لبنان: إصابات تفجيرات «البيجر» أشد من انفجار المرفأ

حالات بتر وعمى كلي... والأغلبية الساحقة من الإصابات بليغة

سيارة إسعاف تنقل الجرحى إلى المركز الطبي للجامعة الأميركية في بيروت بعد انفجار أجهزة «البيجر» في عناصر من «حزب الله» (أ.ف.ب)
سيارة إسعاف تنقل الجرحى إلى المركز الطبي للجامعة الأميركية في بيروت بعد انفجار أجهزة «البيجر» في عناصر من «حزب الله» (أ.ف.ب)
TT

لبنان: إصابات تفجيرات «البيجر» أشد من انفجار المرفأ

سيارة إسعاف تنقل الجرحى إلى المركز الطبي للجامعة الأميركية في بيروت بعد انفجار أجهزة «البيجر» في عناصر من «حزب الله» (أ.ف.ب)
سيارة إسعاف تنقل الجرحى إلى المركز الطبي للجامعة الأميركية في بيروت بعد انفجار أجهزة «البيجر» في عناصر من «حزب الله» (أ.ف.ب)

كان يوم الثلاثاء الأكثر دموية على الإطلاق في لبنان منذ اندلاع حرب غزة، فبعد الاختراق الأمني غير المسبوق بتفجيرات «البيجر»، وقع أكثر من 2800 إصابة في عناصر «حزب الله» وُصِفت غالبيتها الساحقة بالبليغة، وأدَّت لحالات بتر أطراف وفقدان بصر، بحيث يجمع العاملون بالشأن الصحي على أن الإصابات كانت أشد من انفجار مرفأ بيروت الذي وقع عام 2020.

ففيما يشبه مشاهد من فيلم بوليسي، انفجرت أجهزة الاتصال اللاسلكي (البيجر) يحملها عناصر من «حزب الله» ويستخدمونها في الاتصالات بهم من دون سابق إنذار، مسببةً إصابات بليغة لأكثر من 2800 شخص، وسقوط 12 قتيلاً، بينهم طفلان (8 سنوات) و(11 سنة).

كذلك أُصيب السفير الإيراني لدى لبنان، مجتبى أماني، بعد انفجار جهاز الاتصال الذي كان بحوزته، فيما قُتِل نجل عضو كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب علي عمار مهدي.

سقط عناصر «حزب الله» أرضاً متأثرين بإصاباتهم في كل مكان: الشوارع والدكاكين والمنازل.

وبحسب وزير الصحة العامة في حكومة تصريف الأعمال، فراس الأبيض، فإن حجم الضربة كان كبيراً، والمستشفيات استقبلت خلال نصف ساعة ما يقارب 2800 جريح.

وفي حين تركزت الإصابات في الوجوه والعيون والبطن والأيدي والأرجل، وفق أبيض، يقول نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة، سليمان هارون، لـ«الشرق الأوسط»، إنه لا إحصاءات حتى الساعة تُظهِر أين كانت الإصابات أكثر من غيرها. لكنه يوضح، بحسب مشاهدته، أنها كانت موزَّعة تقريباً بالتساوي، وذلك بحسب أين كان كل شخص يضع «البيجر»؛ على خصره، أو قريباً من وجهه، أو يحمله بيديه.

وبحسب مصادر لـ«رويترز»، فإن جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) زرع متفجرات داخل 5 آلاف جهاز اتصال لاسلكي (بيجر) استوردها «حزب الله» قبل أشهر من التفجيرات.

صورة التُقطت في 18 سبتمبر 2024 في الضاحية الجنوبية لبيروت تظهر بقايا أجهزة اتصال منفجرة معروضة في مكان غير معلن (أ.ف.ب)

إصابات بليغة وحالات بتر وعمى

ويؤكد هارون أن الأغلبية الساحقة من الإصابات (أي ما نسبته 99 في المائة منها) كانت بليغة، واحتاجت لإجراء عمليات ودخول مستشفى، مشيراً إلى أن عدد الموجودين في العناية الفائقة كبير جدّاً.

