«شوقي أبي شقرا يتذكر» (2 - 3): أمين معلوف يدقق في القصاصات ومحمود درويش يريد قصيدته صفحة أولى

أنسي الحاج يدخل الكاتب في مغامرة تستمر 30 عامًا

لقاء بدعوة من الصفحة الثقافية في «النهار» في قاعة الصفحة، الحمراء. والمشاركون هم: في الواجهة عصام محفوظ، فؤاد رفقة، جورج غانم، وإلى اليسار: عبد الله لحود، فؤاد كنعان، نزيه خاطر، أحمد مكي ومن اليسار: يوسف الخال، خليل رامز سركيس، شوقي أبي شقرا، علي شلق، جورج شحادة
لقاء بدعوة من الصفحة الثقافية في «النهار» في قاعة الصفحة، الحمراء. والمشاركون هم: في الواجهة عصام محفوظ، فؤاد رفقة، جورج غانم، وإلى اليسار: عبد الله لحود، فؤاد كنعان، نزيه خاطر، أحمد مكي ومن اليسار: يوسف الخال، خليل رامز سركيس، شوقي أبي شقرا، علي شلق، جورج شحادة
TT

«شوقي أبي شقرا يتذكر» (2 - 3): أمين معلوف يدقق في القصاصات ومحمود درويش يريد قصيدته صفحة أولى

لقاء بدعوة من الصفحة الثقافية في «النهار» في قاعة الصفحة، الحمراء. والمشاركون هم: في الواجهة عصام محفوظ، فؤاد رفقة، جورج غانم، وإلى اليسار: عبد الله لحود، فؤاد كنعان، نزيه خاطر، أحمد مكي ومن اليسار: يوسف الخال، خليل رامز سركيس، شوقي أبي شقرا، علي شلق، جورج شحادة
لقاء بدعوة من الصفحة الثقافية في «النهار» في قاعة الصفحة، الحمراء. والمشاركون هم: في الواجهة عصام محفوظ، فؤاد رفقة، جورج غانم، وإلى اليسار: عبد الله لحود، فؤاد كنعان، نزيه خاطر، أحمد مكي ومن اليسار: يوسف الخال، خليل رامز سركيس، شوقي أبي شقرا، علي شلق، جورج شحادة

