المحبوب عبد السلام: فوجئ الترابي بضلوع نائبه في محاولة اغتيال مبارك

أدار مكتب الشيخ وكتب خطب الرئيس ثم «تخرج» من المدرسة وصار مستقلاً (1)

TT

المحبوب عبد السلام: فوجئ الترابي بضلوع نائبه في محاولة اغتيال مبارك

آثار محاولة الاغتيال على سيارة في موكب مبارك بأديس أبابا عام 1995 (أ.ف.ب)
آثار محاولة الاغتيال على سيارة في موكب مبارك بأديس أبابا عام 1995 (أ.ف.ب)

هذا يحدث فقط في الروايات المثيرة. يستدعي زعيم ديني ضابطاً مغموراً ويستقبله للمرة الأولى قبل يومين من موعد الانقلاب. ينصّبه رئيساً بعبارة غير مسبوقة: «تذهب أنت إلى القصر رئيساً، وأذهب أنا إلى السجن حبيساً». وهذا ما حدث في 30 يونيو (حزيران) 1989. ذهب الضابط عمر حسن البشير إلى قصر الرئاسة واقتاد الأمن الدكتور حسن الترابي إلى سجن كوبر الشهير مع سائر الزعماء السياسيين.

كان الغرض من «خدعة» الترابي إخفاء الطابع الإسلامي للانقلاب كيلا تسارع الدول القريبة والبعيدة إلى محاصرته. وانطلت الخدعة على استخبارات الدول المجاورة، وبينها مصر، واعتقدت أن البشير استولى على السلطة على رأس مجموعة من الضباط القوميين. اعترفت القاهرة بالنظام الجديد وشجعت دولاً أخرى على الاقتداء بها.

عمر البشير وحسن الترابي عام 2004 (أ.ف.ب)

هذا يحدث فقط في الروايات. نزل في مطار الخرطوم شاب يقول جواز سفره إن اسمه عبد الله بركات. جاء من عمّان. سيقرع الشاب ذات يوم باب مكتب الترابي لكن الأخير سيمتنع عن استقباله. بعد فترة سيكتشف الأمن السوداني أن الزائر «هدية مسمومة» على حد قول الترابي. إنه الفنزويلي الشهير كارلوس وهو «مناضل أممي» في نظر البعض و«إرهابي شهير» في نظر الآخرين. إنه الرجل الذي قاد عملية خطف وزراء «أوبك» في فيينا في 1975 تنفيذاً لتعليمات مهندس خطف الطائرات القيادي الفلسطيني الدكتور وديع حداد. وذات ليلة وبعد موافقة الترابي والبشير سيحضر رجال المخابرات الفرنسية إلى الخرطوم. أفاق كارلوس من المهدئات في الطائرة التي نقلته إلى فرنسا حيث لا يزال ينفذ حكماً بالسجن المؤبد.

كان نظام البشير كمن يلعب بالقنابل. استضاف أيضاً في النصف الأول من التسعينات شاباً شائكاً اسمه أسامة بن لادن. كان يبحث بعد أفغانستان عن معقل يسمح له بالتدريب والإعداد. جاء تحت لافتة الاستثمار والإغاثة. تصاعدت الضغوط ولم يكن أمام بن لادن غير المغادرة.

هذا يحدث فقط في الروايات المثيرة. اجتماع لقيادة الجبهة الإسلامية بحضور أركانها والبشير وقادة الأمن. المناسبة تعرض الرئيس المصري حسني مبارك لمحاولة اغتيال في أديس أبابا. فاجأ علي عثمان طه نائب الترابي الحاضرين بالاعتراف بأن للأجهزة السودانية علاقة بمحاولة الاغتيال. فهم الحاضرون أنه كان من رعاة المحاولة. لا الشيخ كان على علم مسبق ولا الرئيس.

بعد المحاولة، طُرحت أيضاً فكرة الإجهاز على المتورطين الذين عادوا من العاصمة الإثيوبية في محاولة لقطع أي خيط يمكن أن يساعد في تجريم النظام السوداني. عارض الترابي عملية التصفية. ساد انطباع أن البشير أيد التصفية ولاحت نذر الانقسام بينه وبين الترابي.

المحبوب عبد السلام خلال المقابلة (الشرق الأوسط)

سيتكرس الطلاق لاحقاً فيما عرف بـ«المفاصلة» بين الإسلاميين. السلطة وليمة لا تتسع لاثنين. لن يتردد البشير في أن يدفع إلى السجن الرجل الذي دفعه إلى القصر. ولن يتردد الترابي في تأييد تسليم البشير للمحكمة الجنائية الدولية. ذاق الترابي خيانة تلامذته. ومن عادة التلامذة أن يخونوا.

هذا يحدث فقط في الروايات المثيرة. بوساطة من الترابي وافق أسامة بن لادن على استقبال مسؤول في مخابرات صدام حسين اسمه فاروق حجازي. لم يسفر اللقاء عن تعاون لكنه استخدم في طليعة الذرائع التي أوردها جورج بوش الابن في 2003 لتبرير غزو العراق. التقى حجازي أيضاً كبار مسؤولي الأمن الذين زاروا بغداد لاحقاً واستقبُلوا بحفاوة وبدا واضحاً أن علي عثمان طه كان أبرز المعجبين بصدام حسين.

يتدفق الدم السوداني حالياً كما تتدفق مياه النيل. الجثث المتناثرة في شوارع مدينة الفاشر تكاد تنسي العالم الجثث النائمة تحت ركام غزة. يسكب القساة النار على زيت الكراهيات العرقية والجهوية. صناعة الجثث أسهل بكثير من صناعة التسوية والدولة والمؤسسات.

منذ استقلاله والسودان مأساة مترامية الأطراف. ولأن الحاضر ابن الماضي القريب كنت أبحث عن شاهد يعرف اللعبة واللاعبين، وشاءت المهنة أن ألتقيهم وأحاورهم. استوقفتني تجربة السياسي والباحث الدكتور المحبوب عبد السلام. على مدار عقد كان مديراً لمكتب الترابي. وعلى مدار عقد أيضاً كان يكتب بعض خطب البشير. استوقفني في الأعوام الأخيرة خروجه بخلاصات جريئة بينها أن الحركة الإسلامية في السودان استنفدت أغراضها. وأنها شريكة مع النخب الأخرى فيما وصلت إليه البلاد. وأنها أخطأت في التعامل مع الآخر كما أخطأت حين سلكت طريق الانقلاب والعنف وبيوت الأشباح وساهمت في دفع الجنوب إلى خارج الخريطة السودانية. لا يتردد المحبوب في النظر إلى أخطاء الترابي نفسه وولعه بممارسة السلطة. قلبت معه صفحات سودانية وكانت هذه الحلقات.

