بينما كانت آنيغريت كرامب - كارنباور تمسح دموعها فرحاً فور إعلان فوزها بزعامة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، كانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تبتسم ارتياحاً. تعانقت السيدتان على المسرح أمام المئات من المندوبين المصفقين في قاعة مؤتمر الحزب في مدينة هامبورغ، وتبادلتا همساً كلمات التهنئة.
لقد نجحت ميركل فيما فشل فيه أسلافها. إذ إنها لم تخرج من السلطة عنوة ولا بانقلاب، بل هندست خروجها بإيصال مرشحها المفضّل لخلافتها في زعامة الحزب الذي قادته 18 سنة حققت خلالها له 4 انتصارات انتخابية. أما كرامب - كارنباور فقد فازت بزعامة أكبر حزب في ألمانيا، وباتت على بعد خطوات معدودة من أن تغدو المستشارة التالية والمرأة الثانية التي تقود الحزب والبلاد.
رغم ذلك، فإن هذا الانتصار لم يكن كاملاً؛ إذ فازت كرامب – كارنباور بفارق ضئيل جداً على منافسها فريدريش ميرز، وتركت وراءها حزباً منقسماً أكثر من أي وقت مضى. إنه انقسام بين رؤيتين: الاستمرارية والتجديد. فلقد جسّدت هي الرؤية الأولى، أي مزيداً من الخط نفسه، والصحافة طبعتها بـ«ميني ميركل»، وبالفعل، حتى الآن لم تثبت أنها تختلف كثيراً عنها. أما الرؤية الأخرى التي جسّدها منافسها ميرز فتتمثل في الابتعاد عن ميركل وإرثها وإبعاد الحزب عن الوسط وإعادته إلى اليمين. وباختيارها على حساب ميرز، قد يكون العدد الأكبر من مندوبي الحزب اختاروا الاستمرارية بنهج ميركل، لكن قرابة النصف الآخر تُركوا منهزمين غاضبين.
قبل أن تترشح آنيغريت كرامب - كارنباور لزعامة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في ألمانيا، لم تكن معروفة كثيراً، ولا سيما أنها تسلمت الأمانة العامة للحزب المحافظ العريق قبل أشهر قليلة. وقبلها كانت مكتفية بإدارة ولايتها الصغيرة زارلاند (السار) الواقعة على الحدود مع فرنسا من منصبها رئيسةً لحكومتها من عام 2011 حتى بدايات العام الحالي.
لم تكن تربطها علاقة كبيرة بالعاصمة برلين. فهي لم تشارك يوماً في الحكومات الفيدرالية. ولم تترشح ولا مرة للبوندستاغ (مجلس النواب في البرلمان الألماني) مع أنها جلست في مقاعده لمدة 7 أشهر عام 1998 عندما حلّت مكان نائب آخر من الحزب. بيد أنها خسرت المقعد في الانتخابات العامة بعد أشهر قليلة. ثم إن اسمها أثار الكثير من الجدل ودفع ببعض الصحافة إلى التساؤل بهزل عما إذا كان من الممكن انتخاب سيّدة تحمل اسماً مركباً وبهذا التعقيد لتصبح زعيمة أكبر حزب في البلاد. وهي رغم أن تدرّجها في الحزب يعود إلى أكثر من 18 سنة، انحصر معظم نشاطها السياسي في ولايتها زارلاند، حيث شغلت مناصب وزارية كثيرة أوصلتها إلى رئاسة الحكومة في النهاية.
