كرامب ـ كارنباور وريثة ميركل في الزمن الألماني الصعب

تواجه تحدّي الاستمرارية أو إرضاء الشارع

كرامب ـ كارنباور وريثة ميركل في الزمن الألماني الصعب
TT

كرامب ـ كارنباور وريثة ميركل في الزمن الألماني الصعب

كرامب ـ كارنباور وريثة ميركل في الزمن الألماني الصعب

بينما كانت آنيغريت كرامب - كارنباور تمسح دموعها فرحاً فور إعلان فوزها بزعامة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، كانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تبتسم ارتياحاً. تعانقت السيدتان على المسرح أمام المئات من المندوبين المصفقين في قاعة مؤتمر الحزب في مدينة هامبورغ، وتبادلتا همساً كلمات التهنئة.
لقد نجحت ميركل فيما فشل فيه أسلافها. إذ إنها لم تخرج من السلطة عنوة ولا بانقلاب، بل هندست خروجها بإيصال مرشحها المفضّل لخلافتها في زعامة الحزب الذي قادته 18 سنة حققت خلالها له 4 انتصارات انتخابية. أما كرامب - كارنباور فقد فازت بزعامة أكبر حزب في ألمانيا، وباتت على بعد خطوات معدودة من أن تغدو المستشارة التالية والمرأة الثانية التي تقود الحزب والبلاد.
رغم ذلك، فإن هذا الانتصار لم يكن كاملاً؛ إذ فازت كرامب – كارنباور بفارق ضئيل جداً على منافسها فريدريش ميرز، وتركت وراءها حزباً منقسماً أكثر من أي وقت مضى. إنه انقسام بين رؤيتين: الاستمرارية والتجديد. فلقد جسّدت هي الرؤية الأولى، أي مزيداً من الخط نفسه، والصحافة طبعتها بـ«ميني ميركل»، وبالفعل، حتى الآن لم تثبت أنها تختلف كثيراً عنها. أما الرؤية الأخرى التي جسّدها منافسها ميرز فتتمثل في الابتعاد عن ميركل وإرثها وإبعاد الحزب عن الوسط وإعادته إلى اليمين. وباختيارها على حساب ميرز، قد يكون العدد الأكبر من مندوبي الحزب اختاروا الاستمرارية بنهج ميركل، لكن قرابة النصف الآخر تُركوا منهزمين غاضبين.

قبل أن تترشح آنيغريت كرامب - كارنباور لزعامة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في ألمانيا، لم تكن معروفة كثيراً، ولا سيما أنها تسلمت الأمانة العامة للحزب المحافظ العريق قبل أشهر قليلة. وقبلها كانت مكتفية بإدارة ولايتها الصغيرة زارلاند (السار) الواقعة على الحدود مع فرنسا من منصبها رئيسةً لحكومتها من عام 2011 حتى بدايات العام الحالي.
لم تكن تربطها علاقة كبيرة بالعاصمة برلين. فهي لم تشارك يوماً في الحكومات الفيدرالية. ولم تترشح ولا مرة للبوندستاغ (مجلس النواب في البرلمان الألماني) مع أنها جلست في مقاعده لمدة 7 أشهر عام 1998 عندما حلّت مكان نائب آخر من الحزب. بيد أنها خسرت المقعد في الانتخابات العامة بعد أشهر قليلة. ثم إن اسمها أثار الكثير من الجدل ودفع ببعض الصحافة إلى التساؤل بهزل عما إذا كان من الممكن انتخاب سيّدة تحمل اسماً مركباً وبهذا التعقيد لتصبح زعيمة أكبر حزب في البلاد. وهي رغم أن تدرّجها في الحزب يعود إلى أكثر من 18 سنة، انحصر معظم نشاطها السياسي في ولايتها زارلاند، حيث شغلت مناصب وزارية كثيرة أوصلتها إلى رئاسة الحكومة في النهاية.