ويضيف: «الأغلبية الساحقة احتاجت لعمليات. والإصابات بأغلبها بليغة، ولم تكن هناك إصابات طفيفة».

ويشير إلى أن من بين الحالات الأكثر صعوبة كانت الإصابات في العيون والوجه، وتم تحويلها إلى مستشفى تخصصي لإجراء العمليات اللازمة.

فشهد مركز العيون في المتحف، وهو مستشفى متخصِّص بجراحة العيون للحالات الصعبة والعميقة، تدفقاً للحالات الصعبة، ولم يتوقف طبيب العيون النائب إلياس جرادي عن إجراء العمليات الأكثر صعوبة منذ وقوع الاختراق الأمني الثلاثاء.

جراح العيون وعضو مجلس النواب اللبناني إلياس يجري عملية جراحية لأحد المصابين (رويترز)

ويوضح جرادي لـ«الشرق الأوسط» أن المستشفى متخصص بالجراحات الدقيقة في العيون، واستقبل الحالات التي تتطلب اختصاصاً عميقاً، مشيراً إلى أن الحالات التي كان يتم تحويلها صعبة، وعددها كبير.

رغم ذلك، لا يعمّم جرادي أن كل الإصابات هي بنفس الصعوبة، لأن الحالات التي تُرسَل لمركز العيون هي الصعبة، وبالتالي ليست مقياساً لكل الحالات. ويشير إلى أنه يوم الثلاثاء كان هناك أكثر من 7 أطباء عيون يجرون عمليات للمصابين من دون توقف، واليوم يكمل 3 أطباء إجراء العمليات فيما يرتاح القسم الآخر، ليتسلَّم من الأطباء الذين ما زالوا يعملون في عمليات الإنقاذ.

جراح العيون وعضو مجلس النواب اللبناني إلياس جرادي متأثر بعد مشاهدة الحالات التي أجرى لها عمليات (رويترز)

ويقول: «كان التلف بالعيون والوجه واليدين من أكثر الإصابات التي وصلت إلى المستشفى. وبالمجمل كمية التلف التي شهدناها كبيرة. استطعنا إنقاذ بعض المصابين، لكننا لم نتمكن من إنقاذ البعض الآخر».

ويضيف: «عدد كبير من المصابين الذين وصلوا إلى المستشفى حصل لديهم تلف كامل بالأعضاء المصابة، هناك حالات أُصيبت بالعمى وحالات بتر أطراف».

وعن المدة التي سيحتاج إليها الطاقم الطبي والمستشفيات للسيطرة على كل الحالات، يقول: «عشنا نفس المرحلة بانفجار المرفأ. سنحتاج إلى نحو أسبوع للسيطرة على الوضع».

ووقعت التفجيرات في وقت متزامن بمناطق لبنانية عدة، في الجنوب والبقاع وبيروت والضاحية الجنوبية، وتطلبت استجابة واسعة النطاق من «الصليب الأحمر» اللبناني استمرت حتى منتصف الليل.

وفي هذا الإطار، يقول المتحدث الإعلامي لـ«الصليب الأحمر» اللبناني، إياد المنذر، لـ«الشرق الأوسط»، إن الانفجارات غير مسبوقة؛ فكانت متزامنة، وسقط عدد كبير من الضحايا، لكن في أماكن متفرقة؛ ما استدعى استنفار عناصر «الصليب الأحمر» على امتداد الوطن.

وساهم «الصليب الأحمر» في عمليات الاستجابة من خلال 134 سيارة إسعاف و450 مسعفاً، ووضع 150 سيارة إسعاف إضافية و450 مسعفاً في مناطق أخرى، في حال تأهب لتقديم الدعم وعمل على نقل 177 مصاباً إلى المستشفيات القريبة، وكذلك من مستشفى إلى آخر، لا سيما خارج العاصمة، وفق ما قال في بيان.

