من الممكن أن يعتمد الإنسان على عقله في علاج نفسه، لكن الأمر في حقيقته يتعلق بما هو أعمق من التفكير الإيجابي. وبإمكانك بالفعل الاعتماد على عقلك كأداة قوية للشفاء، إذا ما منحته فرصة حقيقية.
* المخ والجسد
تكمن الفكرة برمتها في أن المخ يملك القدرة على إقناع الجسد بأن علاجاً زائفاً يحمل فائدة حقيقية، وهذا ما يطلق عليه «تأثير الحبوب الوهمية» (placebo effect)، أو بالأحرى تأثير الإيحاء، وبالتالي تحفيز عملية الشفاء، وهي الظاهرة التي عايشها الإنسان منذ قرابة ألف عام.
واليوم، توصل العلم إلى أنه في ظل الظروف الصائبة، بإمكان العلاج الإيحائي تحقيق المستوى ذاته من الفاعلية الذي تصل إليه العلاجات التقليدية.
في هذا الصدد، أعرب البروفسور تيد كابتشوك، من «مركز بيث إزرايل ديكونيس الطبي» التابع لجامعة هارفارد، الذي تركز أبحاثة على تأثيرات العلاج بالحبوب الوهمية، عن اعتقاده أنه «يتجاوز تأثير الحبوب الوهمية مجرد التفكير الإيجابي؛ إنه الإيمان بأن علاجاً أو إجراء طبياً ما سينجح. إنه يتعلق بخلق صلة أكبر بين المخ والجسم، وكيفية عملها معاً».
إن الحبوب الوهمية أو «عقاقير الإيحاء» لا تقلص مستوى الكوليسترول لديك، أو تؤدي إلى انكماش ورم ما، وإنما تعمل على الأعراض التي ينظمها المخ، مثل الإحساس بالألم. وأضاف كابتشوك: «قد تترك الحبوب الوهمية بداخلك شعوراً أفضل، لكنها لا تسهم في علاجك. وقد اتضح أنها تصل أقصى مستويات الفاعلية لدى التعامل مع مواقف مثل تخفيف الألم، والأرق المرتبط بالتوتر العصبي، والآثار الجانبية لعلاج السرطان، مثل الإرهاق والغثيان».
* إخفاق أو نجاح
لسنوات، جرى النظر إلى تأثير الحبوب الوهمية باعتباره مؤشراً على الفشل. ويجري استخدام عقاقير الإيحاء هذه في تجارب سريرية لاختبار مدى فاعلية العلاجات، وفي أغلب الأحوال يجري استخدامها في الدراسات المتعلقة بالعقاقير. وعلى سبيل المثال، يحصل الأفراد داخل مجموعة ما على العقار الذي يجري اختباره، بينما يحصل أفراد المجموعة الأخرى على العقار الزائف، أو عقار الإيحاء الذي يظنون أنه علاج حقيقي. ومن خلال ذلك، يصبح باستطاعة الباحثين تقييم مدى فاعلية العلاج، من خلال المقارنة بين ردود أفعال أفراد المجموعتين. وإذا جاء رد فعل المجموعتين متطابقاً - سواء باتجاه التحسن أم لا - يقرر الباحثون أن العقار غير فاعل.
إلا أن خبراء خلصوا في وقت قريب إلى أن تقديم الجسم رد فعل لعقار إيحاء لا يعد في حد ذاته دليلاً على إخفاق علاج ما آخر، وإنما يشير إلى أن ثمة آلية أخرى غير دوائية قد تكون متوافرة.
اللافت أنه حتى هذه اللحظة، لم يفلح العلماء في التوصل بعد لتفهم كامل لكيفية عمل عقاقير الإيحاء، لكن من الواضح أنه يتضمن رد فعل مركب على صلة بالعلوم العصبية، يتضمن كل شيء من تعزيز المرسلات العصبية التي تضفي على الإنسان شعوراً طيباً، مثل إندورفين ودوبامين، لتحفيز نشاط أكبر في مناطق معينة من المخ على صلة بالحالة المزاجية وردود الأفعال الانفعالية والوعي الذاتي. ومن الممكن أن تحمل جميع العلاجات الإيحائية فوائد علاجية.
وأوضح كابتشوك: «تأثير الإيحاء يشكل سبيلاً يبعث من خلاله العقل رسالة إلى الجسم تحوي ما يحتاجه كي يتولد لديه شعور أفضل».
