيرة للريبة. وأخبرت ماكفادين «نيويورك تايمز» بأنها قد حذرت خلال صيف 2016 من معاملات خاصة بشركات كوشنر تتضمن تحويل أموال إلى أفراد روس. وفي عام 2017، أعد موظفون آخرون في «دويتشه بنك» تقارير تشير إلى الاشتباه في معاملات خاصة بكيانات قانونية مرتبطة بترمب؛ من بينها مؤسسة خيرية تم إيقاف نشاطها، بحسب موظفين حاليين وسابقين في المصرف. وفي الحالتين لم يتم تقديم تلك التقارير الخاصة بذلك النشاط المريب إلى وزارة الخزانة.
على الجانب الآخر، ذكر مسؤولون في «دويتشه بنك» أنه قد تم التعامل مع تلك التقارير كما ينبغي وعلى النحو الأمثل، وأنه من المعتاد بالنسبة للمديرين بسط نفوذهم على الموظفين، والاتجاه نحو الامتناع عن تسليم تقارير خاصة بنشاط مشبوه إلى الحكومة. ولا يوجد ما يشير إلى إجراء تحقيق في أمر شركات كوشنر. وقد أكدت الشركة عدم صحة أي اتهامات تشير إلى وجود علاقة بينها وبين «دويتشه بنك» تتضمن غسل أموال. وقالت متحدثة باسم مجموعة شركات ترمب إنها ليس لديها أي معلومات عن أي معاملات مشبوهة تم رصدها داخل «دويتشه بنك».
ويلزم قانون سرية المصارف الفيدرالي المؤسسات المالية بإخطار الحكومة بأي اشتباه في تضمن أي معاملة مالية أفعالاً جنائية أو استخدامها لأي غرض غير قانوني. وربما تواجه المصارف عقوبات مدنية أو جنائية لامتناعها عن إرسال تقارير خاصة بمعاملات يتبين أنها غير قانونية. وقد تحملت مصارف مثل «جي بي مورغان تشيس» و«إتش إس بي سي» عقوبات من هذا النوع خلال السنوات القليلة الماضية. وتشير المصارف إلى أنها عندما تخطئ فيما يتعلق بالإبلاغ عن مشكلات محتملة، ينتهي بها الحال إلى إغراق الحكومة بمعلومات إرشادية زائفة ومضللة.
وصرح موظفون سابقون في «دويتشه بنك»، تحدثوا شريطة عدم ذكر أسمائهم، لصحيفة «نيويورك تايمز»، بأن الشركة قد دفعتهم نحو التعجل في إجراء مراجعات لمعاملات، وأن المديرين كانوا يلقون بالعراقيل في طريقهم من أجل تثبيط همتهم، ومنعهم من تقديم تقارير خاصة بأنشطة مريبة. وقد جاهد «دويتشه بنك» من أجل تشديد إجراءاته الخاصة بغسل الأموال، حيث استعان بمتعاقدين لمعالجة الشكاوى من نقص العاملين، وذلك بزيادة القوى العاملة في فرعه في جاكسونفيل، رغم قول بعض الموظفين إن المتعاقدين كانوا عديمي الخبرة ويفتقرون إلى التدريب المناسب.
وقد أرسل مصرف «دويتشه بنك» مؤخراً خطابات إلى مئات الشركات محذراً إياها بوقف الخدمات التي يقدمها لهم المصرف إذا لم يقدموا معلومات محدّثة عن مصادر أموالهم، وأسماء شركائهم في العمل، وذلك بحسب موظفين يعملون في المصرف اطلعوا على تلك الخطابات. وكذلك ذكر مسؤولون في المصرف أن الخطابات، التي كان لصحيفة «فاينانشيال تايمز» السبق في نشرها، تأتي في إطار الجهود، التي يبذلها المصرف من أجل الالتزام بقواعد «اعرف عميلك»، التي تمثل جزءاً أساسياً من الجهود التي يبذلها أي مصرف لمكافحة غسل الأموال.
وفي جاكسونفيل، يعمل فريق مكافحة الجرائم المالية في «دويتشه بنك» داخل مبنى أبيض مكون من 3 طوابق تحيط به أشجار النخيل. ولمكتب التحقيقات الفيدرالي مكتب ميداني قريب من ذلك المبنى، حيث يمكن رؤيته بوضوح من موقع المصرف. وقد أخذ العاملون في المصرف يتندرون مؤخراً بقولهم إنه عندما يبدأ العملاء الفيدراليون في التوجه إلى مكاتبهم سيعرفون ذلك فوراً.

- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

«الحرب» الكورية الجديدة تعيد إلى الأذهان ما جرى في 25 يونيو 1950

تحليل إخباري رجل يقف أمام الشرطة ويحمل لافتة كُتب عليها: «يون سوك يول... ارحل» في سيول (أ.ف.ب)

«الحرب» الكورية الجديدة تعيد إلى الأذهان ما جرى في 25 يونيو 1950

فجأة اصطخبت مياه البحيرة الكورية الجنوبية وعمّت الفوضى أرجاء سيول وحاصر المتظاهرون البرلمان فيما كان النواب يتصادمون مع قوات الأمن.

شوقي الريّس (بروكسل)
أوروبا روسيا تعتزم تنظيم أكبر احتفال في تاريخها بمناسبة الذكرى الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية (رويترز)

روسيا تنظم «أكبر احتفال» بالذكرى الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية

أعلنت روسيا اليوم (الثلاثاء) أنها تعتزم تنظيم «أكبر احتفال في تاريخها» بمناسبة الذكرى الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية، في سياق تمجيد القيم الوطنية.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أميركا اللاتينية «لاهوت التحرر» يفقد مؤسّسه الكاهن الكاثوليكي البيروفي غوستافو غوتيرّيس عن 96 عاماً

«لاهوت التحرر» يفقد مؤسّسه الكاهن الكاثوليكي البيروفي غوستافو غوتيرّيس عن 96 عاماً

مطلع العقد السادس من القرن الماضي شهدت أميركا اللاتينية، بالتزامن مع انتشار حركات التحرر التي توّجها انتصار الثورة الكوبية.

شوقي الريّس (هافانا)
أوروبا رجل يلتقط صورة تذكارية مع ملصق يحمل صورة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقول: «لماذا نريد مثل هذا العالم إذا لم تكن روسيا موجودة فيه؟» (رويترز)

«فليحفظ الرب القيصر»... مؤيدون يهنئون بوتين بعيد ميلاده الثاني والسبعين

وصف بعض المؤيدين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بـ«القيصر»، في عيد ميلاده الثاني والسبعين، الاثنين، وقالوا إنه أعاد لروسيا وضعها، وسينتصر على الغرب بحرب أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
العالم جندي أوكراني يجلس داخل دبابة ألمانية الصنع من نوع «ليوبارد 2 إيه 5» بالقرب من خط المواجهة (أ.ف.ب)

هل انتهى عصر الدبابات «ملكة المعارك» لصالح الطائرات المسيّرة؟

رغم أن الدبابات ساعدت أوكرانيا في التقدم داخل روسيا، تعيد الجيوش التفكير في كيفية صنع ونشر هذه الآليات القوية بعد أدائها المتواضع خلال الفترة الأخيرة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

قنابل موقوتة تهدد الاقتصاد العالمي في 2025

ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)
ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)
TT

قنابل موقوتة تهدد الاقتصاد العالمي في 2025

ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)
ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)

رئيس أميركي جديد... حرب تجارية مهددة... استمرار تعثر اقتصاد الصين... اضطرابات سياسية في مراكز القوة بأوروبا... توترات جيوسياسية في الشرق الأوسط... يبدو أن عام 2025 سيكون عاماً آخر استثنائياً. فكيف سيشكل كل ذلك الاقتصاد العالمي في عام 2025؟

في عام 2024، اتجه الاقتصاد العالمي نحو التحسن في ظل تباطؤ معدلات التضخم، رغم استمرار المخاطر.

لكن العام المقبل يقف عند منعطف محوري. فمن المرجح أن يرفع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب الرسوم الجمركية، واضعاً حواجز حمائية حول أكبر اقتصاد في العالم، بينما سيستمر قادة الصين في التعامل مع عواقب العيوب الهيكلية داخل نموذج النمو في ثاني أكبر اقتصاد بالعالم. أما منطقة اليورو، فستظل محاصرة في فترة من النمو المنخفض للغاية.

ترمب ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو يتحدثان قبل اجتماع حلف شمال الأطلسي (أ.ب)

وعلى الرغم من كل هذه التحديات، يُتوقع أن يظل الاقتصاد العالمي ككل مرناً نسبياً في 2025. ويفترض صندوق النقد الدولي بتقرير نشره في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أي قبل حسم نتائج الانتخابات الأميركية، أن يظل النمو ثابتاً عند 3.2 في المائة بالعام المقبل، وهو نفسه الذي توقعه لعام 2024. بينما التوقعات بتباطؤ النمو في الولايات المتحدة إلى 2.2 في المائة في عام 2025، من 2.8 في المائة في عام 2024، مع تباطؤ سوق العمل. في حين توقعت جامعة ميشيغان في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أن يتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بأميركا إلى 1.9 في المائة في عام 2025.