كان المحبوب عبد السلام طالباً في السنة الأولى في الجامعة حين استوقفته أفكار الترابي. بدا الترابي في تلك الأيام مختلفاً ويتحرك من خارج الانقسام التقليدي في المجتمع السوداني. ثم إنه رجل يعرف الغرب ودرس في جامعاته، في باريس ولندن. وفي 1990 تولى المحبوب إدارة مكتب الترابي حتى نهاية ذلك العقد.

يقول المحبوب: «كثيراً ما يطرح علي هذا السؤال: هل أنت تلميذ للترابي؟ وأنا ذكرت لهم أكثر من مرة، نعم أنا تلميذ للترابي وتلميذ نجيب. لكن تخرجت في هذه المدرسة وأصبحت شخصاً مستقلاً ولدي أفكار ولدي تجارب، وربما تكون أوسع من تجارب قادة الحركة الإسلامية من قبلي». سألته متى اكتشف أخطاء الترابي وتولد لديه حس نقدي تجاه تجربته، فأجاب: «ربما في عام 2011، مع ثورات (الربيع العربي) ومع الثورة المصرية على وجه التحديد والتحول الذي حدث في مصر».

* كيف كانت علاقة الترابي بالرئيس حسني مبارك؟

- التقى الرئيس مبارك عام 1986 عندما ذهب إلى مؤتمر الأزهر حول السيرة النبوية، وآنذاك كان النظام المصري على عداء، أو على تحفظ شديد حيال حكم (رئيس الوزراء السوداني) الصادق المهدي. كان لقاء أشبه بالمجاملة، ولكن بعد ذلك تأزمت العلاقة نتيجة الخدعة (التي رافقت الاستيلاء على السلطة في 1989) ثم تأزمت أكثر عندما حدثت محاولة الاغتيال (للرئيس مبارك) في أديس أبابا عام 1995.

الرئيس مبارك مستقبلاً الرأس المدبر لمحاولة اغتياله علي عثمان طه في القاهرة عام 2005 (أ.ف.ب)

بعد محاولة الاغتيال عُقد اجتماع مهم. لم يكن اجتماعاً أمنياً. كان اجتماعاً سياسياً على أرفع مستوى وأشمل مستوى. حضر الاجتماع الترابي والبشير وكل القادة السياسيين وكان ذلك في منزل الأستاذ علي عثمان محمد طه. في تلك اللحظة عرف الرئيس والترابي للمرة الأولى أن أجهزتهما ونائب الترابي، الذي سيصبح لاحقاً نائباً للرئيس، تورطوا في هذه المحاولة من دون علمهما، فكانت هذه صدمة كبيرة طبعاً.

* هل تقصد أن البشير لم يكن على علم بمحاولة الاغتيال؟

- نعم.

* والترابي لم يكن على علم؟

- نعم. جرت من ورائهما.

* لكن علي عثمان طه اعترف في الاجتماع بأن الأجهزة ضالعة؟

- نعم.

* ثم تبين أنه ضالع؟

- نعم. نعم.

* هل صحيح أن الترابي رفض قتل المنفذين العائدين من محاولة الاغتيال؟

- نعم، ثار ثورة عنيفة ضد هذا المقترح الذي تقدم به الشيخ علي عثمان بأنه في مثل هذه الأحوال، عندما تفشل محاولات، لا بد من أن تقضي على آثارها كلها حتى تحفظ سر النظام. فالترابي كان يعد هذا الأمر خارج السياسة وخارج الشريعة فانتفض انتفاضة هائلة، ويشير الدكتور علي الحاج (خليفة الترابي في رئاسة حزبه) إلى أنه في هذا اليوم حدثت المفاصلة. علي عثمان كسب الرئيس، إذ التقاه قبل الاجتماع وأيده فوراً، لذا انتفض الترابي عليهما معاً.

* البشير أيد علي عثمان طه المتورط في العملية؟

- في إعدام الذين دخلوا إلى السودان.

* في اقتراح إعدامهم؟

- نعم.

* قيل إن مجموعة من التصفيات حدثت لاحقاً ولها علاقة بطمس الأدلة؟

- هذه كانت قناعة عند قادة الأجهزة الأمنية وعند الشيخ علي عثمان لأنه متى ما فشلت مثل هذه العملية فلا بد من أن تطمس الأدلة كلها بتحييد هؤلاء الذين كانوا بعضاً من العملية.

* لكن علي عثمان طه قابل الرئيس مبارك لاحقاً؟

- بعد ذلك حدث تطور كبير في العلاقات. التقت الأجهزة الأمنية في السودان جهاز المخابرات المصري، وحدث تبادل وتصارح كبيران، وكان النظام في ذلك الوقت ينحو المنحى الواقعي ويريد أن يكون بعضاً من الإقليم.

* على أي مستوى كانت علاقات الأجهزة؟

- على مستوى رؤساء الأجهزة.

* مثل من؟

- مثل عمر سليمان وصلاح قوش.

* كيف كانت علاقة عمر سليمان بالسودان؟

- هو أرسل رسالة، كنت شاهداً عليها، عن طريق المخابرات الفرنسية، وقال إن محاولة اغتيال مبارك تمت من قبل الجماعات المصرية الإسلامية.

* «الجماعة الإسلامية»؟

- نعم، ولكن السودان دعمهم بما يسمى الدعم اللوجيستي، وفر لهم المال والمكان والسلاح وكذا، لكن لم يكن هو المخطط أو المنفذ، فعندئذ الحكومة المصرية تحفظت في أن تقوم بعمل كبير ضد السودان، لكن لو تأكد لهم أن السودان كان مخططاً عندئذ كان الرد سيكون قاسياً وكبيراً.

* قصف بالطائرات؟

- مثلاً. لكن عندما عرفوا أن السودان كان مساعداً تراجعوا، فكانت هذه أكبر رسالة مريحة للأمن السوداني، وكانت بمثابة باب فتح لإصلاح العلاقات إصلاحاً جوهرياً، وكذلك كانت الحكومة السودانية في ذلك الوقت، وبعد المفاصلة والتخلص من الترابي، تطرح نفسها كحكومة عادية واقعية لا تحمل برنامجاً إسلامياً.

