سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

أدب الأذن البشرية

كل شيء في الدنيا صحافة. لأن الصحافة في نهاية المطاف، مشاهدة. بعضها ينقلها إلى الورق، وبعضًا إلى الصورة، والبعض الآخر يطويها في ذاكرته في انتظار يوم آخر، ومشهد آخر. الذين أدركوا سرّ اللعبة، قرروا أنهم صحافيون، لا مجرد مشاهد عابر يحيل كل شيء للذاكرة. منهم من أوصله الخيار، أو القرار، إلى نوبل الآداب. أشهرهم غابرييل غارسيا ماركيز. أو أرنست همنغواي. ومنهم من دخل النعمة الأدبية من دون نوبل، مثل رزيارد كابوشنسكي.
سفتلانا أليكسفيتش، البلاروسية، التي حازت نوبل العام الماضي، لم تطرح الأسئلة كما يفعل الصحافيون، وجعلت كل دورها وتفردها في شيء واحد: «الإصغاء». وقالت في خطاب القبول: «كان (غوستاف) فلوبير يقول إنه قلم إنساني. وأنا أقول إنني إذن إنسانية. عندما أمرّ في الشارع وأتسقط الكلمات والجمل وعلامات التعجب، أقول في نفسي كم رواية تضيع دون أثر وتختفي في الظلام. إننا لم نقبض بعد على الجانب الحواري من الأدب. لا نقدّره ولا نفرح به. أما أنا فيبهرني ويأسرني. إنني أحب كيف يتحدث البشر».
كانت سفتلانا تحمل مسجلتها وتفتحها وتترك أبطالها يتحدثون، كما فعلت في كتابها «أصوات من تشرنوبيل» 1997، الذي عاد عليها بالجائزة. تحدث المصابون بالإشعاع النووي المتسرب من تشرنوبيل (1986) عن محنتهم. فإن التسرب لوث 23 في المائة من بيلاروسيا المجاورة. وبعدما كانت هناك 82 إصابة بالسرطان من بين كل مائة ألف نسمة ارتفعت النسبة إلى ستة آلاف بين كل مائة ألف.
معظم الضحايا كانوا من الذين رفضوا إخلاء المناطق الملوثة وأخذ الخطر جديًا. وكانوا يقولون، لقد عشنا حربًا كبرى ولم يحدث شيء. لكنهم لم يكونوا يعرفون مدى وقوع هذا الخطر الجديد الذي لم يكن موجودًا في الحرب العالمية الثانية.
ساهمت كارثة تشرنوبيل في انهيار الاتحاد السوفياتي بعد ثلاث سنوات. تساقطت خرافة الحصن من الداخل، كما تقول سفتلانا: «تفجرت أشياء كثيرة أيضًا». ومن ثم بدأ الانهيار في أفغانستان، وكالعادة حملت سفتلانا مسجلتها وأخذت تصغي إلى الجنود العائدين. ثم تذهب نوبل «للأذن البشرية».