صور بطائرة مسيّرة تكشف مدينة مبكرة في بلاد ما بين النهرين

صور بطائرة مسيّرة تكشف مدينة مبكرة في بلاد ما بين النهرين
TT

صور بطائرة مسيّرة تكشف مدينة مبكرة في بلاد ما بين النهرين

صور بطائرة مسيّرة تكشف مدينة مبكرة في بلاد ما بين النهرين

كشفت بيانات صور بواسطة طائرة مسيرة بتجهيزات خاصة مستوطنة حضرية قديمة في بلاد مابين النهرين (العراق)؛ حيث أشارت بيانات الاستشعار عن بعد، التي تم جمعها في الغالب بواسطة طائرة بدون طيار مجهزة بشكل خاص، إلى مستوطنة حضرية شاسعة تسمى «لكش» تتكون إلى حد كبير من أربع جزر من المستنقعات المتصلة بواسطة المجاري المائية، وفق ما أفادت عالمة الآثار الأنثروبولوجية إميلي هامر من جامعة بنسلفانيا.
وتضيف هذه النتائج تفاصيل مهمة لوجهة نظر ناشئة مفادها أن مدن جنوب بلاد ما بين النهرين لم تتوسع، كما يُعتقد تقليديًا، إلى الخارج من المعبد والمناطق الإدارية إلى الأراضي الزراعية المروية التي كانت محاطة بسور مدينة واحد، وفقًا لتقرير نشرته هامر بمجلة «علم الآثار الأنثروبولوجي» بعدد شهر ديسمبر (أيلول) الماضي، حسب ما ذكر موقع «ساينس نيوز» العلمي المتخصص.
وتوضح هامر «كان من الممكن أن تكون هناك طرق متعددة متطورة لكي تصبح لكش مدينة جزر مستنقعات؛ حيث أعاد الاحتلال البشري والتغير البيئي تشكيل المناظر الطبيعية».
ويعتقد انه نظرًا لعدم وجود مركز جغرافي أو شعائري للكش، فقد طور كل قطاع في المدينة ممارسات اقتصادية مميزة على جزيرة مستنقعية فردية؛ مثل مدينة البندقية الإيطالية في وقت لاحق، فعلى سبيل المثال، تتقاطع الممرات المائية أو القنوات مع إحدى جزر المستنقعات، فقد يكون صيد الأسماك وجمع القصب من أجل البناء هو السائد.
وفي هذا الاطار، تبيّن جزيرتان أخريان من جزر لكش أدلة على أنهما محاطتان بجدران مسورة كشوارع مدينة ومناطق فيها أفران كبيرة، ما يشير إلى أن هذه القطاعات قد تم بناؤها على مراحل وربما كانت أول من تم الاستقرار فيها، وربما شهدت زراعة المحاصيل وأنشطة أخرى كصناعة الفخار.
وتشير صور الطائرات بدون طيار (لما يشير انه من المحتمل أن تكون موانئ في كل جزيرة مستنقعية) إلى أن السفر بالقوارب يرتبط بقطاعات المدينة. حيث تظهر بقايا جسور مشاة بالممرات المائية وبين جزر المستنقعات؛ وهو احتمال يمكن ان يكشفه المزيد من الحفريات.
جدير بالذكر، ان لكش (التي شكلت نواة واحدة من أوائل الدول في العالم) تأسست قبل حوالى 4900 و 4600 عام. حيث هجر السكان الموقع (المعروف الآن باسم تل الهبة) منذ حوالى 3600 عام كما تظهر الحفريات السابقة. وقد تم التنقيب فيه لأول مرة منذ أكثر من 40 عامًا.

المدينة المخفية

وكشفت صور الطائرات من دون طيار التي التقطت عبر موقع ضخم جنوب العراق أن الهياكل المدفونة (الموضحة باللون الأصفر) من مدينة لكش القديمة في بلاد ما بين النهرين تتجمع في أربعة قطاعات ربما كانت جزرا مستنقعية. وان الجدران (الموضحة باللون الأحمر) تحيط بقطاعين كبيرين. وأن مجاري مائية جافة الآن (موضحة باللون الأزرق الداكن) قطاعات متصلة ومتقاطعة.