أسلحة صادرها الأمن الإثيوبي مع متورطين في محاولة اغتيال مبارك (أ.ف.ب)

* هذه الأمور ساهمت في تدهور العلاقة بين البشير والترابي والطلاق؟

- هذه أتت بعد الطلاق. المصالحة الكاملة مع مصر والإقليم حدثت بعد 1999. بعد زيارة علي عثمان نفسها، كانت بعد 1999. بين زيارة علي عثمان وزيارة قوش، وكان وزير الخارجية مصطفى عثمان يتردد على مصر وكان صديقاً لوزير الخارجية المصري فطابت العلاقات عند ذلك المنعطف.

* في العلاقة الشخصية بين البشير والترابي، متى ظهرت أقسى درجات الكيدية من جانب البشير؟

- بعد مذكرة العشرة في أكتوبر (تشرين الأول) 1998.

* كيف تجلت هذه الكيدية؟

- كان الترابي يريد أن يرأس اجتماعاً للشورى وكان اجتماعاً كبيراً جداً فيه كل قادة الحركة، كل حكام الولايات، كامل قيادات الحزب، وأمناء الحزب في الولايات، والقيادات الأهلية، وهؤلاء 600 شخص يمثلون شورى حزب «المؤتمر الوطني»، ففي هذا المحفل الضخم تعرض الترابي لمفاجأة لم يكن يتوقعها.

* وهي؟

- وهي أن 10 من أعضاء الشورى تقدموا بمذكرة، جوهر المذكرة يطلب تنحية الترابي وتنصيب البشير رئيساً للدولة ورئيساً للحركة، والقضاء على هذه الثنائية. المذكرة فيها الكثير من البنود التي تتحدث عن الإصلاح وعن الشورى. لكن هذا كان جوهر الموضوع الذي جعل الرئيس يتآمر مع العشرة ويقبل هذه المفاجأة الضخمة في هذا المحفل الكبير للترابي.

* أنت تقول بوضوح أن البشير تآمر على الترابي؟

- نعم، في تلك اللحظة طبعاً، مؤامرة معلنة وظاهرة جداً.

* كان يريد أن يدفعه إلى المنفى؟ إلى السجن؟ إلى ماذا؟

- حتى ذلك الوقت كان يريد أن يجعله رئيساً رمزياً، والترابي يعلم ذلك لأن بعض العسكريين من زملاء البشير وأصدقائه في السلطة جاءوا إلى الترابي وطلبوا منه أن يبقى شيخاً. هم يتخذون القرارات وكل السياسة في أيديهم ثم يعودون إليه ويخُبَر ويعطي البركة، وهذا الدور طبعاً لا يقبله الترابي.

* الترابي يحب السلطة أيضاً؟

- يحب ممارستها وله شغف كبير بالسياسة، ولكن في السلطة، لا يقبل أن يعطي المباركات كما يعطي الشيوخ التقليديون.

* ماذا كان الوضع الحقيقي للترابي في السنوات العشر الأولى من عهد نظام الإنقاذ؟

- كانت كل الاستراتيجيات تصدر منه، القرارات الكبيرة. لكن هي دولة وحكومة وفيها أكثر من 30 وزيراً، ونحو ذلك من وزراء الدولة، فكانت تدير عملها اليومي بمعزل عنه وكان في السنوات الأولى متحفظاً جداً في أن يظهر في أي محفل رسمي أو حتى أن يتصل بوزير هاتفياً.

* في أي مرحلة هذه؟

- من عام 1990 إلى 1995، أو من 1989 إلى 1994. السنوات الخمس الأولى، كان متحفظاً جداً. بعد ذلك، بدأ يظهر بالتدريج، لا سيما أنه أصبح في 1996 رئيس المجلس الوطني.

* متى بدأ ظل الترابي في الانحسار؟

- هو لم ينحسر طبعاً. أصلاً الترابي بالكاريزما العالية، بالشخصية المهيمنة والمعرفة الكبيرة وبالخطاب واللغة القوية لم ينحسر، ويصعب جداً أن يكون الترابي في السلطة وتستطيع أن تحاصر دوره. وكان هذا يسبب إزعاجاً كبيراً لهم، ولم ينحسر دوره إلا عندما أخذوه إلى السجن بعد المفاصلة.

حسن الترابي (أ.ف.ب)

* متى دخل السجن؟

- بعدما وقعنا مذكرة تفاهم في فبراير (شباط) 2001 مع «الحركة الشعبية لتحرير السودان». هذه كانت نقلة كبيرة جداً.

* وقعتها شخصياً؟

- نعم.

* هل تشعر أحياناً بأنك شريك في ذنب استقلال جنوب السودان؟

- لا، لأن رأيي كان واضحاً. وكان هو من رأي الشيخ راشد الغنوشي أيضاً، التحدي الكبير الذي وضعه الجنوبيون أمام الوحدة وأمام الذهاب إلى استفتاء هو أن تلغى القوانين التي جاء بها (الرئيس جعفر النميري) والتي تعرف بقوانين الحدود. وأنا نقلت لهم رأياً واضحاً من الشيخ راشد أنه إذا وضعت وحدة السودان في مقابل الحدود، القوانين الخمسة، قطع اليد وجلد الشارب والزاني، إذا وضعت هذه تحدياً لوحدة السودان فنحوا القوانين جانباً وامضوا إلى وحدة السودان. وكان رأيي أن هذه التشريعات الإسلامية هي مثل كل قوانين المجتمعات، وقوانين المجتمع محكومة بظرفها النفسي والتاريخي وليست جامدة، لأن القانون العام ليس جامداً، المجتمع ليس جامداً، المجتمع متحرك. فكان هذا رأيي الأصولي، وكذلك رأيي السياسي.

* العلاقة بين الترابي وعلي عثمان طه، نائبه، علاقة معقدة؟

- نعم.

* تشبه تبادل الطعنات لو تشرح لنا هذه العلاقة؟

- علي عثمان طه لديه أفكار وتصورات مختلفة عن أفكار الترابي. عندما كان طالباً كان هناك صراع حاد بين قادة الحركة، بين الترابي والشيخ جعفر الشيخ إدريس، وكانت الحركة منقسمة انقساماً حاداً. هذا كان عام 1968. ففي هذا الانقسام الحاد، كان علي عثمان من الجناح المناوئ للترابي الذي كان يعدّ أن الترابي تضخم جداً بعد ثورة أكتوبر (تشرين الأول) وبعد أن أصبح أمين الميثاق، وينبغي أن تؤخذ الحركة منه إلى شخص آخر. فكان هذا الصراع في أوجه، وكان علي عثمان في هذا الجانب.