تواصل «الشرق الأوسط» لليوم الثاني، نشر مقتطفات من كتاب «شوقي أبي شقرا يتذكر» الذي سيصدر بعد أيام، حيث يتابع الكاتب كشف المستور عن العلاقات التي ساءت، ووصلت حد القطيعة بين بعض أقطاب مجلة «شعر»، ويحكي عن الصلات المتشنجة بين أدبائها المؤسسين، الذين كان هو أحدهم، ودور النساء الكاتبات، كما أنه يستذكر الأدباء العرب الذين مروا في بيروت، وفي حياته، إما مشاركين في «شعر» مثل البياتي والسياب، أو كتّابا في جريدة «النهار» كأمين معلوف، وزوار صفحتها الثقافية التي بنى مداميكها الأولى وبقي على رأسها أكثر من ثلاثة عقود.
مجلة «شعر» في بيروت كأنها تلك الشجرة الزرقاء، وكأنها الطاحونة تدور وتدور. وإلى مناخها أقبل شعراء كما الشاعر محمد الماغوط الذي أقبل من بلاده، وانضم إلى جريدة «الزمان» وأرسله يوسف الخال ودعواه الحرص عليه ليكتب بعض المقالات. وكنا نضحك وهو في زاوية من الطابق، حيث المحررون قاطبة شبه مختلف في مساحة ضيقة، وأنا إلى مكتبي ألتفت غالبًا إليه ورفيق المعلوف له طاولته، والأيام تتوالى على خفة ودعابة وظرف، ونحن في حرية نكتب ما نشاء من الثقافة إلى الأخبار المحلية. والصلة بالعالم الخارجي تزداد تنوعًا، وكان يأتيني زوار، ومنهم الشاعر موريس عواد، الذي كان يتابعنا ونقع في نفسه موقع الهوى والتجاوب. وامتزج الشعر والصحافة؛ فنحن شعراء ولنا مغامرات في الميدان الواسع ولنا نظرات إلى الأفق بعيدة وحيّة، ولا نتوقف عند حدّ معين. فلسنا طلاب المحدود والضيّق، ولا حملة رسالة ضعيفة، أو شهادة أو قضية. بل ننقل ما هو روح في مجالنا الشعري، إلى مجال الصحافة، وحملنا الرونق الفني أيضًا إليها، وكنا ممثلين للشعر والصحافة معًا، ونغرق في المهلة إلى آخر البئر والأعماق.
* أول قصيدة نثر
إنه الشاعر والناقد عبد القادر الجنابي. من سارع إلى أنني شوقي أبي شقرا الذي كتب قصائد أربعًا، ونشرت في جريدة «النهار»، وكانت من النثر، وكان صداها هكذا في خميس مجلة «شعر»، قبل الجميع. وهنا النص حولها كما في الجريدة، وأرجح أنه في سنة 1958:
قصيدة النثر مرة أخرى، في اجتماع خميس مجلة «شعر» الأسبوع الماضي طرحت مجددًا قضية قصيدة النثر على أثر أربع مقطوعات لشوقي أبي شقرا نشرت في «النهار» تحت عنوان «أربع قصائد». فسأل يوسف الخال ومحمد الماغوط وفؤاد رفقة لماذا أطلق على المقطوعات اسم قصائد، على الرغم من أنها خالية– على حدّ اعتقادهم– من أهم عنصرين في قصيدة النثر، وهما الكثافة والتوتر. فكان الجواب عن هذا التساؤل في مقطوعات أبي شقرا المذكورة جمعت عناصر كثيرة من عناصر قصيدة النثر، بين المفاجأة والطرافة المستحدثة والخيال والصورة؛ ما يوفر جوًا شعريًا خاصًا قد يصعب على الكثيرين التجاوب وإياه، ولكن ليس معنى هذا أنه بالتالي جو «غير شعري».
وتشعّب الحديث ووصل إلى جذور قصيدة النثر وأربابها في فرنسا، ليعود فيبدأ بـ«قصائد» أبي شقرا، دون أن يتمكن المجتمعون من الخروج بنتيجة واحدة.
على أن الواضح على أي حال هو أن فئة من الذين لم تعجبهم تسمية المقطوعات المنشورة في «النهار»، قصائد، ذهبوا في عدم إعجابهم من مبدأ محض شخصي، وهو أن تلك القصائد لم توافق مزاجهم ولم تبعث فيهم شيئا يذكر. ما يعني أن نقدهم كان موجها إلى «مزاج» الشاعر أكثر منه إلى مبدأ تعبيره الشعري.
* هنا: يوسف الخال
... وكان يوسف الخال في ملء التأييد لما يصدر عني من رأي، ومن تمسك بالجمالية في النص، وبالنظافة الكاملة لئلا تقع القصيدة في فراغ الفراغ، وكيف لها أن تنهض ثانية وأن تمر من جيل إلى جيل من وضع الخواء إلى وضع السوية والطاعة للمطلق، وللقيم الشكلية حتى الخلود وحتى البقاء في مجدها وبهائها الوضاح. وكان يوسف يرد عني السهام أو الاحتجاج، ويهجم هجومًا على أحدنا على نذير العظمة، ويصرخ بأنها رعاية الشكل، وحذف الزائد والعقبات اللفظية والنقائض. وأنا كنت المتشبث بذلك وعمدت إلى التطبيق أمام الجمع ذات مرّة وأمام الشاعر نفسه، وكل من شاء أن يكون جليس قلمي، وأروح أهذب العبارات وأطرد التراب الخاسر لأصل إلى عروق الذهب، وإلى الخصائص المدفونة تحت القشور المختلفة. وكان يوسف أصدر قصائد في الأربعين وكتب له المقدمة أدونيس. وكنت طالما عقدنا جلسات يوسف وأنا حول قصائده في شبكة التفعيلة وفي حرية النثر. وطالما سكبت الرونق على السطور، وعلى إبعاد ما هو حامض أو معطّل أو مؤذ فيما ألّفه يوسف من أبيات ومن نصوص تعددت فيها الصور والمزايا.
وكان يصدّقني ويصغي هادئًا فاتحًا عينيه، ومتحدثًا إلى شوقي وكيف يبصر الخطل والأذى والعورة عينها، وكيف يفوت سواه ولا يرى ما أرى من علة ومن بعض الضباب. ويجب أن يأتي الناطور، أن يأتي الزارع ويهبّ كالعاصفة على النص، ويحدب عليه كاملاً وحنونًا مع العبارات والجملة الساطعة. وكانت تلك طريقتي في التعامل حتى امتلاك العصفور المنزوي في ذلك الخضم من العتمة، وحين يطول بنا الوقت ونتغدّى البيض المقلي من المطعم المجاور لمطبعة الخال، كنا نمضي معًا إلى منزل يوسف في أبو طالب ونجلس إلى مائدة الظهر ويكتمل لقاؤنا هكذا، وكأن الساعات لا حساب لها وكأن المغامرة الشعرية يجب أن تتكامل، وأن نصرف لها كل الدنانير كل الحيوية، وكان الطقس ذاك جميل القدّ ويأتي من حرير الهند، من حرير نفوسنا النقية من التلوثّ وإنما يهمّنا أن نكون وأن نصح وأن نجلس، وأن نكون مثلما هو الملك، ومثلما هي الحكاية بين شهريار وشهرزاد.
* البياتي نغمة عذبة
وهذا البياتي ومن يأخذ البياتي، إنه المسكن الزاهر وليس الطلل، وهذا آخر ومن يأخذ أنه غير إنشائي وأنه أصيل وأنه غير لفظي جدًا، وأضيف أن البياتي كان نغمة عذبة ذات مرة، ثم تناقص إلى ما بعد نقصان الهلال، إلى حيث يوضع موقتًا ريثما تتضح القيمة، وحتى يصمد الضوء إن كان الصمود مطروحًا.
* نازك الملائكة ضيفة لمرة واحدة
... ونازك الملائكة اسم رافقني منذ صباي، وأنا في المدرسة، وفيما بعد حين انطلقت إلى حقول الأمام، وحين تراميت ووضعت قامتي على ثلج الحرية، وعلى بساط الريح والفتون. وكنا معًا سهرنا ذات ليلة من تلك الأمسيات البعيدة في بيروت في بيت يوسف الخال. وكان الضحك وفعل الراحة والجدية الممزوجة بقليل من الرحابة والانفتاح. وكانت في السهرة فدوى طوقان وسلمى الخضراء الجيوسي. ثم افترقنا عند الساعة الليلية الطويلة الأنس، وما عدت إلى نازك الملائكة، ولا هي أيضًا عادت إلينا، وكادت الصلة أن تذوب في الأيام وفي طريق الشعر والانقلاب على الماضي. وأكاد أجهل من وماذا ولماذا؛ ولذلك أنا في سيرتي وفي مساري، ولم أصادف نازك، بل صادفت بدر شاكر السياب الشاعر العراقي الآخر، الذي من فرط قريحته واندفاعه الكلامي، كان يسبق الجميع ويسرق العفوية من أي إنسان وأي شاعر.
* بدر شاكر السياب و«جيكور»
خلال سهرة أدبية ثقافية، عندي في البيت، أخبرني صلاح ستيتية، وهو الشاعر والناقد والبحاثة والصحافي والإعلامي، في حضور ناشر فرنسي غاب عني اسمه، ناشر للشعر على الأخص، أخبرني ما جرى له مع الشاعر العراقي بدر شاكر السياب من ترجمة سابقة وترجمة لاحقة، فقال لي «ما الفرق بين أمس وحاضر من نص الشاعر الغريب والمكثار؟». قال إنه ترجم من قبل قصائد جيكورية من السياب، وإنه اعتزم أن ينشر ثانية هذه الترجمة في باريس، وإذ تطلع إلى ما بين يديه رأى أنه بدلاً من أن يضيف هنا كلمة ويصلح هنا كلمة، اختار الأقوى، أي أن يقوم بترجمة كاملة ثانية بدءًا من نظرة حادة ثانية، وهكذا كان، ترجم وانتهى.
وأسمعني رأيه أن هذه الترجمة كانت تامة الآهاب، متقنة، وأن صاحبها الجيكوري شاعر عربي كبير، بل شاعر، وأنه دون الجيكورية، هو أقل من ذلك؛ إذ إن السياب لا يقف متوازنًا في شعره وهذا معروف، بل هناك الأبيض من القمح والأسود من الزؤان في مجاله الشعري، وأنه في جيكور كان الإنساني ملازمًا للجودة.
ولن أبوح بما باح لي به ستيتية عن أحد الشعراء، من رأي يبقى بيني وبينه إلى أن يحين الموعد لقوله في مناسبة أخرى. وهذا ما يجعلني أضيف إلى هذه المقولة والمقولات أن الترجمة في ذاتها وإن كانت سببا تقييميًا في صلبه لا تعدو كونها ترجمة تنضمّ إلى تراكمات هائلة من الترجمات وأنها إذ تنقل الشاعر العربي، ونحن في صدده، إلى اللغة القوية، إلى الفرنسية أو إلى الإنجليزية، لا ينتج من هذه الخطوة أن الشاعر توطد، وأنه صار حقيقًا بالنظرة الثاقبة، وأنه يخلو من كل عيب وخطل.
إننا في التجربة التي مضت، منذ سنين عدة، لم نحصل بعد، ما عدا قلّة قليلة، على السلوك الخارجي المطلق تجاه القصيدة الحديثة والجديدة والجيّدة. هناك محاولات لا نملك إلا أن نرضى بها، محاولات فقط وليست انكبابًا على نصوص وعلى الغوص ها هنا على الأعماق والنزول إلى الأقفاص الغارقة، والموضوعة في أرض القصيدة للقبض على الأسماك النادرة، وعلى الأصداف النادرة.
بل هناك سلوك يكاد يكون واحد الجانب، وهناك كسل في الحقيقة، لدى أولئك العارفين، في باريس خاصة، أولئك حملة المعرفة والقيمين من تلقائهم على بعض النتاج، والذين لا يرعون، وإنما يخدمون هذا أو ذاك، وينطلقون من جهل نصوصي وجهل بياني، ولا يقرأون تمامًا ما بين إضاءات السطور حين ينصرفون إلى القراءة أو إلى التقييم.
إلا أن الواقع أحلى من النظرية من النقد. وهو إلى تغيير وإلى معرفة تراكمت أن هناك في البيان العربي في القصيدة اللبنانية ما يدعى سحرًا وما يدعى نجاحًا. وأن هناك فريدين في النظر وفي الشعر.
* نساء في مجلة «شعر»
في مجلة «شعر»، وهي التي قامت من الجرأة ومن الجمرة التي تحرق حيث هي تكون الوجع والسؤال، تفتّحت الأكمام وكانت المرأة في السياق، وفي الدور الذي لها وهو دور الكتابة، ودور الأنثى في محض أنوثتها، ودور الندى على الزهرة...
وأولى السيدات اللواتي شاهدن براعم المغامرة وساهمن في اللطف وفي الرضى، وفي المحبة التي كانت نائمة واستفاقت من براثن الملل، هي هلن الخال زوجة يوسف... وهلن فنانة ولها تلك المسحة التجريدية، وذلك اللون الذي يموج ثم يموج على لوحتها، عالمها حيث الغرق والانفعال، وكذلك حيث اليقظة؛ وكونها تعرف الكثير وتخبئ الكثير، وحيث هي حاضرة في خطوات يوسف وفي متابعة على الأرض والأخذ بحياء والمشاركة بحياء في وليمة النصوص، في وليمة الحركة المطلقة. وكانت هلن صديقة مراقبة، وهي التي صممت غلاف مجلة «شعر»، بتلك الخطوط، بتلك اللمحات من الأوتار.
* خالدة سعيد
وإلى خالدة سعيد، الناقدة والأستاذة في مجالها، والتي كانت الحضور والشفافية والتي تتبع زوجها أدونيس في شطحاته وفي كلماته. ومنذ أول الأول هي هنا، إلى جانب الزوج الغنائي الذي يمضي إلى مقاطعه، إلى عطائه الشعري وإلى أنفاسه الحرّى، وإلى المكان حيث هو، وحيث يكون في موضع يلائمه، إن في لبنان ولا سيما بيروت، وإن في فرنسا ولا سيما باريس.
وخالدة كانت معنا وكانت التي تناقش وتفتح الموضوع وسائر الأبواب في خميس مجلة «شعر». وكنا أنسي وأنا، مع خالدة، نحرّك القصيدة ونحرّك الغفوة، ونزيد الشعلة احمرارًا حين نحن وحدنا ولا يوسف ولا أدونيس في البلاد.
وخالدة، ولا عيب، هي التي عكفت على أدونيس في الأخص الأخص، وعلى النزر لدى بعض الشعراء، والتي رافقت المغامرة منذ العهد البادئ، والتي كأنها وجدت خيوطًا، وكان أنها مشت في الوجود الشعري، في المجلة وخارجها خطوات إلى الأمام، وإلى فعل التمهيد حتى الحصول على الخلاصة وعلى التكاوين المرهفة، حيث هي القصيدة الجديدة وحيث هي الأصول المعتمدة...
وانحازت خالدة سعيد إلى ناحية شبه وحيدة، ولم تكن المنقذة، بل العرافة التي توحي الصواب، والتي لها ابتسامتها الحلوة في البحث عن المدى، وعما يسر القارئ ويطرد الملل من كل مدينة وكل شطر من الحياة الثقافية.
إنه الرجوع إلى بعض المناظر في الحركة الشعرية الحديثة، وهي ربما غير صافية وربما العكس، بل متلبّدة، إلى السيدة خالدة سعيد، وكيف أنها قادرة على تزيين شاعر، وعلى شاعر آخر نزولاً في النفق إلى حيث شموع الظلمة الحالكة والنزوات التي تركب بعض الشعراء دون سواهم.
وخالدة سعيد صدى يتردد في أمكنة قريبة أو بعيدة؛ فهي انعطفت على زوجها وما فارقته، بل حدبت على قصائده، منذ مطلع المغامرة، وانعطفت على أنسي الحاج تعطيه إيضاحًا من هنا ولمحة من هناك. ولا يسعها في النهاية أن تكون إلا موضوعية، ولم تشأ هي ذلك في مجراها إلى المواظبة على التزيين وعلى مدّ التبرّج إلى من هم في سياقها أو على مقربة منها. وليتها منذ تلك الأعوام وهي في شرح وتبيان حادت قليلاً عن الحصار وعن بعض الذين تحبّهم، وانصرفت إلى النقد، نقد الذات ونقد سائر الأدباء. وهكذا تكون تكرّست للبعض وما إليه من نصوص وقصائد، كلما التفتت إليها إنما تباركها وتدفعها إلى أن تكون في الصدارة. ولها الحرية في لملمة العنقود وأي عصارة سواه.
* ليلى بعلبكي
وإلى ليلى بعلبكي التي هي الأنثى وهي الروائية وهي المتمردّة على السهل، على السهولة، والتي منذ البدء في مجلة «شعر» كانت الموجودة والمرافقة التي تنثر الطيب والضحكة واللعبة فيما حولها. وكان يوسف هو الأقرب إليها، وإلى كونها على تلك الحال من الانفراد، من الصراخ، ومن الدهشة مما هنالك من أقمار ومن أشجار تلتفّ وترفض الأوراق. ولا عجب أن يأتي القارئ وأن يأخذ العجب من التأليف، ومن أي كتاب، من هذه السيدة التي تهجم على العوالم، على الأطر، على السياج؛ لأنها ترغب في الانطلاق وحسب... وليلى تدرك كل هذا، وكم كانت ترن على إيقاعي الثقافي؛ إذ نحن الصداقة في مجلة «شعر» وفي الخارج، أي الثقافة كما يصنعها الصناع وكما يرغب الزائر أن تكون على مقداره من الدسامة، ومن الفن...
* لور غريب
وها هي لور غريب كانت تكتب القصيدة بالفرنسية. وهي، في مجلة «شعر»،...
ولور رفيقة كانت ومرافقة ليلى بعلبكي، وكلتاهما كانتا في الانتظار، وفي أن تحصل كل واحدة على قدر من الخصب في حياتهما. وكان أن نزعت لور إلى اللوحة، وإلى أن تبثّها الحالة الدقيقة، أي النسيج الزخرفي الذي من وفرته ومن نوعيته يقفز إلى التقدير، وإلى حيث تتوافق الزخرفة مع الجودة ويطلّ الفن على قدره وعلى مصيره، أي أنه يحملنا إلى البعيد، إلى ما يكون نهرًا من النمنمة ودخولاً إلى ما يؤلف السكون والمزيج الملوّن، وها نحن ندوخ تحت وطأته.
* سنيّة صالح
وسنيّة صالح، زوجة الشاعر محمد الماغوط وشقيقة خالدة، كانت التي مرّت، والتي مثل الطيور المهاجرة حطّت ونزلت قليلاً على مرتعنا نزول الطائر ونزول النحلة. وهي كانت الصبية، ومنذ الصبا، تكتب القصيدة وتطرح النص الذي يكشف عن غمّ، عن قلق، عن وجودية ناعمة وحيث ينطق الشغف والطموح في الذات المرهفة. والنطق لديها في خدمة الوصول حتى تلك النعومة، ذلك الإشراق الصوفي الذي يدفع الإنسان صوب الأنوار، صوب الحقول السعيدة، صوب الحركة، وصوب الصور المثقلة بالملامح، بالأحلام.
مع أنسي الحاج إلى «النهار»
مرمر لساني، مرمر قلمي، مرمر زماني من ملحق «النهار»،... والملحق إنما انطلق على اندفاع على همّة أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا في تلك السنة 1964. وكان أنسي هو زارني في جريدة «الزمان»، وشاءني أن أكون في جريدة «النهار». وكان أنني تركت أوراقي وغبطتي الصحافية حيث كنت، وأزمعت الانتقال من حالة إلى حالة، ومن وضع إلى وضع إلى مكان يختلف عن السابق ومن كتابة إلى كتابة. وها نحن في الحمراء، في مكتب «النهار» وها نحن ننصرف معًا أنا وهو إلى فكرة الملحق، أي يصدر يوميًا ثم أسبوعيًا. وكانت العجقة وكانت اللهفة، وعكفنا معًا على الفحوى على المتن وعلى الهيكل الجديد الذي به سيكون الملحق من قاصر إلى راشد، ومن ليل إلى أضواء، إلى صفحات فوق العشرين. وكلها تدعونا إلى أن نعثر على المواد، على النصوص التي هي ستكون الصورة، ستكون لدى القارئ جذابة له، وبه سيكون القارئ إلى زيادة، وبه ستكون الجريدة هي الغاية، وهي المقصودة، وبه سيكون غنى وثراء في المبيع، وبه سيكون الأمر أحلى، وسيكون الفوز أكثر فأكثر بالقارئ الذي، كلّ يوم أحد، يتاح له أن يشيل عن ذهنه، عن نفسه عبء الأيام.
وكان أننا اجتهدنا، نحن الثنائي، وانغمسنا في المعركة، معركة الرضى والانفتاح على فسحات من ألوان الصحافة اللبنانية، وعلى الوسط الأدبي وعلى القادمين نحونا، هذا له مقالة وآخر له قصيدة، وثالث يرغب في نحر العادة ونحر الفراغ، وآخر كله ترحاب بنا...
* شعراء فلسطين وبيروت
* محمود درويش: قصيدة في الصفحة الأولى
وكان محمود درويش الراحل منذ أمد من السنين، هو الصديق وهو الصلة المديدة والمستقيمة بالبلاد، بموطنه فلسطين. وكنّا على ودٍ متبادل، وعلى مودّة ناعمة تسكن في البال وفي الصدور وتثلج العلاقة التي هي ما بيننا، نوع من التقدير ومن اللزوميات الجميلة.
وقال لي ذات مرة على الهاتف مرحبًا وفق ذلك وألطف من ذلك. وقال أيضًا إنه يملك قصيدة جديدة، تضاف إلى أملاكه وإلى حقوله الخصبة. وقال لي إنه يريدها على الصفحة الأولى من جريدة «النهار» في بيروت...
ومحمود درويش شاعر البلاد، شاعر الشرق والوطن الجاثم عليه ذلك العدو، إنما يربح الفائدة من صوته، من قيثارته كلما وقف خطيبًا. وكلّما كان هو في أصله وفي أخلاقه، ذلك الرنان وذلك الصدى، وتلك الهضاب والأودية. وإنما كل مرة في موقعه هذا، كان يبلغ العلى ويبلغ آخر الأدراج وآخر الرياح. بل كان هو الرياح والعاصفة، وكان المنطلق مع هبوب الثورة مع بعض الشعراء من خلانه، كانوا معا قناديل والسفن التي عليها هم وقصائدهم هي التي تبحر في الذاكرة وفي القلوب وفي الأذهان العطاش إلى الكلمة التي تتفوق، والتي تهزّ المروحة ويهبط علينا كثير من الغذاء، من الانفتاح على الدروس التي يلقونها وتصمد في التاريخ المعاصر.
* معين بسيسو
من الذين غلبوا الصخرة
ولا شك أن معين بسيسو هو أيضًا من القافلة الثائرة، وحيث الغضب يسطع في الأطر طرًا. وحيث لا أحد إلا الشعراء من يدرون كيف تؤخذ الحقوق، وكيف يكون النضال، وكيف أننا نذهب إليهم، إلى نتاجهم، ونحن سعيدون بأن المناسبات تنقلب من جافّة إلى عظيمة التأثير.
ونحن نرتفع معها، مع النصوص التي تدل على الطريق على الوجهة على الأرض التي هي في الوحشة الدامية. ولا شك أن معين بسيسو يحتوي الصديق وأمثاله المتعدّدين، وهو كذلك من الذين صرخوا وكانوا جميعًا في صدد النهوض من الخيبة، من الخيبات. وهم يكادون يكونون الذين سجّلوا وكتبوا جلّ التاريخ، جلّ الملحمة. وازدانوا بالفضائل المهاجمة التي لا تنقضي في جب النسيان وفي بئر الإهمال. بل يجب أن تكمل الأجيال طموحات أولئك الشعراء والكتّاب الذين، واحدًا واحدًا، زاروني، وغلبوا الصخرة وأزاحوها على قدر ما استطاعوا، وما فتئوا يفعلون ويلعبون لعبة المجد، حتى الوصول حتى القطاف.
وسوف تكون العودة التي غناها العاملون في الكلمة وفي القافية، في صلب الحروف.
وفي وسط العقد كما هي الياقوتة، ووهج الفرادة العامرة الإيوان.
* أمين معلوف يحب الوكالات
ومعلوف، قبل أن يغادر المكان والمسقط إلى باريس سنة 1977 عمل في الإطار الصحافي، وكان في جريدة «النهار» في بيروت ينكبّ على الوكالات وعلى القصاصات، وعلى الأوراق. وكان الذي يتفحّصها ويأخذ منها الخبر وما هو الصالح وما هو على العكس.
وكان في عادة الجدّية، الذي لا يدع شأنًا إلا يرصده، وهو بالمرصاد لكل ما يطرأ، وتلك هي القاعدة، وأن يكون المدقّق والذي لا يترك حرفًا إلا يقرأه وإلا يكون في حيزه، في جانبه الواضح أو في جانبه من الظلمة، وحيث لا ضوء ولا سراج من غابر التقاليد، إلى حيث نحن، إلى مطارحنا المعاصرة.
ولبث أمين معلوف صحافيًا في بيروت، ولا أذكر كم هي المدة، لكنها الحرب في لبنان كانت السبب أن يقلع نحو الغربة، نحو فرنسا، نحو باريس، وأظنه هناك أشرف على مجلة «جون أفريك»، ثم تمادى في... البحث عن بعض القضايا، وفي البحث عن الزمن الضائع وعن بلاده وعن طانيوس، وعن أشخاص مرّوا أو عاشوا، وأثروا الذاكرة، وهم الجذور وهم المادة التي تحيا على اندفاع قلمه وعلى دخان الذكريات والإشارة التي صدرت عنهم لتكون أشبه بالشرارات، بالغذاء الذي يشبع الجياع ويطل على ساحة الصراع، كما في القديم من الزمان، من رعشة التاريخ.
صديقنا، وصديق الكثرة من الناس ومن القراء في أوروبا وسواها وفي وطنه لبنان، والعضو في الأكاديمية الفرنسية، الذي من لا يطالع ما يكتب، والذي نحفل به طوال الوقت والساعات. والذي يوضع في المكتبة ليكون اللذة والمتعة كما يكون المرجع.
وهكذا صديقنا الذي هو ونحن كنا معًا في «النهار»، وكان في الشؤون الخارجية، ونحن نتوغّل في الأدب والشعر وفي الأغصان والشجر أو في الحياة، وهو، منذ تلك الفينة، نموذج في موجات التأليف والأدب الأوسع والكتابة المفتوحة على الحق وعلى الخطأ وعلى الخطيئة وعلى التاريخ. وعلى أن في الإنسان رحابة من التناقض ومن العقاب ومن البراءة أو الذنوب الثقيلة. وهو إلى كل ذلك أنتج وانغمس في العطاء ووصف ولمع ولا يزال لامعًا.