أسوأ من انفجار المرفأ

ويقارن المنذر انفجارات «البيجر» بانفجار المرفأ، فيؤكد أن الأول الأصعب، موضحاً أن «انفجار المرفأ تسبَّب بعدد أكبر من الجرحى، لكن النطاق الجغرافي كان محصوراً ببيروت العاصمة. أما انفجارات (البيجر) فكانت على امتداد الوطن، وتطلبت مجهوداً أكبر لإيصال الجرحى إلى المستشفيات».

وفي عام 2020، وقع انفجار مرفأ بيروت، وهو انفجار ضخم حدث على مرحلتين في العنبر رقم 12 بمرفأ بيروت، عصر يوم الثلاثاء 4 أغسطس (آب)، مما أدّى إلى أضرار كبيرة وتهشيم الواجهات الزجاجية للمباني والمنازل في معظم أحياء العاصمة اللبنانية، بيروت، وبلغ عدد الجرحى آنذاك 7000 فيما قُتِل أكثر من 218 شخصاً، من بينهم المفقودون الذين لم يُعثَر لهم على أثر.

رجل يشاهد مقطع فيديو نُشر على وسائل التواصل الاجتماعي يظهر رجلاً جريحاً في 17 سبتمبر 2024 بعد أن ضربت انفجارات مواقع في العديد من معاقل «حزب الله» حول لبنان (أ.ف.ب)

ويضيف هارون: «إن ما حصل يشبه سيناريو انفجار مرفأ بيروت، مع فارق أن الإصابات البليغة كانت أكثر بكثير أمس، فغالبية المصابين كانوا يحتاجون إلى استشفاء، وليس فقط الدخول إلى الطوارئ، كما حصل في انفجار المرفأ. وهنا تكمن الصعوبة».

من هنا، يشدد هارون على أن «المستشفيات تحتاج إلى دعم سريع من مستلزمات طبية وأدوية وأموال، لأن العمليات التي أُجرِيَت مكلفة جدّاً، والإصابات كانت بليغة»، معتبراً أنه «يجب أن يحصل تحرّك سريع من قبل وزارة الصحة لدعم المستشفيات».

ويضيف: «الأهم الآن إنقاذ الأرواح، ولاحقاً سنتطرق إلى موضوع الدعم، لأن الأمر كان مكلفاً جداً على المستشفيات من الناحية المادية، وأكثر بكثير من انفجار المرفأ، رغم أن عدد المصابين بانفجار المرفأ كان ضعف العدد الحالي تقريباً، لكن الأغلبية الساحقة احتاجت إلى متابعة في الطوارئ فقط. أما هذه التفجيرات كلها فقد استدعت دخول مستشفى وعناية فائقة وعمليات مكلفة في البطن والعظم والعيون، وسننقل ذلك في الأيام المقبلة إلى الوزير فراس الأبيض».


مقالات ذات صلة

ماذا كشف سقوط الأسد عن تجارة «الكبتاغون» في سوريا؟

المشرق العربي أقراص من «الكبتاغون» مبعثرة بعد العثور عليها قرب العاصمة السورية دمشق الأسبوع الماضي (رويترز) play-circle 02:40

ماذا كشف سقوط الأسد عن تجارة «الكبتاغون» في سوريا؟

منذ سقوط الرئيس السوري بشار الأسد تم الكشف عن منشآت تصنيع مخدر «الكبتاغون» على نطاق واسع في جميع أنحاء سوريا.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
العالم العربي فرق «الخوذ البيضاء» عثرت على نحو 20 جثة ورفات مجهولة الهوية بمخزن للأدوية في منطقة السيدة زينب بدمشق (أ.ف.ب)

العثور على جثث مجهولة الهوية في منطقة السيدة زينب بدمشق

أعلن عضو مجلس إدارة في الدفاع المدني السوري، عمار السلمو، اليوم الأربعاء، أن فرق «الخوذ البيضاء» عثرت على نحو 20 جثة ورفات مجهولة الهوية في دمشق.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي جلسة سابقة للبرلمان السويسري في العاصمة برن (أ.ف.ب)

البرلمان السويسري يحظر «حزب الله»

صوّت البرلمان السويسري، اليوم الثلاثاء، لصالح حظر «حزب الله» في خطوة يندر أن تقوم بها الدولة المحايدة.