وفي منطقة اليورو، من المتوقع أن يبلغ النمو 1.2 في المائة في عام 2025، وهو أضعف قليلاً من توقعات الصندوق السابقة. ويشار هنا إلى أن الأحداث السياسية في كل من فرنسا وألمانيا سيكون لها وقعها على نمو منطقة اليورو ككل. فالسياسات الاقتصادية الفرنسية والألمانية تعوقها حالة كبيرة من عدم اليقين السياسي بعد استقالة رئيس الوزراء الفرنسي ميشال بارنييه ضحية الموازنة، وانهيار الائتلاف الحكومي في ألمانيا للسبب نفسه.

أما الصين، فيتوقع الصندوق أن ينمو ناتجها المحلي الإجمالي بنسبة 4.6 في المائة في عام 2025 مع مخاوف تحديات استمرار ضعف سوق العقارات، وانخفاض ثقة المستهلكين والمستثمرين، وذلك في وقت تكافح فيه بكين للتوفيق بين إعادة توجيه استراتيجيتها للنمو والضغوط قصيرة الأجل لإجراءات التحفيز غير المكتملة. لكن وكالة «فيتش» أقدمت منذ أيام على خفض توقعاتها السابقة بالنسبة لنمو الاقتصاد الصيني من 4.5 في المائة إلى 4.3 في المائة.

موظف يعمل بشركة تصنيع قطع غيار سيارات في تشينغتشو (أ.ف.ب)

السياسة النقدية في 2024

لقد كان من الطبيعي أن يمثل تباطؤ التضخم المسجل في عام 2024، أرضية لبدء مسار خفض أسعار الفائدة من قبل المصارف المركزية الكبرى. وهو ما حصل فعلاً. فالاحتياطي الفيدرالي خفّض أسعار الفائدة الفيدرالية مرتين وبمقدار 75 نقطة أساس حتى نوفمبر 2024 - و25 نقطة أساس أخرى متوقعة باجتماع في 17 و18 ديسمبر (كانون الأول) الحالي - لتصل إلى 4.50 - 4.75 في المائة، رغم نمو الاقتصاد بواقع 3 في المائة.

رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول يتحدث إلى رئيسة المصرف المركزي الأوروبي كريستين لاغارد ويتوسطهما محافظ بنك اليابان كاز أودا في مؤتمر «جاكسون هول» (رويترز)

أما المصرف المركزي الأوروبي، فأجرى خفضاً للفائدة 4 مرات في 2024 وبواقع 25 نقطة أساس كل مرة إلى 3.00 في المائة بالنسبة لسعر الفائدة على الودائع.

بنك إنجلترا من جهته، خفّض أسعار الفائدة مرتين بمقدار 25 نقطة أساس (حتى اجتماعه في نوفمبر).

باول ومحافظ بنك إنجلترا أندرو بيلي ورئيس بنك كندا المركزي تيف ماكليم (رويترز)

وبالنسبة لبنك الشعب (المصرف المركزي الصيني)، فلقد كان التيسير مع مجموعة أدواته الموسعة حافلاً هذا العام، حيث تم الإعلان عن إصلاح إطار عمل جديد للسياسة النقدية في شهر يونيو (حزيران)، وتخفيضات بمقدار 30 نقطة أساس في سعر إعادة الشراء العكسي لمدة 7 أيام، وتخفيضات بمقدار 100 نقطة أساس في سعر إعادة الشراء العكسي، وبرامج جديدة لدعم أسواق الأسهم والعقارات.

إلا أن المفاجأة كانت في تغيير زعماء الصين موقفهم بشأن السياسة النقدية إلى «ميسرة بشكل معتدل» من «حكيمة» للمرة الأولى منذ 14 عاماً، ما يعني أن القيادة الصينية تأخذ المشاكل الاقتصادية على محمل الجد. وكانت الصين تبنت موقفاً «متراخياً بشكل معتدل» آخر مرة في أواخر عام 2008، بعد الأزمة المالية العالمية وأنهته في أواخر عام 2010.

ولكن ماذا عن عام 2025؟

سوف تستمر المصارف المركزية في خفض أسعار الفائدة على مدى العام المقبل، ولكن في أغلب الاقتصادات الكبرى سوف تمضي هذه العملية بحذر.

