قصف جوي روسي جديد على «منطقة بوتين - إردوغان»

نفذت المقاتلات الروسية، صباح الجمعة، للمرة الأولى منذ 4 شهور، ضربات جوية مكثفة على مناطق واقعة في جنوب الطريق الدولي حلب - اللاذقية M4، في جنوب مدينة إدلب، شمال غربي سوريا، أثارت مخاوف من أن تكون بداية تصعيد محتمل، سيؤدي إلى نزوح آلاف المدنيين نحو المخيمات.

وحسب شهود عيان، شهدت أجواء منطقة «خفض التصعيد» أو ما تعرف بـ«منطقة بوتين - إردوغان» الفاصلة بين مناطق النظام السوري وفصائل المعارضة، في جنوب محافظة إدلب، تحليقاً مكثفاً لطائرات الاستطلاع الروسية وفي مقدمتها طائرة البجعة العملاقة، وأعقب ذلك شن طائرتين حربيتين روسيتين 5 غارات جوية بصواريخ فراغية شديدة الانفجار على منطقة فليفل، بجبل الزاوية 20 كيلومتراً جنوب إدلب.

اقتصرت أضرار الغارات الجوية على الأشياء المادية، غير أنها أصابت المدنيين بحالة ذعر شديدة دفعت عدداً كبيراً من العائلات للجوء إلى الكهوف والعراء، خشية المزيد من الغارات. ناشطون في جنوب إدلب، رأوا أن عودة الغارات الجوية الروسية الجديدة على جنوب إدلب، قد تكون مقدمة لبداية تصعيد جديد يطول المنطقة، لأهميتها وموقعها الاستراتيجي الذي يطل على القسم الشمالي لسهل الغاب في أقصى الريف الغربي الشمالي الخاضع لسيطرة فصائل المعارضة، كما أنها خط دفاعي عن الطريق الدولي (حلب - اللاذقية)، الذي يحاول النظام السوري وحلفاؤه الزحف باتجاهه والسيطرة على المناطق الواقعة جنوبه، وأبرزها جبل الزاوية، وذلك سواء بالمفاوضات السياسية مع تركيا أو بالقوة العسكرية، لتأمين فتحه أمام حركة النقل البرية والإمدادات العسكرية بين مناطق الساحل السوري ومحافظة حلب.

ووصف ناشطون التصريحات الصادرة عن مركز «المصالحة الروسي» في حميميم بريف اللاذقية غرب البلاد، بالمزيفة، إذ تدأب على اتهام الفصائل في إدلب، بالتصعيد ضد القوات الروسية وقوات النظام، كمقدمة للتصعيد والقصف الذي يطول بمجمله المناطق المدنية والمأهولة بالسكان، وسط حالة تخوف كبيرة من تكرار السيناريوهات السابقة في القصف والتهجير لأهالي المنطقة مرة جديدة.

وردت فصائل المعارضة و«هيئة تحرير الشام»، على الغارات الروسية الجديدة بقصف مباشر براجمات الصواريخ، استهدف مقراً قيادياً لعمليات قوات النظام السوري، في منطقة الجب الأحمر بريف اللاذقية الشرقي، ما أسفر عن وقوع إصابات في صفوف الأخيرة، وفق ما أفادت به مواقع تابعة للفصائل. مراقبون ربطوا بين «ما جرى في الاجتماع الرباعي لوزراء الدفاع في كل من سوريا وروسيا وإيران وتركيا، في موسكو 26 أبريل (نيسان)، وجرى فيه بحث موضوع انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، وكذلك تطبيق الاتفاق الخاص بالطريق الدولي المعروف باسم طريق M4»، وبين الغارات الجوية الروسية الجديدة التي غابت عن المشهد العسكري لعدة شهور سابقة، على أنها قد تكون مقدمة لعملية عسكرية محتملة مشتركة بين قوات النظام السوري والطيران الروسي، تهدف من خلالها إلى التقدم والسيطرة على المناطق الواقعة جنوب الطريق وأبرزها جبل الزاوية ومنطقة الأربعين ومدينة أريحا، إضافة إلى القسم الشمالي من سهل الغاب.

