إلى متى تلاحق الاتهامات لجان تحكيم «بوكر» العربية؟

بعد فوز «قناع بلون السماء» للفلسطيني السجين باسم خندقجي

باسم خندقجي
باسم خندقجي
TT

إلى متى تلاحق الاتهامات لجان تحكيم «بوكر» العربية؟

باسم خندقجي
باسم خندقجي

قضيت 6 أشهر تقريباً، في عام 2016، في العاصمة البريطانية لندن. وافق وجودي هناك إعلان القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» الإنجليزية 2016، في 27 يوليو (تموز) 2016. فراودتني على الفور فكرة قراءة روايات القائمة الطويلة كلها، وتقليص عددها إلى قائمة قصيرة من 6 روايات، قبل إعلان لجنة تحكيم الجائزة الرسمية قائمتها. ثم أختار الرواية التي أرى أنها تستحق الفوز بالجائزة، كما هو الإجراء المتبع في تلك الجائزة، وفي الجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر العربية). بكلمات أخرى، كنت سأعمل كلجنة تحكيم من عضو واحد. ثم عدلتُ عن الفكرة لأنني لم أُرِد تكريس وقتي كله لقراءة روايات القائمة الطويلة؛ يكفي أن القراءة والتطواف بمخازن بيع الكتب كانا يستحوذان على جزء غير صغير من وقتي. استقرّ قراري في النهاية على تأجيل القراءة إلى ما بعد إعلان القائمة القصيرة، واستثنيت من القائمة الطويلة رواية ج. م. كوتسي «أيام دراسة المسيح» 2016.

غلاف قناع بلون السماء

حين شرعتُ في قراءة رواية كوتسي، لم توفّر لي تجربة قراءة ممتعة، فالإمتاع هو ما أبحث عنه في أي رواية قبل أي شيء آخر. كانت في مستوى أدنى من توقعاتي. فقررت أنها لا تستحق أن تكون على القائمة القصيرة، رغم أنني لم أقرأ روايات القائمة الطويلة الأخرى. لم أعبأ بكون كوتسي الفائز بجائزة نوبل للأدب 2003، وأنه فاز بجائزة «بوكر» مرتين، لأنه لم يكن في أفضل حالاته في تلك الرواية بالذات، ووصولها إلى القائمة القصيرة، إن وصلت، يعني خضوع اختيارها لاعتبارات لا علاقة لها بالإبداع والأدب والسرد كفن. ربما يتغير رأيي فيها لو قرأتها مرة ثانية، لكنني لم أفعل، ولست متحمساً لتكرار التجربة، على الأقل حتى الآن.

في 13 سبتمبر (أيلول) 2016، جاءت القائمة القصيرة من دونها لتؤكد صحة قراري، الذي لم يكن متأثراً بما نُشر عنها من مراجعات أو قراءات نقدية لأنني لم أقرأ شيئاً عنها إطلاقاً. كانت تلك هي المرة الأولى التي يتطابق فيها قرار اللجنة مع قراري الشخصي. ما يعني أن هنالك اتفاقاً أو تطابقاً آخر في الاختيار أسفل الطريق.

غلاف في غرفة العنكبوت

وخاضت لجنتي المؤلفة مني تجربة قراءة ماراثونية سريعة جداً للروايات الست بحماس وثقة، عززهما خروج رواية كوتسي من المنافسة، إذ شكل خلو القائمة القصيرة منها حافزاً ودافعاً قويين لي وأنا أجوس خلال تلك الغابات السردية بمفردي. وخرجت منها بقرار وضع رواية «الخائن» 2015، لبول بيتي، في مقدمة الروايات، بصفتها المرشحة الأولى للجائزة، تليها رواية مادلين ثين «لا تقولوا إننا لا نملك شيئاً» 2016، كمرشحة ثانية، متوقعاً وآملاً ألا تذهب الجائزة إلى غيرهما. وهذا ما حدث بالفعل، فقد فازت «الخائن» بالجائزة. وكان فوزها عاملاً محفزاً.

لجنة تحكيم موازية

بعد عودتي إلى الوطن، طرح اقتراح تشكيل لجنة بيت السرد في جمعية الثقافة والفنون السعودية بالدمام لتحكيم جائزة «بوكر العربية» لعام 2017، اللجنة الموازية كما سمّاها الشاعر والإعلامي زكي الصدير، في تقرير أعدّه عن نتائج التحكيم لصحيفة «العرب» اللندنية.