- انتصار بداية الصعود
لكن هناك، في تلك الولاية الصغيرة النائية، نجحت كرامب - كارنباور بقيادة حزبها إلى الفوز بالانتخابات المحلية التي أجريت في مارس (آذار) 2017، أي قبل أشهر من الانتخابات العامة في البلاد التي خسر فيها الديمقراطيون المسيحيون أصواتاً كثيرة على رغم فوزهم بنتيجتها. في المقابل، تمكن فرع الديمقراطيين المسيحيين في انتخابات زارلاند المحلية تحت قيادة كرامب – كارنباور من حصد أكثر من 40 في المائة من الأصوات، أي بزيادة 5 نقاط عن الانتخابات الأخيرة التي حصلت هناك عام 2012. وتحرص زعيمة الحزب الجديدة على الإشارة دائماً إلى ذلك الفوز دليلاً على قدرتها على جذب أصوات الناخبين. غير أن السياسة المحلية قد تختلف كثيراً عن السياسة الفيدرالية، بحسب محللين. إذ يشرح كريستيان كاستروب، من معهد برتلسمان في برلين: إن «كرامب - كارنباور تعد سياسية ناجحة في ولايتها... لكن زارلاند ولاية صغيرة، وهي وإن كانت رئيسة وزراء ناجحة هناك، فقيادة الحزب على صعيد فيدرالي أمر مختلف كثيراً».
وبالتالي، يرى كاستروب أن التحدي الأكبر أمامها سيكون ردم الهوة بين جناحي الحزب، متابعاً: إنه «سيكون عليها استخدام كل مهاراتها لسد الفجوة بين الوسطيين والمحافظين في الحزب، ولا نعرف ما إذا كانت ستنجح في ذلك».
في أي حال، تبدو الزعيمة الجديدة على علم بحجم التحدي أمامها، وهي لم تدخر وقتاً لاتخاذ أولى الخطوات لردم هذه الهوة. فبعد ساعات قليلة على انتخابها، أعلنت دعمها شاباً يُعتبر من أقصى اليمين داخل الحزب، لكي يخلفها في المنصب الذي تركته وراءها، أي الأمانة العامة للحزب. ومع أن الأمين العام الجديد بول زيمياك، الذي لا يتجاوز عمره الـ33، كان قد أعلن صراحة تفضيله فوز أحد منافسيها اليمينيين – فريدريش ميرز ويانس شبان – على الزعامة، إلا أن قبوله بالترشح لمنصب الأمانة العامة وفوزه به، أرسلا إشارة إيجابية إلى كرامب - كارنباور. فالشاب الذي نجح بجذب الناخبين الشباب والمحافظين إلى صفه، يبدو على استعداد للعمل مع الزعيمة الجديدة في محاولة ردم الانقسام داخل الحزب. لكن غير معروف ما إذا كان سينجح في هذه المهمة. إذ يقول كاستروب: إن اختياره كان خطوة جيدة، لكن «رغم أن زيمياك كان ناجحاً جداً في تحريك القاعدة الشبابية للحزب، يصعب الاستنتاج بأنه سينجح بردم الهوة بين الجناحين المتصارعين داخل الحزب».
ويُذكر هنا أن زيمياك، الذي يتحدر من عائلة مهاجرة من بولندا، لم يتردد سابقاً في انتقاد سياسات ميركل حول الهجرة. وكان يرأس اتحاد الشباب داخل الحزب، ويحمل أفكاراً يمينية محافظة قرّبته على مدى السنين من وزير الصحة الشاب يانس شبان الذي كان المرشح الثالث لزعامة الحزب وخرج من الجولة الأولى للتصويت بعد حصوله على 150 صوتاً فقط من أصل أكثر من ألف صوت.
- مزايا «آ ك ك»
تعتمد آنيغريت كرامب - كارنباور، المعروفة اختصاراً - وشعبياً - بـ«آ ك ك» على أسلوبها المقرّب من الناخبين لكسب الأصوات. ولسنوات، بقي رقم هاتف منزلها في بلدة بوتلينغين بولاية زارلاند مسجلاً في دليل الهاتف ومتوافراً للجميع للاتصال بها. وبقي على هذه الحال حتى عند تسلمها منصب رئاسة حكومة الولاية... من دون أن تشتكي مرة من اتصالات مزعجة.