«الشرق الأوسط» (زيوريخ)
تحليل إخباري رجل يحمل راية «حزب الله» على مبانٍ مدمرة في ضاحية بيروت الجنوبية (أ.ب)

تحليل إخباري الحرب الإسرائيلية وسقوط الأسد أفقدا «حزب الله» معادلة التحكّم بالاستحقاق

فرضت الحرب الإسرائيلية على لبنان وسقوط الأسد واقعهما على استحقاق انتخابات الرئاسة اللبنانية وأفقدا «حزب الله» وحلفاء النظام السوري قدرة التحكّم بانتخاب الرئيس.

يوسف دياب
المشرق العربي شخصان يتعانقان على أنقاض المباني المتضررة في قرية جون بقضاء الشوف بلبنان (رويترز)

الدمار والتعويضات يخلقان نقمة في بيئة «حزب الله»

خلقت أزمة الدمار الكبير في جنوب لبنان والالتباس حول تعويض المتضررين نقمة بدأت تخرج إلى العلن في بيئة «حزب الله». وظهرت ملامح تململ في رفض البعض العودة إلى الضاح

كارولين عاكوم (بيروت)

مخيم اليرموك... دمار يحاكي غزة وغموض لا تبدده قرارات ظرفية

TT

مخيم اليرموك... دمار يحاكي غزة وغموض لا تبدده قرارات ظرفية

مخيم اليرموك... دمار يحاكي غزة وغموض لا تبدده قرارات ظرفية

هذه ليست غزة. إنه مخيم اليرموك.

لا تكفي قراءة اللافتة مراراً عند مدخل المخيم الفلسطيني المحاذي لدمشق لترسخ هذه الحقيقة في ذهن الزائر.

لا بد من التذكير المتواصل للنفس، ومع كل خطوة والتفاتة بأنها بالفعل ليست غزة، بل مخيم اليرموك الذي لا يبعد أكثر من 18 كيلومتراً من ساحة الأمويين، وشهد تدميراً منهجياً وحصاراً مديداً حتى مات أكثر من 150 شخصاً من سكانه غالبيتهم من الأطفال، جوعاً وعطشاً.

العائلات القليلة التي عادت منذ سقوط نظام بشار الأسد أو منذ بضعة أشهر أو سنتين على الأكثر لا تزال غير مرئية وسط الدمار الهائل الذي لا يحده بصر، ولا تختذله عدسة عين أو كاميرا.

ويبدو عابر السبيل الخارج من خلف هذه الأنقاض أو بعض الأطفال العائدين من صفوفهم المرتجلة في مدرسة الأونروا القريبة كمشهد من فيلم.

لكنه عملياً واقع السكان اليومي وحياتهم التي نجوا بها.

لا خدمات في المخيم كما يقول كل من التقيناهم. لا كهرباء أو مياه جارية أو إنترنت أو أي مرافق صحية ولو بالحد الأدنى، بل مجرد هياكل أبنية ودمار مديد والكثير من الغبار.

يحاكي الدمار بين جنبات المخيم مشاهد الحرب في غزة (الشرق الأوسط)

ذكرى حصار التجويع لم تفارق اليرموك

شاب نجا من حصار التجويع في العام 2018 تحدث لـ«الشرق الأوسط» مفضلاً عدم ذكر اسمه، وقال: «أذكر أول كسرة خبز أكلتها بعد أيام من الجوع. لا يفارقني طعمها. فبعد نحو أسبوع من فقدان الطعام والمياه تذكرت أني رأيت في ثلاجة جيراننا كيس خبز مهمل. استجمعت قواي وذهبت فوجدت الثلاجة المحترقة بفعل القصف ملتصقة بربطة الخبز ولكن طرف بعض الأرغفة نجا وكان فقط متعفناً... فالتهمته كوجبة فاخرة».