- انتصار بداية الصعود
لكن هناك، في تلك الولاية الصغيرة النائية، نجحت كرامب - كارنباور بقيادة حزبها إلى الفوز بالانتخابات المحلية التي أجريت في مارس (آذار) 2017، أي قبل أشهر من الانتخابات العامة في البلاد التي خسر فيها الديمقراطيون المسيحيون أصواتاً كثيرة على رغم فوزهم بنتيجتها. في المقابل، تمكن فرع الديمقراطيين المسيحيين في انتخابات زارلاند المحلية تحت قيادة كرامب – كارنباور من حصد أكثر من 40 في المائة من الأصوات، أي بزيادة 5 نقاط عن الانتخابات الأخيرة التي حصلت هناك عام 2012. وتحرص زعيمة الحزب الجديدة على الإشارة دائماً إلى ذلك الفوز دليلاً على قدرتها على جذب أصوات الناخبين. غير أن السياسة المحلية قد تختلف كثيراً عن السياسة الفيدرالية، بحسب محللين. إذ يشرح كريستيان كاستروب، من معهد برتلسمان في برلين: إن «كرامب - كارنباور تعد سياسية ناجحة في ولايتها... لكن زارلاند ولاية صغيرة، وهي وإن كانت رئيسة وزراء ناجحة هناك، فقيادة الحزب على صعيد فيدرالي أمر مختلف كثيراً».
وبالتالي، يرى كاستروب أن التحدي الأكبر أمامها سيكون ردم الهوة بين جناحي الحزب، متابعاً: إنه «سيكون عليها استخدام كل مهاراتها لسد الفجوة بين الوسطيين والمحافظين في الحزب، ولا نعرف ما إذا كانت ستنجح في ذلك».
في أي حال، تبدو الزعيمة الجديدة على علم بحجم التحدي أمامها، وهي لم تدخر وقتاً لاتخاذ أولى الخطوات لردم هذه الهوة. فبعد ساعات قليلة على انتخابها، أعلنت دعمها شاباً يُعتبر من أقصى اليمين داخل الحزب، لكي يخلفها في المنصب الذي تركته وراءها، أي الأمانة العامة للحزب. ومع أن الأمين العام الجديد بول زيمياك، الذي لا يتجاوز عمره الـ33، كان قد أعلن صراحة تفضيله فوز أحد منافسيها اليمينيين – فريدريش ميرز ويانس شبان – على الزعامة، إلا أن قبوله بالترشح لمنصب الأمانة العامة وفوزه به، أرسلا إشارة إيجابية إلى كرامب - كارنباور. فالشاب الذي نجح بجذب الناخبين الشباب والمحافظين إلى صفه، يبدو على استعداد للعمل مع الزعيمة الجديدة في محاولة ردم الانقسام داخل الحزب. لكن غير معروف ما إذا كان سينجح في هذه المهمة. إذ يقول كاستروب: إن اختياره كان خطوة جيدة، لكن «رغم أن زيمياك كان ناجحاً جداً في تحريك القاعدة الشبابية للحزب، يصعب الاستنتاج بأنه سينجح بردم الهوة بين الجناحين المتصارعين داخل الحزب».
ويُذكر هنا أن زيمياك، الذي يتحدر من عائلة مهاجرة من بولندا، لم يتردد سابقاً في انتقاد سياسات ميركل حول الهجرة. وكان يرأس اتحاد الشباب داخل الحزب، ويحمل أفكاراً يمينية محافظة قرّبته على مدى السنين من وزير الصحة الشاب يانس شبان الذي كان المرشح الثالث لزعامة الحزب وخرج من الجولة الأولى للتصويت بعد حصوله على 150 صوتاً فقط من أصل أكثر من ألف صوت.

