فرنسا في 2023... خيبات الخارج والداخل

صورة لنتنياهو وماكرون خلال اجتماعهما الأخير في القدس (أ.ف.ب)
صورة لنتنياهو وماكرون خلال اجتماعهما الأخير في القدس (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في 2023... خيبات الخارج والداخل

صورة لنتنياهو وماكرون خلال اجتماعهما الأخير في القدس (أ.ف.ب)
صورة لنتنياهو وماكرون خلال اجتماعهما الأخير في القدس (أ.ف.ب)

بينما تتساقط آخر أوراق عام 2023 على وقع حرب غزة وتداعياتها على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، تسعى فرنسا، بصعوبة، لإسماع صوتها، وتتخوف من أن تصل تبعات هذه الحرب إلى داخل أراضيها، وتصيب مجتمعها بانقسامات حادة؛ حيث تعيش فيه أكبر جالية يهودية في أوروبا، وكذلك أكبر جالية مسلمة في القارة العجوز.

لكن أولى المبادرات التي أطلقتها، والتي جاءت على لسان الرئيس إيمانويل ماكرون، خلال الزيارة التي قام بها إلى إسرائيل في 24 أكتوبر (تشرين الأول) ومنها إلى الضفة الغربية، ولاحقاً إلى الأردن، فمصر، لم تلقَ آذاناً صاغية، وعُدَّت تصريحاته في تل أبيب وإلى جانبه رئيس الوزراء الإسرائيلي، تعبيراً عن دعم مطلق ومتحيز لإسرائيل وللحرب التي تقوم بها في غزة، رغم ما توقعه من آلاف الضحايا المدنيين.

وما أثار الجدل في تصريحات الرئيس الفرنسي اقتراحه إقامة «تحالف إقليمي- دولي» لمحاربة «حماس» على غرار التحالف الذي تزعمته الولايات المتحدة في عام 2014 لمحاربة «داعش» في سوريا والعراق.

البحث عن نقطة توازن

لاحقاً، تحولت طروحات ماكرون إلى خطة مثلثة الأضلاع، أمنية وإنسانية وسياسية، تحت عنوان «مبادرة من أجل السلام والأمن للجميع»، وتُرجمت بمؤتمر دولي لدعم مدنيي غزة في العاصمة الفرنسية، جمع ما يزيد على مليار دولار، أعقبه لاحقاً اجتماع من بُعد لمتابعة مخرجات المؤتمر المذكور والتنسيق بين الجهات المانحة.

وشهد الشق الأمني لقاء في وزارة الخارجية الفرنسية لممثلي نحو عشرين دولة، وسط حضور إسرائيلي وغياب عربي، أسفر عن نتائج «متواضعة»، منها التوافق على إجراءات تهدف لتجفيف الموارد المالية لـ«حماس» من جهة، ومحاربة دعايتها الآيديولوجية على وسائل التواصل الاجتماعي، بالتوازي مع عقوبات فرنسية فُرضت على مجموعة من قادة «حماس». وترافق ذلك مع مطالبة فرنسية - إيطالية – ألمانية، لاتخاذ تدابير قسرية بحق «حماس» على المستوى الأوروبي. أما المستوى السياسي الذي تراه باريس تحت عنوان «معاودة مسار السلام» المتوقف منذ عام 2014، فقد اختُصر بتصريحات متفرقة بقيت من دون أي مردود فعلي.

بيد أن باريس سعت لاحقاً لتعديل موقفها، والوصول إلى نقطة توازن، تمثلت في تصويتها في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح وقف إطلاق النار، بينما كانت تتحدث بداية عن هدنات إنسانية تُفضي إلى وقف دائم لإطلاق النار. وجاءت النقلة النوعية في تصريحات ماكرون لقناة «بي بي سي»؛ حيث انتقد الضربات الجوية واستهداف المدنيين وضرب البنى التحتية، ما استجلب انتقادات إسرائيلية ويهودية، اضطر بعدها لـ«توضيح» موقفه. ولاحقاً، من دبي، عاود ماكرون التعبير عن تحفظاته وانتقاداته، ونبه إلى أن «القضاء على (حماس) سيستغرق عشر سنوات»، وذلك في رد على القادة الإسرائيليين الذين جعلوا من التخلص من «حماس» أحد أهداف حربهم في غزة.