ثم يعود الشاب ويفتح صوراً قديمة على هاتفه وقد بدا عليه الشحوب وفقدان الوزن كأنه شخص آخر. هو وغيره من الذكور وبعضهم أرباب أسر كانوا يخشون القتل أو الاعتقال إذا ما توجهوا إلى نقطة توزيع الحصص الغذائية التي بدأت تدخل المخيم بالقطارة عبر فصائل محلية والأمم المتحدة. فكثير من «الممرات الإنسانية الآمنة» تحول فخاً للإيقاع بالرجال والشباب وحتى اليافعين.

والمخيم الذي تعرض منذ 2011 لموجات متقطعة من الاستهداف العسكري والقصف الجوي ومعارك شرسة شاركت فيها فصائل فلسطينية موالية لبشار الأسد وعلى رأسها تنظيم «الجبهة الشعبية- القيادة العامة» بزعامة أحمد جبريل، عاش في 2018 أحد أسوأ كوابيسه. فبعد انطلاق الانتفاضة الشعبية في 2011 وانحياز عدد غير قليل من الفلسطينيين لها، سواء من معارضين مستقلين أو منضوين تحت مظلة حركة «حماس»، شنّ جبريل وفصائل حليفة حرباً ضروساً على المخيم وفصائل «الجيش الحر» دفاعاً عن الأسد.

ولم تتأخر البراميل بإمطار المخيم والأحياء الملاصقة له كالحجر الأسود والتضامن ويلدا، وفاقم ذلك جيب لتنظيم «داعش» كان استقر في الجزء الجنوبي من اليرموك عند مثلث جغرافي يربطه بتلك الأحياء.

تغلب مشاهد الدمار على أي أمارات للحياة في المخيم (الشرق الأوسط)

أبو حسان من «حارة الفدائية»، صادفناه وهو عائد من عمله في دهان الأثاث خارج المخيم، بدا منهكاً وهو يتجه نحو بيته. قال لـ«الشرق الأوسط»: «عدنا بما تيسر. الأفضل أن أسكن في بيتي على سوء أوضاعه من أن أدفع إيجارات لا أقوى عليها».

تحدث الرجل بمرارة عما مر به في السنوات الماضية، وقال: «همّ وانزاح عن صدورنا... لكننا مازلنا متروكين لمصيرنا». وأضاف وهو يكابد الدمع: «كنا نتابع أخبار غزة ونتألم ولكن أنظري حولك... هل نحن هنا في حال أفضل؟».

الانتقام من الأموات في قبورهم

في مكان لم ينج فيه البشر ولا الحجر، نال الأموات أيضاً نصيبهم. فهنا، في «مقبرة الشهداء» اختلطت المدافن ببعضها البعض ولم تعد المعالم واضحة. عندما سيطر تنظيم «داعش» على شريط ضيق عند أطراف المخيم قام عناصره بتدمير شواهد القبور والانتقام منها ثم لحق ذلك قصف مباشر بالبراميل والقذائف من القوات السورية للمقبرة نفسها فلم تبق حجراً على حجر.

ولهذه المقبرة أهمية كبرى كونها تضم قبور عدد من القادة الفلسطينيين الأوائل وأبرزهم خليل الوزير المعروف بـ«أبو جهاد» وكان مقرباً من الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وعلى عداء شديد مع حافظ الأسد. فجاء تدمير قبره وقبر غيره في هذا المكان أشبه بانتقام مفتعل قبل إعادة تسليم المخيم لفصائل موالية للأسد.

ويقول أبو أحمد وهو القائم على المقبرة: «90 في المائة من القبور غير معروفة لأصحابها. القصف خلط ما فوق الأرض بما تحتها. ومن يريد أن يدفن أحداً اليوم يذهب إلى مكتب الدفن ويقدم تعهداً بأن هذا القبر له ولعائلته على مسؤوليته الشخصية. فلا شواهد ولا قبور... لا سلمنا من هذا ولا من ذاك».

