«مصير روما»... دور مهيمن لعوامل غير بشرية في تدوير عجلة التاريخ

كايل هابر يقدم رؤية مغايرة لأسباب سقوط الإمبراطورية الرومانية

كايل هاربر
كايل هاربر
TT

«مصير روما»... دور مهيمن لعوامل غير بشرية في تدوير عجلة التاريخ

كايل هاربر
كايل هاربر

جاء على روما وقت، كانت فيه عاصمة إمبراطوريّة حكمت أراضي ولأوقات ممتدة أكثر من أي دول العالم القديم، وخضع لها ربع سكان الكوكب من شمال بريطانيا إلى حوض الفرات، ومن محيط الراين إلى أطراف الصحراء الأفريقيّة. العاصمة التي كان يقطنها في حدود عام 400 نحو ثلاثة أرباع المليون من البشر وتتوفر على 28 مكتبة، و856 حماماً عامّاً، و47 ألف عمارة سكنيّة ما لبثت وخلال عقود قليلة من الزمن أن تحوّلت إلى خرابة لا تشبه تاريخها، بعدما فرط عقد الإمبراطوريّة الرومانيّة وتقاسمت أراضيها الممالك الجرمانيّة شمالاً وجيوش الفتح الإسلامي شرقاً، في حين ورثت الإمبراطوريّة البيزنطيّة بقيّة المناطق بينهما متخذة من القسطنطينيّة عاصمة جديدة.
أذهل هذا السقوط المدوّي غير المسبوق سرعة واتساعاً، مقارنة بكل الحضارات البشريّة السابقة، المؤرخين وعلماء الآثار، فاجتهدوا لتفسيره وتشريح جثته، حتى أن أستاذاً ألمانياً في الكلاسيكيّات وضع عام 1984 قائمة بأكثر من 200 سبب سجلها هؤلاء عبر القرون بوصفها عوامل تسببت في انحدار وسقوط الإمبراطوريّة الرومانيّة، من استنفاد القدرة العسكريّة على خطوط جبهات طويلة ومتباعدة، إلى تزايد الاعتماد اقتصادياً على عمالة العبيد، ومن إنفاق ماليّة الدّولة على سياسة «الخبز والسيركات» لإبهاج المواطنين - من قبل سياسيين شعبويين أرادوا كسب تأييد الكتل الشعبيّة الحمقاء -، إلى صعود نجم المسيحيّة من الشرق، وغيرها.
ومن غير شك، فإن الإمبراطوريّة الرومانيّة لم تسقط في ليلة وضحاها، وبالضرورة تضافرت عوامل عدة معاُ لتنسج قدرها عبر عقود، لكنّ هذه القائمة المديدة التي وصفها مؤرخو العصور الكلاسيكيّة لا تكفي وفق البروفسور كايل هابر في كتابه «مصير روما: مناخ، وباء، ونهاية إمبراطوريّة»* لتفسير ما وقع بالفعل، معتبراً إياها بجملتها منصرفة إلى وصف تدخلات البشر في حين كانت العوامل الحاسمة مرتبطة أكثر بالطبيعة: تحولات المناخ، وتقلبات الطقس كما السهولة الفائقة في انتشار أنواع الأوبئة من أقصى الإمبراطوريّة إلى أقصاها عبر شبكة الطرق العبقريّة التي أنجزها المهندسون الرومانيّون ومخازن الطعام المركزيّة التي أنشأوها لإطعام مواطنيهم عبر مختلف مراكزها الحضريّة، وأصبحت أهدافاً مفضّلة للقوارض النّاقلة للطاعون، وغيره من الأوبئة القاهرة.
وللحقيقة، فإن البروفسور هاربر – أستاذ الكلاسيكيّات في جامعة أكلاهوما بالولايات المتحدة – عبر رؤيته المغايرة لأسباب سقوط الإمبراطوريّة إنما يكرّس اتجاهاً متعاظماً في علم السيكولوجيا يميل إلى اعتبار القدرات العقليّة للبشر غير مؤهلة كفاية لقراءة التحولات البطيئة المتراكمة، أو تلك التي لا تمسّهم مباشرة أو تخرج عن إطار تجاربهم المعاشة، وبالتالي هم انصرفوا في مدوناتهم التأريخيّة القديمة عن التهديدات الحاسمة لوجودهم - كتغييرات المناخ المتراكمة ببطء، وانحطاط إنتاجيّة الأرض وانتشار الأوبئة - إلى عوامل ثانوية، لكنها مباشرة رأوها رأي العين، وتتعلق بأحداث أبطالها البشر أفراداً وجماعات. هذا الاتجاه يدين بشكل أو بآخر علم التاريخ وحفريات الآثار التقليديّة المعنيّين أساساً بالسرديّات الموثقة وشهادات معاصري الأحداث وما تركه الراحلون من منتجات ماديّة توثّق حضاراتهم المحليّة دون منح اهتمام كافٍ بالإطار الطبيعي الكلي الشامل الذي لم تكن تلك السرديّات واللقى سوى هوامش على أطرافه. على أن هجوم السيكولوجيين القاسي هذا يكاد يقتصر على التاريخ الكلاسيكيّ؛ إذ إن العشرين سنة أخيرة شهدت تقدماً هائلاً لناحية قدرة العلماء على تفكيك مسائل معقدة، كالتغييرات التي تمس مناخ كوكب الأرض وطرائق انتقال الأمراض والأوبئة، والسجلات الجيولوجيّة التي تسجّل تاريخ الجغرافيا والعمران البشري دون هوى المسجلين وفساد آرائهم أو قصر نظرهم، وهو ما يمنح المؤرخين المعاصرين أدوات فائقة القدرة لم تكن تتوفر لأسلافهم في العصور السابقة.
