هل ما زلنا مخلوقات حساسة؟

من المشاعر الناعمة إلى مشاعر الصدمة

عبادة المشاعر: المؤلف ميشال لاكروا - المترجم: د. أمين كنون  - الناشر: دار أفريقيا الشرق
عبادة المشاعر: المؤلف ميشال لاكروا - المترجم: د. أمين كنون - الناشر: دار أفريقيا الشرق
TT

هل ما زلنا مخلوقات حساسة؟

عبادة المشاعر: المؤلف ميشال لاكروا - المترجم: د. أمين كنون  - الناشر: دار أفريقيا الشرق
عبادة المشاعر: المؤلف ميشال لاكروا - المترجم: د. أمين كنون - الناشر: دار أفريقيا الشرق

أخرج الدكتور أمين كنون للوجود، ترجمة لكتاب بعنوان «عبادة المشاعر» لصاحبه ميشال لاكروا عن دار أفريقيا الشرق. وهو الكتاب الذي صدر باللغة الفرنسية عام 2001 عن دار فلاماريون: Flammarion. وفي الحقيقة، وإن وقع تأخر في الترجمة، فإن الكتاب ما زال يحافظ على راهنيته وكأنه كتب اليوم، وهو يعالج قضية مثيرة وهي عودة المشاعر في زمننا المعاصر وبشكل مسرف، لكن ليست أي مشاعر، بل مشاعر بعينها، إنها مشاعر «الصدمة»، التي تشعل الذات كنار تشتعل، لكن ما تلبث أن تنطفئ، ليعاود المرء البحث عن أحاسيس أخرى هائجة مائجة، وذلك عبر دورة لا تنتهي. وطبعا هذه المشاعر الخاطفة التي أصبحت تغزو الإنسان المعاصر تختلف عن المشاعر الهادئة والناعمة ذات الصبغة التأملية. فلنقف عند بعض تفاصيل هذا الكتاب.
من المعروف أنه ومنذ الزمن الحديث والبشرية تتجه صوب العقلنة المفرطة، التي جعلت الحياة تأخذ طابعا تقنيا مهولا، فكل شيء أصبح بحساب؛ فالترتيب والدقة والصرامة تغزو جميع قطاعات الحياة، والإنسان أصبح وكأنه ترس في آلة كبرى، إنه كالأصم والأبكم، فهو مجرد رقم وكفى؛ إذ تعد المردودية فوق كل الاعتبارات، أما الحديث عن الأحاسيس والمشاعر، فكلام لا يمكن قياسه، ومن ثم فهي مضيعة للوقت، وتعطيل للمنجزات الحقيقية للإنسانية. وهو ما جعل صاحب الكتاب (ميشال لاكروا) يطرح السؤال التالي: «هل ما زلنا مخلوقات حساسة في ظل هيمنة الرياضيات والتقنية والربح والتنظيم؟».
يجيب لاكروا، إنه وإن كانت ملامح الزمن الحديث قد أخذت هذا الشكل، من تبجيل العقل الأداتي، الحسابي على حساب العواطف والمشاعر، فإن زماننا يعرف عودة جارفة للمشاعر في كل المجالات، وهنا يعطي بعض الأمثلة، نذكر بعضها:
يبدأ ميشال لاكروا بالإشهار الذي أصبح يستغل المشاعر وسيلة ناجعة مشجعة على البيع، وهنا يذكر بعض ما كانت تعلنه بعض الماركات العالمية من شعارات تثير العواطف من قبيل تلك العبارة التي روّجتها إحدى شركات السيارات، وهي: «ما زال من الممكن الانبهار في عصرنا الحالي»، وكذلك فعلت إحدى شركات سباق الخيول التي أطلقت حملة دعائية بعنوان: «العبوا بمشاعركم»، وهي العبارة التي تجعل الربح النقدي من المسابقة دون أهمية بالمقارنة باهتزاز المشاعر والارتعاش والأمل والخيبة، وكل المخاض النفسي الذي سيحس به المتنافس وهو يترقب وصول حصانه الذي يراهن عليه أو تعثره. والأمر نفسه فعلته إحدى ماركات الملابس ذائعة الصيت حينما عبرت عن بعض منتجاتها الجديدة بعبارة: «موجة من المشاعر الجديدة». أو نجد عبارات أخرى كـ«الطريق إلى جميع الأحاسيس».
