هل العنف نزوع أصيل للدين؟

أستاذ اللاهوت في جامعة دي بول الأميركية يعتبره وهماً شائعاً

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

هل العنف نزوع أصيل للدين؟

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

كيف تستخدم مقولة ارتباط الدين بالعنف لوسم المجتمعات المتدينة والمسلمة بـ«الشريرة»؟ ولماذا يكون العنف شرعياً وعقلانياً عندما يكون علمانياً ويكون غير عقلاني وغير شرعي إذا كان دينياً؟ لماذا الموت والتضحية في سبيل الأمة القومية والدولة يحتفى به في حين يكون الموت والتضحية في سبيل الدين أو بدافع ديني أمراً مستنكراً ويستحق الإدانة؟ كيف أصبح العنف الديني أسطورة سياسية؟ يحاول ويليام ت. كافانو أستاذ اللاهوت في جامعة دي بول الأميركية في كتابه «أسطورة العنف الديني» أن يجيب عن تلك الأسئلة الصعبة في أطروحته التي تبحث عميقاً في «الآيديولوجيا العلمانية وجذور الصراع الحديث».
صارت فكرة ارتباط الدين بالعنف شائعة في الغرب إلى حد أنها باتت مسلَّمة، وجوهرها أن الدين بما هو فكرة عابرة للثقافة والتاريخ مختلف جوهرياً عن العلمانية بهذا الميل الخطير نحو العنف، وهي فكرة تحولت إلى أسطورة مؤسسة لشرعية الدولة القومية الليبرالية، وذلك على الرغم من أن العلمانية ذاتها يمكن أن تكون على ذات الدرجة من العنف، وهو أمر يقود - حسب كافانو - لإعادة النظر في تاريخ نشوء المفهومين (الدين والعلمانية). وفي الواقع فإن هذه الفكرة هي شرعنة لعنف الدولة واحتكارها وصناعة سياسات تهميش لنوع معين من الجماعات الوطنية، وقولبة مجتمعات ودول معينة في قالب جاهز «المجتمعات الشريرة»، باعتبار أن عنف الدين غير عقلاني ومنفلت وعنف الدولة هو عنف عقلاني ومنظم ومنضبط.
الآيديولوجيات جميعها في واقع الحال يمكن أن تشجع على ممارسة العنف تحت ظروف معينة، وصحيح أن التاريخ مليء بالأدلة على الاقتران بين الدين والعنف من القربان البشري للآلهة إلى الحروب الصليبية والحروب المقدسة إلى اضطهاد الأقليات الدينية، إن هذا أمر واضح، لكن هذا لا يعني أن العنف مرتبط بالدين وحده أو أنه عامل رئيس، فالأديان الكبرى تمتلك داخلها مصادر لمنع ارتكاب الشر والعنف باسمها تماماً مثلما تملك مصادر لإطلاقه، وهو أمر يجعل الربط المطلق بين الدين والعنف أمراً مشكوكاً فيه، لأن هذا الوضع يتوفر في كل المنظومات الآيديولوجية غير الدينية.
إن ثمة مصادر رئيسية للعنف تتمثل في ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، وفي الطاعة العمياء، وفي تأسيس زمن مثالي، وفي مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وفي إعلان «الحرب المقدسة»، وهي مصادر مشتركة بين الآيديولوجيا القومية (الدولة الوطنية) والأديان، والحقيقة أن العنف لا ينشأ من كون بعض البشر متدينين وبعضهم ليس كذلك وإنما من كون بعض الناس يسيئون فهم التدين ولا يستطيعون العيش دون مطلق ودون يقين، بمعنى آخر الانتقال نحو العنف لا ينشأ من مجرد «الإيمان» وإنما من تحول «التدين» إلى «دين» بحيث تصبح التجربة الجوانية الداخلية الذاتية أمراً برانياً يستعمل كمحدد للهوية بطريقة يتم فرضها على الآخرين أو الدفاع عنها ضدهم. المشكلة مرة أخرى أن هذا يمكن أن يحدث في الآيديولوجيا الدنيوية، فالإيمان بالتكنولوجيا والإنسانوية العلمانية، والاستهلاكية وغيرها من المنظورات تجاه العالم ينطبق عليها الأمر نفسه ويمكن أن تتحول إلى العنف بالطريقة عينها.
هنالك سمة بارزة للدين وهي التقسيم الحاد بين البشر باعتبار أحدهم «مؤمناً» والآخر «كافراً»، أي بين «نحن» و«الآخرين»، ولكن هذا التقسيم ذاته يمكن ملاحظته بسهولة أيضاً بين «مؤمنين» بالعلمانية و«كافرين بها»، بغض النظر عن الآليات التي يوفرها للتعاطي مع هذا الانقسام، في الواقع هذه السمة هي أحد الدلائل على تشابك وتداخل الديني في السياسي، أكثر من كونها دلائل على تميز المجال الديني.
قد يذهب البعض إلى أن النزوع الكامن في العنف الديني إلى «الوحشية» و«التصلب» يرجع إلى أن الدين يضع العنف الذي يمارس باسمه في سياق أكبر للحياة والموت، وسياق من المعارك الكبرى والماضي الأسطوري من الملحمة بين الخير والشر، وهذا ما يجعل وقفه مستحيلاً، في حين ترجع «عقلانية» العنف القومي من كونه محصوراً بالأرض، لكن ما الذي يجعلنا نصدق أن العقائد القومية لا يمكن أن تكون إطلاقية وأن العنف المتولد منها ليس مبنياً على عقائد عنصرية ماورائية تمنح عرقاً ما تفوقاً خاصاً على البشر وتنسب الشرور المطلقة لقوميات أخرى؟ لا شيء يضمن ذلك مطلقاً، وهذا يعني أن حصر هذا النزوع بالدين أمر غير متحقق، فالقومية العلمانية بهذا المعنى تسلك السلوك العنيف الذي ينسب للدين نفسه.
