من التاريخ: سليمان «القانوني».. والنهضة العثمانية

السلطان سليمان «القانوني»
السلطان سليمان «القانوني»
TT

من التاريخ: سليمان «القانوني».. والنهضة العثمانية

السلطان سليمان «القانوني»
السلطان سليمان «القانوني»

قاد السلطان سليم الأول عملية توسيع رقعة الدولة العثمانية في مطلع القرن السادس عشر الميلادي بالتركيز على ضم المشرق العربي ومصر وأجزاء من الساحل الليبي إلى دولته، وقزّم دور الدولة الصفوية الفارسية، كما تابعنا في الأسبوع الماضي. أضف إلى ذلك إلى أنه منح الدولة العثمانية الشرعية المطلوبة، بجعلها مركزًا للخلافة الإسلامية بعدما قضى على دولة المماليك في مصر والشام، عقب ادعائه أن آخر الخلفاء العباسيين تنازل له عن الخلافة، وهو ما منح الدولة العثمانية منذ ذلك التاريخ شكلاً مختلفًا، خصوصًا مع حكم الإمارات والدويلات الإسلامية التي تساقطت الواحدة تلو الأخرى. كذلك منحت «الخلافة» الدولة الجديدة صبغة الشرعية المرتبطة بكون السلطان - حسب الادعاء المشار إليه - خليفة الرسول عليه الصلاة والسلام. ولكن على الرغم من كل التوسع والثراء الناتج عن فتوح سليم الأول، فإن البلاط العثماني كان يعاني بشدة من أسلوب حكمه القاسي العنيف. ومن ثم، كان تاريخ وفاته في عام 1520 لحظة تطلع لبدء عهد جديد على أيدي ابنه سليمان الذي لُقب في كتب التاريخ بسليمان «القانوني» و«العظيم»، وغيرهما من الألقاب. وحقًا يعد سليمان باعث النهضة العثمانية، والسلطان الذي أعطى الدولة رونقها وإرثها الثقافي والسياسي والقانوني على حد سواء.
لقد لعب سليمان دورًا محوريًا في مساندة والده سليم للانقلاب على السلطان بايزيد الثاني، عندما كان حاكمًا لإحدى الولايات الشرقية، الأمر الذي جعله مقربًا لوالده بشكل كبير، ومن ثم لم تمثل عملية انتقال السلطة بعد ممات الأخير مشكلة كما كانت مع السلاطين العثمانيين من قبله، كذلك استبشرت الدولة العثمانية خيرًا على يديه وخلال حكمه الذي طال 46 سنة.
كان سليمان، عندما خلف أباه، شابًا دون الخامسة والعشرين، كما كان ورعًا حافظًا للقرآن، شاعرًا بالفطرة، شديد الولع بالعلوم والفلسفة والتاريخ والدين، يتكلّم خمس لغات بطلاقة، مما أسهم في تعزيز رؤيته، بخلاف السلاطين السابقين، من خلال خلق التوازن بين الفتوحات والإصلاحات. كذلك كان مما ساعده أن الدولة التي ورثها عن أبيه كانت مستقرة سياسيًا، لا تعاني من المشكلات التقليدية للعثمانيين، إضافة إلى أنها كانت ثريّة بفضل الفتوحات الممتدة على مدار القرنين الماضيين. وبناءً عليه، فإن الظروف كانت بالفعل مهيأة لبداية النهضة التي لاقت هوى داخليًا عند السلطان الطموح.
بدأ سليمان حكمه الممتد بعفو عام، فأخرج المظلومين من السجون، ورسخ سياسة التسامح السياسي في الدولة الجديدة. ولكن عندما انتشرت الدسائس والثورات والاضطرابات، كان حازمًا حاسمًا في القضاء عليها حفاظًا على ملكه، ولم تأخذه شفقة بهؤلاء، خصوصًا مع فيالق «الإنكشارية» التي كثيرًا ما كانت تثور في وجه السلطان بما لديها من قوة. مع هذا، لم يؤثر هذا الحزم على توجهه العام، بوصفه مصلحًا سياسيًا واجتماعيًا، خصوصا أنه أمّن مستشاريه وحاشيته على غير طابع والده، مما أتاح له الفرصة كاملة للاستفادة منهم كثيرًا في تحقيق أهدافه. وهنا، كان داعمه الأساسي في هذا الإطار هو صديق عمره إبراهيم باشا الذي كان عبدًا مسيحيًا صادقه سليمان منذ الصبا، وجعله كبير مستشاريه، ثم رئيس وزرائه. وكان دور إبراهيم باشا بارزًا في المساعدة على بداية تنظيم أحوال الدولة العثمانية لقرون تالية، ولا سيما أن سليمان اهتم بترسيخ مبدأ التسامح مع الرعايا غير المسلمين الذي وضعه السلاطين من قبله.
وقد حاول سليمان زرع الولاء للدولة لدى هؤلاء الرعايا، بدلاً من إرهابهم، خصوصا في ظل توسعها الجغرافي العظيم حتى باتت تضم قرابة عشرين عرقية مختلفة، وما يقرب من 15 مليون نسمة (وهو رقم كبير للغاية في هذا الزمن). وهنا، حرص السلطان على منح الرعايا غير المسلمين حقوقًا إضافية واسعة، شملت ضمن أمور أخرى التصعيد السياسي والاجتماعي، وتخفيف الجزية ووضع سقف لها، ووضع القوانين لضمان نوع من الحقوق والواجبات للأقنان في الإقطاعيات، مما فتح المجال أمام هجرة واسعة لهم إلى الأراضي العثمانية، ليتمتعوا بهذه الحقوق التي ما كانوا يجدونها في النظام الإقطاعي الأوروبي المتصلب.