وتعي باريس محدودية تأثيرها على حرب غزة. لذا، ركزت على الملف اللبناني لجهة منع تطور المناوشات الجارية بين الجيش الإسرائيلي و«حزب الله» إلى حرب واسعة، وربما شاملة. من هنا، تعاقبت زيارات المسؤولين الفرنسيين إلى لبنان، وأهمهم الرئيس ماكرون (21 و22 ديسمبر «كانون الأول»)، ونقلهم رسائل تنبه من ردة فعل إسرائيل المكتوية بهجمات «حماس» على غلاف غزة صبيحة السابع من أكتوبر. ونقطة الارتكاز في المقترحات الفرنسية هي التنفيذ الكامل للقرار الدولي رقم 1701، العائد لعام 2006، والقاضي بإخلاء المنطقة الواقعة بين الحدود الدولية ونهر الليطاني من سلاح ومسلحي «حزب الله»، وتدابير أمنية إضافية.

أفريقيا وأوكرانيا والمحيطان

ولم يكن الشرق الأوسط وحده مصدر الصداع للمسؤولين الفرنسيين. فأفريقيا، وتحديداً بلدان الساحل، شهدت في الأعوام الثلاثة الأخيرة تراجع نفوذ باريس الذي كانت آخر تجلياته خروج القوات الفرنسية من النيجر عقب الانقلاب العسكري الذي عرفته نيامي. وراهنت باريس على تدخل عسكري تقوم به مجموعة غرب أفريقيا الاقتصادية، الأمر الذي لم يحصل؛ حيث تبدو النيجر سائرة على الدرب الذي سلكته قبلها مالي وبوركينا فاسو، اللتان عرفتا دورة الانقلابات العسكرية وبداية توغل ميليشيا «فاغنر».

واللافت أن النفوذ الفرنسي يتراجع، بينما النفوذان الروسي والصيني يتعززان في منطقة ذات أهمية استراتيجية لفرنسا. إلا أن باريس تسعى بطرق مختلفة، منها الاهتمام بمصير الغابات والتصحر، والتنمية، وديون القارة القديمة، وتصوُّر علاقات جديدة مع دول كانت سابقاً مستعمرات فرنسية، إلى تعديل صورتها، والمحافظة على مواقع نفوذ لها.

وخلال عام 2023، مثلت القمة الدولية التي دعا إليها الرئيس ماكرون في شهر يونيو (حزيران) محطة بارزة؛ إذ سعى من خلالها، بحضور خمسين رئيس دولة وحكومة ورؤساء المنظمات الدولية الرئيسية، إلى طرح إشكالية العلاقة بين الشمال والجنوب، والبحث في كيفية الاستجابة لمتطلبات التنمية ومحاربة الفقر والتغيرات المناخية. ومنذ عام 2015 واتفاق باريس الرئيسي حول المناخ، يسعى ماكرون، ومعه دبلوماسية بلاده، إلى لعب دور «البوصلة» البيئية.

وفي سياق آخر، حسم ماكرون، في 2023، موقفه لجهة الوقوف المطلق إلى جانب أوكرانيا، دبلوماسياً وسياسياً وعسكرياً، بعد مرحلة من التذبذب ومحاولة الإبقاء على شعرة معاوية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فدفعت باريس إلى التسريع في دخول أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي وافق عليه المجلس الأوروبي في قمته الأخيرة في بروكسل.

كذلك سعت باريس خلال الأشهر المنصرمة إلى قلب صفحة الخلاف مع أستراليا، بعد تخلي كانبيرا عن «صفقة القرن» الخاصة بشرائها منظومة من الغواصات الفرنسية الكلاسيكية، لصالح الحصول على غواصات أميركية - بريطانية تعمل بالدفع النووي. ولم يكن ذلك ممكناً إلا بعد هزيمة رئيس الوزراء الأسترالي المحافظ، سكوت موريسون، ووصول العمالي أنتوني ألبانيز إلى السلطة. ويندرج التقارب مع أستراليا، وكذلك مع الهند ودول أخرى في المنطقة، في إطار مساعٍ فرنسية أوسع لتعزيز حضور باريس في منطقة المحيطين الهندي والهادئ؛ حيث لفرنسا مصالح استراتيجية كبرى يتعين عليها الدفاع عنها.