التحدي الأكبر لروسيا في سوريا

عادت سوريا في الآونة الأخيرة لتكون محط اهتمام الإعلام العربي والدولي، ليس لوجود تطورات مهمة من شأنها أن تبعث الأمل في وضع حد لمأساة الشعب السوري وتعيد له طموحه في تحقيق أهدافه المنشودة في الحرية والكرامة والأمان والوئام، وإنما لكونها قضايا ذات طابع مثير مثل: ما يتردد عن وجود خلافات بين الرئيس بشار الأسد وابن خاله رجل الأعمال رامي مخلوف، والحملات الإعلامية المتبادلة بين موسكو ودمشق، فضلاً عما يشاع عن وجود مخطط مزعوم بين واشنطن وموسكو وأنقرة لاستبعاد الرئيس الأسد عن الحكم.
فبينما يذهب البعض إلى اعتبار تلك التطورات على أنها ذات طابع عارض أو عابر، ينظر إليها البعض الآخر كمؤشر على أن حكم الرئيس الأسد على مشارف نهايته، استناداً إلى أن إحداث أي تغيير سياسي في سوريا لا بد أن يمر عبر موسكو.
فبغض النظر عن صحة أي من هاتين وجهتي النظر، فمن المعروف أن موسكو حرصت - على الأقل على المستوى الرسمي - أن تنأى بنفسها عن الشأن الداخلي السوري.
ورغم أن التدخل العسكري الروسي - الذي جاء بناء على طلب الحكومة السورية - ساعد في الحفاظ على حكم بشار الأسد، فإن موسكو طالما حرصت بوسائل مختلفة على التأكيد أن الهدف من تدخلها هو إنقاذ سوريا من الإرهاب وليس إنقاذ نظام حكم في حد ذاته أو أشخاص بعينهم. ومع ذلك اعتبر البعض أن إنقاذ البلاد مرادف لإنقاذ النظام.
وفي هذا الإطار من المهم التنويه بأن الموقف الروسي - كما أفهمه - هو أنه طالما يوجد إرهاب يهدد الدولة في سوريا، فلا بد من الحفاظ على القائد الأعلى للقوات المسلحة الذي هو رئيس الجمهورية بشار الأسد. والمنطق في ذلك أن هذا شرط أساسي للحفاظ على تماسك وصمود القوات المسلحة السورية، باعتبار أن أي خلل في تراتبية القيادة العسكرية خاصة في الظروف الحالية الاستثنائية سيؤدي إلى تفكك الجيش بالكامل، ومن ثم انهيار الدولة بأسرها.
أما الآن ورغم الانحسار النسبي للإرهاب في معظم أرجاء سوريا، فما زال للجماعات الإرهابية موطن قدم في محافظة إدلب. ولذلك فإن التركيز في المرحلة الراهنة على مكافحة الإرهاب منصب على محافظة إدلب. أما مواجهة «داعش» في الصحراء السورية فيبدو أنها قضية مؤجلة إلى مرحلة لاحقة.
فرغم أن عملية آستانة وما تمخض عنها من إقامة منطقة لخفض التصعيد في إدلب بالإضافة إلى الاتفاقات الثنائية المبرمة بين روسيا وتركيا والتي تعاملت كذلك مع الوضع في إدلب، فما زالت «جبهة النصرة» الإرهابية وحلفاؤها منتشرة ونشطة في تلك المحافظة بحيث دعمت من سيطرتها على مختلف جماعات المعارضة المسلحة الأخرى. وهنا تجدر الإشارة إلى أن التحدي المستمر الذي واجه الولايات المتحدة من قبل ويواجه تركيا الآن يتمثل في كيفية الفصل بين جماعة «جبهة النصرة» وحلفائها من جهة والجماعات المسلحة الأخرى من جهة أخرى.
وبالعودة إلى التدخل العسكري الروسي في سوريا، فمن المعروف أنه حظي في بدايته على تأييد واسع من قبل الشعب الروسي من منطلق أنه ينقل الحرب ضد الإرهاب إلى خارج الأراضي الروسية. وهنا يجب إلا يفوتنا التنويه إلى أنه في ذروة القتال المحتدم في سوريا، كانت التقديرات تشير إلى وجود عدد يتراوح بين عشرة وعشرين ألفاً من المقاتلين الروس ومن جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة الذين شكلوا أفضل العناصر المقاتلة بالنظر إلى الخبرات التي اكتسبوها في الشيشان، وآسيا الوسطى، والبلقان.
