سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

بطاقة بريدية من باناما

الصحافي شاهد مرغم على زمنه. القارئ له حق الخيار فيما يهمه وما لا يعنيه، أما العامل في هذه الشؤون، محررًا أو مراسلاً أو كاتبًا، فلا يعود يعرف إن كان هو يلاحق الأحداث أم هي من يلاحقه.
مبكرًا جدًا يتعلم الصحافي أن لا مفاجآت في هذا العالم. لا أستطيع أن أعدد شيئًا من الأحداث التي رنّت من أجلها أجراس وكالات الأنباء. تقريبًا كل يوم. انتحار مارلين مونرو، ومقتل جون كيندي، ووفاة جمال عبد الناصر في الخمسين من العمر، ووصول مارغريت ثاتشر إلى داوننغ ستريت، ومقتل ديانا، وسقوط شيء هائل يدعى الاتحاد السوفياتي، وحرب 1967، وسقوط شاه إيران، وسقوط ديغول، وسقوط ثاتشر، ووصول رونالد ريغان إلى رئاسة أميركا.
لا شيء يدعى مفاجأة في حركة العالم. عندما وصل ريتشارد نيكسون إلى بكين مع هنري كيسنجر، كان الأمر أصعب تصديقًا من وصول باراك حسين أوباما إلى البيت الأبيض. بل كان لقاء نيكسون وماو تسي تونغ أصعب تصديقًا من أي استحالة أخرى. كان أسهل علينا يومها أن نصدق بدء زراعة القلوب في جنوب أفريقيا، وأنها ستصبح في سهولة زرع القرنفل في هولندا.
قبل لقاء نيكسون وماو، كنا نقرأ كل يوم بلا انقطاع، عن «نمر الورق الأميركي» وعن دفن الرأسمالية في مزبلة التاريخ، فإذا «المفاجئ» أن الصين الشعبية صارت أغنى دولة رأسمالية من دون أن تغيّر الشارة على صدرها، أو أن تزيل ملصق ماو من ساحة السلام الدائم. ولا موسكو أزالت جثمان لينين من الساحة الحمراء. اليوم يلتقي في باناما رئيس الولايات المتحدة والرئيس راؤول كاسترو، القادم من هافانا. خمسون عاما من القطيعة والحصار وتبادل الإهانات والمؤامرات. وفجأة، مرحبًا أيها الصديق العزيز. واحترامًا للمظاهر، سوف يبقى فيدل كاسترو في كوبا يندد على «تويتر» بالإمبريالية الأميركية. كذلك، سوف يفعل المرشد الإيراني الأعلى، فيما تمضي طهران نحو ذوبان الجليد.
ثمة شيء مؤسف حقا، مؤسف في عالم المفاجآت، وهو أنها تحدث لصالح الشيطان الأكبر: في الصين وفي روسيا وبعد بضعة أسابيع سوف نرى عدد الكوبيين المسافرين عبر البحر. الشيوعية في شكلها الماوي، والشيوعية في طبعتها البلشفية، والشيوعية في قلعتها الأخيرة قبالة الساحل الأميركي، والمقر الصيفي للرؤساء الذين أخفقوا، واحدًا تلو الآخر، في إزاحة فيدل كاسترو.
تضيع العوام تحت إبهام الحكام. هل كان من الضروري نصف قرن من الضياع لكي يقر كاسترو بأنه لا يستطيع تغيير العالم؟ و60 مليون بشري لكي يدرك ماو أن الحلم الدموي لا يبقى منه سوى الدماء؟ ونصف قرن لكي يجرؤ رئيس أميركي أن يعرض على كوبا المصالحة؟ لا مفاجأة في باناما. الأميركيون والكوبيون يتصالحون، فيما الحوثيون يقاتلون اليمن. وموسكو تعرض على السوريين «أفكارًا ومنتدى». والصحافيون يفعلون ما فعلوه دائما: يفركون عيونهم، متوقعين غير مصدقين، تحولات أزمانهم.