النار في الأدب والأساطير والتاريخ

أدونيس
أدونيس
TT

النار في الأدب والأساطير والتاريخ

أدونيس
أدونيس

تحضر النار بقوة

في شعر أدونيس. ولها دلالات قد تكون إيجابية أو سلبية

قبل عيد الفطر الأخير ببضعة أيام، قام شاب في نحو الخامسة والعشرين من عمره بحرق نفسه في مدينة سيدي عمر بوحجلة، جنوب القيروان، بالوسط التونسي، احتجاجاً على الوضع المأساوي الذي يعيشه، والذي تجاهله المسؤولون في المنطقة مثلما تعوّدوا أن يفعلوا مع حالات كثيرة مُشابهة. وخلال العقد الأخير، أصبحت ظاهرة الانتحار حرقاً من الظواهر الخطيرة في تونس منذ أن فعل ذلك محمد بوعزيزي في السابع عشر من شهر ديسمبر (كانون الأول) 2010 مشعلاً انتفاضات شعبية أدت إلى انهيار نظام زين العابدين بن علي في ظرف أسبوعين فقط. وتزداد هذه الظاهرة استفحالاً بسبب تأزم الأوضاع، وانسداد الآفاق، وانعدام الأمل لدى فئات واسعة؛ خصوصاً لدى الشباب. ويمكن القول إن الانتحار حرقاً بات الوسيلة الأفضل للتعبير عن الاحتجاج والغضب، ورفض الحيف والظلم، التهميش والإقصاء والإهمال. وعلى مدى العشر سنوات الماضية أقدم عشرات من الشبان والكهول والنساء من مناطق مختلفة من البلاد التونسية على الانتحار حرقاً في الأماكن العامة، أو أمام مقرات المؤسسات الحكومية.