والآن، وبعد أن ضمنت روسيا وجودها الطويل الأمد في سوريا، ومنعت انهيار الدولة في سوريا وبذلك دعمت من موقفها على الساحة الدولية، يبقى أمام الرئيس بوتين أن يعلن أنه تمكن من إزالة تهديد مصدر الإرهاب في سوريا، حتى يستطيع الإعلان أنه حقق كافة أهدافه من التدخل في سوريا. ولا شك أن مثل هذا الإعلان سيسهم في استعادة الرئيس بوتين ولو لجزء من الشعبية التي فقدها مؤخراً لعدة أسباب ربما يكون من بينها انخفاض التأييد داخلي في روسيا للتدخل العسكري في سوريا.
وقد يكون إعادة فتح الطريق السريع الاستراتيجي «M4» الذي يربط مدينة حلب بمدينة اللاذقية الساحلية - وفقاً للاتفاق الروسي - التركي المبرم في مارس (آذار) الماضي - هو الإنجاز المطلوب تحقيقه، خاصة أن مثل هذا الأمر يتطلب إخراج مقاتلي بلدان آسيا الوسطى خارج بلدة «جسر الشغور» والمرتفعات المحيطة بها التي كانت على الدوام مصدر تهديد لقاعدة حميميم الجوية الروسية.
فبعد تعثر، يبدو أن هناك تقدماً ملحوظاً أحرزته الدوريات العسكرية الروسية التركية - المشتركة على طريق «M4»، حيث وصلت يوم 20 مايو (أيار) الجاري إحدى الدوريات إلى ما وراء مدينة أريحا التي تبعد قرابة 35 كيلومتراً عن بلدة جسر الشغور. وبمجرد أن تتمكن تلك الدوريات من تأمين طريق «M4» بشكل كامل والمنطقة العازلة المحيطة به، يمكن أن تنتهي التهديدات الإرهابية لقاعدة حميميم، وتستأنف الحركة التجارية بين مدينة حلب وميناء اللاذقية، وهو أمر حيوي للاقتصاد السوري. كذلك فإن ذلك سيعني حصر وجود الجماعات الإرهابية في منطقة محدودة المساحة تقع على جانبي الحدود بين محافظة إدلب وتركيا، بما يمكن للقيادة الروسية عندئذ أن تضع المسؤولية الأساسية للقضاء على بقايا تلك الجماعات، وخاصة تلك التي تسبب تهديداً لروسيا على عاتق تركيا.
وفي هذه الحالة، لن يكون مستبعداً أن تعلن القيادة الروسية عن تحقيق كامل أهدافها العسكرية في سوريا، وبالتالي فسيكون المنتظر من موسكو أن تركز جهودها على تسريع إيقاع العملية السياسية المتعثرة.
فالقيادة الروسية تدرك تماماً أن النجاح الحقيقي في سوريا يكمن في تحويل إنجازاتها العسكرية إلى مكاسب سياسية ملموسة تضمن مصالحها في الأمد الطويل، الأمر الذي يتطلب تحقيق التسوية السياسية من خلال التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن الدولي 2254 - الذي طالما تفتخر على أنه نتاج مبادرة مشتركة مع الولايات المتحدة - بدءاً بإنجاز الإصلاح الدستوري - الذي هو في الأساس فكرة روسية - ثم انتخابات حرة يشارك فيها كل السوريين.
ولذلك فسيكون على روسيا تكثيف جهودها في دفع دمشق للانخراط بشكل أكثر جدية في أعمال اللجنة الدستورية بشكل خاص والتعاون في تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254 بشكل عام.
هنا لا شك أن موسكو ستتطلع إلى قيادة سورية متعاونة.
وفي هذه الحالة ستتحول كافة الأنظار إلى مراقبة كيفية تعامل الرئيس الأسد في التنفيذ الكامل للقرار 2254. وكذلك إلى ردود فعل المقابلة للقيادة الروسية. ربما يُقدر لتلك اللحظة أن تكون من اللحظات الحاسمة ليس في مستقبل سوريا فحسب، وإنما فيما يخص مصداقية روسيا على الصعيد الدولي.
أما فيما يخص موقف روسيا من مساندة الحكومة السورية على استعادة كافة أراضيها، فإن موسكو ستضعه كهدف يتم تحقيقه في المستقبل من خلال القيام بوساطة بين دمشق وأنقرة من أجل التوصل إلى حزمة متكاملة مستوحاة من اتفاقية أضنة لعام 1998 تتضمن: استقرار الحدود السورية - التركية المشتركة، حل القضية الكردية في سوريا، فضلاً عن مستقبل العلاقات السورية – التركية، وهو الأمر الذي إذا قُدر له النجاح سيكون من شأنه تعزيز موقف موسكو في منطقة الشرق الأوسط.
ختاماً من الأهمية التنويه إلى أن نجاح روسيا في تنفيذ سياساتها في سوريا يعتمد إلى حدٍ بعيد على كيفية إدارة علاقاتها ليس فحسب مع تركيا والولايات المتحدة، وإنما كذلك مع إيران.

