اتفاق مصري ـ سوري على تكثيف قنوات الاتصال

شكري يجدّد الدعم للتسوية السياسية... والمقداد يأمل «مزيداً من التضامن العربي»

سامح شكري وفيصل المقداد خلال اجتماع ثنائي في القاهرة (وزارة الخارجية المصرية / رويترز)
سامح شكري وفيصل المقداد خلال اجتماع ثنائي في القاهرة (وزارة الخارجية المصرية / رويترز)
TT

اتفاق مصري ـ سوري على تكثيف قنوات الاتصال

سامح شكري وفيصل المقداد خلال اجتماع ثنائي في القاهرة (وزارة الخارجية المصرية / رويترز)
سامح شكري وفيصل المقداد خلال اجتماع ثنائي في القاهرة (وزارة الخارجية المصرية / رويترز)

اتفقت مصر وسوريا، أمس، على «تكثيف قنوات التواصل بين البلدين على مختلف الأصعدة خلال المرحلة المقبلة»، وذلك على هامش أول زيارة منذ أكثر من 10 سنوات يقوم بها وزير خارجية سوري إلى القاهرة.
وجدَّد سامح شكري وزير الخارجية المصري، تأكيده أن بلاده «تدعم تسوية شاملة للأزمة السورية»، في حين أعرب نظيره السوري فيصل المقداد، عن تطلع بلاده لأن تشهد المرحلة المقبلة «مزيداً من التضامن العربي مع سوريا كي تتمكَّن من تجاوز أزمتها، وتضطلع بدورها التاريخي الداعم لقضايا الأمة العربية».

تأتي زيارة المقداد للقاهرة بعد شهر تقريباً من زيارة شكري لدمشق، حيث التقى الرئيس السوري بشار الأسد، ونقل له رسالة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أكَّد فيها «تضامن» مصر مع سوريا بعد الزلزال المدمر الذي ضربها في 6 فبراير (شباط) الماضي. وقبلها أجرى السيسي اتصالاً هو الأول من نوعه مع نظيره السوري، بعد أيام من وقوع الزلزال.
وجدَّد الوزير شكري، حسب إفادة رسمية للخارجية المصرية، «دعم بلاده الكامل لجهود التوصل إلى تسوية سياسية شاملة للأزمة السورية في أقرب وقت»، مشدداً على «أهمية استيفاء الإجراءات المرتبطة بتحقيق التوافق الوطني بين الأشقاء السوريين، وبناء الثقة، ومواصلة اجتماعات اللجنة الدستورية السورية».
جاءت زيارة المقداد لمصر لتقدّم «مؤشراً جديداً» بشأن العلاقات الثنائية بين البلدين، وسط أنباء عن احتمال عقد قمة تجمع السيسي والأسد، لكن الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، يرى أنَّه «من المبكر الحديث عن قمة مصرية - سورية». وقال فهمي لـ«الشرق الأوسط»، «الحديث الآن عن مقاربة أشمل لمنظومة العلاقات بين البلدين يتجاوز فكرة عقد القمم الثنائية».
المقداد في القاهرة ويأمل بـ«مزيد من التضامن العربي» مع سوريا


مقالات ذات صلة

أبو الغيط: لا أعلم إن كانت سوريا ستعود للجامعة

أبو الغيط: لا أعلم إن كانت سوريا ستعود للجامعة

أبو الغيط: لا أعلم إن كانت سوريا ستعود للجامعة

قال الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، إنَّه «لا يعلم ما إذا كانت سوريا ستعود إلى الجامعة العربية أم لا»، وإنَّه «لم يتسلَّم بصفته أميناً عاماً للجامعة أي خطابات تفيد بعقد اجتماع استثنائي لمناقشة الأمر».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شؤون إقليمية سوريا وإيران: اتفاق استراتيجي طويل الأمد