وترى الباحثة دنيا الرميلي مؤلفة كتاب «الانتحار بحرق الذات لدى الشباب التونسي»، الصادر باللغة الفرنسية عن دار «نقوش عربية» عام 2016، أن الذين ينتحرون حرقاً يفضلون أن يكون انتحارهم شبيهاً بـ«الفرجة المسرحية». لذلك هم لا يتخفون، ولا يتسترون عن فعلتهم، بل يقفون أمام مؤسسات، أو أمام جمع من الناس، ثم يضرمون النار في أجسادهم وكأنهم يريدون أن يبينوا للسلطات أنهم فقدوا الصبر ولم يعودوا يتحملون الأكاذيب، والوعود الزائفة. فيكون انتحارهم عندئذ شكلاً من أشكال الاحتجاج، وليس فعلاً ناتجاً عن أزمات نفسية، أو عن انهيار عصبي، أو عن فشل في الحياة.

ريلكه

وكان الحريق الهائل الذي شبّ في كاتدرائية «نوتردام» في باريس في ربيع عام 2019 قد أحال أهل الفكر والأدب إلى ما ترمز إليه النّار لدى الفلاسفة والشعراء. وبداية نشير إلى أن الملكة ديدون (تعني المرأة الشجاعة)، أو عليسة التي أسست قرطاج عام 814 قبل الميلاد، لتجعل منها عاصمة للفينيقيين، انتحرت حرقاً لأنها لم تتمكن من الزواج من الأمير المحارب التي كانت تعشقه لتتحول قصتها إلى أسطورة بديعة عند فيرجيل، شاعر الرومان الأعظم. وكان إنباذقولس الأغريغنتي، الذي ولد عام 492 قبل الميلاد بمدينة أغريغنتا بصقليّة، التي كانت آنذاك واحدة من أهمّ مدن العالم الإغريقي، فيلسوفاً، وشاعراً، وطبيباً، ومهندساً ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطيّة. غير أن ذلك لم يمنعه من أن يكون مدافعاً شرساً عن الديمقراطيّة حتى الرّمق الأخير من حياته، صارفاً جلّ اهتماماته لخدمة مصالح مدينته، وكامل جزيرة صقلية. ولإنباذوقلس نظريّة في نشأة الكون تقول بأن هناك قوّتين تتصارعان دائماً وأبداً، وهما الكراهيّة والحب. وهما تؤدّيان بالتناوب إلى الانفصال والاتّحاد بين العناصر الأربعة الأساسيّة، التي هي النار والهواء والتراب والماء. وهو يعتقد أن النار تفتن الإنسان لأنها مدمّرة ومطهّرة في الوقت نفسه. فهي بإمكانها أن تحرق مدناً وغابات بأكملها. كما أنها تحمي من البرد، فتنعش الناس في فصول الشّتاء، وتساعدهم على تحمّل الصّقيع، وعلى مواجهة العواصف.

وتكون النار رمزاً للتّحوّل والتجّدد. وتقول الأسطورة إن إنباذوقلس فضّل في النهاية أن يلقي بنفسه في اللّهيب. ولعلّه فعل ذلك معتقداً أن النار ستمنحه حياة جديدة بعد أن يتحوّل جسده إلى رماد.

وفي الشعر الجاهلي، قد تكون النار مُخرّبةً للبيوت وللعمران، ومثيرةً لذكريات مؤلمة كما في هذين البيتين لشاعر مجهول:

دار حي أصابهم سالف الدهر

فأضحت ديارهم كالخلال

مقفرات إلاّ رماداً غبيّاً

وبقايا من دمنة الأطلال

وقال النابغة الذبياني:

فما وجدت شيئاً ألوذ به

إلاّ الثمام وإلاّ مَوْقدُ النار

ويرتبط العشق عند أغلب الشعراء العرب بالنار. فهو مثلها يحرق القلوب. وفي بيت منسوب له، يقول عنترة بن شداد:

فلا تحسبي أني على البعد نادم

ولا القلب من نار الغرام مُعَذّبُ

وخلافاً لبعض الشعوب الأخرى، مثل الإغريق والرومان الذين كانوا يستقبلون المحاربين المنتصرين بأكاليل الزهور والياسمين، كان العرب يستقبلون المسافر العائد غانماً وسالماً بالنار. وتلك النار كانوا يسمونها «نار السلامة». وقد يسجرونها بالغار والصندل كما في هذا البيت:

رب نار بتّ أرمقها

تقضم الهندي والغار

وعند العرب هناك أنواع من النار. فهناك «نار الرسم» التي بها يُعَلّمون إبلهم، و«نار الصيد» التي تغشاها الظباء فيصطادونها، و«نار الأسد»، وهي تلك التي تبعد الأسد عن المرابض، و«نار الخلعاء»، وهي تلك التي يوقدها في مجاهل الصحراء الصعاليك والهاربون.

وتحضر النار بقوة في شعر أدونيس. ولها دلالات قد تكون إيجابية، وقد تكون سلبيةً. ففي الحالة الأولى تكون رمزاً للخصب والانبعاث والطهارة والإشراق. أما في الحالة الثانية فهي تُحيل إلى العدمية، والخراب، والسقوط الحضاري. في قصيدة: «شجرة النار» يقول أدونيس: «عائلة من ورق الأشجار/ تجلسُ قُرب النبع/ تجرحُ أرض الدمعْ/ تقرأ للماء كتابَ النار/ عائلتي لم تنتظر مجيئي/ راحت فلا نار ولا آثار». وفي قصيدة «الوقت» التي كتبها من وحي الغزو الإسرائيلي للبنان في أول صيف 1982. كتب يقول: «حاضناً سنبلة الوقت ورأسي بُرج نار/ ما الدم الضارب في الرمل وما هذا الأفول؟/ قلْ لنا يا لهبَ الحاضر، ماذا ستقول/ في حنجرتي مزقُ نار/ وعلى وجهي أمارات الضحيّة/ ما أمرّ اللغة الآن/ وما أضيقَ بابَ الأبجدية».

وفي كتابه الشّهير «الجموع والقوّة»، يُفرد إلياس كانيتي، الحائز على جائزة «نوبل للآداب» فصلاً بديعاً عن النّار ورموزها ودلالاتها. وهو يقول بأنّ النّار تنتشر بسرعة فائقة، وألسنة لهبها تتفاعل مع بعضها البعض. ومن جملة ما تتميّز به هو العنف الذي تتعامل به مع الغابات، ومع السّهو، ومع مدن بأكملها. وحتى عندما تكون هناك مسافة تفصل بين الأشجار، أو البنايات، فإنّ النّار تتمكّن من الجمع بينها مُلتهمَة إيّاها.

ويضيف إلياس كانيتي قائلاً بأنّ النّار مدمّرة، غير أنه باستطاعتنا ترويضها ومكافحتها وإطفاء لهبها. والماء عدوّها الأساسيّ. وفي الأساطير القديمة، يمكن أن ينتهي العالم بحريق هائل، أو بطوفان شبيه بطوفان نوح. ورغم الخوف الذي تبثّه النّار في قلوب جموع الناس عند اشتعالها، فإن النار تفتنهم أيضاً. وهذا ما كان يحدث مع هنود «النافاهوس» في المكسيك الجديدة. فقد كان هؤلاء يوقدون ناراً هائلةً وحولها يرقصون من غروب الشمس إلى شروقها من دون انقطاع. وهم يؤدّون رقصاتهم الوحشيّة شبه عراة، ملوّحين بعصي في رؤوسها الرّيش. وهم يضطرّون لكي يشتعل أحياناً للزّحف على بطونهم للاقتراب أكثر من النّار. كما يحاولون أن يشعلوا الرّيش الذي في رؤوس عصيّهم. وعند طلوع الشمس يرقص هنود «النافاهوس» رقصتهم الأخيرة ملقين على أجسادهم العارية الرّماد والجمر وقد بدأ ينطفئ. ويفسّر إلياس كانيتي طقوسهم هذه قائلاً: «إنهم - أي هنود «النافاهوس» - يرقصون وهم النّار ذاتها، وهم يصبحون النّار. وحركاتهم شبيهة بلهبها. وما يمسكونه بأيديهم، يمنحهم الشعور بأنهم يشتعلون هم أيضاً».

ويشير إلياس كانيتي إلى أن التاريخ يخبرنا أن هناك مدناً في مناطق من العالم تعرّضت للحصار الطويل. فلمّا تيقّن سكانها باستحالة النجاة، أشعلوا النيران فيها ليموتوا وسط الحريق الهائل. وهذا ما حدث مع سكّان مدينة تالة التونسيّة. فعندما حاصرهم القائد الروماني ميتيلّوس خلال حروبه مع القائد البربري يوغرطة على مدى أربعين يوماً، جمعوا كلّ ما يملكونه من أشياء ثمينة في قصر المدينة الكبير، ثمّ أقاموا حفلاً بهيجاً. وبعد أن أكلوا وشربوا وهم يغنّون ويرقصون، أشعلوا النار في القصر، وفي منازلهم. فلمّا دخل جيش ميتيلّوس المدينة، لم يجد غير أكوام من الرماد.