حتى المقابر في مخيم اليرموك طالتها يد الانتقام (الشرق الأوسط)

اليرموك «عاصمة فلسطين الشتات»

كان مخيم اليرموك الذي بُني عام 1957، وينبسط على مساحة تقارب كيلومترين ونصف الكيلومتر، سوقاً تجارية كبيرة سكنه قرابة مليون ونصف المليون شخص من السوريين والفلسطينيين وبعض العراقيين ولم يعد إليه حالياً أكثر من 8 آلاف نسمة، بحسب تقديرات «الأونروا».

ولا شك في أن الوضع على ما يردد الناس هو تذكير دائم بالوضع في غزة، لكنه لا يقتصر على مخيم اليرموك فحسب. فهو واحد من 15 مخيماً فلسطينياً في سوريا أكثر من 8 منها تعاني دماراً شاملاً وتحتاج ما يحتاجه اليرموك وبقية المناطق السورية والأحياء والضواحي الدمشقية التي سويت بالأرض من إعمار وإسناد.

وإذ يعاني السكان الإهمال التام وعدم معرفة مصيرهم ومصير ذويهم من المفقودين ومآلات منازلهم ووضعهم العام في المرحلة المقبلة، إلا أن الأصعب بالنسبة إليهم يبدو في شكواهم المتكررة من أنهم في حالة ضياع ومتروكون لمصيرهم بلا أي مرجعية اجتماعية أو خدمية أو سياسية.

كأنهم أصبحوا فجأة أيتام النظام السابق والفصائل المسلحة والثورة والتحرير دفعة واحدة.

فحتى الفصائل الفلسطينية التي كانت تسيطر على المخيم وتصادر قراره إلى حد بعيد يقطن قادتها ومن بقي منهم خارج أسواره في أحياء دمشق المتوسطة والفاخرة وبعضهم كان سبق وتوجه إلى بيروت.

والحال أن السكان من المدنيين وقعوا لسنوات طويلة بين مثلث نيران: «داعش» وفصائلهم والنظام، علماً أن التنظيم في دمشق نشأ على يد سجين سابق من بلدة يلدا أطلقه النظام بعد فترة وجيزة من بداية التظاهرات في 2011، بحسب تأكيدات مصادر متقاطعة لـ«الشرق الأوسط». وشاركه التأسيس ضابط عراقي مقيم في اليرموك بعدما انشق الاثنان عن «جبهة النصرة».

ولفترة غير وجيزة تقارب سنتين وأكثر، تُرك «داعش» ينمو ويتمدد تدريجياً باتجاه أحياء الحجر الأسود والتضامن والطرف الجنوبي لمخيم اليرموك، وشكّل رابطة كبيرة من الفصائل والتنظيمات الأصغر والأكثر تطرفاً والتي عملت على محاربة «الجيش الحر» (آنذاك) وهزيمته.

لم يعد إلى المخيم الذي كان يعج بالحياة سوى نحو 8 آلاف شخص (الشرق الأوسط)

وخلال تلك الفترة كان الجرحى من تنظيم «داعش» يتعالجون في مستشفى المهيني (الحكومي) ثم أصبحوا لاحقاً أول الفصائل المسلحة التي فاوضت النظام السابق في جنوب دمشق وخرجوا بقوافل منظمة من الحافلات باتجاه بادية السويداء بعدما سلّموا الحواجز العسكرية، فيما سكان مخيم اليرموك محاصرون بشكل كامل.

ومن الحواجز العسكرية التي مررنا بموقعها السابق خلال جولتنا، وتم تسليمها حاجز «علي الوحش» حيث نفذت مجزرة راح ضحيتها 1200 شخصاً من سكان المخيم المدنيين (بحسب الأعداد الموثقة).

ولعل الأفظع في هذه المجرزة الموصوفة ليس عدد الضحايا وحسب، وإنما إيهام السكان بفتح مرر إنساني آمن لتلقي المساعدات بعد فترة من حصار التجويع ثم تصفية الذكور منهم وترحيل النساء والأطفال إلى غير عودة. ولهذا تحديداً أبقى كثيرون على جوعهم وجوع أطفالهم ولم يتجرأوا على الذهاب لتلقي المساعدات.