سوريا وإيران: اتفاق استراتيجي طويل الأمد

استهلَّ الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، أمس، زيارة لدمشق تدوم يومين بالإشادة بما وصفه «الانتصارات الكبيرة» التي حقَّقها حكم الرئيس بشار الأسد ضد معارضيه. وفي خطوة تكرّس التحالف التقليدي بين البلدين، وقّع رئيسي والأسد اتفاقاً «استراتيجياً» طويل الأمد. وزيارة رئيسي للعاصمة السورية هي الأولى لرئيس إيراني منذ عام 2010، عندما زارها الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، قبل شهور من بدء احتجاجات شعبية ضد النظام. وقال رئيسي، خلال محادثات موسَّعة مع الأسد، إنَّه يبارك «الانتصارات الكبيرة التي حققتموها (سوريا) حكومة وشعباً»، مضيفاً: «حقَّقتم الانتصار رغم التهديدات والعقوبات التي فرضت ضدكم».

«الشرق الأوسط» (دمشق)
العالم العربي أنقرة تستبق «رباعي موسكو» بمطالبة دمشق بموقف واضح تجاه قضايا التطبيع

أنقرة تستبق «رباعي موسكو» بمطالبة دمشق بموقف واضح تجاه قضايا التطبيع

استبقت تركيا انعقاد الاجتماع الرباعي لوزراء خارجيتها وروسيا وإيران وسوريا في موسكو في 10 مايو (أيار) الحالي في إطار تطبيع مسار العلاقات مع دمشق، بمطالبتها نظام الرئيس بشار الأسد بإعلان موقف واضح من حزب «العمال الكردستاني» والتنظيمات التابعة له والعودة الطوعية للاجئين والمضي في العملية السياسية.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
العالم العربي درعا على موعد مع تسويات جديدة

درعا على موعد مع تسويات جديدة

أجرت اللجنة الأمنية التابعة للنظام السوري في محافظة درعا (جنوب سوريا) اجتماعات عدة خلال الأيام القليلة الماضية، آخرها أول من أمس (الأربعاء)، في مقر الفرقة التاسعة العسكرية بمدينة الصنمين بريف درعا الشمالي، حضرها وجهاء ومخاتير ومفاوضون من المناطق الخاضعة لاتفاق التسوية سابقاً وقادة من اللواء الثامن المدعوم من قاعدة حميميم الأميركية. مصدر مقرب من لجان التفاوض بريف درعا الغربي قال لـ«الشرق الأوسط»: «قبل أيام دعت اللجنة الأمنية التابعة للنظام السوري في محافظة درعا، ممثلةً بمسؤول جهاز الأمن العسكري في درعا، العميد لؤي العلي، ومحافظ درعا، لؤي خريطة، ومسؤول اللجنة الأمنية في درعا، اللواء مفيد حسن، عد

رياض الزين (درعا)
شمال افريقيا مشاورات مصرية مع 6 دول عربية بشأن سوريا والسودان

مشاورات مصرية مع 6 دول عربية بشأن سوريا والسودان

أجرى وزير الخارجية المصري سامح شكري اتصالات هاتفية مع نظرائه في 6 دول عربية؛ للإعداد للاجتماع الاستثنائي لوزراء الخارجية العرب بشأن سوريا والسودان، المقرر عقده، يوم الأحد المقبل. وقال المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية، السفير أحمد أبو زيد، في إفادة رسمية، الخميس، إن شكري أجرى اتصالات هاتفية، على مدار يومي الأربعاء والخميس، مع كل من وزير خارجية السودان علي الصادق، ووزير خارجية السعودية فيصل بن فرحان، ووزير خارجية العراق فؤاد محمد حسين، ووزير خارجية الجزائر أحمد عطاف، ووزير خارجية الأردن أيمن الصفدي، ووزير خارجية جيبوتي محمود علي يوسف. وأضاف أن «الاتصالات مع الوزراء العرب تأتي في إطار ا

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

هيغو
هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

هيغو
هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!