وفي القرون الوسطى، كان المتشدّدون المسيحيّون يحرقون أعداءهم لأن النار عندهم ترمز إلى الجحيم الذي هو مأوى الهراطقة والفجّار. ويروي كرابلين قصّة امرأة في منتصف العمر تعيش وحيدةً. وكانت مهووسةً بإشعال الحرائق منذ طفولتها. وقد حُوكمت أكثر من مرّة بسبب ذلك. وفي النهاية أرسلت إلى مصحة للأمراض العقليّة لتمضي فيه عشرين عاماً. ومع ذلك ظلّت عاجزة عن السّيطرة على نفسها. فكلّما رأت عود ثقاب، استبدّت بها الرّغبة في إشعال النّار. فما كان يفتنها ويستهويها هو رؤية النار. وكان الشّاعر الألماني نوفاليس يرى أن الحبّ شبيه بالنار. وهو يشبّهه بجسدي العاشقين عند التحامهما أثناء الجماع، وباحتكاك قطعتي خشب يتسبب في إشعال النّار. لذلك فإن النار تحيل إلى الرّغبات المكبوتة. ويجاري الشاعر الألماني الآخر راينار ماريا ريلكه نوفاليس في رؤيته للنار. وهو ويقول إنها - أي النار - تشبه النار التي تحرق قلب العاشق المتيّم. والعاشق الحقيقي هو الذي يشتهي أن يموت بنار عشقه.

وهذا ما يحيلنا إلى التراث الشّعبي التونسي، حيث نجد العاشق يحترق بنظرة واحدة من الحبيبة. وعادة ما يشّبّه العاشق عين الحبيبة بالنّار التي تحرق قلبه، بل جسده كلّه. والعاشق في أغنية شعبيّة مشهورة يقول بأن الحرائق تتوالى من دون أن يتمكّن حريق من إطفاء حريق آخر. ويضيف بأن حرائق عشقه تزداد حدّة من يوم إلى آخر، غير أنه لن يكون قادراً على إطفائها. ونعلم أن عاشق حبيبة مسيكة، المغنيّة اليهودية التونسية فائقة الجمال، أحرقها أحد عشاقها في أول الثلاثينات من القرن الماضي بعد أن ضبطها مع غريم له في فراش الحبّ لأن الحبيبة التي تخون لا تستحقّ غير ذلك العقاب الأليم.

وفي كتابه «التحليل النفسي للنّار»، اهتم الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (1884 - 1962) بالنّار ودلالاتها النفسيّة والفلسفية في الأساطير، وفي أعمال الشعراء والفنّانين. ويشير باشلار إلى أنه فتن بالنّار مذ كان طفلاً يقرأ على ضوء الشموع، والمصابيح في قريته الصّغيرة، الكتب التي تروق له، أو يُعدّ فروضه المدرسية. وعندما اشتهر كفيلسوف دَرس الأساطير، والأحلام، والخيال البشري من خلال الماء، والنّار، والتراب، والهواء. وفي كتابه «التحليل النفسي للأحلام»، يعود باشلار إلى أسطورة بروميثيوس الذي سرق النّار من الآلهة ليهبها للبشر، فعاقبه «زيّوس» ربّ الرّعد والصّواعق والأمطار على فعلته تلك، وقيّده بالأصفاد لكي تظلّ النسور تلتهم كبده إلى ما لا نهاية.

وقد كانت أسطورة بروموثيوس مصدراً للعديد من الأعمال الشهيرة في مجال الأدب والفن في الأزمنة القديمة والحديثة. ويشير غاستون باشلار أيضاً إلى أن النّار تحضر بقوّة في أشعار الرومانسيين، وفي كتاباهم النثريّة. وهو يكتب قائلاً: «النّار والحرارة تمنح وسائل التفسير في المجالات الأكثر تنوّعاً لأنهما بالنسبة لنا فرصة لاستحضار ذكريات لا يمكن أن تمحى من الذاكرة، وتجارب شخصيّة بسيطة ومصيريّة. من هنا يمكن القول إنّ النار ظاهرة متميّزة يمكن أن تفسّر كلّ شيء (...) النّار هي الحيّة دائماً، وهي حميميّة وكونيّة. وهي تعيش في قلوبنا، وتعيش في السّماء. وهي تصعد من أعماق المادّة، وتهدى كما لو أنها الحبّ. وهي تنزل في المادّة، وتتخفّى، وتكْمن مثل الكراهيّة والرّغبة في الانتقام». ويضيف باشلار قائلاً: «قرب النّار علينا أن نجلس، وأن نستريح من دون أن ننام. لا بدّ أن نقبل الحلم الخاصّ موضوعيّاً». والنّار بالنسبة لغاستون باشلار هي رمز الشيطان، ولهب جهنّم. كما أنها مطهّرة. فهي تحرق الأعشاب اليابسة، والفضلات التي تطلق روائح كريهة.


رواية تمزج السياسة بأجواء السينما في مصر

رواية تمزج السياسة بأجواء السينما في مصر
TT

رواية تمزج السياسة بأجواء السينما في مصر

رواية تمزج السياسة بأجواء السينما في مصر

عن دار «الشروق» بالقاهرة صدرت رواية «أنا وعمتي والإيموبيليا» للكاتب ناصر عراق التي تستلهم التاريخ السياسي لمصر على خلفية اجتماعية وعاطفية تتداخل فيها مصائر الشخصيات من مواطنين وأجانب وافدين في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. ويروي الكاتب قصة لجوء الألماني روبرت شافنبرج إلى مصر هرباً من رجال الشرطة السرية «الجستابو» في ألمانيا النازية، وكيف أنه ما كاد يستقر ويبدأ عمله في السينما بمساعدة صديقه المصري حتى توفي ذلك الصديق تاركاً ابنه الوحيد «فكري» في رعاية «شارفنبرج». وعندما تأتي «إلزا» ابنة شقيقة شارفنبرج لتقيم معه في عمارة «الإيموبيليا»، يبدأ «فكري» في التقرب إليها ومحاولة إثارة اهتمامها في الوقت الذي يقع فيه «شارفنبرج» في غرام «زوزو» التي يشك «فكري» في كونها عميلة لأجهزة المخابرات الغربية فيقرر التفرغ لكشف حقيقة تلك المرأة الغامضة.

تستعرض الرواية أجواء العمل السينمائي في مصر خلال أربعينيات القرن الماضي، حيث تظهر بعض الشخصيات التاريخية بشخصيتها الحقيقية مثل أم كلثوم ومصطفى النحاس وصلاح أبو سيف ونجيب محفوظ بوصفها شخصيات فاعلة داخل النص تتبادل مع أبطاله الكثير من الهموم والتساؤلات حول نشاط أجهزة المخابرات في عالم ما قبل الحرب العالمية الثانية وتسلّط الضوء على التطورات السياسية خلال تلك الفترة، وتظهر ما فيها من ثراء وتنوع، وتنتصر للتعددية الثقافية والفكرية لتقدم تحية حارة لزمن أفلام الأبيض والأسود المؤطر بالحنين.

جاءت لغة الرواية سلسة، سريعة الإيقاع، لكن عابها عدم قدرتها على إثارة الدهشة وميلها إلى التعبيرات التقليدية والبلاغة القديمة النمطية المعتادة، وهو ما يظهر في عبارات كثيرة على مدار النص، من نوعية «يشرئب بعنقه» و«الجمال والخيول والحمير أرغت وأزبدت» و«الثلاثينية الفاتنة» و«اعترتني نوبة سخط» و«هبت العواصف وهطلت الأمطار».

صدر لناصر عراق الكثير من الروايات منها «الأزبكية» الفائزة بجائزة كتارا للرواية العربية ورواية «العاطل» التي وصلت للقائمة القصيرة للبوكر العربية.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«لم أكن من هواة الإنصات إلى أم كلثوم كثيراً، فأنا مغرم بليلى مراد ونبراتها المرحة كما أنني مفتون بالحنجرة الشجية لأسمهان التي ماتت غرقاً قبل أسابيع، لكن الإشعاع المكثف الطاغي لكوكب الشرق يثير أمثالي من المغرمين بالتاريخ ونجومه الزاهرة لذا عليّ أن أقتنص هذه الفرصة لأراقب الآنسة موفورة الصيت وأدون كلماتها وتصرفاتها بل كل حركة وكل سكتة إذا استطعت إلى ذلك سبيلاً. بدأ عمي روبرت شارفنبرج بوجهه الأحمر وقبعته السوداء وأنفه المدبب كرجل قادم من كوكب آخر، ارتدى بذلة أنيقة من التيل الأبيض ورابطة عنق زرقاء ومضى يشرئب بعنقه ليستنشق الشذا الطيب الذي تنشره الحقول المترامية أمامنا، كما أخذ يستمتع بأشعة شمس دافئة ناعمة تخفف من شدة تيارات الهواء الباردة القادمة من تلك الحقول بينما الأهرامات الثلاثة تلوح من بعيد كصروح غابرة عتيدة تتحدى أعاصير الزمن مؤكدة عظمة الأوائل. كان قد عقد اجتماعاً منفرداً مع توجو مزراحي مخرج الفيلم فور وصولنا ثم اتخذنا مواقعنا أمام الاستوديو في انتظار وصول صاحبة (رق الحبيب)، لكن الخواجة توجو لم يطق صبراً فهب واقفاً فجأة وظل يغدو ويروح مستشرفاً الطريق وهو يشعل سيجارة وراء أخرى بعصبية.

كعادتي كنت أرافق عمي روبرت كلما أقدم على تصميم ديكور فيلم جديد حاملاً معي حقيبة سوداء صغيرة بها كراسة لأكتب ما يدور حولي بناء على نصيحته وإصراره وتعزيزاً لشغفي بكتابة اليوميات، وأشهد أنه أول مَن شجعني على فعل ذلك لأخرج من قوقعة أحزاني، إذ قال لي مرة: (اعرف نفسك يا فكري لتتجاوز حاضرك المؤلم. أنت شاب يتيم الأم منكوب في أبيه، لا أشقاء لك، شجرة وحيدة في صحراء قاسية، لذا فالحزن صديق ملازم والتردد رفيق دائم لكن عصافير الحياة لا تغرد للحزانى والمترددين فاكسر قوقعتك وانطلق مع المنطلقين)».