لكن علي عثمان لديه نظرية تقول إنه إذا اختلف شخص مع التنظيم فهو ينحاز إلى التنظيم، لكن إذا اختلف التنظيم مع الدولة فهو ينحاز إلى الدولة، وإذا اختلفت الدولة مع الإسلام فهو ينحاز إلى الإسلام. هذا رأيه وسمعته منه شخصياً، ولكن الترابي لا ينهج هذا النهج. الترابي له رؤية وله أفكار محددة مهما خالفت الوقائع يحاول أن يمضي فيها، ولكن بعد أن جاء نظام النميري في 25 مايو (أيار) 1969 وأصبح الترابي أمين عام الحركة، أصبح علي عثمان جزءاً من الموالين للترابي.

الترابي وعلي عثمان طه

ثم عندما جاءت «الإنقاذ» كان الشخص الذي أعد إعداداً خاصاً لخلافة الترابي هو الأستاذ أحمد عثمان مكي، رحمه الله. لكنه ذهب إلى أميركا. وأحمد عثمان مكي قد لا يكون مناسباً أن يكون الشخص الثاني مع شخص مثل الترابي لأن أحمد عثمان مكي كانت له كاريزما عالية بصفته زعيماً. لكن علي عثمان يستطيع أن يخفي كثيراً من مشاعره وأن يقبل أن يؤدي دور الرجل الثاني، لذلك انسجم علي عثمان والترابي لفترة طويلة، فترة «الجبهة الاسلامية القومية»، ثم 1985 إلى 1989، ثم انسجما في أول سنوات «الإنقاذ». ليس انسجاماً كاملاً، وكان انسجاماً ظاهراً. ثم بعد ذلك ظهرت كل هذه الاختلافات العميقة في فترة لاحقة.

* علي عثمان طه كان شديد الإعجاب بصدام حسين مثلاً؟

- إلى حد كبير. كان يؤمن كما يؤمن كثير من النخب السودانية بالحكم الشمولي، أن مجتمعاتنا ليست مهيأة لليبرالية والتعددية، فكان نظام صدام بالنسبة له نظاماً شمولياً قابضاً قوياً، ولكنه نظام كذلك يتقدم في التنمية والاقتصاد وتأسيس البلاد، فكان هذا النموذج المثالي عندهم.

* هل كانت رياح «الربيع العربي» قاسية على السودان؟

- قاسية على الحركة الإسلامية طبعاً. تأخرت نحو 7 سنوات. «الربيع العربي» تقريباً اكتمل كله في عام 2012 لكن انتظرنا حتى عام 2019 حتى تتكرر تجربة «الربيع العربي» في السودان. فالثورة التي هبت كان قاسية جداً على الإسلاميين، ولكنها كانت تستجيب حقيقة لنبض كل الشارع السوداني، لا سيما شارع المدينة.

* هل تخطت حاجات الشارع السوداني أفكاراً كتلك التي تحملها الحركة الإسلامية أو النخب الأخرى التي نافستها؟

- الحركة الإسلامية في أثناء وجودها في السلطة كانت تحمل عداء خفياً معلناً للمجتمع المدني، للشباب للنساء للفن ولكل هذه المسائل. لكن الحركة الفكرية والأدبية وحركة المجتمع المدني كله كانت تحتوي في جوهرها على معارضة لنظام «الإنقاذ» وللممارسات الشمولية الطويلة. فلذلك، كان هذا التعارض واضحاً. عندما جاءت هذه الثورة بشعارات سلام حرية عدالة، هذه لم تكن مطروحة، هذه ليست ضمن شعارات «الإنقاذ». فكانت فعلاً، الحركة الإسلامية وهي في السلطة، تطورت باتجاه أفكار لم تكن في البداية أصل الحركة، لكنها تطورت إلى حالة مضادة للمجتمع السوداني.

* تطورت إلى حالة مضادة؟

- نعم.

حسن الترابي والصادق المهدي وبينهما سلفاكير ميارديت رئيس جنوب السودان لاحقاً (أ.ف.ب)

* هل ساهمت جذور الحزب الشيوعي السوداني في المجتمع في تعزيز هذه المعارضة لتجربة «الإنقاذ»؟

- نعم، طبعاً. الحزب الشيوعي حدث فيه تحول كبير بعد إعدام قادته في 1971، ثم هو الأكثر استيعاباً لما يدور في العالم، ثم عندما انهار الاتحاد السوفياتي تبنى الليبرالية بالكامل. ولذلك، كان كثير من الشباب الذين يتطلعون إلى الحرية والعدالة وأن تؤدي المرأة دوراً كبيراً في المجتمع، كانوا يجدون الحزب الشيوعي في ممارسته في مواقفه وفي قناعته مجتمعاً أقرب إليهم وجدانياً من مجتمع الحركة الإسلامية الملتزمة دينياً والمحافظة. لذلك كان هذا التباين، فالحزب الشيوعي كأنما يكسب في هذا الجو والحركة الإسلامية كأنما تخسر بالتصاقها وتبنيها لكل مشاريع السلطة وحمايتها للسلطة. فكان الوضع من هذه الناحية معقداً جداً.

* هل نستطيع القول إن النميري أضاع عقوداً من عمر السودان، وإن نظام «الإنقاذ» أضاع عقوداً أيضاً؟

- كثير من السياسيين يتحدثون عن 60 عاماً من عمر الاستقلال فيها أكثر من 52 عاماً حكمها العسكريون، فكأنما يحمّلون المؤسسة العسكرية المسؤولية. لكن أنا ذكرت لك أن هذه مسؤولية النخبة. الضباط هم بعض من النخبة، الذين آزروهم واستوزروا لهم الوزارات وكتبوا لهم الخطب ووقعوا لهم الاتفاقيات كانوا من النخبة المدنية. فلذلك هذا فيه تبسيط للأمر، وكأنما المؤسسة العسكرية مسؤولة. العلة قائمة في أصل أحزابنا المدنية. أحزابنا المدنية ليست لها برامج واضحة لإزالة تشوهات الدولة السودانية التي بدأت منذ الاستعمار.

* ما أكثر المحطات حساسية كنت فيها إلى جانب الترابي؟

- لقاؤه مع البشير وعلي عثمان عشية المفاصلة.

