بعد قليل من تشكيل الحكومة «اليمينية»، أبلغ مسؤولون فلسطينيون نظراءهم الإسرائيليين، في خضم مناقشات حول القرار الإسرائيلي بفرض عقوبات على السلطة، شملت مصادرة أموال كبيرة، وسحب تصاريح وبطاقات «VIP»، وإيقاف مشروعات اقتصادية ومشروعات بناء، أنه «إذا كان هذا ما يبدو عليه الأسبوع الأول للحكومة، فإنه واضح إلى أين تهب الرياح».
لم تكن توجهات الحكومة التي يظهر فيها زعيم «الليكود» بنيامين نتنياهو أكثر المعتدلين، بحاجة إلى مسؤولين في مواقع سياسية أو أمنية، أو محللين سياسيين، لكي يبصروا بأن الرياح متجهة إلى تصعيد وستجري بما لا تشتهي السفن.
الرئاسة الفلسطينية حذرت من انفجار لا يمكن السيطرة عليه، وهددت بإجراءات فورية رداً على السيف الإسرائيلي الذي أوغل في دماء الفلسطينيين كل يوم. وتدخل الأميركيون والمصريون والأردنيون والقطريون من أجل كبح جماح التصعيد الإسرائيلي، وهو تصعيد يمثل فقط رأس جبل جليدي بالقياس لما يخطط له وزراء مثل وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، الذي يريد تسليح كل الإسرائيليين وتغيير تعليمات إطلاق النار ضد الفلسطينيين، كي يصبح القتل «أسرع وأسهل»، ووزير المالية المسؤول عن الإدارة المدنية في الجيش الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، الذي يعمل على خطة ضم أجزاء من الضفة الغربية... برغم ذلك فإن الحكومة المنفلتة، مضت قدماً بما يرضي المتعصبين المسيطرين في إسرائيل، وقتلت في ضربة واحدة 10 فلسطينيين في جنين شمال الضفة في يوم دام وحزين، أوقف بعده الرئيس الفلسطيني محمود عباس التنسيق الأمني، وهبت رياح الانتقام.
لقد بدا أنها بداية عاصفة قد لا تهدأ قريباً.
عندما قتل الشاب الفلسطيني خيري علقم، يوم الجمعة، 7 إسرائيليين في القدس بعد يوم واحد من قتل إسرائيل 10 فلسطينيين في جنين، كان يمكن قراءة المزاج العام الفلسطيني في مسيرات عفوية خرجت في كل مكان؛ المدن والمخيمات والقرى، ابتهاجاً بالعملية... إطلاق نار ومفرقعات وتكبيرات وحلوى وأبواق سيارات بلا توقف، حتى أن الأمهات اللاتي فقدن أبناءهن قبل يوم واحد خرجن لتوزيع الحلوى في جنين، فيما تبدل المشهد في بيوت العزاء من حزن إلى فرح وهتاف.
أما الفصائل الفلسطينية التي باركت العملية ولم تكن تقف خلفها، فتوعدت بمزيد من «الثارات».
كان يمكن أيضاً قراءة المزاج العام المسيطر في إسرائيل، بعدما توعد رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو برد حازم، فيما كان بن غفير يهتف أمام مستوطنين غاضبين: «الموت للإرهابيين». ويكتب هؤلاء على مواقع التواصل الاجتماعي: «شردوهم» و«لا ترحموهم».
لكن كيف سيرد نتنياهو، وهل رده سيساعد رياح التصعيد أو يخففها؟
يفترض أن يتضح ذلك أكثر في اجتماع للمجلس الأمني المصغر (الكابنيت)، الذي سيعقد بعد انتهاء يوم السبت (مساء)، غير أن أدواته ستظل مكبلة في مواجهة ما يحلو للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية تسميتهم بـ«الذئاب المنفردة»، الذين ينطلقون وحدهم، بدون تنظيم، وبدون تخطيط، وبدون تمويل، وبدون اتصالات، وبدون قرارات، في أي وقت، وفي أي مكان، وينفذون عملياتهم... ويزيد الطين بلة بالنسبة للإسرائيليين إذا كان هؤلاء يحملون جنسية إسرائيلية أو هوية زرقاء وإقامة.