لعبة تبادلية بين الموسيقى وأصوات الرواية

لعبة تبادلية بين الموسيقى وأصوات الرواية
TT

لعبة تبادلية بين الموسيقى وأصوات الرواية

لعبة تبادلية بين الموسيقى وأصوات الرواية

تمهد الروائية المصرية مريم عبد العزيز روايتها الجديدة «لونجا» - دار «الكتب خان» للنشر بالقاهرة - بعتبة شارحة لعنوانها الذي قد يستوقف القارئ ويثير فضوله، فتعرّفه بأنه أحد قوالب الموسيقى العربية، الذي يتميّز بالانتقال المفاجئ والقفزات اللحنية والسرعة في الأداء، وهو التعريف الذي يمكن فهمه كتهيئة للإيقاع السردي، واللعبة التبادلية بين الموسيقى وأصوات الرواية.

وسرعان ما يظهر توظيف الكاتبة للمتن الموسيقي في معمارها الروائي، فتتناوب فصول الكتاب عناوين: «خانة»، و«تسليم»، و«تقسيم خارج الوزن»، وهي تسميات مُستمدة من حركة قالب «اللونجا» الموسيقي نفسه، الذي يتكوّن عادة من أربعة أقسام، كل منها يسمى «خانة»، وجزء خامس يتكرر بعد كل خانة يسمى «تسليم».

تفتح تلك التهيئة الموسيقية المجال لظهور صادم لبطل الرواية «شكري»، الذي يعمل عازفاً ومدرساً للموسيقى، حيث يُعثر عليه مُمدداً على الأرض تفوح منه رائحة العطن، بجسد منتفخ بعد أن غادرت روحه الحياة، وتحول إلى ما يشبه المومياء: «الانتفاخ الوحيد الذي رافق الرجل في حياته هو التجويف الخشبي للعود الذي يجلس محتضناً إياه في شرفة شقته، أو يحمله في جراب أسود مرتدياً بدلة أنيقة بنفس اللون في المرّات التي يشارك فيها بالعزف في حفل أو في جلسة طرب مُنغلقة»، وسرعان ما يقود جثمانه الذي يبدو عليه أثر جريمة، إلى انتشار الشرطة في منزل هذا العجوز، لتبدأ التحقيقات متخذة أبعاداً درامية كاشفة عن سيرة هذا العازف الذي «لم يعش سوى لحظات فخر قليلة في حياته»، كما يروي السارد العليم.

تقنية موسيقية

يستعير البناء الروائي للعمل التقنية الزمنية للموسيقى، بما فيها من استرجاع واستباق، حيث يتناوب جيران البطل شهاداتهم عنه، التي تتقاطع مع سيرته، فيبدو الزمن في الرواية سيالاً يحمل صوته من تدفق ذكريات الأبطال، التي تضئ على سيرة شكري، وتجعلهم في الوقت نفسه يظهرون في سياقات جديدة كاشفة عن تعقيداتهم الإنسانية، لتتكشف في فضاء هذه الجريمة شبكة من الجرائم، تبدو وكأنها تدل عليها، كما تكشف العلاقات المشحونة التي تجمع بين جيران البطل القتيل، وسط هيمنة من التلصص، والمراوغة، والجشع، والانطباعات الزائفة، على خريطة تلك العلاقات.

لا تنفصل صورة البطل الذي تتابع الرواية لغز موته المُلتبس عن الصور الذهنية التي يتبناها عنه الجيران، فتظهر منسجمة أحياناً ثم سرعان ما يصيبها التشظي مع تضارب الأقوال عنه، فهو رجل نزيه في أقوال البعض، ومُتصابٍ وغامض في أقوال البعض الآخر، وتزداد حكايته تعقيداً، بعدما تجتمع خيوط قصة موته المُلغزة بقصة موت «خالد»، وهو شاب في العمارة نفسها، يفصل بين حادثي الوفاة أسبوع واحد، وفي فضاء الحكي تتناثر الكثير من المُشتركات بينهما التي تتكشف عبر الرواية.

وعبر (139 صفحة)، تعزز الرواية من انتمائها للمجال الموسيقي، حيث شيّدت بناءً صوتياً للمكان، وما يشهده من صراع درامي، فجريمة القتل التي تُفجر الحبكة البوليسية تدور في عمارة كائنة في حي «عابدين» الشعبي، الذي يقع في وسط العاصمة المصرية، وهو معروف بصخبه، حيث ورش إصلاح السيارات تعزف «سيمفونياتها» الموازية لنميمة السكان، فيزاحمها الحضور الطاغي لأصوات الدق بالمطارق فوق الصاج، وهدير الموتورات، وسباب المعلمين لصبيانهم، فيما يبدو شبح «شكري» هنا هو شبح مدرس الموسيقى «الرايق»، و«المتسلطن» غير المُكترث، الذي يسير على هامش ذلك الصخب الدائر، يستأنس في مسيره بدندنات الشيخ زكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب، وتبدو المُفارقة أن جاره الشاب «خالد»، الذي يموت قبله بأسبوع واحد، كان يحمل السمت نفسه، على الرغم من أنه لم يكن عازفاً، ولكنه كان «سميعاً» كما كان يطيب لشكري أن يُناديه، ليبدو أن الحياة جمعتهما معاً في خندق لحنّي واحد، وكذلك فعل معهما الموت.

حضور شعري

تفتتح الكاتبة مريم عبد العزيز كل فصل ببيت شعري، من أشعار ابن عبد ربه الأندلسي، و«ألف ليلة وليلة»، إلى كلاسيكيات إبراهيم ناجي، في انسجام مع النقلات التي يتكشف فيها جانب جديد من سيرة البطلين الغائبين، وفي ظل نبرات صوتية أعلى لأبطالها الذين يتقاطعون مع حياتهما، أبرزهم «بشرى» الخادمة الأرملة التي تصبح في غمضة عين المُشتبه بها الأولى في جريمة قتل شكري، و«عادل» ابن أخيه والوحيد الذي يظهر من عائلته، فيطرح ظهوره أسئلة حول جوهر الانتماء العائلي، وتوريث الموهبة، فيرث منه عادل الفن بصورة مُغايرة، فهو يحلم منذ طفولته أن يصير «مسيو عادل» صاحب محل «الكوافير» الذي يتفنن في تصفيف شعر السيدات، ولكنه رغم وعيه بارتباطه «الفني» بعمه الموسيقي القتيل، إلا أنه يمتلئ بالنقمة عليه لتبديده الميراث الذي يطمع في أن يكون رأس مال افتتاح محل أحلامه.

لحن لم يكتمل

ومن ثم، يبدو العالم في الرواية مجرد مصيدة، فأحد شخوصها يدرك أنه «كما يراقب الناس فهناك من يراقبه، ويتصيّد هفواته ويبالغ فيها، واستخدامها كسلاح إذا تعرضت حياته لهجوم»، مما يشي بتفكيك لكتلة الحياة التي تبدو في ظاهرها الاجتماعي وثيقة، فيما هي معطوبة ومُفككة، فتصير الجريمة التي تقع في الحي القاهري القديم بشوارعه المتشعبة، خلفية لسرد أوسع يتتبع تعقيد الخريطة الإنسانية بالأساس، أكثر من تتبعه للغز بوليسي محض حول القاتل والجاني.

ومع تشعب الأدلة، يسترجع السرد في الفصل الأخير من الرواية الجلسة الأخيرة التي جمعت «شكري» و«خالد»، يشكو فيها العجوز للشاب قسوة السيدة التي لم يتخلص من حبها أبداً «اللحن الذي لم يكتمل»، فتعيد الرواية سيرة العجوز والشاب «الشبحين» إلى إنسانيتهما الهشّة، حيث يتبادل الاثنان الاعترافات والمرارة، وتنتهي بانسحاب الشاب مهزوماً، ليترك العجوز يتأمل كيف خالفت الحياة أمله، فصار مجرد مدرس مجهول للموسيقى، وكيف خذله عقله «فعجز عن ترجمة الحب لألحان».


بدر بن عبد المحسن: «المسافر راح...» فـ«انطفأ ضوء الحروف»

«‏ذَبَلَتْ أنوارُ الشوارع.. وإنطفى ضيّ الحروف» برحيل الأمير والشاعر والإنسان بدر بن عبد المحسن
«‏ذَبَلَتْ أنوارُ الشوارع.. وإنطفى ضيّ الحروف» برحيل الأمير والشاعر والإنسان بدر بن عبد المحسن
TT

بدر بن عبد المحسن: «المسافر راح...» فـ«انطفأ ضوء الحروف»

«‏ذَبَلَتْ أنوارُ الشوارع.. وإنطفى ضيّ الحروف» برحيل الأمير والشاعر والإنسان بدر بن عبد المحسن
«‏ذَبَلَتْ أنوارُ الشوارع.. وإنطفى ضيّ الحروف» برحيل الأمير والشاعر والإنسان بدر بن عبد المحسن

«لا تلوّح للمسافر... المسافر راح..»، «‏ذَبلَتْ أنوارُ الشوارع... وانطفى ضيّ الحروف» برحيل الأمير والشاعر والإنسان بدر بن عبد المحسن؛ «البدر» الذي أوقد قناديل الشعر نصفَ قرنٍ من الزمان، وظلَّ يحرس النجوم، وينسج من الكلمات ألحاناً تطوي سهر العاشقين، وتمنحُ الفضاء ألقاً وسحراً وجمالاً، وتسكب في المعنى عذوبةً وصفاء.

كان اليوم (السبت) هو الموعد الذي أطفأ فيه البدر ضوء الحروف وغادر تاركاً خلفه شلالاً من ضياء، وحدائق من ياسمين، كتب وداعيته، راثياً نفسه على نحو مختلف، لم ينظر خلفه بل تطلع نحو الموت كمخلص يأخذه إلى فضاء أرحب، وكأنه طيرٌ يحنُّ أن ينطلق من الأسر نحو الحرية، قال في أزمته الصحية، مخاطباً أخاه الأمير سعود (كتبها في أغسطس 2021):«من ‏يالله يا قلبي سرينا.. ضاقت الدنيا علينا/ ولا بدها يا سعود بتغيب شمسي/ ذي سنة رب الخلايق فرضها/ ‏ولعلها حريتي بعد حبسي/ ‏ولعلي ألقى عند ربي عوضها».