تبدو قضية «الاستشهاد» أو التضحية بالنفس أنها تبلغ مستوى أقصى في العنف الديني، وهو مرتبط بمفهوم القربان للسلطة العليا المفارقة للبشر، لكن الحديث عن التضحية بالنفس جزء أساسي من الخطاب الوطني العلماني، وعلى الرغم من أن التضحية بالنفس بنفس المستوى وربما أشد في حركات التحرر العلمانية الوطنية أو العابرة للحدود ليس أمراً يمكن تجاهله، ويدع ما يذهب إليه المؤلف أن العمليات الانتحارية التي تمثل الآن أبرز أساليب الحركات الإسلامية المتطرفة منقولة من حركات علمانية لا العكس!
يذهب بعض الباحثين إلى أن العنف الديني هو عنف سياسي تم «تديينه»، وهو أمر يساعد على تصعيد العنف واستمراره، الأفكار الدينية لا تستدعي العنف بذاتها، وإنما هنالك لحظات معينة من الصراع تدفع الجماعات إلى إعادة تعريف نفسها، وغالبا ما تكون هي لحظات الإحباط واليأس حيث تتنافس النزعات الآيديولوجية السياسية على تديينها، حيث يتم عبر ذلك إكساب الصراع الديني هالة الصراع المقدس وينقله إلى مستوى الصراع الكوني والأزلي أو السماوي.
المفارقة أنه في الوقت الذي يشار فيه إلى أن الدين يمتلك قدرة أكبر من الدولة الوطنية على توليد العنف والتحكم به فإنه في تاريخ الدول يبقى الدين من أهم العوامل التي تقوم عليها شرعية الدولةَ! وحتى الدولة العلمانية لا تزال تجد جذور عنفها في الدين، على ما يقوله الباحث ديفيد رابو بورت. ثمة ما يقال بشكل كبير عن العنف الديني وهو «لاعقلانيته»، فالدين - وفق المنظور السائد - يتموضع داخل عالم اللاعقلانية، وأحيانا في عالم الدوافع غير العقلانية، وبهذا يكون الدين بحد ذاته تهديداً للنظام العقلاني للمجتمع، وهو ما يقتضي أن يتم تدجين الدين وإخضاعه لإرادة الدولة بإخراجه من التأثير من الحياة العامة، لكن من قال إن الدين ممكن أن يخرج من التأثير في الحياة العامة؟ ما دام للدين رؤية كونية فإن له شق علماني يصعب تجاهله مرتبط بالعالم اليومي الملموس، وهذا يتطلب منا إعادة النظر في هذا التعريف لوظيفة الدين فعلياً.
يجب أيضاً أن يتم ملاحظة أن «الدين» لم يعد وصفاً لمجموعة من الممارسات التي ظهرت في كل زمان ومكان، بل أصبح مقولة تم تأسيسها ولا يزال يتم تأسيسها عبر أشكال مختلفة من الترتيبات السياسية. والقول إن للدين مفهوماً عابراً للتاريخ والثقافات ومنفصلاً عن الظواهر العلمانية هو في حد ذاته جزء من ترتيبات معينة لسلطة الدولة القومية الليبرالية الحديثة التي نشأت في الغرب.
وخلاصة ما يريد كافانو قوله هو أن «التقسيم النظري للعنف إلى عنف ديني وآخر علماني هو تقسيم لا يستند على أرضية صلبة، كما أنه يشتت الانتباه عن عنف الدولة القومية العلمانية». وهو مستند إلى أرضية تمركز غربي ينظر لنفسه كمحتكر للعقلانية والآخر غير عقلاني وخارج عن المنطق، إذ ليس ثمة مبرر للافتراض بأن ما نعتبره آيديولوجيات علمانية كالقومية والوطنية والرأسمالية والليبرالية والماركسية هي أقل نزوعاً نحو الإطلاقية والانقسامية واللاعقلانية من الإيمان بإله الكتاب المقدس. وعلى هذا فلفهم العنف الديني علينا أن نقر بأننا نحتاج إلى دراسات مبنية على ملاحظات واقعية وعملية حول الظروف التي تصبح فيها الآيديولوجيات والممارسات من جميع الأنواع عنيفة ومميتة.
لقد آن الأوان - حسب كافانو - أن ننظر إلى حقيقة أسطورة العنف الديني على أنها جزء مهم من فلكلور المجتمعات الغربية، فهي لا تحدد حقائق العالم كما هي، بل تقوم بشرعنة ترتيبات معينة للسلطة في الغرب الحديث، إنها تقوم بمهمة شرعنة توجيه ولاء المواطنين للدولة القومية وتؤمن احتكارها للعنف المشروع وتساعد على تحديد العدو وظيفياً بما يخدم تصور الدور الذي تنهض به الدولة القومية باعتبارها تقوم بحمايتنا منه.
أسطورة العنف الديني: الآيديولوجيا العلمانية وجذور الصراع الحديث
ويليام ت. كافانو
ترجمة أسامة غاوجي
الشبكة العربية للأبحاث والنشر
الطبعة الأولى، 2017

- كاتب سوري


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.