وأشارت التحليلات السابقة لتوقيت توسعات الأراضي الرطبة القديمة جنوب العراق التي أجرتها عالمة الآثار الأنثروبولوجية جينيفر بورنيل من جامعة ساوث كارولينا بكولومبيا، إلى أن لكش ومدنا أخرى جنوب بلاد ما بين النهرين بُنيت على تلال مرتفعة في الأهوار.
وبناءً على صور الأقمار الصناعية، تعتقد عالمة الآثار إليزابيث ستون من جامعة ستوني بروك بنيويورك أن لكش تتكون من حوالى 33 جزيرة مستنقعية وأن العديد منها صغير جدًا.
وتبيّن هامر أن صور الطائرات بدون طيار قدمت نظرة أكثر تفصيلاً للهياكل المدفونة في لكش أكثر مما قدمته صور الأقمار الصناعية. مسترشدة ببيانات الاستشعار عن بعد الأولية التي تم جمعها من مستوى الأرض؛ إذ أمضت طائرة بدون طيار ستة أسابيع عام 2019 في التقاط صور عالية الدقة لكثير من سطح الموقع. وقد ساعدت رطوبة التربة وامتصاص الأملاح من الأمطار الغزيرة الأخيرة تقنية الطائرات بدون طيار في اكتشاف بقايا المباني والجدران والشوارع والممرات المائية وغيرها من معالم المدينة المدفونة بالقرب من مستوى الأرض.
وخلصت هامر الى ان «التجمعات الكثيفة من المساكن والمباني الأخرى بمعظم أنحاء لكش تشير إلى أن عشرات الآلاف من الناس كانوا يعيشون هناك خلال أوجها بما يغطي حوالى 4 إلى 6 كيلومترات مربعة تقريبًا من مساحة شيكاغو (الولايات المتحدة)». لكن، من غير الواضح ما إذا كانت مدن شمال بلاد ما بين النهرين منذ حوالى 6000 عام، والتي لم تكن موجودة في الأهوار، تحتوي على قطاعات مدينة منفصلة. كذلك من المحتمل أن تكون لكش ومدن أخرى جنوب بلاد ما بين النهرين قد استغلت النقل المائي والتجارة بين المستوطنات المتقاربة، ما أتاح نموًا غير مسبوق، وفق عالم الآثار غيليرمو ألغازي من جامعة كاليفورنيا بسان دييغو.
وتختم هامر بالقول «إن لكش تبرز كمدينة مبكرة جنوب بلاد ما بين النهرين؛ فقد ظلت المدن المجاورة مأهولة بالسكان لمدة ألف عام أو أكثر بعد هجران لكش عندما أصبحت المنطقة أقل مائيًا». مؤكدة «لدينا في لكش فرصة نادرة لرؤية كيف بدت المدن القديمة الأخرى بالمنطقة في وقت مبكر».


مقالات ذات صلة

هيكل عظمي لـ5 أشخاص تفصل بينهم آلاف السنوات

يوميات الشرق فُسِّر اللغز لفكّ غموضه (مواقع التواصل)

هيكل عظمي لـ5 أشخاص تفصل بينهم آلاف السنوات

حلَّ علماء آثار لغز هيكل عظمي غريب من بلجيكا يتكوّن من عظام 5 أشخاص عاشوا قبل 2500 عام متفرِّقين... فكيف التقت هذه المجموعة المختلطة من العظام في هيكل واحد؟

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق أحد المواقع التراثية في القاهرة التاريخية (وزارة السياحة والآثار المصرية)

إحياء «القاهرة التاريخية» في المنتدى الحضري العالمي

يحتفي المنتدى الحضري العالمي الذي يُعقد في مصر خلال الفترة من 4 إلى 8 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، بمدينة القاهرة وما تمثله من قيمة تاريخية وتراثية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق جانب من المعرض (محافظة سوهاج)

عرض مقتنيات مقبرة «حاكم الصعيد» كاملة للمرة الأولى بسوهاج

يعرض متحف سوهاج القومي، بجنوب مصر، للمرة الأولى مقتنيات مقبرة حاكم الصعيد «وني» كاملة منذ اكتشافها عام 1858.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق أحد عروض كركلا في بعلبك (خاص بـ«الشرق الأوسط»)

الخطر يهدد قلعة بعلبك الرومانية وضرر مباشر في أحد معالمها

استشعرت وزارة الثقافة في لبنان، منذ مطلع السنة الحالية، المخاطر التي يمكن أن تحيط بالأماكن الأثرية وبدئ تحضير الملفات ودراسة الإجراءات الممكنة، تحسباً لأي طارئ.