غادر بدر العبد المحسن .. تاركاً خلفه شلالاً من ضياء وحدائق من ياسمين

«مهندس الكلمة»

توفي الأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن في العاصمة الفرنسية باريس، بعد معاناة مع المرض عن عمر ناهر 75 عاماً، تاركاً تراثاً من الشعر، أغلبه نصوص مغناة، ساهمت خلال نصف قرن في إضافة سمة حداثية على القصيدة، كما أعطى زخماً للقصيدة العامية، جاعلاً منها منصة راقية للتعبير عن مضامين الحبّ والغزل والانتماء الوطني أيضاً.

يعشق «مهندس الكلمة»، بدر العبد المحسن الرسم بالريشة أو بالكلمات، فمن خلالهما ينهّمر كشلال من المشاعر فوق اللوحة أو على صفحات الورق.. وهو القائل إن الكتابة وسيلته للشعور بالحياة.

كما أن نصوص الشاعر بدر العبد المحسن مليئة بالصور الجمالية، فهو يقلّب أشكال الحروف ويراقص الكلمات ليرسم لوحة تعج بالصور المشرقة ويعزف سيمفونية فريدة في تعابيرها وألحانها... مع قدرة على جعل المتلقي متعلقاً بالنصّ، ومنفعلاً بألوانه وصوره وتشكيلاته الفنية، ومحلقاً في فضائه الشعري، مع جزالة في اللفظ، وقدرة فائقة على نظم الكلمات كعقد من اللؤلؤ يزيّن به صدر المعنى، وعادة ما تكون القصيدة مطواع موهبته في تشكيلها ليصنع منها سردية تضج بالانفعال والانتماء والتعبير.

وفي فضاء القصيدة؛ ينسج البدر لغة شعرية مكتنزة بالفن، وتصنع بؤراً جماليةً تشع بالخيال والموسيقى، لذلك انسابت قصائده سريعاً لتزين الأغاني وتمنحها روحاً من البهجة والدلالة والخلود.

قبل شهور من رحيله، وفي سن الـ74 من عمره، قال الأمير بدر إن طموحه في هذا السن «هو الشعور بالحياة»، وأكمل قائلاً خلال أمسية عابقة في معرض الرياض للكتاب إن الاستمرار في الكتابة يشكل جسر العبور لهذا الشعور.

ورغم أن قصائده وكلماته ملأت الفضاء لحناً وغناءً فإنه يحنّ لأيام كان فيها النصّ مطواعاً أكثر في يده، قائلاً: «إن كتابة نصّ أدبي قبل 30 عاماً قد لا يستغرق ليلة أو ليلتين، بينما يستغرق اليوم مراحل عدة».

ومع مشاعر الأسى والافتجاع التي لفتّ وسائل التواصل الاجتماعي في السعودية والعالم العربية، عادت من جديد كلماته في رثاء الأمير سلطان بن عبد العزيز، الذي توفيّ في 22 أكتوبر (تشرين الأول) 2011، وفيها يقول هذا البيت: «وليته لا رحل مثلك حفرنا في السحاب قبور / وعشنا في رجا وسمٍ نشوفك في مخاييله».

رحل «البدر» الذي أوقد قناديل الشعر نصفَ قرنٍ من الزمان

القصائد الوطنية

أما قصائده الوطنية، فهي لوحات من الانتماء للأرض والإنسان، مع جزالة المعنى وصدق العاطفة، والروح الجياشة بالوفاء والفخر والاعتزاز، كتب للوطن وقادته أجمل القصائد، مثل: «الله البادي» و«فوق هام السحب»، و«توحيد ووحدة»، و«فارس التوحيد»، و«وطن الشموس»، و«أئمة وملوك»، و«مملكة الحب والسلام»، و«سيوف العز»، و«حدثينا يا روابي نجد»، و«عزّ الوطن»، و«سلمان العرب»، كما ساهم في كتابة «سيمفونية البداية» العرض الأوكسترالي بمناسبة يوم التأسيس 22 فبراير (شباط) 2024 بالاشتراك مع شعراء آخرين.

الشعر المغناة

عذوبة المعنى ورقة الكلمة الشعرية، جعلت قصائد بدر العبد المحسن تشعل حناجر المطربين والفنانين، فكبار الفنانين السعوديين لحنوا له، أبرزهم: سراج عمر، ومحمد شفيق، وسامي إحسان، وعبد الرب إدريس. كما غنى له: طلال مداح، ومحمد عبده، وعبادي الجوهر، وعبد المجيد عبد الله، وخالد عبد الرحمن، وعبد الله الرويشد، وكاظم الساهر، وصابر الرباعي، وراشد الماجد، وغيرهم.

«البدر» في سطور

(*) ولد الأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن بن عبد العزيز آل سعود، في الرياض، في 2 أبريل (نيسان) 1949، وتلقى تعليمه الأولي بين السعودية ومصر، وتعليمه المتوسط في «مدرسة الملكة فكتوريا» في الإسكندرية، ودرس المرحلة الثانوية في الرياض، كما درس في بريطانيا وفي الولايات المتحدة الأميركية.

(*) عُين سنة 1973 بمنصب رئيس الجمعية السعودية للثقافة والفنون، وعين رئيساً لتنظيم الشعر بالسعودية.

(*) كرّمه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بمنحه وشاح الملك عبد العزيز عام 2019.

(*) في مارس (آذار) 2021 أعلنت هيئة الأدب والنشر والترجمة عزمها على جمع وطباعة الأعمال الكاملة الأدبية الكاملة للأمير بدر بن عبد المحسن تنفيذاً لتوجيه وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، وذلك تقديراً لإسهاماته في الحراك الإبداعي السعودي خلال خمسة عقود من الزمن.

(*) في مارس (آذار) 2023 كُرم في ختام مهرجان القرين الثقافي في دولة الكويت في دورته الـ28 باختياره شخصية المهرجان.

(*) أعماله الشعرية:

«ما ينقش العصفور في تمرة العذق»، 1989.

«رسالة من بدوي»، 1990.

«لوحة ربما قصيدة»، 1996.

«ومض»، 2010.

«هام السحب»، وقد صدرت «الأعمال الشعرية» الكاملة للأمير بدر العبد المحسن عام 2022، تزامناً مع معرض الرياض الدولي للكتاب.

«مهندس الكلمة» بدر العبد المحسن

(*) من قصائد البدر:

«يذكرني القمر ظلك»

يذكرني القمر ظلك عجب ياللي ظلالك نور

أنا اللي ما عرفت الليل لولا عتمة أهدابك

حبستك في السما شمس وعلى وجه السحاب طيور

ونخيل باسق يشرب رضاك ويعطش عتابك

وجلست أناظرك ما رف لي جفن تقل مسحور

أقول إن الجمال انتي وكل العشق باسبابك

هقيت إني ملكتك ما دريت إن الأماني غرور

وإنك في يدي لين انتحابي الوقت وقفا بك

سقا الله يوم كان أكبر همومك خاطري المكسور

وكنت الضي في عينك وكنت السقم في ثيابك

سقا الله يوم كنتي الأرض أنهار وشجر وقصور

ديار نورها من طاقتك... وأحلامها بابك

عيوني يا شقى عيوني، من الجدب الموات البور

أراضي ما بها إلا ما ذوى وانهد في غيابك

أحبك كان لي قلب يجض من الجفا مقهور

وصار اليوم يفرح لو لقى له عذر يشقى بك

(*) لا تلوح للمسافر..

المسافر راح..

ولا تنادي للمسافر

المسافر راح..

يا ضياع أصواتنا.. في المدى والريح

القطار وفاتنا..

والمسافر راح..

يالله يا قلبي تعبنا من الوقوف..

ما بقى بالليل نجمة ولا طيوف..

ذبلت أنوار الشوارع.. وإنطفى ضي الحروف

يالله يا قلبي سرينا.. ضاقت الدنيا علينا

القطار وفاتنا..

والمسافر راح..

مادري باكر هالمدينة وشتكون..

النهار والورد الأصفر والغصون..

هذا وجهك يالمسافر لما كانت لي عيون..

وينها عيوني حبيبي..

سافرت مثلك حبيبي..

القطار وفاتنا..

والمسافر راح.

لا تلوح للمسافر المسافر راح

ولا تنادي للمسافر.. المسافر راح

يا ضياع أصواتنا

في المدى والريح

القطار وفاتنا..

والمسافر راح

***

يا الله يا قلبي تعبنا من الوقوف

ما بقى في الليل نجمه ولا طيوف

ذبلت أنوار الشوارع.. وانطفى ضي الحروف

يا الله يا قلبي سرينا

ضاقت الدنيا علينا

***

ما درى باكر هالمدينة.. وش تكون

النهار.. والورد الأصفر والغصون

هذا وجهك يالمسافر لما كانت لي عيون

وينها عيونك حبيبي.. سافرت مثلك حبيبي

من خلال الرسم بالريشة أو بالكلمات، ينهّمر بدر العبد المحسن كشلال من المشاعر فوق اللوحة أو على صفحات الورق

(*) «لولاي أحبك»

(كتبها في أغسطس 2021)

صوتي تجرح ما بقى غير همسي

وعسى حروفي اليوم توفي بغرضها

کن السنين استكثرت طول عرسي

سبعين غيري ما حصلّه بعضها

ولا بدها يا سعود بتغيب شمسي

ذي سنة رب الخلايق فرضها

ولاعلها حريتي بعد حبسي

ولا علي ألقى عند ربي عوضها

لولاي أحبك ما تذكرت نفسي

ولا انتبهت لعجزها أو مرضها

ومادام أشوفك طاب حزني وأنسي

وما همني حلو الحياة ومضضها

لعل قبل سعود لحدي ورَمسي

أخوي من أثرى حياتي ونهضها

ويا من ذكرني ما تذكرت منسي

ذكرت من عد النجوم وقبضها

أنا الذي لو تلمس الريح خمسي

كان السحاب أرخى العباة ونفضها

هذا الشجن حرثي والأيام غرسي

قصيدتي يبطي الزمن ما نقضها


إلى متى تلاحق الاتهامات لجان تحكيم «بوكر» العربية؟

باسم خندقجي
باسم خندقجي
TT

إلى متى تلاحق الاتهامات لجان تحكيم «بوكر» العربية؟

باسم خندقجي
باسم خندقجي

قضيت 6 أشهر تقريباً، في عام 2016، في العاصمة البريطانية لندن. وافق وجودي هناك إعلان القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» الإنجليزية 2016، في 27 يوليو (تموز) 2016. فراودتني على الفور فكرة قراءة روايات القائمة الطويلة كلها، وتقليص عددها إلى قائمة قصيرة من 6 روايات، قبل إعلان لجنة تحكيم الجائزة الرسمية قائمتها. ثم أختار الرواية التي أرى أنها تستحق الفوز بالجائزة، كما هو الإجراء المتبع في تلك الجائزة، وفي الجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر العربية). بكلمات أخرى، كنت سأعمل كلجنة تحكيم من عضو واحد. ثم عدلتُ عن الفكرة لأنني لم أُرِد تكريس وقتي كله لقراءة روايات القائمة الطويلة؛ يكفي أن القراءة والتطواف بمخازن بيع الكتب كانا يستحوذان على جزء غير صغير من وقتي. استقرّ قراري في النهاية على تأجيل القراءة إلى ما بعد إعلان القائمة القصيرة، واستثنيت من القائمة الطويلة رواية ج. م. كوتسي «أيام دراسة المسيح» 2016.