بالنسبة للاحتياطي الفيدرالي، يبدو أن التوقف عن الخفض في اجتماع يناير (كانون الثاني) أمر محتمل، حيث إنه سيكون لديه بحلول اجتماع مارس (آذار)، فهم أكثر وضوحاً لخطط الرئيس دونالد ترمب بشأن التعريفات والضرائب والإنفاق والهجرة وغيرها. ومن المؤكد أن احتمالات خفض الضرائب المحلية لدعم النمو التي ستدفع بالطبع التضخم إلى الارتفاع، ستؤيد مساراً أبطأ وأكثر تدريجية لخفض أسعار الفائدة العام المقبل. وهناك توقعات بحصول خفض بمقدار 25 نقطة أساس لكل ربع في عام 2025.

متداول في سوق نيويورك للأوراق المالية يستمع إلى مؤتمر باول الصحافي (رويترز)

أما المصرف المركزي الأوروبي، فيبدو أنه مصمم الآن على المضي قدماً في إعادة أسعار الفائدة إلى المستوى المحايد بأسرع ما يمكن مع ضعف النمو الشديد وتباطؤ ظروف سوق العمل، وسط توقعات بأن يخفض سعر الفائدة الرئيسي إلى نحو 1.5 في المائة بحلول نهاية عام 2025. ومن بين العواقب المترتبة على ذلك أن اليورو من المرجح أن يضعف أكثر، وأن يصل إلى التعادل مقابل الدولار الأميركي العام المقبل.

وعلى النقيض من المصرف المركزي الأوروبي، يتخذ بنك إنجلترا تخفيضات أسعار الفائدة بشكل تدريجي للغاية. ومن المتوقع أن تعمل الموازنة الأخيرة وكل الإنفاق الحكومي الإضافي الذي جاء معها، على تعزيز النمو في عام 2025. وهناك توقعات بأن يقفل العام المقبل عند سعر فائدة بواقع 3.75 في المائة، قبل أن ينخفض ​​إلى أدنى مستوى دوري عند 3.50 في المائة في أوائل عام 2026.

أما بنك الشعب، فسوف يبني العام المقبل على الأسس التي وضعها هذا العام، حيث تشير التوقعات إلى تخفيضات تتراوح بين 20 و30 نقطة أساس في أسعار الفائدة، مع مزيد من التخفيضات إذا جاءت الرسوم الجمركية الأميركية في وقت مبكر أو أعلى مما هو متوقع حالياً، وفق مذكرة للمصرف الأوروبي «آي إن جي». ومن المتوقع على نطاق واسع خفض آخر لمعدل الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس في الأشهر المقبلة، حتى إنه يمكن حصول تخفيضات تراكمية بمقدار 100 نقطة أساس في معدل الفائدة قبل نهاية عام 2025.

حرب تجارية على الأبواب؟

وبين هذا وذاك، هناك ترقب كبير للتعريفات الجمركية التي تعهد ترمب بفرضها، والتي يرجح على نطاق واسع أن تلعب مرة أخرى دوراً رئيساً في أجندته السياسية، وهو ما ستكون له انعكاساته بالتأكيد على الاقتصاد العالمي.

سفن حاويات راسية في ميناء أوكلاند (أ.ف.ب)

فترمب هدّد في البداية مثلاً بفرض رسوم جمركية بنسبة 60 في المائة على جميع الواردات الصينية، ورسوم جمركية تتراوح بين 10 في المائة و20 في المائة على الواردات من جميع البلدان الأخرى. ثم توعّد المكسيك وكندا بفرض تعريفات جمركية بنسبة 25 في المائة على جميع الواردات منهما، إذا لم تحلّا مشكلة المخدرات والمهاجرين على الحدود مع الولايات المتحدة، و10 في المائة رسوماً جمركية على الواردات من الصين (تضاف إلى الرسوم الحالية) بمجرد تنصيبه في 20 يناير. ولاحقاً، توعد مجموعة «بريكس» بفرض تعريفات جمركية تصل إلى 100 في المائة، إذا أقدمت على إنشاء عملة جديدة من شأنها إضعاف الدولار.

ويبدو أن ترمب جاد هذه المرة في فرض التعريفات الجمركية التي يصفها بأنها أجمل كلمة في القاموس، بدليل ترشيحه الرئيس التنفيذي لشركة «كانتور فيتزجيرالد» في وول ستريت، هوارد لوتنيك، لتولي منصب وزير التجارة، والذي قال عنه إنه «سيتولى ملف التجارة والتعريفات».