- مزايا «آ ك ك»
تعتمد آنيغريت كرامب - كارنباور، المعروفة اختصاراً - وشعبياً - بـ«آ ك ك» على أسلوبها المقرّب من الناخبين لكسب الأصوات. ولسنوات، بقي رقم هاتف منزلها في بلدة بوتلينغين بولاية زارلاند مسجلاً في دليل الهاتف ومتوافراً للجميع للاتصال بها. وبقي على هذه الحال حتى عند تسلمها منصب رئاسة حكومة الولاية... من دون أن تشتكي مرة من اتصالات مزعجة.
إلا أن الوضع الآن، بعد فوزها بزعامة الحزب، بدأ يتغير. ففي مقابلة أدلت بها بعد فوزها بالزعامة لصحيفة «زاربروكر تسايتونغ» المحلية الصادرة في زاربروكن، عاصمة الولاية، قالت: إن عدد الاتصالات التي «تخطت حدود اللياقة والأدب» ازدادت كثيراً في الآونة الأخيرة. كذلك، فإنها بسبب تغيّبها المستمر عن المنزل، فزوجها الذي يتفرغ لتربية أطفالهما الثلاث، هو من يجيب على هذه الاتصالات في معظم الوقت. ومن ثم، وصفت الأمر بأنه أصبح «عبئاً»، وبات من الضروري «حماية عائلتها»، في إشارة إلى إمكانية إسقاط رقمها من دليل الهاتف.

- الزوجة والأم والمرأة المرحة
مقاربتها هذه أكسبت كرامب – كارنباور الكثير من الشعبية، على الأقل في ولايتها. فهناك يشعر السكان بأنها واحدة منهم. وفي حملاتها الانتخابية، تبدو «آ ك ك» منفتحة في الحديث عن عائلتها ولا تتردد في رواية قصص شخصية، مع أنها لا تخاف، في المقابل، من الخروج عن الصورة النمطية للقائد الرصين. ففي فبراير (شباط) الماضي، وقفت على خشبة مسرح في ولايتها خلال احتفالات بكرنفال سنوي، مرتدية زي عاملة تنظيف. وحملت المكنسة، وارتدت مئزراً وربطت منديلاً على رأسها وبدأت تنظف المسرح وترمي النكات. وكان الحضور ينفجر بالضحك كلما تحدثت بلهجة محلية ثقيلة.
وفي مقارنة مع شخصية ميركل الدائمة الرصانة، تبدو «آ ك ك» مرحة وسهلة التعاطي. وهذا ما يشير إليه كريستيان كاستروب بقوله: إن «ميركل لطالما كانت ودودة، لكنها دائماً تُبقي مسافة، ولا يمكنك أن تعلم بماذا تفكر… كما أنها لا تتحدث بأمور شخصية بينما كرامب – كارنباور دائماً ما تتحدّث بأمور حياتها».

- نقاط تشابه واختلاف
مثل ميركل البروتستانتية، نشأت «آ ك ك» في كنف عائلة محافظة ومتدينة، لكنها تنتمي إلى الطائفة المسيحية الكاثوليكية. والفارق الثاني، هو أنه بينما ترعرعت ميركل في ألمانيا الشرقية تحت حكم الشيوعية، كبرت الأخرى في ألمانيا الغربية على الحدود مع فرنسا؛ ما حوّلها إلى سيدة فرانكفونية بامتياز... وهي تتكلّم الفرنسية بطلاقة، وتدفع بولايتها الآن إلى اعتماد اللغة الفرنسية لغة ثانية رسمية في زارلاند.
من ناحية أخرى، رغم أن الزعيمة الجديدة تزوّجت باكراً في عمر الـ22 من هيلموت كارنباور، وأنجبت منه ثلاثة أطفال، فذلك لم يضع حداً لطموحها السياسي، بل نجحت في العناية بعائلتها بينما كانت تتسلق سلّم القيادة داخل حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي. أكثر من هذا، ساعدها زوجها كثيراً بقراره التفرّغ لتربية الأطفال؛ ما منحها مساحة كافية لتحقيق طموحها السياسي.
واللافت بعد فوزها بمنصب زعامة الحزب، أن السيدة التي تعتبر هي العائل الرئيس لأسرتها، لا تتقاضى راتباً بعد تخليها عن منصبها رئيسةَ حكومة زارلاند وتفرّغها لقيادة الحزب. فعادة، لا يخصص لهذا المنصب الحزبي راتب منفصل؛ لأن معظم من تولوه حتى الآن كانت لديهم وظائف أخرى، كمستشار أو عضو في الحكومة أو «البوندستاغ». لكن «آ ك ك» لا تشغل حالياً أياً من تلك المناصب. ويبدو أن حزبها بدأ التفكير في تخصيص راتب لها بعدما رفضت تولي أي منصب حكومي «لأن الحكومة مكتملة»، ولأنها تريد التفرع لقيادة الحزب وتحضيره للانتخابات.
وفعلاً، هذه مهمّة شاقة ستكون في حاجة إلى التفرغ لها... فعدا عن توحيد الحزب، أمام زعيمة الحزب الجديدة مهمة رئيسية: تحسين أداء الديمقراطيين المسيحيين في الانتخابات. وسيحمل العام المقبل أولى التجارب لها، وقد تكون الحكم على نجاحها أو فشلها، بدءاً بالانتخابات الأوروبية في النصف الأول من العام الجديد، ثم الانتخابات المحلية، وبخاصة في ولايتي براندنبورغ وساكسونيا الشرقيتين اللتين يتصدر فيهما حزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف استطلاعات الرأي.