وبحسب هاربر عن «مصير روما»، فإن القراءات الكلاسيكيّة للتاريخ الروماني لم تهمل تأثيرات العوامل الطبيعيّة الحاسمة في سقوط الحضارات والإمبراطوريّات فحسب، بل وفشلت في ربط مصادر قوّة الإمبراطوريّة الرومانيّة وعبقريّة ناسها في تسهيل مهمّة الطبيعة تنفيذها لحكم القدر. فالهندسة الرومانيّة التي أعادت تشكيل وجه الأرض من خلال المشاريع الضخمة لاستصلاح الأراضي وإزالة الغابات ونقل المياه خلقت فضاءات طبيعيّة متسعة صديقة للبعوض والحشرات الناقلة للأمراض، وكذلك قدّمت شبكات الطرق المعبدة مع إمكانات التجارة عبر الإمبراطوريّة فرصاً لانتقال الأمراض من الشرق إلى الغرب وبالعكس؛ الأمر الذي كثيراً ما تسبب بفناء مجموعات السكان المحليين الذين لم تتوافر لديهم المناعة لمواجهة فيروسات وآفات مستوردة من أقاصي الأرض. ويضيف هاربر، أن الإمبراطوريّة بلغت أقصى مجدها في فترة اعتدال مناخي دامت قروناً عدّة قبل أن يقطعها عصر جليدي قصير (دام لحدود 125 عاماً بداية من عصر الإمبراطور جستنيان في القرن السادس الميلادي) تسبب في اضطراب دورة الفصول وفشل مواسم الزراعة عبر عمر أجيال عدة؛ مما تسبب في المجاعات والقلاقل الأمنيّة، وغياب شبه كلي للسلطة المركزيّة على الأطراف.
ويربط هاربر في قراءته المثيرة للتاريخ الروماني بين التحولات الثقافيّة الكبرى في الإمبراطوريّة وبين ضربات الطبيعة، ومنها مثلاً انتشار وباء الطاعون منتصف القرن الثالث الميلادي، الذي تسبب إلى جانب ملايين الوفيّات المؤلمة في غلبة نظرة متشائمة للحياة بين من نجا على نحو أفقد السكان ثقتهم بدين الدولة الوثني، ومنح فرصة - كان يمكن ألّا تتكرر - للمسيحيّة بالانتشار، ومن ثمّ تبنيها لاحقاً ديناً رسميّاً.
قد يُستشفّ من «مصير روما»، أنّ سقوط الإمبراطوريّة لم يكن ممكناً تجنبه مهما اتسم الرّومان بالحصافة والحكمة، ومن الواضح أنهم كانوا وهم ينجزون مآثرهم المعماريّة والهندسيّة المبهرة إنما يخلقون في آن الوقت بيئة مثاليّة لانتشار الأوبئة التي ستضعضع دولتهم، ولم يكن ليتسنى لهم حينها فهم طبيعة التحولات المناخيّة العميقة التي تلمّ ببيئتهم وتتحفّز تدريجياً للقضاء على عالمهم. ومع ذلك، فإن هاربر يميل في النهاية إلى تصوّر تاريخ البشر والحضارات نوعاً من بناء جدلي ديالكتيكي الطابع ينشأ عن تقاطع بين العوامل البشريّة وغير البشريّة، وأن هذه العوامل تتغذى على بعضها وتتفاعل بطرق غير متوقَعة المسارات وغير مفهومة على المدى القصير لتنتج الحالة الجديدة، سواء صعود إمبراطوريّات كبرى أو دوامها أو انحطاطها.
على الصعيد النظريّ، فإن نصّ هاربر يعدّ بحق أوّل إضافة نوعيّة جذريّة في استعادة العصر الكلاسيكي الروماني بأدوات جديدة منذ العمل الموسوعي للسير إدوارد جيبون عن «انحطاط وسقوط الإمبراطوريّة الرومانيّة» الذي نشره عام 1776 وبقي المؤرخون عيالاً عليه إلى وقت قريب. وهو اكتسب مزيداً من القبول (والمبيعات) بحكم ترافق ظهوره مع تزايد الوعي بمظاهر عطن عام لا تخفى تتعرّض لها الحضارة البشريّة في عصر الرأسماليّة المتأخرّة بما فيها تصاعد فرص حدوث الكوارث المناخيّة نتيجة تراكم استهلاك الموارد والإساءة إلى الطبيعة، كما انتشار وباء «كوفيد - 19 المستجد» الذي قضى إلى الآن على ما يقرب من نصف مليون إنسان وأصاب ملايين عدّة أخرى، وتسبب في إجراءات عزل غير مألوفة.
عربيّاً، يُلقي «مصير روما» المغاير حجراً في المياه الراكدة للدراسات التاريخيّة عن بلادنا، والتي لطالما تجنبت الخروج من دائرة النّصوص الكلاسيكيّة والسرديّات المؤدلجة المنسوجة غالباً حول أدوار الحكام والأفراد الأفذاذ في تدوير عجلة التاريخ، وربما يدفع باتجاه وضع سياق كلّي شامل لتلك الدراسات يأخذ بعين الاعتبار دور العوامل الطبيعيّة - على تعددها - في تشكيل بيئة المنطقة الحضارية وصوغ التحولات فيها بين الحقب، ومدى تفاعلها مع العوامل الأخرى المتعلقة بكيد البشر الفانين.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.