وتشكلت لجنة بيت السرد الموازية الكبيرة من: القاص والروائي جبير المليحان، والشاعر عبد الوهاب الفارس، والناقد والكاتب المسرحي عبد العزيز السماعيل، والناقد الدكتور أحمد سماحة، والناقد والروائي عيد الناصر، والقاص والناقد عبد الواحد اليحيائي، والقاصة والروائية مريم الحسن، والقاص والروائي عبد الله الوصالي، والقاصة منيرة الإزيمع، والكاتبة عالية نوح، بالإضافة إلى صاحب الاقتراح. وبعد قراءة ومناقشات على مدى 6 أسابيع، أعلنّا في الأسبوع السابع فوز «في غرفة العنكبوت» لمحمد عبد النبي، تليها في المركز الثاني «موت صغير» لمحمد حسن علوان، وفي الثالث «أولاد الغيتو - اسمي آدم» لإلياس خوري.

لقد خضنا تجربة تحكيم ممتعة ومفيدة، وضعنا خلالها مهاراتنا النقدية والتحليلية على المحك بجدية وتفانٍ؛ تجربة مارسنا خلالها الحوار والاختيار بحرية وديمقراطية، تجربة لم تكن مطوّقة بأي قيود وحسابات واعتبارات، عدا ما اتفقنا عليه من معايير، أو خطوط عريضة اهتدينا بها في قراءة ومناقشة الروايات الست، وكانت غايتنا اختيار ما نتفق، بالأغلبية، على أنها الرواية الفضلى التي تستحق الفوز بـ«بوكر العربية»، بغضّ النظر عن نتيجة تحكيم اللجنة الرسمية للجائزة. فازت «في غرفة العنكبوت» في مرحلتي التصويت، لأنها الأفضل في نظر الأغلبية.

مارسنا التحكيم غير متأثرين بهويات وجنسيات وانتماءات الروائيين الفكرية والسياسية. ولم نشعر بالندم لأن رواية السعودي محمد حسن علوان لم تأتِ في المركز الأول. إن «موت صغير» رواية رائعة وعظيمة، أعطيناها حقّها من القراءة الجادة والمناقشة المستفيضة العميقة، مثل الروايات الأخرى على القائمة القصيرة، بيد أننا انحزنا، أو انحازت الأغلبية منّا إلى رواية محمد عبد النبي. لقد وجدنا أنفسنا أثناء قراءة «في غرفة العنكبوت» أننا في حضرة روائي يبني العالم التخييلي في روايته ببراعة ومهارة عنكبوت، فكان العنكبوت في داخل الرواية، وفي خارجها، بعيد عنّا وقريب منا، أو كنا قريبين منه في نفس الوقت، وقت القراءة.

لم نضع رواية «موت صغير» في المركز الأول، ليس لأننا لم نكن نتمنى ذلك، ولكن لتغلب انحيازنا للإبداع، مهما تكن جنسية المبدع، على انتمائنا الوطني، ولالتزامنا بمعايير التحكيم من دون التأثر بأي عوامل قد تجرفنا بعيداً عمّا كنا نعدّه المسار الصحيح في التحكيم، مع الإيمان بأن الروائي علوان لا يمثل سوى نفسه في تلك المسابقة. لم يكن يمثلنا، ولا يمثل المملكة. كان يمثل نفسه روائياً ومبدعاً متميزاً، وليس كما دأب بعض الصحافة عندنا على اعتبار وتصوير مشاركة أي أديب سعودي في مسابقة أو مؤتمر أو مهرجان في الخارج على أنها تمثيل للمملكة. الحقيقة أنه عندما يتلقى أديب دعوة ويلبيها بالمشاركة في هذه الفعالية الثقافية أو تلك، إنما يمثل نفسه، ما لم تكن مشاركته ضمن وفد رسمي وتحت مظلة رسمية باسم المملكة.

تلميع السجون

أستحضر، الآن، تلك التجربة التحكيمية، والتجارب التي تلتها في بيت السرد، لأنها أكدت عدة حقائق ذات صلة قوية بالتحكيم ولجانه في المسابقات الأدبية. أولاها أنه من المستبعد، إن لم يكن مستحيلاً، تطابق نتائج التحكيم للجنتين مكلفتين بقراءة وتحكيم نفس النصوص الأدبية. والثانية، أن استبدال عضو أو عضوين في لجنة تحكيم بعضو أو عضوين آخرين سينجم عنه اختلاف في النتائج، وسيحدث الاختلاف أيضاً عند استبدال نصوص بنصوص أخرى. ولو طُلِب من لجنة ما لجائزة أدبية ما أن تعيد التحكيم بعد مرور بعض الوقت بعد إعلان نتائج تحكيمها لتلك الجائزة، فليس من المستبعد أن تنتهي إلى نتائج مختلفة. والحقيقة الأخيرة، التي يؤكدها باستمرار الجانب البليد والخامل من الصحافة الثقافية العربية، أن كل لجنة تحكيم هي هدف للتشكيك وسوء الظن والاتهام بالانحياز وبوجود مؤامرة.