ضمان الحريات الدينية - ولكن ليس من خلال قوة القانون - كان في حقيقة الأمر سمة تميزت بها دولة العثمانيين منذ البداية، عندما كان هذا وسيلة لجذب الولاء، وأضحت سياسة شبه ثابتة حتى مقدم سليمان الذي وضعها رسميًا في مدونته القانونية. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن أوروبا كانت تمر في ذلك الوقت بثورة للإصلاح الديني، وصراعات حادة بين الكاثوليك والبروتستانت، حتى أن التسامح فيها كان منعدمًا إلى منتصف القرن السابع عشر. وبالتالي، وفرت الدولة العثمانية في ذلك الوقت مثالاً جذابًا ليس فقط للأوروبيين، ولكن للإنسانية ككل، خصوصا في عهد سليمان «القانوني» الذي استفاد كثيرًا من قوننة التسامح الديني، فكفل له هذا التسامح مركز جذب لكثيرين من القيادات الفكرية والدينية التي عانت من الاضطهاد في زمن صعب للغاية، خصوصا اليهود بعد طردهم من إسبانيا في 1492 مع المسلمين.
عطفًا على ما سبق، اهتم سليمان بوضع «مدوّنة القانون الجديد» للدولة، التي تضمنت توحيد القوانين العثمانية التي أصدرها السلاطين التسعة السابقون له. إذ وضع قانونًا موحدًا متسامحًا متوازنًا إلى حد كبير لكل الرعايا، بما ضمن استقرارًا اجتماعيًا واسع النطاق في البلاد دون المساس بتطبيق ملحوظ للشريعة، إضافة إلى قانون عقوبات متوازن، مع الإبقاء على تطبيق الحدود في مجالات محددة. كذلك اعتمد السلطان اللوائح الخاصة بالتنظيم الإداري للدولة، وطبّق نوعًا من اللامركزية في إدارة الحكم في البلاد، مما ساعد على مزيد من التوسع والحقوق للأقاليم المختلفة. وأخيرًا لا آخرًا، كان من أهم إنجازاته «قانون الضرائب العثماني» الذي خلق وحدة ضريبية في شتى أنحاء الدولة، وساعد على توسع رقعة التجارة والصناعة والزراعة.
وعلى الصعيد العلمي، أولى سليمان «القانوني» اهتمامًا خاصًا لإصلاح التعليم في الدولة العثمانية، كونه كان يدرك تمامًا قيمة العلم والعلماء في تطوير الدولة، ووضعها في مصاف الدول الكبرى. ولعل تربيته العلمية والأدبية كان لها دورها الكبير في هذا التوجه، وبالفعل اهتم بشكل خاص بمدارس العلماء التي كانت تحت إشراف الأوقاف، حيث اهتم بالمناهج والأفكار الجديدة، خصوصًا التسامح، كما أنشأ المدارس المجانية لتعليم الرعية، إضافة إلى تطوير مراكز التعليم ورفعها لمصاف الجامعات.
وفي مجال العمران والعمارة، كان سليمان مولعًا بالمعمار الذي أخذ من وقته الكثير، فلقد اهتم ببعث نهضة معمارية في البلاد لم تشهدها من قبل، ولم تقتصر فقط على مدينة إسطنبول، بل امتدت لبعض مدن الشام والقدس والعراق. واهتم أيضًا بتعليم المعمار والهندسة بصفة خاصة، وساعده على ذلك أشهر المعماريين المعروفين في ذلك العصر المعماري الشهير سنان (معمار سنان) الذي صمم وشيد أحد أكبر الجوامع والمباني في مدينة إسطنبول الأثرية.
لقد طال حكم سليمان «القانوني» حتى عام 1566، ومات في أثناء إحدى معاركه. ويذكر التاريخ أنه في سنواته الأخيرة لم يكن بالحماس والإقبال نفسه على الحياة، كما كان في بداية عهده. وأغلب الظن أنه مات وهو يعاني اكتئابًا حادًا للغاية في آخر عمره، بعد موت زوجته وحبيبته روكسلان، المرأة التي حررها من العبودية، وأحبها فتزوجها، فملكت حياته إلى حين وفاتها عام 1558 بعدما أنجبت له أربعة أمراء. غير أنها، في المقابل، كانت أيضًا سببًا مباشرًا في الدسائس السياسية المحيطة به بعدما حاولت توريث الحكم لأحد أبنائها، وهو ما خلق فتنة داخل عائلته. وبالتالي، فإن مصدر سعادته في بداية عهده صارت مصدر تعاسته واكتئابه. وبعد وفاة روكسلان، انزوى سليمان، وفضل الوحدة والانعزال والتعبّد، تاركًا جزءًا من شؤون الحكم في أيدي البلاط ورجالاته.
واليوم، لمن يزور إسطنبول لا بد أن يقف معجبًا بمعالمها المعمارية، ومن أبرزها جامع السليمانية الذي يعد الأيقونة الأثرية الكبرى لهذا الرجل العظيم الذي كان يمثل بحق الوجه الثقافي والإصلاحي والفكري للدولة العثمانية، بعدما كانت معظم إنجازات السلاطين العثمانيين من قبله مرتكزة على الفتوحات والتوسع السياسي.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».