إلا أن الوضع الآن، بعد فوزها بزعامة الحزب، بدأ يتغير. ففي مقابلة أدلت بها بعد فوزها بالزعامة لصحيفة «زاربروكر تسايتونغ» المحلية الصادرة في زاربروكن، عاصمة الولاية، قالت: إن عدد الاتصالات التي «تخطت حدود اللياقة والأدب» ازدادت كثيراً في الآونة الأخيرة. كذلك، فإنها بسبب تغيّبها المستمر عن المنزل، فزوجها الذي يتفرغ لتربية أطفالهما الثلاث، هو من يجيب على هذه الاتصالات في معظم الوقت. ومن ثم، وصفت الأمر بأنه أصبح «عبئاً»، وبات من الضروري «حماية عائلتها»، في إشارة إلى إمكانية إسقاط رقمها من دليل الهاتف.
- الزوجة والأم والمرأة المرحة
مقاربتها هذه أكسبت كرامب – كارنباور الكثير من الشعبية، على الأقل في ولايتها. فهناك يشعر السكان بأنها واحدة منهم. وفي حملاتها الانتخابية، تبدو «آ ك ك» منفتحة في الحديث عن عائلتها ولا تتردد في رواية قصص شخصية، مع أنها لا تخاف، في المقابل، من الخروج عن الصورة النمطية للقائد الرصين. ففي فبراير (شباط) الماضي، وقفت على خشبة مسرح في ولايتها خلال احتفالات بكرنفال سنوي، مرتدية زي عاملة تنظيف. وحملت المكنسة، وارتدت مئزراً وربطت منديلاً على رأسها وبدأت تنظف المسرح وترمي النكات. وكان الحضور ينفجر بالضحك كلما تحدثت بلهجة محلية ثقيلة.
وفي مقارنة مع شخصية ميركل الدائمة الرصانة، تبدو «آ ك ك» مرحة وسهلة التعاطي. وهذا ما يشير إليه كريستيان كاستروب بقوله: إن «ميركل لطالما كانت ودودة، لكنها دائماً تُبقي مسافة، ولا يمكنك أن تعلم بماذا تفكر… كما أنها لا تتحدث بأمور شخصية بينما كرامب – كارنباور دائماً ما تتحدّث بأمور حياتها».
- نقاط تشابه واختلاف
مثل ميركل البروتستانتية، نشأت «آ ك ك» في كنف عائلة محافظة ومتدينة، لكنها تنتمي إلى الطائفة المسيحية الكاثوليكية. والفارق الثاني، هو أنه بينما ترعرعت ميركل في ألمانيا الشرقية تحت حكم الشيوعية، كبرت الأخرى في ألمانيا الغربية على الحدود مع فرنسا؛ ما حوّلها إلى سيدة فرانكفونية بامتياز... وهي تتكلّم الفرنسية بطلاقة، وتدفع بولايتها الآن إلى اعتماد اللغة الفرنسية لغة ثانية رسمية في زارلاند.
من ناحية أخرى، رغم أن الزعيمة الجديدة تزوّجت باكراً في عمر الـ22 من هيلموت كارنباور، وأنجبت منه ثلاثة أطفال، فذلك لم يضع حداً لطموحها السياسي، بل نجحت في العناية بعائلتها بينما كانت تتسلق سلّم القيادة داخل حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي. أكثر من هذا، ساعدها زوجها كثيراً بقراره التفرّغ لتربية الأطفال؛ ما منحها مساحة كافية لتحقيق طموحها السياسي.
واللافت بعد فوزها بمنصب زعامة الحزب، أن السيدة التي تعتبر هي العائل الرئيس لأسرتها، لا تتقاضى راتباً بعد تخليها عن منصبها رئيسةَ حكومة زارلاند وتفرّغها لقيادة الحزب. فعادة، لا يخصص لهذا المنصب الحزبي راتب منفصل؛ لأن معظم من تولوه حتى الآن كانت لديهم وظائف أخرى، كمستشار أو عضو في الحكومة أو «البوندستاغ». لكن «آ ك ك» لا تشغل حالياً أياً من تلك المناصب. ويبدو أن حزبها بدأ التفكير في تخصيص راتب لها بعدما رفضت تولي أي منصب حكومي «لأن الحكومة مكتملة»، ولأنها تريد التفرع لقيادة الحزب وتحضيره للانتخابات.