خيبات الداخل الفرنسي

لم يمضِ الرئيس ماكرون من ولايته الثانية سوى عام ونصف عام. وقد شكَّل ما حصل في مجلس النواب يوم 11 ديسمبر -حين فشلت الحكومة في إيصال مشروع القانون الخاص بالهجرات والمهاجرين إلى مرحلة البدء في مناقشته وإقراره في البرلمان- فشلاً سياسياً ذريعاً لوزير الداخلية، جيرالد دارمانان، وللحكومة وللرئيس ماكرون. وتبين، مرة أخرى، أن غياب أكثرية مطلقة في البرلمان يعد عائقاً كبيراً أمام الحكومة التي تضطر إزاء كل مشروع قانون إلى التفاوض والمساومة، أحياناً مع اليمين التقليدي، وأحياناً مع اليسار الاشتراكي والخُضر.

وزير الداخلية جيرالد دارمانان يُلقي كلمة خلال جلسة الجمعية الوطنية الاثنين (إ.ب.أ)

والأهم من ذلك أن ماكرون فقد -إلى حد ما- السيطرة على الوضع، والدليل أن المرشحين لخلافته، من معسكره، في الانتخابات الرئاسية لعام 2027، خرجوا إلى دائرة الضوء، وبرز منهم دارمانان وإدوار فيليب، رئيس الوزراء السابق، وبرونو لو مير، وزير الاقتصاد الحالي.

وثمة شخصية تبرز أكثر فأكثر وتحتل مساحة إعلامية متزايدة، وهي وزير التربية غبريال أتال، الشاب الذي يتوكأ على وزارته وعلى محاربة ما ينظر إليه على أنه «التغلغل الإسلاموي» لكسب مزيد من الحضور والشعبية. ومنذ تسميته في الوزارة المذكورة، لا يمضي أسبوع إلا ويطلق أمراً جديداً من زاوية الدفاع عن العلمانية في المؤسسة التعليمية. من هنا، منعُه التلامذة من ارتداء العباءة، وطلبه من الأساتذة الإخبار عن كل بادرة أو ظاهرة يمكن اعتبارها تعدياً على العلمانية.

ولا يمكن المرور على عام 2023 من غير التوقف عند المظاهرات التي عرفتها فرنسا لأشهر، احتجاجاً على قانون تعديل سن التقاعد الذي وقفت ضده كل النقابات العمالية بمختلف مشاربها وتوجهاتها، وبدعم شعبي واضح. ولكن القانون أُقر أخيراً في مجلس النواب من غير تصويت، وذلك باللجوء إلى المادة 39، الفقرة 3، التي تتيح للحكومة طرح الثقة بذاتها بديلاً عن التصويت على مشروع القرار.

كذلك، تتعين الإشارة إلى أن الإرهاب لم يغب عن فرنسا التي يقول مسؤولوها الأمنيون إنه ما زال قائماً وإن تغير وجهه، بمعنى أنه لم يعد قادماً (أو مخططاً له) من الخارج؛ بل هو داخلي، وغالباً مِن فعل «ذئاب منفردة». وهكذا، عرفت فرنسا اعتداءين إرهابيين: الأول في مدينة ألراس (شمال)؛ حيث قتل مواطن روسي الأصل اسمه محمد موغوشكوف المدرس دومينيك برنار بطعنة سكين، والثاني يوم 2 ديسمبر، ارتكبه أرمان رجابور، وهو من أصل إيراني؛ حيث قتل سائحاً ألمانياً بالسلاح الأبيض قريباً من برج إيفل الشهير، وأصاب مارِّين آخرين ببلطة. وفي الحالتين أظهر التحقيق نزوع هذين الشخصين إلى الراديكالية الإسلاموية؛ لا بل إن أحدهما أكد «مبايعته» تنظيم «داعش».