مجدَّداً... ماذا تريد روسيا في سوريا؟

استبق سيرغي لافروف، وزير خارجية روسيا ووجه دبلوماسيتها المتجهّم، الاجتماع الثلاثي المقرّر غداً (الاثنين) في تركيا حول مصير شمال غربي سوريا.
لقد تعجّل لافروف «طمأنة» الذين يرون رأيه أن «الحرب في سوريا انتهت» وأن «الدولة (السورية، كما أظنه يقصد) تعود بشكل تدريجي إلى الحياة الطبيعية السلمية (!!)...». وأحسب أن هذا الموقف من الوزير الروسي، وممن يمثله، أكثر من طبيعي إذا رصدنا حسابات موسكو في سوريا، والفكر السياسي الذي يجسّده الكرملين في عهد فلاديمير بوتين. ثم نظرة هذا العهد لمسائل كالديمقراطية وحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير المصير... وصولاً إلى كيف يفكر بوتين وأتباعه بالإسلام والمسلمين والعرب والاعتبارات الجيوسياسية في الشرق الأوسط.
ولنبدأ الرحلة من النهاية... من الاعتبارات الجيو سياسية الشرق الأوسطية.
شكَّل الشرقان الأدنى والأوسط مسألة مهمة لروسيا القيصرية قبل قرون بعيدة، لسبيين أساسيين؛ الأول، الكنيسة الروسية الشرقية والحجّاج الروس إلى الديار المقدسة... في فلسطين. والثاني، التعايش التاريخي الصعب للشعب الروسي مع الإسلام كدين وككتلة بشرية كبيرة تغطي معظم جنوب الوطن الروسي الكبير.
وبالتالي، مثلما تقدَّم الإسلام في بلاد ما وراء النهر (تركستان) وجبال القوقاز وحوض الفولغا، وزار أحمد بن فضلان موفداً من الخليفة العباسي المقتدر بالله بلاد الروس (بلاد روس والصَّقالبة) خلال القرن الميلادي العاشر، زار عدد من الحجّاج الرّحالة والدبلوماسيين والمستشرقين الروس الشرق الأدنى لعل أشهرهم الراهب الروسي دانييل (مطلع القرن 12)، وبوسلاييف وبازيلي وبتكوفيتش في القرون اللاحقة. كذلك فتحت روسيا - التي دخلتها المسيحية خلال القرن العاشر الميلادي - مدارس «مسكوبية» (نسبة إلى موسكبا، أي موسكو) في بلاد الشام، من شمال سوريا إلى جبل لبنان وفلسطين. وشهد عهد القيصر بطرس الأكبر تأسيس جيل المستعربين والمستشرقين الروس. ومن ثم تطوّر الاهتمام الروسي بالدراسات الشرقية عبر إرسال البعثات، وتوّج خلال القرن 19 بافتتاح قسم لتعليم اللغة العربية في وزارة الخارجية الروسية عام 1823. ولاحقاً تأسيس الجمعية الشرقية عام 1886 في موسكو لتغدو مركزاً للاستشراق والمستشرقين.
الشعوب المسلمة كانت، وما زالت، «حالة إشكالية» للطموح القيصري الروسي. ولئن كانت حرب الشيشان هي الأقرب إلى الأذهان اليوم، علينا تذكر أنه تعيش داخل جمهورية روسيا الاتحادية نفسها - بعد انفصال جمهوريات آسيا الوسطى وأذربيجان السوفياتية سابقاً - أقليات مسلمة كبيرة، تتركَّز في الجمهوريات القوقازية الذاتية الحكم كداغستان والشيشان وشركاسيا، وأيضاً في حوض الفولغا مثل تتارستان وباشكورتستان (بشكيريا). وحسب بعض المصادر، يتراوح تعداد المسلمين في روسيا بين 14 و20 مليون نسمة، أي بين 10 و14 في المائة من مجموع السكان. غير أن النمو السكاني السريع للمسلمين قد يعني ارتفاع النسبة إلى 30 في المائة من السكان في غضون 15 سنة، وفق تقديرات رسمية.