* كيف كان هذا اللقاء، نريد أن نعرف شيئاً جديداً عنه؟

- ذلك اللقاء كان محاولة لإنقاذ الوضع من الانفصال التام، وأنا نجحت، وهذه مسألة شخصية، بأن أجمع الترابي والبشير. فكان هذا أول لقاء لهما بعد فراق وجفاء امتد لأشهر، وكان عشية المؤتمر. فطرح البشير في ذلك اللقاء أن نحتفظ بالخلافات وأن نجعل من المؤتمر تظاهرة سياسية فقط، وأحنى الترابي رأسه لهذا القرار الذي أنقذ الجلسة الأولى، ولكن سرعان ما تفجرت الخلافات في نهاية اليوم.

* كيف كانت علاقتك بالبشير؟

- جيدة جداً.

* على أي أساس؟

- أنا كنت أكتب خطاباته.

* تكتب خطاباته، يعني أنت مرتكب؟

- لا، الخطابات كانت تعبّر عن سياسة الحركة كلها وعن موقف.

* في أي سنوات كنت تكتب خطاباته؟

- تقريباً منذ أول عام 1990. أول خطاب كتبته كان عن مؤتمر المرأة.

* وآخر خطاب؟

- أظن أن آخر خطاب كان في أواخر التسعينات، ولا أذكر بالضبط موضوعه.

* غاب الود بين الترابي والبشير وأخذت جانب الترابي؟

- هو لم يكن غياب ود فقط، بل كان خلاف مواقف. الترابي كان مع الديمقراطية والحريات العامة، وكان مع الحكم الاتحادي وكان مع الالتزام باتفاقيات الجنوب. وأنا انحزت لهذا الموقف.

* هل تشبه تجربة الترابي مع البشير، تجربة الشيخ عبد الله حسين الأحمر مع علي عبد الله صالح، ولو في سياق مختلف؟

- يمكن طبعاً في حالة أن هناك شيخاً ورئيساً، ولكن بالنسبة للبشير، البشير أصلاً عضو في حركة إسلامية يرأسها الترابي، وكان يزعن لكل قراراته حتى بعدما أصبح رئيساً إلى أن بدأت المفاصلة الطبيعية، المباينة الطبيعية، بين سلطة حقيقية في الظاهر وسلطة باطنية.

* وسلطة الباطن تحرك السلطة الظاهرة؟

- بحكم أن هناك حركة تحكم.

حقائق

من هو المحبوب عبد السلام؟

  • ولد في 1958 في مدينة أم درمان.
  • تخرج عام 1981 في قسم الفلسفة بكلية الآداب في جامعة القاهرة.
  • درس علم الاجتماع في جامعة «باريس 3».
  • تخصص في الدراسات الإسلامية في جامعة لندن.
  • تولى إدارة مكتب الدكتور حسن الترابي لنحو عشرة أعوام.
  • كان أحد كتّاب خطابات الرئيس السوداني السابق عمر البشير.
  • آخر لقاء له مع الترابي كان في الأسبوع الأخير من فبراير (شباط) 2017 أي قبل وفاة الترابي بنحو أسبوعين.
  • آخر لقاء له مع البشير كان في منزل وزير الإعلام الأسبق علي شمو في يناير (كانون الثاني) 2017.


مقالات ذات صلة

عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

خاص السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)

عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

فتحت مبادرة للمملكة العربية السعودية مع الولايات المتحدة نافذة جديدة تراهن على كسر الجمود في السودان الرازح تحت وطأة مجازر وموجات نزوح واسعة.

أحمد يونس (كمبالا)
أوروبا  وزيرة التنمية الألمانية ريم العبدلي رادوفان تتحدث في البرلمان الألماني (د.ب.أ) play-circle

ألمانيا تصف حرب السودان بـ«أسوأ أزمة إنسانية في العالم»

دعت وزيرة التنمية الألمانية ريم العبدلي رادوفان إلى تكثيف الجهود الدولية لإنهاء الصراع في السودان، واصفة إياه بأنه «أسوأ أزمة إنسانية في العالم».

«الشرق الأوسط» (برلين)
الولايات المتحدة​ وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو (د.ب.أ)

وزير الخارجية الأميركي يبحث مع نظيره الفرنسي الحاجة المُلحة لوقف إطلاق النار في السودان

ذكرت وزارة الخارجية الأميركية أن الوزير ماركو روبيو أجرى، اليوم (الثلاثاء)، اتصالاً هاتفياً مع نظيره الفرنسي جان نويل بارو بحثا خلاله العديد من القضايا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شمال افريقيا رئيس الحكومة الانتقالية في السودان كامل إدريس متحدثاً مع الصحافيين في مبنى الأمم المتحدة بنيويورك (صور الأمم المتحدة) play-circle 01:39

الحكومة السودانية تقدم مبادرة لإنهاء «حرب الألف يوم»

تقدمت الحكومة السودانية بمبادرة سلام شاملة لإنهاء الحرب المتواصلة في البلاد منذ نحو ألف يوم، وسط إصرار أميركي على هدنة إنسانية دون شروط مسبقة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
خاص القائد العام لـ«الجيش الوطني» الليبي المشير خليفة حفتر (إعلام القيادة العامة)

خاص «الوطني الليبي» يتجاهل مجدداً اتهامات بـ«التعاون» مع «الدعم السريع»

يرى محلل عسكري ليبي أن مطار الكفرة «منشأة مهمة تُستخدم لدعم القوات الليبية المنتشرة في الجنوب الشرقي والجنوب الغربي وهو نقطة وصل بين شرق ليبيا وجنوبها»

علاء حموده (القاهرة)

السياسة الأميركية في ليبيا… حراك كثير وحسم قليل

قائد «أفريكوم» مع حفتر في بنغازي (القيادة العامة لـ«الجيش الوطني» الليبي)
قائد «أفريكوم» مع حفتر في بنغازي (القيادة العامة لـ«الجيش الوطني» الليبي)
TT

السياسة الأميركية في ليبيا… حراك كثير وحسم قليل

قائد «أفريكوم» مع حفتر في بنغازي (القيادة العامة لـ«الجيش الوطني» الليبي)
قائد «أفريكوم» مع حفتر في بنغازي (القيادة العامة لـ«الجيش الوطني» الليبي)

مع مرور عام على تولي إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب مقاليد السلطة، تتآكل الآمال العريضة باختراق أميركي في الملف الليبي المعقّد، إذ اتسم نهج إدارته بـ«الحذر، والانتقائية»، مع إعادة تموضع محدودة، دون استراتيجية شاملة لمعالجة الانقسام الليبي.