يبدو أن لجنة تحكيم «بوكر العربية» التي منحت الجائزة لرواية الأديب الفلسطيني باسم خندقجي «قناع بلون السماء»، على موعد مع موجة من التشكيك في نزاهتها وفي حياديتها وموضوعيتها في القراءة والاختيار؛ رغم أنها كانت واضحة في تبيان مبررات اختيارها «قناع بلون السماء» من بين 133 رواية ترشحت لهذه الدورة. جاء في البيان الصادر عن اللجنة أن رواية خندقجي هي «أفضل رواية نُشرت بين يوليو 2022 ويونيو (حزيران) 2023». ومما ورد في وصف نبيل سليمان، رئيس لجنة التحكيم، للرواية، قوله: «يندغم في (قناع بلون السماء) الشخصي بالسياسي في أساليب مبتكرة. رواية تغامر في تجريب صيغ سردية جديدة للثلاثية الكبرى: وعي الذات، وعي الآخر، وعي العالم».

وسيطول التشكيك استحقاق خندقجي للجائزة أيضاً. وكما يستمر محاطاً بقضبان وجدران زنزانته، ستظل روايته محاطة بدائرة من التحفظات على فوزها عند البعض، وبالتشكيك في أحقيتها للجائزة لأنها في نظر أولئك البعض الرواية التي لم تكن لتفز لولا تعاطف لجنة التحكيم مع كاتبها القابع في سجون المُحْتَل المغتصب، ومع الشعب الفلسطيني في نضاله ومقاومته للاحتلال الصهيوني. لكن ما لم يخطر بالبال أن يَعدَّ آخرون فوز «قناع بلون السماء» فوزاً سياسياً من «أجل تلميع سمعة السجون الإسرائيلية». والسؤال: لماذا لم يحدث «التلميع» من قبل، خصوصاً أنه صدر لخندقجي 3 روايات قبل «قناع بلون السماء» منذ اعتقاله في 2004؟!

* ناقد وكاتب سعودي


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

محمد طرزي: استلهمت واقع المهمشين في وطني من مقولة لنجيب محفوظ

Ca-culture1-22Dec-photo1  الكاتب محمد طرزي
Ca-culture1-22Dec-photo1 الكاتب محمد طرزي
TT

محمد طرزي: استلهمت واقع المهمشين في وطني من مقولة لنجيب محفوظ

Ca-culture1-22Dec-photo1  الكاتب محمد طرزي
Ca-culture1-22Dec-photo1 الكاتب محمد طرزي

لفت الكاتب اللبناني محمد طرزي الأنظار إليه بقوة مؤخراً؛ حيث فازت روايته «ميكروفون كاتم صوت» بجائزتي «كتارا» القطرية و«نجيب محفوظ للرواية العربية» التي تمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة، وذلك في مدة وجيزة لا تتجاوز 3 أشهر قبل نهاية العام الحالي. ما يضفي على هذه الرواية دلالة خاصة في مسيرته، وطموحه لكتابة نص له طابع اجتماعي ينهل من الواقع الاجتماعي في لبنان، ويرصد المتغيرات المجتمعية من منظور إنساني.

أقام طرزي بعدد من دول شرق أفريقيا، وأعاد اكتشافها روائياً، مستلهماً التاريخ العربي في تلك الأماكن، في ثلاثية بعنوان «الحلم الأفريقي»، ومنها «عروس القمر» و«جزر القرنفل» التي تتناول تاريخ زنجبار خلال فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان.

هنا... حوار معه حول روايته الفائزة وهموم الكتابة.