وينص قانون سلطات الطوارئ الاقتصادية الدولية على قدرة الرئيس على إصدار إجراءات اقتصادية طارئة للتعامل مع «أي تهديد غير عادي واستثنائي، يكون مصدره بالكامل أو جزئياً خارج الولايات المتحدة، للأمن القومي أو السياسة الخارجية أو اقتصاد الولايات المتحدة». وهو ما يطلق يد ترمب في إقرار رسوم جمركية جديدة.

من هنا، قد تشكل الحرب التجارية أكبر خطر يهدد النمو العالمي في عام 2025. ورسم المحللون أوجه تشابه مع ثلاثينات القرن العشرين، عندما أدى فرض التعريفات الجمركية الأميركية إلى رد فعل انتقامي من قبل حكومات أخرى، وأدى إلى انهيار التجارة العالمية الذي أدى بدوره إلى تعميق الكساد الأعظم.

وفي أواخر أكتوبر، تناول صندوق النقد الدولي في تقرير له، التأثيرات المترتبة على النمو والتضخم في حرب تجارية محتملة عام 2025. فوضع التقرير سيناريو حرب تجارية مع افتراض فرض تعريفات جمركية أميركية بنسبة 10 في المائة على جميع الواردات، تقابلها إجراءات انتقامية واسعة النطاق من جانب أوروبا والصين تعادل 10 في المائة تعريفات جمركية على الصادرات الأميركية، وعلى جميع التجارة بين الصين والاتحاد الأوروبي، على أن يتم تنفيذها بحلول منتصف عام 2025.

في هذا السيناريو، يتوقع صندوق النقد الدولي أن تؤدي التعريفات الجمركية إلى خفض نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة -0.1 في المائة في عام 2025، مما يخفض توقعاته الأساسية من 3.2 في المائة إلى 3.1 في المائة.

مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) من جهته يحذر من آفاق غير مؤكدة تواجه التجارة العالمية عام 2025، بسبب تهديد الحروب التجارية. ويعدّ أن «آفاق التجارة في عام 2025 مشوبة بتحولات محتملة في السياسة الأميركية، بما في ذلك التعريفات الجمركية الأوسع نطاقاً التي قد تعطل سلاسل القيمة العالمية وتؤثر على الشركاء التجاريين الرئيسين».

وفي استطلاع أجرته «رويترز» مؤخراً مع 50 اقتصادياً، قدّر هؤلاء أن ينخفض معدل النمو الاقتصادي في الصين ​​بمقدار من 0.5 إلى 1.0 نقطة مئوية في عام 2025، حال تم فرض التعريفات الجمركية.

الدين العالمي إلى مستويات قياسية

ولا تقتصر التحديات التي يواجهها الاقتصاد العالمي على ما سبق تعداده، فالعالم يواجه اليوم تحدياً غير مسبوق مع تصاعد الديون العالمية إلى 323 تريليون دولار، بحسب بيانات معهد التمويل الدولي، وهو رقم يصعب تخيله أو استيعابه، والمتوقع ارتفاعه أكثر في 2025 إذا نفذ ترمب تعهداته.

لافتة إلكترونية في محطة انتظار الحافلات حول حجم الدين الوطني الحالي للولايات المتحدة (رويترز)

فالتقلبات المتوقعة لسياسات ترمب دفعت بعض الدول إلى إصدار ديون قبل توليه منصبه، عندما قد تصبح الأسواق أقل قابلية للتنبؤ.

وحذر معهد التمويل الدولي من أن التوترات التجارية المزدادة وانقطاعات سلسلة التوريد تهدد النمو الاقتصادي العالمي، مما يزيد من احتمالات حدوث دورات ازدهار وكساد صغيرة في أسواق الديون السيادية مع عودة الضغوط التضخمية وتشديد المالية العامة. وسوف تفاقم زيادة تكلفة الفائدة نتيجة لذلك الضغوط المالية وتجعل إدارة الديون صعبة بشكل مزداد.

وأخيراً لا شك أن التحولات الجيوسياسية تلعب دوراً مهماً في تشكيل الاقتصاد العالمي عام 2025. وهي تفترض مراقبة خاصة ودقيقة ومعمقة لتداعيات التنافس بين الولايات المتحدة والصين، التي قد تزداد وتيرتها حدة لتكون عواقبها الاقتصادية محسوسة على مدى سنوات، وليس أشهراً، بحيث يتردد صداها طوال العام المقبل وما بعده.