مقالات ذات صلة

حصاد الموسيقى... ما هي أكثر أغاني 2023 رواجاً؟

يوميات الشرق حصاد الموسيقى... ما هي أكثر أغاني 2023 رواجاً؟

حصاد الموسيقى... ما هي أكثر أغاني 2023 رواجاً؟

ما الأغنيات التي حققت أعلى أرقام استماع خلال 2023؟ ومَن الفنانون الذين حصدوا نجاحات موسيقية لناحية الإصدارات والجولات والإيرادات؟

كريستين حبيب (بيروت)
المشرق العربي مواطنون يشاركون في مظاهرة مناهضة للرئيس السوري بشار الأسد بمدينة السويداء (رويترز)

سوريا في 2023... عودة إلى الجامعة العربية وساحة صراع أميركي ــ إيراني

لم تبدّل استعادة سوريا مقعدها في جامعة الدول العربية في عام 2023، بعد انقطاع دام 12 عاماً، الواقعَين الاقتصادي والأمني.

نذير رضا (بيروت)
المشرق العربي الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة وسط سبائك الذهب المحفوظة في خزئن المصرف في صورة من نوفمبر 2022 (رويترز)

لبنان في 2023... شغور وترقيع وخشية من حرب مدمرة

رسّخت أحداث لبنان عام 2023 واقعاً تحولت الدولة فيه إلى دولة تصريف أعمال، حيث سياسة شراء الوقت والترقيع هي السائدة.

المشرق العربي لافتة انتخابية ضوئية لمحمد الحلبوسي في بغداد يوم 14 نوفمبر (أ.ف.ب)

العراق في 2023... عام بدأ واعداً وانتهى «على كف عفريت»

بدا مطلع عام 2023 واعداً بالنسبة إلى العراق؛ الدولة التي عانت الأمرّين خلال العقدين الأخيرين من أعمال العنف والإرهاب والانقسامات السياسية والقومية والطائفية.

الاقتصاد ولي العهد السعودي خلال مشاركته في حفل الترشح لاستضافة  إكسبو 2030  في العاصمة باريس (واس)

السعودية في 2030... نجاح في بناء تكتلات اقتصادية مع كبرى دول العالم

منذ بداية عام 2023، حققت السعودية مكتسبات اقتصادية مهمة ونجحت في استضافة عدد من المؤتمرات والفعاليات الدولية التي نتج عنها بناء تحالفات وتكتلات اقتصادية مع كبرى

بندر المسلم (الرياض)

​ميركل لم تندم على قرار إدخال اللاجئين السوريين رغم أنه دفعها للتقاعد

كتاب ميركل «حرية» طرح للبيع في مكتبة ببرلين (رويترز)
كتاب ميركل «حرية» طرح للبيع في مكتبة ببرلين (رويترز)
TT

​ميركل لم تندم على قرار إدخال اللاجئين السوريين رغم أنه دفعها للتقاعد

كتاب ميركل «حرية» طرح للبيع في مكتبة ببرلين (رويترز)
كتاب ميركل «حرية» طرح للبيع في مكتبة ببرلين (رويترز)

لم تبد المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل أي ندم حول قرارها بفتح أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين عام 2015، رغم اعترافها بأن هذا القرار كان «نقطة تحول» بالنسبة إليها، وكان سبباً أساسياً في تقاعدها السياسي، وكاد أن يدفعها للخروج أبكر من الحياة السياسية.

وفي كتابها «حرية» الذي صدر الثلاثاء، وجاء مترجماً إلى 30 لغة، كتبت ميركل تفاصيل قرارها التاريخي الذي أدخل أكثر من مليون سوري إلى ألمانيا، وتسبب في دخول حزب يميني متطرف، هو «البديل من أجل ألمانيا»، في البرلمان للمرة الأولى منذ هزيمة النازيين.

وبرّرت ميركل ذلك في كتابها الممتد لـ700 صفحة، بأنه كان القرار الإنساني الوحيد الذي كان بإمكانها اتخاذه أمام صور عشرات آلاف اللاجئين السوريين الذين يحاولون العبور إلى أوروبا براً وبحراً. وقالت إنه من الناحية القانونية، كان رفض السماح لهم بالدخول إلى ألمانيا «مبرراً»، استناداً لـ«اتفاقية دبلن» التي تنظم اللجوء في دول الاتحاد الأوروبي، وتفرض على الدولة الأولى التي يدخل إليها اللاجئ أن تنظر في الطلب، ما يعني أن العبء الأساسي كان يقع آنذاك على إيطاليا واليونان.