ويقول الشاب ضياء سليمان الذي عايش تلك الفترة مراهقاً وأصبح اليوم أباً لثلاثة أطفال: «بعد كل ما مررنا به خذلنا الجميع ونحن الآن متروكون بكل المعاني. لا أحد يلتفت إلينا ولا أحد يتحدث إلينا، حتى الذين تسببوا لنا بهذا كله. نحن نحتاج حماية ونحتاج قراراً... نحتاج أن نعرف رأسنا من قدمينا».

علاقة مخيم اليرموك بالسلطة الجديدة

اجتماع غير معلن تسربت بعض المعلومات عنه عقد بين قادة الفصائل في مخيم اليرموك وممثلين عن «هيئة تحرير الشام» قضى بأن يقوم المسلحون الفلسطينيون بتسليم سلاحهم للسلطة الجديدة، أسوة بدعوة عامة أطلقت بهذا الشأن لكافة «المكونات» السورية الأخرى.

وصحيح أن السلاح الفلسطيني في سوريا عموماً ومخيم اليرموك خصوصاً لم يستخدم على أي جبهة ضد إسرائيل وإنما تم تسخيره للاحتراب الداخلي وتكريس سلطة الأسد، يبقى أن سحبه الآن قد يبدو أهون الاستحقاقات.

فالجدوى منه، سواء المزعومة أو الفعلية انتفت كلياً، لا سيما وأن مخيم اليرموك فارغ ومدمر ولا فرصة لإعادة أي سلطة إليه ما لم يتم إعمار الحجر والبشر.

«التحدي الكبير للمرحلة المقبلة هو في كيفية صياغة الوضع القانوني والمدني للفلسطينيين وحمايتهم عبر القوانين»، يقول أيمن أبو هاشم المنسق العام لـ«التجمع الفلسطيني – السوري» (مصير) في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط».

مدخل «مقبرة الشهداء» في مخيم اليرموك (الشرق الأوسط)

ويضيف: «بدأنا بفتح قنوات تواصل مع السلطات الجديدة ووقعنا بياناً يجمع نحو 20 منظمة لرفع مطالبنا كفلسطينيين- سوريين بدءاً بمحاسبة من شارك بالقتل والتجويع والتهجير القسري من الأطراف كافة، وصولاً إلى مطلب أساسي هو تعديل القوانين لشمل من تم استثناؤهم من القانون 260 للعام 1956».

وبعكس غالبية بلدان الشتات الفلسطيني، يتيح القانون المذكور للفلسطينيين حقوق العمل والتملّك وكافة الحقوق المدنية ما عدا التصويت. لكنه يستثني من جاءوا بعد نكسة 1967 ومن الأردن بعد 1970، وهؤلاء ليسوا بقلّة.

وإذ يُعرّف غالبية فلسطينيي سوريا عن أنفسهم بأنهم سوريون أيضاً، يقول أبو هاشم إن أحد المطالب الرئيسية لتجمّع «مصير» هو الحصول على الجنسية السورية مع الاحتفاظ بجنسيتهم وهويتهم الفلسطينية. ويقول: «كي لا نتهم بأننا نتنازل عن حق العودة أو عن انتمائنا لفلسطين، لكننا وأبناءنا نستحق منحنا الجنسية السورية كأي إنسان ولد وعاش في بلد وأصبح مزدوج الجنسية في هذا العالم».

ولعل أم قصي التي التقيناها صدفة، أفضل من عبر عن هذا الحال بفطرة وعفوية إذ وصفت عودتها إلى بيتها في المخيم بالقول: «الواحد ما بيرتاح إلا في بيته ووطنه وانه يرجع لأصله». ولدى سؤالها إن كان اليرموك «وطنها» وليس فلسطين وطبريا من حيث تتحدر، قالت: «هون بيعوضنا عن فلسطين... هذه حاراتنا كلها بأسماء قرى وبلدات فلسطين وهذه بلادنا أيضاً».