وينظر مراقبون إلى أداء إدارة ترمب في الملف الليبي خلال العام الماضي على أنه انتهج مقاربة تقوم على «تسويات على نار هادئة»، تعتمد تفاهمات سياسية وعسكرية محدودة، و«مصافحات شكلية»، تزامناً مع تصاعد أولوية «الصفقات الاقتصادية»، ولا سيما في قطاع النفط.

في المقابل غابت المقاربة المتكاملة التي تمزج الدبلوماسية بالأمن، وبناء المؤسسات، فاعتمدت واشنطن أدوات سياسية واقتصادية مرنة، وزادت من الحضور الدبلوماسي، مع التركيز على اتصالات مباشرة عبر مسعد بولس مستشار ترمب، وصهره المخوّل بملف الشؤون الأفريقية.

الدبيبة مع قائد قوات «أفريكوم» في لقاء بطرابلس (حكومة «الوحدة» الليبية المؤقتة)

مؤشرات تعيين بولس

في مطلع ولاية إدارة ترمب، أثار تكليف بولس بمتابعة الملف الليبي آمالاً باختراق محتمل، باعتباره مؤشراً على اقتراب ليبيا من دائرة اهتمامه، غير أن حالة من الحذر ظلت قائمة، وهو ما أكدت عليه تطورات العام لاحقاً.

ويعتبر هاني شنيب، رئيس المجلس الوطني للعلاقات الأميركية-الليبية، أن «تعيين بولس شكّل مؤشراً مبكراً على محدودية الزخم الأميركي تجاه هذا الملف»، لافتاً إلى أن «مقاربة واشنطن لقضايا شمال وجنوب الصحراء ما زالت تتعامل معها بوصفها ملفات شديدة التعقيد، لكنها ليست في صدارة الأولويات».

ومع ذلك، أولى مراقبون اهتماماً بزيارة بولس إلى طرابلس وبنغازي، ولقاءاته مع قادة عسكريين في شرق ليبيا، وغربها، في يوليو (تموز) 2025، حين ناقش معهم «دعم الشراكة الأميركية–الليبية، والتعاون الاقتصادي، خصوصاً في قطاع الطاقة، وتعزيز توحيد المؤسسات الليبية، والمصالحة الوطنية».

ما ذهب إليه شنيب أكد عليه العضو السابق في مجلس الأمن القومي الأميركي، بن فيشمان، وعزا ذلك جزئياً –في حديثه لـ«الشرق الأوسط»– إلى «انشغال مستشار ترمب على نحو أكبر بملفات أخرى، مثل الحرب الأهلية في السودان».

ويلحظ شنيب أن تركيز الإدارة انصب أيضاً على الأزمة الأوكرانية، ما جعل السياسة الأميركية في ليبيا «تنضج على نار هادئة» بانتظار إنجاز ملفات أكثر أولوية من وجهة نظر واشنطن.

جانب من جلسة مجلس الأمن الأخيرة حول الأزمة السياسية في ليبيا (المجلس)

برغماتية على نار هادئة

وفق هذا التقدير، تعاملت الإدارة الأميركية مع الأفرقاء الليبيين شرقاً وغرباً ببرغماتية، وعلى «نار هادئة» وفق متابعين من دون انحياز معلن، مع تركيز واضح على «إدارة التوازن» بين القوى القائمة، أكثر من السعي إلى إحداث تغيير جذري في بنية السلطة.

كان المثال العملي على هذه المقاربة هو رعاية بولس للقاء مستشار رئيس حكومة «الوحدة» المؤقتة لشؤون الأمن القومي إبراهيم الدبيبة، ونائب قائد «الجيش الوطني» صدام حفتر، في روما، في سبتمبر (أيلول) 2025، إذ اقتصر على رعاية «مصافحات»، ومناقشة ملفات أمنية، وسياسية، وعسكرية، وطاقية، بما في ذلك مساعي تشكيل حكومة موحدة، من دون ترجمة ذلك إلى مسار سياسي فعّال.

وبحسب فيشمان، فإن «نهج ترمب في صنع السلام يقوم على المصافحة أكثر من الجوهر»، وهو –من وجهة نظره– «نمط يتكرر في أكثر من ساحة دولية، ويتوقع أن يستمر في ليبيا».

هذا «النهج البرغماتي» الأميركي، ومن منظور الباحثة الفرنسية فيرجيني كولومبييه لـ«الشرق الأوسط»: «يدفع الصراع من دون حسم، ويعزز النفوذ داخل الكتلتين المتنافستين شرقاً وغرباً، بما يفاقم توترات التحالفات المحلية، خصوصاً غرب ليبيا»، فعادة أن «أي تسوية مستدامة تتطلب مقاربة شاملة، وضمانات موثوقة، لا صفقات ضيقة بين الزعماء».

وامتدت التحركات الأميركية الحذرة إلى الملف العسكري في ليبيا، حيث تتنازع السلطة حكومتان: إحداهما في الغرب برئاسة عبد الحميد الدبيبة، والأخرى تسيطر على الشرق والجنوب بقيادة أسامة حماد، وبدعم من «الجيش الوطني» تحت قيادة المشير خليفة حفتر.

وشملت الجهود الأميركية تعزيز التنسيق الأمني عبر زيارات «أفريكوم» بقيادة داغفين أندرسون ونائبه جون برينان، ودعم مساعي توحيد المؤسسة العسكرية، بالإضافة إلى التحضير لمناورة مشتركة في سرت.

ويشير بن فيشمان إلى أن «زيارات قادة (أفريكوم) هي امتداد لجهود إدارة بايدن السابقة»، مضيفاً أن «استضافة ليبيا تمريناً أمنياً إقليمياً برعاية أميركية في سرت تعزز هذا المسار العسكري»، لكنه قال: «جوهرياً، لا توجد فوائد سياسية كبيرة من جمع الفصيلين العسكريين معاً».

اجتماع «لجنة المتابعة الدولية» بشأن ليبيا المنبثقة عن مسار برلين في طرابلس (البعثة الأممية في ليبيا)

البعد الاقتصادي

اقتصادياً، بدّلت «النار الهادئة» مسارها لا شدتها، إذ برز اهتمام أكبر بقطاع الطاقة، وشجّعت إدارة ترمب عودة الشركات الأميركية إلى السوق الليبية عبر مذكرات تفاهم، واتفاقيات لتطوير الحقول، وزيادة الإنتاج، وسط تحذيرات خبراء من هشاشة هذا المسار في ظل الانقسام المالي، وغياب إطار قانوني موحد.