المستشارة السابقة أنجيلا ميركل بعد إعلانها تقاعدها في مؤتمر حزبها «المسيحي الديمقراطي» عام 2017 (أ.ف.ب)

وروت في سيرتها التي كتبتها بنفسها بمساعدة سكرتيرتها القديمة وصديقتها بيته باومان، كيف شغلتها أزمة اللاجئين معظم عام 2015، وروت تلقيها اتصالاً على جوالها يوم الأحد 19 أبريل (نيسان) من ذاك العام من رئيس وزراء إيطاليا ماتيو رينزي غادة غرق مركب للاجئين قبالة سواحل ليبيا ومقتل المئات. وقالت إن يومها كان عيد ميلاد زوجها يواكيم الـ66، وكانا يعدان لقضاء يوم هادئ سوياً. ولكن اتصال رينزي ألغى كل شيء. فهو كان يستجديها مساعدة بلاده التي لم تعد قادرة على التعامل مع أزمة اللاجئين، وعقد قمة لقادة أوروبا لمناقشة الأزمة. وقالت إن رينزي كان يقول بأن الأزمة لم تعد تتعلق بإيطاليا وحدها بل باتت أزمة أوروبية، ويستجدي ألا تترك إيطاليا وحدها. وأكدت حين ذلك، بحسب روايتها، أن رينزي كان محقاً.

وبقيت أزمة اللاجئين طاغية في الأشهر التي تلت ذلك، وكانت أعداد الواصلين إلى ألمانيا تتضاعف يومياً. وتروي في كتابها عن اتصال تلقته من مستشار النمسا آنذاك فيرنر فايمان يوم الجمعة 4 سبتمبر (أيلول)، وصف لها أن الطرقات السريعة في النمسا مليئة باللاجئين الذين يعبرون الحدود من المجر ويدخلون إليها. كان فايمان يطلب بتقاسم الأعباء بين ألمانيا والنمسا. وكتبت: «لم يشأ فايمان اتخاذ القرار بنفسه. المسؤولية كانت تقع على عاتقي، وأنا كنت مصرة على قبولها. كنا نواجه كارثة إنسانية». وروت كيف تشاورت مع الحزب «الاشتراكي» الذي كان يشاركها الحكومة قبل اتخاذ القرار، وكيف لم يعارض الحزب السماح للاجئين بالدخول. ولكنها لم تتمكن من الاتصال بوزير داخليتها آنذاك هورست زيهوفر، الذي كان أيضاً زعيم الحزب «المسيحي البافاري»، وهو الحزب الشقيق لحزبها. واصطدمت آنذاك ميركل مع زيهوفر بشأن سياسة الهجرة، فهو كان معارضاً شديداً لقرارها. ولكن في تلك الليلة، قالت ميركل إنها لم تتمكن من الحديث معه، بغض النظر عن عدد المرات التي حاولت الاتصال به. وبعد أن تأكدت من قانونية «فتح الأبواب» أمام اللاجئين، أصدرت قرابة الساعة 11 ليلاً، بياناً مشتركاً مع مستشار النمسا نشراه على «فيسبوك»، يقولان فيه إنه يمكن للاجئين دخول ألمانيا والنمسا. وقالت إنهما اختارا النشر على «فيسبوك»، لأنهما اعتقدا بأن اللاجئين يعتمدون على التطبيق لجمع المعلومات.

وما تبع ذلك، هو رواية ميركل للردود على قرارها، من استياء وزير داخليتها، إلى الانتقادات التي تلقتها، منها من الصحافة المحافظة. وقالت إن قرارها أحدث شرخاً ليس فقط داخل حزبها، ولكن أكثر مع الحزب «المسيحي البافاري» الشقيق الذي كان على الجهة المعاكسة منها في سياستها تجاه اللاجئين. وكتبت: «لقد رأيت أن سياسة الهجرة أصبحت نقطة تحول في ولايتي... ولكن ليس فقط منذ ذلك الحين كنت أفكر فيما إذا كنت سأترشح لولاية جديدة عام 2017، بل بدأت بالتفكير في ذلك بداية عهدي الثالث عام 2013».