- ضغوط كبيرة
يرى المحلل السياسي كاستروب، أن كرامب - كارنباور تحت «ضغوط كبيرة»؛ لأنها إذا لم تنجح في انتشال الحزب من خسائره الانتخابية الكبيرة، فستكون قد فشلت في دورها زعيمةً للحزب. ويضيف: «عليها أن تميل نحو اليمين لجذب الأصوات التي خسرها الحزب لصالح اليمين المتطرف، لكن عليها أن تفعل ذلك بذكاء وحنكة». ويستطرد قائلاً: إن «أولى الخطوات التي يمكن أن تتخذها بهذا الشأن هي إبعاد الشبهات عنها بأنها (ميني ميركل)، وتطوير نفسها لكي يصبح لها خطٌ واضحٌ ومختلفٌ؛ لأنها إذا بقيت نسخة عن ميركل لن تحقق النجاح».
لكن كرامب - كارنباور تعد من الوسطيين في الحزب، مثلها مثل ميركل التي حوّلت الاتحاد الديمقراطي المسيحي من حزب محافظ يميني تطغى عليه الذكورية، إلى حزب منفتح وسطي بات مرتاحاً بانتخاب امرأة ثانية لقيادته بعد 18 سنة من اختياره وتمسكه بأول امرأة انتخبها لتقوده. بيد أن هذه «الوسطية» قد تكون مشكلة للناخبين، بحسب رأي البعض، في فترة انزلاق أوروبا كلها نحو اليمين المتطرف. مع ذلك، فإن كرامب - كارنباور، رغم وسطيتها هذه، أطلقت تصريحات في الماضي تميل إلى اليمين، وبدت في تناقض مع ميركل داعمها الرئيسي. وكمثال على ذلك، رغم مساندتها لميركل في سياسة اللجوء وفتح
الأبواب أمام السوريين الفارين من الحرب، اتخذت موقفاً متشدداً مع نحو 7 آلاف لاجئ وصلوا إلى ولايتها وجذبت بهذا الموقف انتباها على المستوى الوطني. كما أنها قالت مرة: إن على اللاجئين المسلمين الذين يرفضون قبول الطعام من متطوّعات نساء أن يُتركوا ليجوعوا. وكانت ترافق اللاجئين الذين يقولون إنهم قصّر وأضاعوا أوراقهم، إلى المراكز الطبية لتحديد أعمارهم، ومن ثم تشجيع الحكومة في برلين على إعادة اللاجئين المرفوضة طلباتهم.
آراؤها هذه عكست آراء ناخبيها في ولايتها، حيث يعيش نحو مليون شخص. ويقول الصحافي دانيال كيرش، الذي يعمل في صحيفة «زاربروكر تسايتونغ»: إن أفكار الزعيمة الجديدة باتت «تتناغم مع مزاج الناس، فهي تستطيع قراءة التغيرات في الرأي العام بسرعة كبيرة».
هذه موهبة سيكون عليها أن تستخدمها حتى حدها الأقصى للنجاح في مهمتها.


مقالات ذات صلة

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».