تشير كلوديا غازيني، كبيرة المحللين في مجموعة «الأزمات الدولية»، لـ«الشرق الأوسط» إلى أن إدارة ترمب زادت انخراطها في ليبيا عبر وساطة مالية، واقتصادية، خاصة في ملفي الميزانية، والنفط، ما يعزز بقاء القوى الحاكمة شرقاً وغرباً. بالمقابل، تحذر كولومبييه من أن الانخراط الانتقائي المبني على مصالح تجارية «لن يحقق استقراراً دائماً، أو سلاماً مستداماً».

أما دبلوماسياً، فتجلّت سياسة «النار الهادئة» بوضوح مع استمرار الغموض في الموقف الأميركي، إذ اكتفت واشنطن بالقائم بالأعمال جيريمي برنت، من دون تعيين سفير جديد، مكرّسة إخفاق الإدارة السابقة في تثبيت جينيفير جافيتو، بما يعكس إدارة حذرة تُبقي الحضور قائماً من دون رفع مستوى الانخراط الرسمي.

النفوذ الروسي

دولياً، حضرت السياسة نفسها في تعاطي واشنطن مع النفوذ الروسي المتزايد في ليبيا، والذي تطور من وجود عناصر شركة «فاغنر» إلى «فيلق أفريقيا»، والحضور بشكل دائم في قواعد عسكرية ليبية.

وفي هذا السياق، فضّل البيت الأبيض –وفق مراقبين– انتهاج «سياسة احتواء ناعم» لحليف موسكو، خليفة حفتر، عبر تعزيز التعاون العسكري، وزيارات القادة الأميركيين إلى بنغازي، وسرت، بحسب رؤية الخبير في المجلس الروسي للشؤون الدولية، كيريل سيمينوف.

وسط هذه المسارات الأميركية، تتنامى تساؤلات الليبيين حول أهداف تحركات إدارة ترمب، بين دعم الانتخابات، أو الاكتفاء بصفقات مؤقتة. وينقل الباحث السياسي محمد محفوظ مخاوف من أن «تجاهل أميركا للمسار الانتخابي قد يطيل الأزمة»، مكرراً في تصريح لـ«الشرق الأوسط» التحذير من «تكلفة باهظة لصفقات أمنية واقتصادية سابقة على حياة الليبيين».


«الدعم السريع» تسيطر على مناطق حدودية مع تشاد

حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي (فيسبوك)
حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي (فيسبوك)
TT

«الدعم السريع» تسيطر على مناطق حدودية مع تشاد

حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي (فيسبوك)
حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي (فيسبوك)

أعلنت «قوات الدعم السريع» إكمال سيطرتها على مناطق حدودية مع تشاد، بينها أم قمرة وأم برو، ونشرت مقاطع مصورة تُظهر انتشار قواتها هناك، في وقت لم يصدر فيه تعليق رسمي من الجيش السوداني.

وقالت «الدعم السريع» إن العملية هدفت إلى إنهاء وجود ما وصفتها بالجيوب المسلحة، ووقف أعمال انتقام وفوضى تتهم الجيش السوداني و«القوة المشتركة» المتحالفة معه بتنفيذها ضد قيادات الإدارة الأهلية ومدنيين. وأكدت نشر قوات لتأمين المدنيين والطرقات والمرافق العامة في تلك المناطق لإعادة الاستقرار.

وفي تطور آخر، تأكد مقتل قائد «الفرقة 22 مشاة» التابعة للجيش السوداني في مدينة بابنوسة، اللواء معاوية حمد عبد الله، خلال هجوم شنته «الدعم السريع» على المدينة مطلع ديسمبر (كانون الأول) الحالي. ورغم عدم صدور بيان من الجيش بشأن مقتل قائده، أفاد موقع رسمي تابع لحكومة الولاية الشمالية بأن حاكمها العسكري، عبد الرحمن إبراهيم، قدّم واجب العزاء في الفقيد بمنطقة أنقري التابعة لمحلية البرقيق.


مقديشو تشهد أول انتخابات محلية مباشرة منذ عقود

مواطنة صومالية ترفع بطاقتها الانتخابية خلال تجمع لدعم إجراء الانتخابات المحلية (وكالة الأنباء الصومالية)
مواطنة صومالية ترفع بطاقتها الانتخابية خلال تجمع لدعم إجراء الانتخابات المحلية (وكالة الأنباء الصومالية)
TT

مقديشو تشهد أول انتخابات محلية مباشرة منذ عقود

مواطنة صومالية ترفع بطاقتها الانتخابية خلال تجمع لدعم إجراء الانتخابات المحلية (وكالة الأنباء الصومالية)
مواطنة صومالية ترفع بطاقتها الانتخابية خلال تجمع لدعم إجراء الانتخابات المحلية (وكالة الأنباء الصومالية)

يشهد الصومال حالة من الزخم والترتيبات الواسعة استعداداً لأول انتخابات مباشرة منذ نحو ستة عقود، مع الاقتراع على أعضاء المجالس المحلية لإقليم بنادر الذي يضم العاصمة مقديشو، الخميس.

تلك الترتيبات والمساعي المكثفة حكومياً يُنظر لها، بحسب خبير في الشؤون الصومالية تحدث لـ«الشرق الأوسط»، على أنها توجُّه من الحكومة لدعم أكبر مشاركة تُحقق صحة موقفها من الانتخابات المباشرة، خاصة أن الاقتراع يُعد اختباراً جديداً لإمكانية عقد الانتخابات الرئاسية الصومالية عام 2026، في ظل تحفظات المعارضة.

وكان نظام التصويت المباشر قد أُلغي في الصومال بعد تولي الرئيس محمد سياد بري السلطة عام 1969. ومنذ سقوط حكومته في 1991، يقوم النظام السياسي في البلاد على هيكل قبلي.

حملات حزبية في شوارع العاصمة الصومالية مقديشو لتشجيع الناخبين على المشاركة في الانتخابات (إ.ب.أ)

وقد تأجلت الانتخابات التي ستُجرى، الخميس، بنظام «شخص واحد صوت واحد» ثلاث مرات هذا العام. ومن المتوقع تنظيم انتخابات رئاسية العام المقبل، مع انتهاء ولاية الرئيس حسن شيخ محمود.