* تبدو المتناقضات كما لو كانت تشكل جوهر روايتك الأخيرة «ميكروفون كاتم صوت»، بداية من العنوان حتى النهاية. إلى أي حد تتفق مع هذا الرأي؟

- هي رواية المتناقضات بالفعل. العنوان نفسه يجسد التضاد والمفارقات التي لا تلبث أن تظهر مع الصفحات الأولى للكتاب؛ حيث يبرز شاب اسمه «سلطان»، يقيم في بيت متواضع مُطل على المقبرة، يسترزق من زوار القبور، ويطمح أن يصير أديباً. صديقه «حسن» ليس بعيداً عن تلك المفارقات، فهو يهرِّب المسروقات، يتورَّط في قضايا أخلاقية ملتبسة، وفي لحظات أخرى نجده نبيلاً عبثيّاً. أما «عفاف»، فتمتلك ملهى ليليّاً، تستقبل فيه بائعات الهوى، هي أيضاً فنانة تشكيلية، حتى وإن بدت لوحاتها تافهة.

* استلهمت الرواية من مقولة لنجيب محفوظ، كيف ذلك؟

- قرأتُ مقالة في إحدى الصحف، يتحدَّث فيها الكاتب عن الوطن، واستوقفني اقتباس لنجيب محفوظ: «وطن المرء ليس مكان ولادته؛ لكنه المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب». ظل هذا الاقتباس يلاحقني حتى سمعتُ –مصادفة- شابّاً عشرينيّاً، يردِّد، في أحد المقاهي، عبر هاتفه، أنَّ كلَّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل. في اليوم التالي أنهى الشابُّ حياته لأسباب لم يتبيَّنها أحد. ربطتُ الاقتباس بالعبارة التي قالها الشابُّ بصوت متهدِّج، فإذ بفكرة الرواية تتشكَّل في مخيلتي.

* ما علاقتك بأدب نجيب محفوظ عموماً؟

- قرأتُ «محفوظ» في عمر مبكر. اهتممتُ بعدها بالرواية التاريخية، فاطلعتُ على أبرز ما كُتب وتُرجم في التخييل التاريخي، حتى وجدتني أتبنى ذلك النمط الأدبي كاتباً. بعد الانهيار الشامل الذي ألمَّ بلبنان، قررتُ كتابة رواية اجتماعية تتلمَّس حياة اللبنانيين وتقارب بصورة وجدانية ما آلت إليه أمورهم. توجَّستُ من الخطوة؛ لأنني كنت أهم بدخول نمط أدبيٍّ لم أختبره من قبل؛ لكنني ما إن شرعتُ بالكتابة، حتى وجدتني أكتب بأريحية، بتأثير ربما بما قرأته من روايات اجتماعية عظيمة لمحفوظ. فكَّرتُ وقتها أن تلك هي قوة الأدب، تنمو في داخل المرء دون أن يشعر بذلك.

* إلى أي حد يحق للأجيال الجديدة أن تتمرد على محفوظ وتسعى لتجاوزه؟

- لكل جيل اهتماماته وتطلعاته، والأجيال الجديدة لن تصغي لأحد، وستقرر بنفسها من أي معين تنهل، ومن أي نهر تروي عطشها الأدبي والإنساني. أنا شخصيّاً من جيل أولئك الذين تظل مدرسة محفوظ حاضرة في أعمالهم، لما تمثله من نموذج فني فذٍّ، يوغل عميقاً في النفس البشرية برغم الإطار المحلي لرواياته.

* تشكل المقابر -كفضاء درامي- مقبض فكرة أساسية في «ميكروفون كاتم صوت»، ألم تخش هذه الأجواء التي قد ينفر منها بعض القراء؟

- لم أفكر في هواجس القراء من هذه الناحية، فالظروف المحيطة بالرواية هي التي اختارت المقبرة فضاء دراميّاً. وحين قصدتُ أهلَ الشابِّ الذي أنهى حياته، بعد ترديده في المقهى، عبارة أنَّ «كلّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل»، وجدتُ منزله مطلّاً على المقبرة، في زمن يعيش فيه شعبي على حافة الموت، فلم أجد حيّزاً مكانيّاً أفضل، أعبِّر من خلاله عمَّا حل بأولئك الذين لا ينشدون سوى الهروب من وطن غدا أشبه بالمقبرة.

* يرى البعض أن الرواية تقدم وجهاً صادماً غير متوقع للبنان... هل تعمدت ذلك؟

- هي رواية عن المهمَّشين الذين يعانون من النظام اللبناني القائم على تبادل الخدمات، بين الزعيم الطائفي والنخب الاقتصادية التي تدور في فلكه. نسجت تلك النخب علاقات مالية مشبوهة مع زعماء الطوائف، ما فتئت تتسبب في هدر المال العام، وإعاقة تشريع قوانين عصرية. بالرغم من كل ما يحصل، وجه لبنان المشرق موجود؛ لكن تجاهل إرادة الشعب في ظل الزبائنية الحزبية والطائفية، يشوِّه وجه وطني المشرق ويهدِّده بالتلاشي.