سوسن الأبطح (بيروت)
يوميات الشرق إعادة بناء افتراضية ثلاثية الأبعاد لأطلال قرية النطاة من العصر البرونزي استناداً إلى أدلة ودراسات أثرية نُشرت حديثاً (مشروع خيبر عبر العصور)

قرية من العصر البرونزي... أحدث اكتشافات «العُلا» الأثرية

أعلنت الهيئة الملكية لمحافظة العلا، في مؤتمر صحافي بالعاصمة السعودية الرياض، اكتشافاً فريداً من نوعه لقرية أثرية من العصر البرونزي في واحة خيبر بالسعودية.

غازي الحارثي (الرياض)

«رفعت عيني للسما» يبدأ رحلته التجارية بدور العرض المصرية

الملصق الدعائي للفيلم  (حساب المخرج على فيسبوك)
الملصق الدعائي للفيلم (حساب المخرج على فيسبوك)
TT

«رفعت عيني للسما» يبدأ رحلته التجارية بدور العرض المصرية

الملصق الدعائي للفيلم  (حساب المخرج على فيسبوك)
الملصق الدعائي للفيلم (حساب المخرج على فيسبوك)

بعد تتويجه بجائزة «العين الذهبية» في مهرجان كان السينمائي، وفوزه أخيراً بجائزة «نجمة الجونة» لأفضل فيلم وثائقي «مناصفة»، وحصول مخرجيه ندى رياض وأيمن الأمير على جائزة مجلة «فارايتي» الأميركية لأفضل موهبة عربية، ومشاركته في مهرجانات دولية من بينها «شيكاغو» الأميركي، بدأ الفيلم الوثائقي المصري «رفعت عيني للسما» المعنون بالإنجليزية «The Brink Of Dreams» رحلته في دور العرض بمصر، حيث يعرض في 20 من دور العرض بالقاهرة والإسكندرية والأقصر وبنها والجونة بالبحر الأحمر، في واقعة غير مسبوقة لفيلم وثائقي، ويعد الفيلم إنتاجاً مشتركاً بين مصر وفرنسا والدنمارك والسعودية وقطر.

يتتبع الفيلم رحلة مجموعة من الفتيات بقرية «برشا» في صعيد مصر لتأسيس فرقة مسرحية وعرض مسرحياتهن في شوارع القرية لطرح قضايا تؤرقهن، مثل الزواج المبكر والعنف الأسري وتعليم الفتيات، ويواجهن رفض مجتمعهن، بل ويصفهن البعض بالخروج عن الأدب، ويتعرضن لمضايقات من رواد العروض الذين يسخرون منهن.

يعرض الفيلم الذي جرى تصويره على مدى 4 سنوات لوقائع حقيقية، وتنتقل الكاميرات بين الشوارع والبيوت الفقيرة التي يعشن فيها، وأسطح المنازل اللاتي يقمن بعقد اجتماعات الفرقة بها، والتدريب على العروض التي تتسم بالجرأة وتنتقد المجتمع الصعيدي في تعامله مع المرأة، وحاز الفيلم إشادات نقدية واسعة من نقاد عرب وأجانب.

وتصدر الملصق الدعائي للفيلم صور بطلات الفرقة «ماجدة مسعود، وهايدي سامح، ومونيكا يوسف، ومارينا سمير، ومريم نصار، وليديا نصر مؤسسة الفرقة»، وهن صاحبات هذه المبادرة اللاتي بدأنها قبل 10 سنوات، ولفت نشاطهن نظر المخرجين ندى رياض وأيمن الأمير، فقررا توثيق رحلتهن بعدما لاحظا إصراراً من البنات على مواصلة عروضهن.

وحول عرض الفيلم في هذا العدد الكبير من دور العرض ومدى ما يعكسه ذلك كونه فيلماً وثائقياً يقول المخرج أيمن الأمير لـ«الشرق الأوسط»: «الفيلم يحكي قصة وينقل مشاعر، ويعبر عن شخصيات بغض النظر عن نوعه، وهناك جمهور أحبه وتأثر وهو يشاهده، والتقينا به في عروض حضرتها البنات بطلات الفيلم، وقد التف الجمهور يتحدث معهن ويطمئن على أخبارهن، وهذا بالنسبة لي النجاح، وأن تتصدر بنات من الصعيد بطولة فيلم ويعرض فيلمهن بجوار أفلام لنجوم معروفة؛ فهذا بالنسبة لي هو النجاح بعينه».