وفعلاً، هذه مهمّة شاقة ستكون في حاجة إلى التفرغ لها... فعدا عن توحيد الحزب، أمام زعيمة الحزب الجديدة مهمة رئيسية: تحسين أداء الديمقراطيين المسيحيين في الانتخابات. وسيحمل العام المقبل أولى التجارب لها، وقد تكون الحكم على نجاحها أو فشلها، بدءاً بالانتخابات الأوروبية في النصف الأول من العام الجديد، ثم الانتخابات المحلية، وبخاصة في ولايتي براندنبورغ وساكسونيا الشرقيتين اللتين يتصدر فيهما حزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف استطلاعات الرأي.
- ضغوط كبيرة
يرى المحلل السياسي كاستروب، أن كرامب - كارنباور تحت «ضغوط كبيرة»؛ لأنها إذا لم تنجح في انتشال الحزب من خسائره الانتخابية الكبيرة، فستكون قد فشلت في دورها زعيمةً للحزب. ويضيف: «عليها أن تميل نحو اليمين لجذب الأصوات التي خسرها الحزب لصالح اليمين المتطرف، لكن عليها أن تفعل ذلك بذكاء وحنكة». ويستطرد قائلاً: إن «أولى الخطوات التي يمكن أن تتخذها بهذا الشأن هي إبعاد الشبهات عنها بأنها (ميني ميركل)، وتطوير نفسها لكي يصبح لها خطٌ واضحٌ ومختلفٌ؛ لأنها إذا بقيت نسخة عن ميركل لن تحقق النجاح».
لكن كرامب - كارنباور تعد من الوسطيين في الحزب، مثلها مثل ميركل التي حوّلت الاتحاد الديمقراطي المسيحي من حزب محافظ يميني تطغى عليه الذكورية، إلى حزب منفتح وسطي بات مرتاحاً بانتخاب امرأة ثانية لقيادته بعد 18 سنة من اختياره وتمسكه بأول امرأة انتخبها لتقوده. بيد أن هذه «الوسطية» قد تكون مشكلة للناخبين، بحسب رأي البعض، في فترة انزلاق أوروبا كلها نحو اليمين المتطرف. مع ذلك، فإن كرامب - كارنباور، رغم وسطيتها هذه، أطلقت تصريحات في الماضي تميل إلى اليمين، وبدت في تناقض مع ميركل داعمها الرئيسي. وكمثال على ذلك، رغم مساندتها لميركل في سياسة اللجوء وفتح
الأبواب أمام السوريين الفارين من الحرب، اتخذت موقفاً متشدداً مع نحو 7 آلاف لاجئ وصلوا إلى ولايتها وجذبت بهذا الموقف انتباها على المستوى الوطني. كما أنها قالت مرة: إن على اللاجئين المسلمين الذين يرفضون قبول الطعام من متطوّعات نساء أن يُتركوا ليجوعوا. وكانت ترافق اللاجئين الذين يقولون إنهم قصّر وأضاعوا أوراقهم، إلى المراكز الطبية لتحديد أعمارهم، ومن ثم تشجيع الحكومة في برلين على إعادة اللاجئين المرفوضة طلباتهم.
آراؤها هذه عكست آراء ناخبيها في ولايتها، حيث يعيش نحو مليون شخص. ويقول الصحافي دانيال كيرش، الذي يعمل في صحيفة «زاربروكر تسايتونغ»: إن أفكار الزعيمة الجديدة باتت «تتناغم مع مزاج الناس، فهي تستطيع قراءة التغيرات في الرأي العام بسرعة كبيرة».
هذه موهبة سيكون عليها أن تستخدمها حتى حدها الأقصى للنجاح في مهمتها.