* فازت الرواية بجائزة «كتارا» قبل فوزها بجائزة «نجيب محفوظ» بفترة متقاربة للغاية؛ كيف استقبلت الجدل والانتقادات التي أثارها البعض حول تلك الجزئية؟

- شرَّفتني «كتارا» بضمِّي إلى لائحة الفائزين بها، وكذلك فعلت جائزة «نجيب محفوظ» للأدب. لعلَّ ذلك يحصل للمرة الأولى، ما لفت الانتباه وأثار التساؤلات، ولكنْ حقيقة أن ذلك يمثِّل سابقة، لا يعني أن لا حقَّ للرواية في نيل جائزتين، ما دامت تلك إرادة أعضاء لجنتي التحكيم، وفي سياق عدم مخالفة شروط الترشُّح؛ لأن رواية نجيب محفوظ لا تشترط عدم فوز العمل المقدم إليها بجائزة أخرى. الأهمُّ بالنسبة إليَّ، وسط هذا الجدل، أن الجائزتين العريقتين ساهمتا في منح الرواية صوتاً قويّاً، يتردَّد صداه حالياً لدى كثير من القرّاء.

* كيف ترى جدل الجوائز الأدبية في الثقافة العربية عموماً؟

- أُدرجتْ أعمالي على قوائم الجوائز المختلفة، وفازت بأربعٍ منها، ما ساهم في إيصالها إلى نقَّاد وقرَّاء جدد، بعضهم أصبحوا أصدقاء. بهذا المعنى، خدمت الجوائزُ مشروعي، وأرى أنها تخدم غيري من الكُتَّاب، وتساهم في تعزيز المشهد الثقافي العربي. الجدل وسط الكُتَّاب حول الجوائز مردُّه اعتقاد طبيعي لدى الكاتب أن كتابه جدير بالفوز. أتفهَّم هذا الشعور، فالكتابة عمل معقَّد، تستنزف طاقة الكاتب، ما يشعره أو يوهمه بأنه بصدد نصٍّ استثنائي، ليجيء تقييم اللجان مغايراً لرغبته. في نهاية المطاف، تقييم الأعمال الأدبية يعتمد على ذائقة لجان التحكيم، ما يعقِّد النقاش حول أحقية فوز هذه الرواية أو تلك.

* هل استطاع الأدب اللبناني التعبير عما تعيشه البلاد من تحولات عنيفة اقتصادياً واجتماعياً؛ فضلاً عن اشتعال المواجهة مع إسرائيل؟

- لم يعبِّر الأدب اللبناني بما يكفي عما تعيشه البلاد من تحوُّلات، ربما لأن الحدث لا يزال قائماً. ما يحملني على الظنِّ بأن ثمة أعمالاً في طور الكتابة أو النشر. لاحظتُ أن الأدب اللبناني يدور اليوم في فلك «الديستوبيا»، أو يتمحور حول القيم العالمية المتمثلة بالنسوية. بعض الأعمال أشارت إلى انفجار المرفأ في 4 أغسطس (آب) 2020. بالنسبة إلى المواجهة مع إسرائيل، فإن الأعمال الأدبية التي تناولت هذا الصراع القائم منذ أكثر من 75 عاماً، قليلة جدّاً، إذا ما قورنت بروايات الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً، وهو أمر مستغرب.

* هل يمكن أن تشهد الثقافة اللبنانية ازدهاراً لما يسمى «أدب الحرب»؟

- ازدهر أدب الحرب الأهلية اللبنانية وسط الأدباء، كما لم يزدهر أي نمط أدبي آخر. استوقفني إصرارهم على التركيز على تلك المرحلة من تاريخنا، برغم كل الحروب والأزمات التي مررنا بها. حرب يوليو (تموز) 2006 -على سبيل المثال- لم تترك بصمة قوية في الأدب اللبناني. لذلك، من الصعوبة التكهُّن حول دور الحرب الأخيرة في المشهد الأدبي.