إذن، لقد أصبحت في زماننا المشاعر تستغل وبقوة، والعجيب أن المشاعر التي يبحث عنها ذات صبغة صناعية بالأساس: السيارات، الأسفار المنظمة، النشاطات مسبقة التخطيط، الخيال، الإنترنت، ألعاب الفيديو.. وهو الأمر الذي جعل ميشال لاكروا يعلن أنه لا ينبغي الفرح كثيرا بهذه العودة الجامحة للمشاعر إلى مشهد وجودنا بعد طول كبت ومحاصرة لها باسم العقل؛ لأنها عودة مصحوبة بتحريف غادر؛ فالعواطف تتعرض للإفساد وإساءة الاستخدام.
والكتاب على طول صفحاته يستمر في ذكر الأمثلة التي تبرز طغيان المشاعر الخاطفة التي تهز الأنفاس، ودائما بغرض الربح والمردودية، لا السعادة والتأمل الدافئ الهادئ؛ فالصناعة السينمائية هي أيضا بدورها أصبحت تصاغ صياغة مفعمة بالمشاعر تجعل المتفرج يرتعش للخطر، أو يضحك بهستيريا، يحزن، يبتهج، يرتعد... فصناع السينما وكتاب السيناريو يصنعون من المشاهد؛ ما يجعل عواطف المتفرج تهتز في كل الاتجاهات وأنفاسه تقبض وترتخي... وذلك في مدة لا تتجاوز أحيانا الساعتين.
إنه الأمر نفسه، يقال عن بعض الرياضات؛ فهي تخدم المشاعر بامتياز، فالكثير منها أصبح يأخذ طابع المغامرة كالانزلاق، السير بسرعة بفضل ألواح التزلج والدراجات الصغيرة، والتزحلق على الأمواج، وتسلق الجبال والسير على الحبال في أماكن شاهقة، أو رمي الذات من مكان عال... إنها رياضات تخلق أحاسيس متضخمة، وتعطي للإنسان شعورا وكأنه يندمج مع الكون. أما مشاعر الرومانسية أو مشاعر الحب العميقة الناعمة فهي لم تعد تغري جيل زماننا؛ فهو أصبح يبحث عن الإثارة الفائقة ذات المفعول السريع الذي ينسف الكيان دفعة واحدة، ويرفع الذات إلى السماء وينزلها الأرض في آن واحد، فلا مجال للهدوء؛ فالتوجه كله أصبح نحو الحياة الصاخبة.
يقول ميشال لا كروا: إن المؤرخين حينما سيشرعون في التأريخ لحقبتنا، فإنهم سيكتشفون أنها حقبة طغيان المشاعر، فحتى الحركة البيئية العالمية التي تنتشر في العالم منادية الإنسان بتحمل مسؤولياته في ضياع كوكبنا الأزرق، تغذي مشروعها بالمشاعر، فمثلا، تنشر فكرة الخوف من كارثة مستقبلية، وتلح على ضرورة العودة إلى تلك العلاقة الحميمية والساحرة المفقودة التي كانت تربط الإنسان بالطبيعة إلى حد القداسة، بل نجد أن العالم يعرف نوعا من العودة إلى الارتماء في أحضان الأديان طلبا لتلك القداسة التي تم سحقها في الزمن الحديث؛ فالرغبة في الدخول إلى عوالم سحرية مليئة بالخشوع الزائد والمؤدية إلى حالات الوجد والإلهام والجذب أو بالتعبير الفرنسي «الترانس». ولا ننسى ظاهرة الجمعيات المنتشرة، التي ما هي في الحقيقة سوى بحث عن الانتماء القبلي والعرقي والقومي... المفقود، وإرادة في البحث عن دفء العلاقات الضائع، فالجمعيات تؤطرها كثافة عاطفية عالية.
لقد حاول لاكروا وصف الكثير من مظاهر عودة المشاعر، ليبرز لنا أنها ثروة وخطر في الآن نفسه، ثروة لأنها تمتص المبالغة في العقلانية وتخفف من وطأتها، وخطر لأنها أصبحت تستغل في البيع من جهة، ومن جهة أخرى لأن الإنسان المعاصر، لم يعد يبحث إلا عن الإهاجة القصوى والهزات الهستيرية وعن العواطف الصاعقة والصادمة، أما البحث عن مشاعر التأمل والخشوع، فهذا أمر مستبعد تماما. وفي هذا الصدد، يضرب لاكروا مثالا حصل في إحدى الثانويات العريقة بفرنسا؛ إذ قرر أحد الأساتذة إنشاء ناد للشعر، ومن ضمن 1500 مراهق لم ينخرط سوى ثلاثة. وهو ما يؤكد أن المشاعر البناءة العميقة أصبحت تخلي مكانها لمشاعر الشراهة، أو لنقل بتعبير لاكروا إن «الإنسان المعاصر أصبح يؤثِر مشاعر الصدمة، وهي مشاعر الصياح، على مشاعر التأمل، وهي مشاعر التنهد».