مخرجا الفيلم الزوجان أيمن الأمير وندى رياض (حساب المخرج على فيسبوك)

وقد تغيرت أحوال بطلاته وبدأن بشق طريقهن الفني، فقد جاءت ماجدة وهايدي إلى القاهرة؛ الأولى لدراسة التمثيل، والثانية لدراسة الرقص المعاصر، فيما طرحت مونيكا 3 أغنيات على مواقع الأغاني المعروفة، من بينها أغنيتها التي تؤديها بالفيلم «سيبوا الهوى لصحابه».

تقول ماجدة لـ«الشرق الأوسط»: «الأوضاع تغيرت تماماً، قبل ذلك كان الناس في قريتنا يرفضون ما قمنا به وكانوا يقولون (عيب أن تتكلموا في قضايا النساء)، ويتهموننا بتحريض البنات على عدم الزواج، لكن بعد الفيلم اختلفت الصورة تماماً، وأقام أخي بعد عودتنا من (كان) احتفالاً كبيراً، والقرية كلها أقامت احتفالاً لاستقبالنا عند عودتنا، وبدأت الأسر ترسل بناتها للانضمام للفرقة، لقد كان الفيلم أكبر حدث تحقق لنا، وقدمنا عروضاً بالشارع خلال مهرجان (كان)، وكانت مصحوبة بترجمة فرنسية، وفوجئنا بالفرنسيات ينضممن لنا ويصفقن معنا».

ماجدة مسعود تتمنى أن تمثل في السينما والمسرح (حساب المخرج على فيسبوك)

وتضيف ماجدة أنه «قبل الفيلم كنا نكتفي بالتمثيل في شوارع القرية وما حولها وما زلنا نواصل ذلك، لكن الآن أصبح لدينا أمل، ليس فقط في مناقشة قضايانا، بل لأن نشق طريقنا في الفن، وقد بدأت منذ عام دراسة المسرح الاجتماعي في (الجيزويت) لأنني أتمنى أن أكون ممثلة في السينما والمسرح».

لكن هايدي التي انضمت للفرقة عام 2016 وجدت تشجيعاً من والدها في الواقع مثلما ظهر بالفيلم يشجعها ويدفعها للاستمرار والتعلم والدراسة، وقد شعرت بالحزن لوفاته عقب تصوير الفيلم، كما شجعتها أيضاً والدتها دميانة نصار بطلة فيلم «ريش»، كانت هايدي تحلم بدراسة الباليه، لكن لأن عمرها 22 عاماً فقد أصبح من الصعب تعلمه، وقد جاءت للقاهرة لتعلم الرقص المعاصر وتتمنى أن تجمع بين الرقص والتمثيل، مؤكدة أن الموهبة ليست كافية ولا بد من اكتساب الخبرة.

هايدي اتجهت لدراسة الرقص المعاصر (حساب المخرج على فيسبوك)

وتلفت هايدي في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «تكاليف الورش التي يتعلمن بها كبيرة وفوق قدراتهن، آملة الحصول على منحة للدراسة لاستكمال طريقهن».

ووفقاً للناقد خالد محمود، فإن الفيلم يعد تجربة مهمة لخصوصية قصته وما يطرحه؛ كونه يخترق منطقة في صعيد مصر ويناقش فكرة كيف يتحرر الإنسان ويدافع عن أحلامه، أياً كانت ظروف المجتمع حوله، قائلاً في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»: «كنت أتمنى أن يكون الشق التوثيقي للفيلم أفضل من ذلك وأن يحمل رؤية فنية أعمق، وأرى أن المشهد الأخير بالفيلم هو أهم مشاهده سينمائياً، حيث تتسلم البنات الصغيرات الراية من الكبار ويقلدهن ويقدمن مسرح شارع مثلهن، ما يؤكد أن فرقة (برشا) تركت تأثيراً على الجيل الجديد».

ويشير محمود إلى أنه «من المهم عرض هذه النوعية من الأفلام في دور العرض كنوع من التغيير لثقافة سينمائية سائدة»، مؤكداً أن عرضها يمكن أن يبني جسوراً مع الجمهور العادي وبالتالي تشجع صناع الأفلام على تقديمها، مثلما تشجع الموزعين على قبول عرضها دون خوف من عدم تحقيقها لإيرادات.