ولفتت وكالة الأنباء الصومالية (صونا)، الأربعاء، إلى أن انتخابات الخميس ستُجرى في المديريات الست عشرة بمحافظة بنادر، حيث يتوجه المواطنون إلى مراكز الاقتراع لاختيار من يمثلهم في المجالس المحلية لأول مرة منذ 1969.

«محطة مفصلية»

وأعلنت اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات والحدود عن تسجيل مليون ناخب و20 من التنظيمات السياسية، لافتة إلى أن 1604 مرشحين يتنافسون في انتخابات المجالس المحلية.

وأوضح متحدث اللجنة عبد الفتاح فيصل حسين، الأربعاء، أن التصويت سيجري في 16 دائرة انتخابية موزعة على 213 مركز اقتراع و523 موقع تصويت.

وأعلنت هيئة الطيران المدني، الأربعاء، أن جميع الرحلات الجوية من مقديشو وإليها ستُعلّق الخميس خلال فترة الانتخابات، تزامناً مع تنفيذ خطة واسعة أعلنتها الأجهزة الأمنية الصومالية، تقضي بنشر نحو عشرة آلاف من عناصر الشرطة لتأمين الاقتراع، وفق ما أعلنه وزير الأمن الداخلي عبد الله شيخ إسماعيل، الأحد.

تجمع جماهيري يقوده رئيس الوزراء الصومالي حمزة عبدي بري في مديرية كاران بمحافظة بنادر دعماً لإجراء الانتخابات المحلية المباشرة (وكالة الأنباء الصومالية)

وأعلن رئيس اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات والحدود عبد الكريم حسن، الثلاثاء، أن اللجنة ستنشر نحو خمسة آلاف موظف في مراكز التصويت بالعاصمة للإشراف على الانتخابات التي وصفها بأنها «محطة مفصلية في مسار التحول الديمقراطي في الصومال».

وقاد رئيس الوزراء حمزة عبدي بري تجمعاً جماهيرياً، الاثنين، في مديرية كاران بمحافظة بنادر، دعماً لإجراء الانتخابات المحلية المباشرة، مشدداً على أهمية المشاركة الشعبية في تقرير المصير السياسي.

وكان قد تقرر تأجيل الانتخابات المحلية في مقديشو عن الموعد المقرر سابقاً في 30 نوفمبر (تشرين الثاني)، لتوفير «وقت إضافي لإعداد مرشحيها، واستكمال الترتيبات اللوجستية» قبل التصويت لضمان مشاركة أكبر، وفق ما أعلنه وقتها عبد الكريم حسن.

موقف المعارضة

ويرى الخبير في الشؤون الصومالية، عبد الولي جامع بري، أن ترتيبات الحكومة بشأن الانتخابات لها تأثيرات مهمة على الحشد الشعبي والمشاركة بعد عقود من الغياب الديمقراطي، خاصة أنها تأتي وسط تحفظات المعارضة التي قررت عدم المشاركة فيها.

وأعلن «مجلس مستقبل الصومال»، الذي يضم قوى سياسية معارضة، في ختام اجتماع عقده المجلس بمدينة كيسمايو الأسبوع الماضي رفضه الانتخابات المحلية، قائلاً إنها عملية «أحادية الاتجاه» تفتقر إلى التوافق الوطني. ومنح المجلس الرئيس حسن شيخ محمود مهلة لمدة شهر واحد لعقد حوار شامل لتجنب «فراغ دستوري محتمل وصراعات سياسية قد تهدد الاستقرار».

موظفون حكوميون بالصومال خلال توزيع بطاقات الاقتراع (وكالة الأنباء الصومالية)

وعقَّب الرئيس الصومالي، الثلاثاء، في فعالية انتخابية لحزب «العدالة والتضامن» الحاكم في مقديشو، قائلاً: «لقد استخلصنا نقطة واحدة من نتائج مؤتمر كيسمايو، وهي فتح باب الحوار والحوار مفتوح، وقد استجابت الحكومة رسمياً لهذا الطلب»، محذراً من مخاطر تحويل الخلافات السياسية إلى مواجهات مسلحة.

«اختبار حقيقي»

يتصاعد الجدل داخل الصومال بشأن الانتخابات المباشرة المرتقبة عام 2026، بعد 57 عاماً من آخر اقتراع، والذي أُجري عام 1968، والتي تأتي بديلاً عن نظيرتها غير المباشرة في عام 2000، التي كانت تعتمد في الأساس على المحاصصة القبلية في ولايات البلاد الخمس، والتي جرى العمل بها بعد «انقلابات وحروب أهلية»، وفي ظل سيطرة أربع عشائر كبرى هي: هوية، ودارود، ورحنوين، ودِر.

وعلى مدى عام تقريباً، تصاعدت الأزمة السياسية بقوة، وكانت العودة لاستكمال دستور 2012 المؤقت هي الشرارة الأبرز التي فاقمت الخلافات بين الحكومة الفيدرالية وولايتي بونتلاند وجوبالاند من جانب، و«منتدى الإنقاذ الصومالي» من جانب آخر.

واشتدت الخلافات بين الرئيس الصومالي والمعارضة بعد تأسيسه حزب «العدالة والتضامن» في 13 مايو (أيار) الماضي، وتسميته مرشحاً للحزب في الانتخابات المباشرة المقبلة، وسط تحركات للمعارضة وتشكيل تحالفات.

ويرى خبير الشأن الصومالي جامع بري أن الانتخابات الحالية قد تفتح الطريق لتفاهمات حول الرئيس في المستقبل، لكن الواقع لا يزال معقداً، خاصة والمعارضة لديها تحفظات حقيقية.

وقال في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «المعارضة ترى في المسار الحالي انتخابات غير متوازنة، وربما غير دستورية أو غير شاملة كلياً، مما قد يحدّ من مشاركة شرائح واسعة من المواطنين إذا شعرت بأن العملية ليست عادلة أو أنها تمثيلية».

وهو يعتقد أن النظام يراهن على تحول سياسي حقيقي نحو الديمقراطية عبر الانتخابات المباشرة التي تعد اختباراً حقيقياً لرئاسيات 2026، لكن المعارضة ستبقى لديها تحفظات عميقة على طريقة تنظيم الانتخابات ومسارها، وتبقى نتائج الحوار المنتظر هي الفيصل في تحديد المستقبل.