«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس
TT

«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس

يطيح «كتاب وخنجر: هكذا أصبح الأكاديميون وأمناء المكتبات الجواسيس غير المتوقعين في الحرب العالمية الثانية» للباحثة الأميركية إليز غراهام بالنموذج التقليدي الذي غلب على أذهان الجمهور حول شخصيّة الجاسوس عميل الاستخبارات، والتي تكرّست عبر مئات الروايات والأفلام السينمائيّة والمسلسلات التلفزيونيّة على مثال «جيمس بوند» - بطل روايات الكاتب البريطاني إيان فلمنغ - فيقدّم من خلال سيرة أربع من عملاء مكتب الخدمات الاستراتيجية (OSS) - كان نواة تأسيس وكالة الاستخبارات الأميركيّة لاحقاً - الذين لم يأتوا من خلفيات أمنية أو عسكريّة، ولا حتى من أقسام الفيزياء والتكنولوجيا بالجامعات الأميركية والبريطانية المرموقة - كما كان الحال في مشروع مانهاتن لإنتاج القنبلة النووية، بل من أقسام الأكاديمية النظريّة في الأنثروبولوجيا والتاريخ واللغات، فكأنما تضع «أقل الناس لمعاناً في العالم، في المهنة الأكثر بريقاً في العالم»، على حد تعبير المؤلفة.

تعود بدايات هذه العلاقة غير المتوقعة بين العلوم النظريّة ووكالات الجاسوسية إلى أيّام الحرب العالميّة الثانية، التي دخلتها الولايات المتحدة دون جهاز استخبارات مدني كما كان الحال في بعض أمم أوروبا - تأسس جهاز الاستخبارات البريطاني في عام 1909 – إذ اعتمدت دائماً لجمع المعلومات الاستراتيجية والحساسة من العالم على جهاز الاستخبارات العسكرية التابع للجيش الأميركي.

على أن الحاجة إلى نهج جديد يوسع دائرة جمع المعلومات لما وراء الإطار العسكري بدت ماسة بعد اندلاع الحرب على البر الأوروبي في 1939 مع غزو ألمانيا لبولندا، فعمد الرئيس فرانكلين روزفلت إلى تكليف المحامي البارز ويليام دونوفان بتأسيس ما سمي وقتها بمكتب الخدمات الاستراتيجية الذي استمر في نشاطه عامين بعد انتهاء الحرب عام 1945 ليخلفه في مهماته وكالة الاستخبارات المركزية من 1947 والتي تعد اليوم أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم على الإطلاق.

غلاف الكتاب

وتقول غراهام إنّ تصور دونوفان عن جهاز مدني للاستخبارات تمحور حول بناء منظومة لجمع كميات هائلة من البيانات وتحليلها للوصول إلى استنتاجات ذات فائدة، مما يحتاج إلى مهارات احترافيّة في التعامل مع المعلومات والأرشيف إلى جانب أساسيات العمل الميداني، ولذلك استقصد البحث عن مهنيين متخصصين من عالم الأكاديميا والسعي لتجنيدهم كعملاء.

كان أساتذة الجامعات وأمناء المكتبات وخبراء الأرشيف منجماً غنياً للمواهب التي يمكن أن تلعب دور الجاسوس المفترض ببراعة: أذكياء ويمكنهم التعلّم بسرعة، يحسنون التعامل مع المعلومات، ومعتادون على العمل المضني، ويتسمون عادة بالتحفظ في سلوكياتهم، مما يسهل ذوبانهم في الأجواء من حولهم دون لفت الانتباه، ومنهم بنى دونوفان أول شبكة تجسس أميركيّة محترفة في الفضاء المدنيّ.

تتبع غراهام في «كتاب وخنجر» دونوفان بينما يتصيد هذه المواهب في أروقة الكليّات النظريّة للجامعات الأميركيّة، وتضئ على قصص أربع منهم ممن تم تجنيدهم بأسلوب أدبي رفيع يمزج بين حقائق التاريخ ورومانسيّة الدراما، لتكون الولادة الأولى للجهد الاستخباراتي الأميركي في أجواء من الرّفوف المديدة من الكتب ورائحة الورق، وصناديق الوثائق والبحث عن معلومة في كومة من البيانات بعيداً عن الأنظار بدلاً من الصورة التلفزيونية لمطاردات العميل رقم 007 بالسيارات الرياضيّة الفارهة، والقفز من الطائرات، وترك المغلّفات للعملاء في نقاط الالتقاط. وبالنسبة للمؤلفة فإن كتابها بمثابة تذكّر لهؤلاء الكوادر الذين ساعدوا الولايات المتحدة على كسب الحرب، وتالياً مد مظلّة الهيمنة الأميركيّة على العالم لعقود.