بعد الهجوم على جنين، كانت أبرز مخاوف المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن يتحرك هؤلاء في القدس، وبعد أقل من 24 ساعة ضرب علقم في قلب المنطقة.
وقال قائد شرطة مدينة القدس دورون تورجمان، «المنفذ تصرف كذئب منفرد، ووجد في موقع العملية لوحده، ويجري الفحص إن كان هناك من ساعده، رجال الشرطة وجدوه بالقرب من بيت حنينا وقاموا بتحييده، نحن نحقق لنفهم ما جرى».
ما اكتشفه الإسرائيليون لاحقاً، أنه فعلا تحرك بمفرده، انتقاماً لجنين، وربما لجده الذي قتله مستوطن قبل 25 عاماً في القدس. إنها في الحالتين مسألة ثأر لا تنتهي.
وقال المحلل الأمني والعسكري لصحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية، رون بن يشاي، إن اختبار الرد على العملية في القدس يعد أكثر صعوبة من أي وقت مضى، باعتبار المنفذ «ذئباً منفرداً». وأضاف: «المؤسسة الأمنية تدرك في السنوات الأخيرة أنه ليس لديها الكثير لتقوم به تجاه هذا النوع من العمليات».
لكن المخاوف ليست متعلقة بكيف ستتصرف المؤسسة الأمنية، وإنما «الكابنيت» الذي لا يوجد فيه الكثير من الأشخاص ذوي الخبرة، ويتألف بشكل أساسي من وزراء ذوي آراء قومية متشددة، وأغلب الظن أنهم سيضغطون من أجل إجراءات جذرية قد تؤجج النيران أكثر. وقال يؤاف ليمور الصحافي في «إسرائيل اليوم»، إن ما يحدث يشير إلى حقيقة أن الساحة الفلسطينية «تشهد اتجاهاً تصعيدياً انفجارياً بشكل خاص». وحذر مراسل الشؤون الإسرائيلية في موقع «واللا» العبري، أمير بوخبوط، من أن تتحول العملية إلى «مصدر إلهام لآخرين».
ولتجنب كل ذلك، دفعت إسرائيل بقوات معززة إلى القدس وإلى مناطق التماس مع الضفة الغربية، لكن الذي خشيت منه حدث. فقد استلهم آخرون التجربة، وهذه المرة طفل من القدس عمره 13 عاماً كان يتجول قرب سلوان في البلدة القديمة، ثم شاهد مستوطناً وابنه، فأخرج مسدساً مثلما فعل علقم وأطلق النار عليهما.
لقد ضربهم فلسطيني آخر في القلب، في ذروة التأهب والتهديد والوعيد.
وفوراً باركت الفصائل الفلسطينية. وقالت إن «الدم يطلب بالدم»... أما بن غفير فتعهد بـ«رد قوي وبتغيير الأوامر المنظمة لإطلاق النار»، وقال، إن هذا الوضع «لا يمكن السكوت عنه».
طلب بن غفير أيضاً تسليح «كل إسرائيلي». وبناءً عليه دعت الشرطة الإسرائيليين إلى حمل السلاح. وأعلنت «رفع مستوى اليقظة»، فيما أمر رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرسي هاليفي، بتعزيز الأمن أكثر في الضفة الغربية استعداداً لتصعيد محتمل.
وهو تصعيد تحدث عنه وزير الدفاع يؤاف غالانت، الذي أمر كذلك بالاستعداد لاحتمال حدوث تطورات ميدانية أخرى وحماية المستوطنات. سياسة «طنجرة الضغط» الذي اتبعها الإسرائيليون في جنين، ترتد عليهم في القدس، وشظاياها قد تصل في أي لحظة إلى أي مكان، تل أبيب مثلاً، أو نابلس، وربما بشكل لا يتمناه الطرفان قطاع غزة، خصوصاً أن شهر رمضان على الأبواب، وهو شهر كان يخشى معه الإسرائيليون، حتى قبل كل هذه الموجة، من تصعيد لافت. التصعيد هنا ليس حالة استثنائية. إنه حلقة مستمرة منذ عقود. الهدوء هو الذي كان يثير الريبة.