إلا أن العلاج الإيحائي لا يقتصر على إطلاق العنان لقوة المخ، وإنما يحتاج المرء أيضاً إلى طقوس العلاج. وقال كابتشوك: «ينبغي أن يذهب المرء إلى عيادة في أوقات معينة، وأن يخضع للتفحص من قبل مهنيين طبيين يرتدون المعطف الأبيض التقليدي. وداخل العيادة، يعاين المريض عقاقير كثيرة من حوله، ويخضع لإجراءات طبية غريبة بالنسبة له. ومن الممكن أن يترك كل هذا تأثيراً عميقاً على كيفية تعامل الجسم مع الأعراض نظراً لشعور المرء بأنه يتلقى اهتماماً ورعاية».
* تناول الحبوب الوهمية
غالباً ما تنجح العلاجات الوهمية أو علاجات الإيحاء عندما لا يدرك الأفراد وجودها. وماذا يحدث لو أنك عرفت أنك تتناول عقاراً وهمياً؟ سعت دراسة، قادها كابتشوك عام 2014، ونشرت في دورية «ساينس ترانسليشنال ميديسين»، لاستكشاف الإجابة عن هذين التساؤلين، من خلال تفحص كيف يتفاعل الناس مع عقاقير تخفيف آلام الصداع النصفي.
وجرى تقسيم المشاركين في الدراسة إلى 3 مجموعات، حصل أفراد الأولى على عقار خاص بالصداع النصفي يحمل اسمه عليه، بينما حصل أفراد المجموعة الأخرى على عقار إيحائي مذكور عليه هذا الأمر. أما الثالثة، فلم يحصل أفرادها على أي شيء.
واكتشف الباحثون أن العقاقير الإيحائية حققت فاعلية بنسبة بلغت 50 في المائة، مقارنة بالعقاقير الحقيقية، في تخفيف الألم بعد التعرض لنوبة ألم بسبب الصداع النصفي.
وتوقع الباحثون أن القوة المحركة وراء رد الفعل هذا تتجاوز كونها مجرد رد فعل بسيط لتناول قرص ما، وقال كابتشوك: «يربط الناس بين طقس تناول دواء والتعرض لتأثير إيجابي باتجاه الشفاء. وحتى إذا كانوا مدركين لأن ما يتناولونه ليس دواءً، فإن الفعل نفسه بمقدوره تحفيز المخ نحو الاعتقاد أن الجسم يشفى».
والآن، كيف يمكنك تناول دواء إيحائي؟ من بين السبل لتحقيق ذلك ممارسة وسائل معاونة الذات. ويقول كابتشوك: «الانغماس في حياة صحية - تناول الطعام المناسب، وممارسة الرياضة واليوغا، وتوفير وقت للنشاطات الاجتماعية الإيجابية والتأمل - قد يوفر بعض المكونات المحورية للتأثير الإيحائي».
وفي الوقت الذي تشكل فيه هذه النشاطات تدخلات إيجابية في حد ذاتها، فإن مستوى الاهتمام بإمكانه تعزيز فوائده.
ويشرح كابتشوك أنه «غالباً ما يكون الاهتمام والدعم المعنوي الذي توفره لنفسك من الأمور التي ليس من السهل تقييمها، لكن من الممكن أن يسهما في خلق حالة أكبر من الارتياح بينك وبين العالم المحيط، وقد يشكل ذلك شوطاً كبيراً نحو الشفاء».
* فاعلية الدواء الإيحائي
ربما نجحت دراسة نشرت عبر الإنترنت في 27 أكتوبر (تشرين الأول) 2016، في مجلة «بلوس بيولوجي» PLOS Biology، في رصد ما يجري داخل المخ أثناء التعرض لتأثير الحبوب الوهمية.
كان الباحثون القائمون على الدراسة استخدموا خاصية التصوير بالرنين المغناطيسي لإجراء مسح لمخ الأشخاص الذين يعانون من ألم مزمن جراء الإصابة بفصال عظمي بمنطقة الركبة.
بعد ذلك، جرى تقديم دواء إيحائي للجميع، وأجري مسح آخر للمخ. ولاحظ الباحثون أن أولئك الذين شعروا بتراجع في حدة الألم، تمتعوا بنشاط أكبر في وسط منطقة التلفيف الجبهي، التي تشكل قرابة ثلث الفص الأمامي.
* رسالة هارفارد «مراقبة صحة الرجل»، خدمات «تريبيون ميديا»