الشخصيّات الأربعة التي اختارتها غراهام لسرد هذه المرحلة كانوا لدى تجنيدهم قد سلكوا في حياتهم خطوطاً مهنيّة أكاديمية في عدد من جامعات النخبة عندما تحدث إليهم موظفون فيدراليون لطلب مساعدتهم في المجهود الحربيّ. جوزيف كيرتس كان يدرّس اللغة الإنجليزية في جامعة ييل، وأديل كيبري أستاذة تاريخ العصور الوسطى في جامعة شيكاغو والخبيرة بعبور الأرشيفات وأقسام المحفوظات، وكارلتون كون أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة هارفارد، وأيضاً شيرمان كينت الباحث الملحق بقسم التاريخ في جامعة ييل.

تلقى المجندون الأكاديميون الجدد تدريبات مكثّفة على أساليب الخداع، ومراوغة المطاردين وطرائق التشفير وأساسيات القتال الفردي، ويبدو أنهم لم يجدوا صعوبة في التقاط هذه المهارات الجديدة، لكن الجزء الأصعب كما لاحظ مدربوهم كان تعليمهم نسيان خلفيّة اللياقة والتهذيب التي قد تمنعهم من ضرب الخصم تحت الحزام أو استغلال نقاط ضعفه.

أرسل بعدها كيرتس وكيبري تحت غطاء مهمّة أكاديمية لشراء الكتب من دور النشر المحليّة. كيرتس إلى إسطنبول - التي كانت تمور بالجواسيس من كل الدّول - وكيبري إلى استوكهولم - للبحث في مكتبات دولة محايدة عن مواد ألمانية قد تكون ممنوعة من التوزيع في مناطق أخرى من أوروبا: مثل الصحف والمجلات، والصّور، والخرائط.

أكوام المواد الأوليّة التي جمعتها كيبري كانت بحاجة إلى تنظيم وتحليل، وتلك كانت مهمة أوكلت لكينيث، الذي قاد فريقاً من المحللين تولى مثلاً تحديد مواقع المطارات ونقاط توزيع الكهرباء ومحطات السكك الحديدية ومكاتب التلغراف على امتداد الأراضي الفرنسيّة للعمل على منع قوات الاحتلال النازي من الانتفاع بها، وفي الوقت ذاته تحديد مبانٍ ومساحات قد يتسنى للحلفاء الاستفادة منها عند الحاجة لإنشاء مستشفيات ميدانيّة ونقاط ارتكاز.

وتقول غراهام إن فريق كينت نجح مستفيداً من الخرائط السياحيّة وأدلة الأعمال التي أرسلتها كيبري في تحديد مواقع معامل تنتج مكونات أساسيّة لصناعة أسلحة المحور والتي استهدفها الحلفاء بالتخريب بشكل ممنهج. أما كون فيبدو أنّه لم يكن مفيداً كثيراً خلال فترة الحرب، وكانت أفضل فكرة له كما تقول غراهام هي إخفاء العبوات الناسفة في أكوام الفضلات التي تتركها البغال على جوانب الطرق.

عاد هؤلاء الأكاديميون إلى جامعاتهم بعدما وضعت الحرب أوزارها: كيرتس استعاد وظيفته أستاذاً في جامعة ييل، واستأنفت كيبري عملها في عبور المجموعات الأرشيفية المغلقة التي تحتفظ بها الحكومات ومراكز البحث وجهات ذات حيثية مثل الفاتيكان. أما كينت فلم يعد يجد نفسه في عالم الأكاديميا، فالتحق بعد عدّة سنوات بوكالة الاستخبارات المركزية وأسس مجلتها البحثية الداخلية، «دراسات في الاستخبارات»، فيما تورط كون في نشر نظريات أنثروبولوجيّة ذات نفس عنصري ما لبثت أن فقدت قيمتها العلميّة خلال الخمسينيات فخسر سمعته وانتهى إلى الإهمال.

وتقول غراهام إن هذه البدايات المشجعة للتقاطع بين عالمي الكتاب والخنجر جعلت من مجموعة جامعات النخبة الأميركيّة - التي تسمى برابطة اللبلاب - بمثابة مزارع مفتوحة لاستقطاب المواهب المميزة إلى العمل الاستخباراتي، وهو الأمر الذي لا أحد ينكر أنه مستمر إلى الآن.