* ما السر وراء أعمالك المتوالية عن شرق أفريقيا؟ وهل استطعت اقتناص جوهر القارة السمراء من الداخل؟

- لم أعرف شيئاً عن تاريخ العرب في شرق أفريقيا، قبل سفري إليها منذ أقل من عقدين. شكَّل اكتشافي الإرث العربي هناك صدمة ثقافية. فعمدتُ إلى التنقُّل بين دول المنطقة التي مثَّلت إمارات عربية لقرون من الزمن. ثم مع انكبابي على قراءة الكتب والدراسات التاريخية ذات الصلة، لاحظتُ أن لا وجود لروايات عربية حول تلك الحقبة، بخلاف الاهتمام الذي أولاه الأدباء العرب للأندلس. عددتُ شرق أفريقيا أندلساً منسيّاً. كان ذلك عام 2012، حين شرعتُ بكتابة «جزر القرنفل»، وهي رواية عن زنجبار، خلال فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان، أعقبتُها بثلاث روايات عن أماكن أفريقية أخرى، نالت نصيبها من الحضور العربي. بهذا المعنى، ليست الغاية من الكتابة عن أفريقيا اقتناص جوهر القارة السمراء، بقدر ما هي مسح الغبار عن الزمن العربي المنسي هناك.

* ألم تخشَ عند كتابتك عن أفريقيا أنك لست مواطناً أفريقياً لا تعرف المجتمعات المحلية جيداً، وبالتالي يمكن أن يفتقد النص العمق المطلوب؟

- بعد عشرين عاماً من الإقامة في أفريقيا، أشعر أنني أفريقي بقدر ما أنا لبناني عربي، ومع ذلك فإنني لم أكتب عن المجتمعات المحلية؛ بل كتبتُ عن تاريخ العرب في تلك المنطقة. بمعنى آخر: لم أبتعد كثيراً عن المجتمعات العربية، وإن كان الإطار المكاني للروايات أفريقيا السمراء.

* هل لديك فلسفة معينة في اختيار عناوين رواياتك؟

- بديهياً يجب أن يعبِّر العنوان عن كُنه الرواية، ولا ألجأ لعنوان لافت لجذب اهتمام القارئ، إلا إذا وجدته يعبِّر أكثر عن روح النصِّ وجوهره. مع الشروع بكتابة أي رواية أضع عنواناً مؤقتاً، على الأقل لحفظ الملف في الكومبيوتر، ولكنْ مع مواصلة السرد، تختار الرواية عنوانها بنفسها، وتفرضه عليَّ. في رواية «ميكروفون كاتم صوت»، لم أختر العنوان حتى الصفحات الأخيرة، حين وجدتْ «عفاف» نفسها محاصرة بالظلام، تخنقها روائح النفايات، بينما المكبرات تزعق بقوة حولها، مانعة إياها من التفكير أو الصراخ. في تلك اللحظة الدرامية، اكتشفنا سرَّ الميكروفونات معاً، وانفعل كلانا لاكتشافنا المتأخر.

* كيف ترى الانتقادات التي يوجهها البعض إلى الرواية التاريخية، من أنها تعكس نوعاً من الاستسهال لدى المؤلف؛ حيث إن معظم عناصر العمل متوفرة، وبالتالي تعد «خياراً آمناً»؟

- لعلَّ العكس هو الأصحُّ. كتابة الرواية التاريخية أصعب من كتابة الرواية الاجتماعية المستقاة من أحداث معاصرة، بحيث تكون شخصياتها تجسيداً لشخصيات حقيقية ومرئية. كما أن الرواية التاريخية تعود إلى حقبة زمنية أخرى، ما يحتِّم على الكاتب البحث عنها والتمحيص فيها، فضلاً عن تكبيله بحقائق تاريخية لا يمكن التملُّص منها. وقد تغدو المهمة أكثر تعقيداً في الرواية التي تتناول شخصيات تاريخية؛ لأن حرية الكاتب تصبح محدودة للغاية في رسم تلك الشخصيات، وتحديد مساراتها.

* كيف ترى علاقتك بالأجيال السابقة في الأدب اللبناني؟ وهل ترفع شعار: أنا أديب بلا أساتذة؟

- قدَّم لبنان أديبات وأدباء كباراً، عرفتُ بعضهم شخصيّاً، ورحل بعضهم قبل أن أحظى بهذه الفرصة. من الأعمال الأدبية البارزة التي تأثرتُ بها روايات جبور الدويهي، وأمين معلوف، وحنان الشيخ... للحق، إن كان لا بدَّ من شعار أرفعه، فإنني أرفع شعاراً معاكساً لما ذكرتِه في سؤالك.