وتبلوَر وتحوَّر التعامل الروسي الإشكالي مع العالم الإسلامي، لكنه لم يتوقف أو ينتهِ. وكما كانت الذريعة «القيصرية» كافية للقهر والتوسّع من أجل حماية الإمبراطورية... حملت الحقبة السوفياتية مبرّراً آيديولوجياً مختلفاً من حيث الطبيعة، وإن كان مشابهاً من حيث النتيجة التناقضية الصدامية.
اليوم، نعيش حقبة «قيصرية» الطموح... تتجدَّد في ذاكرة جيل «سوفياتي» الأجهزة والحنين. جيل يؤمن بحق روسيا المطلق في أن تكون قوة عالمية عظمى، ولكن هذه المرة من دون بيع أوهام آيديولوجية عن الإنسانية والتحرّر والمساواة والعداء للإمبريالية.
روسيا الجديدة القديمة تؤمن بالتقاسم، فإن لم تره منصفاً... تلجأ إلى التفجير. ولعلَّها فعلت، في أوكرانيا وداخل ديمقراطيات أوروبا، وغير أوروبا! أما في سوريا، فمنذ 15 مارس (آذار) 2011، رفضت موسكو الاعتراف بوجود انتفاضة شعبية ضد نظام أمني قاسٍ وطائفي تسلّط على السوريين لأكثر من أربعة عقود، وأصرَّت على دعم النظام حتى عندما مارس أقسى تدابير القمع المسلح للمدنيين.
لفترة ما، أحسن بعض المراقبين الظن بنيَّات موسكو - رغم «فيتوهاتها» المتكرِّرة في الأمم المتحدة دعماً للقمع النظامي - فحاولوا إيجاد أعذار لها بعد استثنائها من «كعكة» ليبيا، وقبل ذلك إخراجها من العراق. وساعد على ذلك، كلام لافروف ومساعديه عن «رفض التدخل الأجنبي» والتفاهم على «التصدِّي للإرهاب».
غير أن حقيقة نيَّات موسكو أخذت تتكشَّف بمرور الزمن، وتبدّل أشكال التدخّل والتآمر على الشعب، وإشاحة واشنطن ببصرها بعيداً عن معاناة السوريين.
وبعد «رفض التدخل الأجنبي»، بنت موسكو الجسر التسليحي الجوي، ثم نشَّطت قاعدة حميميم. ومع إسقاط «مسار جنيف» سُحبت أنقرة من معسكر تأييد الانتفاضة السورية وضُّمَّت إلى «مسار آستانة» الانقلابي على «جنيف». ثم ذهبت موسكو أبعد، بالمشاركة الفعلية في المعارك، وتجاوز «آستانة» بإطلاقها «آلية سوتشي». واليوم، تتعامل موسكو وآلتها العسكرية مع سوريا كمحميَّة وورقة ضغط وابتزاز لواشنطن في الموضوع الإيراني.
بالأمس، أقرَّ لافروف خلال مقابلته مع صحيفة «ترود» عن «انتهاء الحرب» في سوريا، بأنه «ما زالت هناك بؤر توتر» خارج سيطرة النظام، أي سيطرتي موسكو وطهران، خصوصاً شرق نهر الفرات. لكن لا يبدو أن هذا الأمر يثير قلق الكرملين، الذي يريحه إحراق واشنطن أصابعها في مناطق متنازع عليها كردياً وتركياً وإيرانياً... طبعاً وسط غياب عربي شبه كامل.
كما نعرف، دفع تحمّس الأميركيين لاحتضان انفصاليي الأكراد أنقرة دفعاً إلى أحضان بوتين. وبالتالي، لا يزعج موسكو أن تغرق واشنطن أكثر في منطقة شرق الفرات. أما في الجنوب، فإن موسكو باتت «العروسة» التي يخطب ودَّها الجميع من أجل ضبط الجنوب السوري، في موسم مزايدات الانتخابات الإسرائيلية والتصعيد الابتزازي الإيراني.
الروس، ملمّون بمخطّطات التوطين الإيرانية في الجنوب السوري، وبحرج الديموغرافيا والجغرافيا هناك بعد ما أنجزوه من تهجير طائفي ممنهج على امتداد سوريا. وهم يفهمون، أيضاً، أن كلاً من تل أبيب وطهران تلعبان لعبة شفير الهاوية في رسم خطوط «التعايش» و«المساكنة» بينهما على أرض سوريا المحتلة المقسَّمة.
وهكذا، قد يكون حسم مصير إدلب الخطوة الأخيرة ضد «السنّية المسلحة»، لكنها ليست بالضرورة خاتمة لما تريده موسكو في سوريا المحتلة... المقسّمة.