وروت أنها تحدثت عن هذا الموضوع مع الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما، حيث تربطها علاقة شخصية قوية معه. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، زار أوباما برلين في زيارة وداعية، وقالت إنهما التقيا في فندق أدلون في 16 نوفمبر على العشاء، وأخبرته أنها تفكر في التقاعد وعدم الترشح مجدداً العام المقبل. وكتبت عن ذلك: «كنا نجلس معاً فقط، وكان يسأل سؤالاً من هنا وآخر من هناك لمساعدتي على التوصل إلى قرار، ولكن عدا ذلك احتفظ برأيه لنفسه. أحسست بأنه أراد أن يؤكد على استمراري بالمسؤولية... وقال إن أوروبا ما زالت بحاجة إلي، ولكن في النهاية علي أن أتبع حدسي».

وفي النهاية قالت ميركل إنها قررت الترشح مرة جديدة، بالفعل فاز حزبها بنسبة 33 في المائة، وهو معدل أقل من الانتخابات التي مضت، ولكنه كان ما زال فوزاً كبيراً. ولكن قرارها بالتقاعد بقي يلاحقها، والهوة بين حزبها والحزب «المسيحي البافاري» الشقيق ظلت تتسع بسبب سياسة الهجرة، حتى اتخذت القرار أخيراً وأعلنته بعد عام إثر خسائر في انتخابات محلية مُني بها حزبها، بشكل أساسي بسبب سياسة الهجرة. وكتبت: «لم أعد قادرة على الإكمال بالعمل كالعادة». ورغم قرارها عدم الترشح مرة جديدة لزعامة حزبها، فقد قالت إنها كانت واثقة في أنها كانت لتنتخب مرة جديدة، لو أنها ترشحت «وإن بأغلبية ضئيلة».

صورة أرشيفية للمستشارة السابقة أنجيلا ميركل وباراك أوباما (أ.ب)

وبالفعل، غادرت ميركل منصبها، وكانت شعبيتها لا تزال مرتفعة رغم الانتقادات التي واجهتها بسبب أزمة اللاجئين، ومساهمتها في صعود اليمين المتطرف. وقالت إنه في النهاية، كانت حجج التقاعد أقوى من البقاء، وكتبت: «تطورات أزمة اللاجئين كانت نقطة تحول في عهدي...»، واعترفت بأن قرارها هذا أسهم في زيادة حظوظ «البديل من أجل ألمانيا»، وكتبت عن ذلك: «عام 2013 تأسس (البديل من أجل ألمانيا) بوصفه حزباً معارضاً لليورو، وفشل ولم ينجح في دخول البرلمان. ولكن بعد عامين فقط، كسب زخماً جديداً مستغلاً أزمة اللاجئين».

وفي عام 2017 دخل «البديل من أجل ألمانيا» البرلمان بنسبة 12 في المائة من الأصوات، وهو اليوم حظي بنسبة تصل إلى 19 في المائة، وفق استطلاعات الرأي للانتخابات المقبلة في نهاية فبراير (شباط) المقبل.

وتطرقت ميركل في كتابها لعوارضها الصحية في العامين الأخيرين من عهدها، ونوبات الرعشة التي كانت تتعرض لها. وقالت إن النوبة الأولى حصلت أثناء وقوفها إلى جانب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في برلين أثناء الاستقبال الرسمي له.

وتكرر مرتين خلال أسابيع قليلة خلال وقوفها إلى جانب زعماء آخرين. وقالت إنها خضعت آنذاك لفحوصات عصبية وداخلية مفصلة من دون أن تظهر علة. وقالت إن طبيباً في النهاية قال لها إن التوتر هو سبب تلك الرعشات. وشرحت أن والدتها كانت قد توفيت خلال تلك الفترة، وأنه لم تتح لها الفرصة لأن تحزن عليها بسبب انشغالها الدائم. وتابعت أنها منذ ذلك الحين، قررت أن تبقى جالسة في كل الاستقبالات الرسمية التي تجريها؛ تفادياً لعودة الرعشة، وهو ما حصل فعلاً.