غلاف قناع بلون السماء

حين شرعتُ في قراءة رواية كوتسي، لم توفّر لي تجربة قراءة ممتعة، فالإمتاع هو ما أبحث عنه في أي رواية قبل أي شيء آخر. كانت في مستوى أدنى من توقعاتي. فقررت أنها لا تستحق أن تكون على القائمة القصيرة، رغم أنني لم أقرأ روايات القائمة الطويلة الأخرى. لم أعبأ بكون كوتسي الفائز بجائزة نوبل للأدب 2003، وأنه فاز بجائزة «بوكر» مرتين، لأنه لم يكن في أفضل حالاته في تلك الرواية بالذات، ووصولها إلى القائمة القصيرة، إن وصلت، يعني خضوع اختيارها لاعتبارات لا علاقة لها بالإبداع والأدب والسرد كفن. ربما يتغير رأيي فيها لو قرأتها مرة ثانية، لكنني لم أفعل، ولست متحمساً لتكرار التجربة، على الأقل حتى الآن.

في 13 سبتمبر (أيلول) 2016، جاءت القائمة القصيرة من دونها لتؤكد صحة قراري، الذي لم يكن متأثراً بما نُشر عنها من مراجعات أو قراءات نقدية لأنني لم أقرأ شيئاً عنها إطلاقاً. كانت تلك هي المرة الأولى التي يتطابق فيها قرار اللجنة مع قراري الشخصي. ما يعني أن هنالك اتفاقاً أو تطابقاً آخر في الاختيار أسفل الطريق.

غلاف في غرفة العنكبوت

وخاضت لجنتي المؤلفة مني تجربة قراءة ماراثونية سريعة جداً للروايات الست بحماس وثقة، عززهما خروج رواية كوتسي من المنافسة، إذ شكل خلو القائمة القصيرة منها حافزاً ودافعاً قويين لي وأنا أجوس خلال تلك الغابات السردية بمفردي. وخرجت منها بقرار وضع رواية «الخائن» 2015، لبول بيتي، في مقدمة الروايات، بصفتها المرشحة الأولى للجائزة، تليها رواية مادلين ثين «لا تقولوا إننا لا نملك شيئاً» 2016، كمرشحة ثانية، متوقعاً وآملاً ألا تذهب الجائزة إلى غيرهما. وهذا ما حدث بالفعل، فقد فازت «الخائن» بالجائزة. وكان فوزها عاملاً محفزاً.

لجنة تحكيم موازية

بعد عودتي إلى الوطن، طرح اقتراح تشكيل لجنة بيت السرد في جمعية الثقافة والفنون السعودية بالدمام لتحكيم جائزة «بوكر العربية» لعام 2017، اللجنة الموازية كما سمّاها الشاعر والإعلامي زكي الصدير، في تقرير أعدّه عن نتائج التحكيم لصحيفة «العرب» اللندنية.

وتشكلت لجنة بيت السرد الموازية الكبيرة من: القاص والروائي جبير المليحان، والشاعر عبد الوهاب الفارس، والناقد والكاتب المسرحي عبد العزيز السماعيل، والناقد الدكتور أحمد سماحة، والناقد والروائي عيد الناصر، والقاص والناقد عبد الواحد اليحيائي، والقاصة والروائية مريم الحسن، والقاص والروائي عبد الله الوصالي، والقاصة منيرة الإزيمع، والكاتبة عالية نوح، بالإضافة إلى صاحب الاقتراح. وبعد قراءة ومناقشات على مدى 6 أسابيع، أعلنّا في الأسبوع السابع فوز «في غرفة العنكبوت» لمحمد عبد النبي، تليها في المركز الثاني «موت صغير» لمحمد حسن علوان، وفي الثالث «أولاد الغيتو - اسمي آدم» لإلياس خوري.

لقد خضنا تجربة تحكيم ممتعة ومفيدة، وضعنا خلالها مهاراتنا النقدية والتحليلية على المحك بجدية وتفانٍ؛ تجربة مارسنا خلالها الحوار والاختيار بحرية وديمقراطية، تجربة لم تكن مطوّقة بأي قيود وحسابات واعتبارات، عدا ما اتفقنا عليه من معايير، أو خطوط عريضة اهتدينا بها في قراءة ومناقشة الروايات الست، وكانت غايتنا اختيار ما نتفق، بالأغلبية، على أنها الرواية الفضلى التي تستحق الفوز بـ«بوكر العربية»، بغضّ النظر عن نتيجة تحكيم اللجنة الرسمية للجائزة. فازت «في غرفة العنكبوت» في مرحلتي التصويت، لأنها الأفضل في نظر الأغلبية.

مارسنا التحكيم غير متأثرين بهويات وجنسيات وانتماءات الروائيين الفكرية والسياسية. ولم نشعر بالندم لأن رواية السعودي محمد حسن علوان لم تأتِ في المركز الأول. إن «موت صغير» رواية رائعة وعظيمة، أعطيناها حقّها من القراءة الجادة والمناقشة المستفيضة العميقة، مثل الروايات الأخرى على القائمة القصيرة، بيد أننا انحزنا، أو انحازت الأغلبية منّا إلى رواية محمد عبد النبي. لقد وجدنا أنفسنا أثناء قراءة «في غرفة العنكبوت» أننا في حضرة روائي يبني العالم التخييلي في روايته ببراعة ومهارة عنكبوت، فكان العنكبوت في داخل الرواية، وفي خارجها، بعيد عنّا وقريب منا، أو كنا قريبين منه في نفس الوقت، وقت القراءة.

لم نضع رواية «موت صغير» في المركز الأول، ليس لأننا لم نكن نتمنى ذلك، ولكن لتغلب انحيازنا للإبداع، مهما تكن جنسية المبدع، على انتمائنا الوطني، ولالتزامنا بمعايير التحكيم من دون التأثر بأي عوامل قد تجرفنا بعيداً عمّا كنا نعدّه المسار الصحيح في التحكيم، مع الإيمان بأن الروائي علوان لا يمثل سوى نفسه في تلك المسابقة. لم يكن يمثلنا، ولا يمثل المملكة. كان يمثل نفسه روائياً ومبدعاً متميزاً، وليس كما دأب بعض الصحافة عندنا على اعتبار وتصوير مشاركة أي أديب سعودي في مسابقة أو مؤتمر أو مهرجان في الخارج على أنها تمثيل للمملكة. الحقيقة أنه عندما يتلقى أديب دعوة ويلبيها بالمشاركة في هذه الفعالية الثقافية أو تلك، إنما يمثل نفسه، ما لم تكن مشاركته ضمن وفد رسمي وتحت مظلة رسمية باسم المملكة.

تلميع السجون

أستحضر، الآن، تلك التجربة التحكيمية، والتجارب التي تلتها في بيت السرد، لأنها أكدت عدة حقائق ذات صلة قوية بالتحكيم ولجانه في المسابقات الأدبية. أولاها أنه من المستبعد، إن لم يكن مستحيلاً، تطابق نتائج التحكيم للجنتين مكلفتين بقراءة وتحكيم نفس النصوص الأدبية. والثانية، أن استبدال عضو أو عضوين في لجنة تحكيم بعضو أو عضوين آخرين سينجم عنه اختلاف في النتائج، وسيحدث الاختلاف أيضاً عند استبدال نصوص بنصوص أخرى. ولو طُلِب من لجنة ما لجائزة أدبية ما أن تعيد التحكيم بعد مرور بعض الوقت بعد إعلان نتائج تحكيمها لتلك الجائزة، فليس من المستبعد أن تنتهي إلى نتائج مختلفة. والحقيقة الأخيرة، التي يؤكدها باستمرار الجانب البليد والخامل من الصحافة الثقافية العربية، أن كل لجنة تحكيم هي هدف للتشكيك وسوء الظن والاتهام بالانحياز وبوجود مؤامرة.

يبدو أن لجنة تحكيم «بوكر العربية» التي منحت الجائزة لرواية الأديب الفلسطيني باسم خندقجي «قناع بلون السماء»، على موعد مع موجة من التشكيك في نزاهتها وفي حياديتها وموضوعيتها في القراءة والاختيار؛ رغم أنها كانت واضحة في تبيان مبررات اختيارها «قناع بلون السماء» من بين 133 رواية ترشحت لهذه الدورة. جاء في البيان الصادر عن اللجنة أن رواية خندقجي هي «أفضل رواية نُشرت بين يوليو 2022 ويونيو (حزيران) 2023». ومما ورد في وصف نبيل سليمان، رئيس لجنة التحكيم، للرواية، قوله: «يندغم في (قناع بلون السماء) الشخصي بالسياسي في أساليب مبتكرة. رواية تغامر في تجريب صيغ سردية جديدة للثلاثية الكبرى: وعي الذات، وعي الآخر، وعي العالم».

وسيطول التشكيك استحقاق خندقجي للجائزة أيضاً. وكما يستمر محاطاً بقضبان وجدران زنزانته، ستظل روايته محاطة بدائرة من التحفظات على فوزها عند البعض، وبالتشكيك في أحقيتها للجائزة لأنها في نظر أولئك البعض الرواية التي لم تكن لتفز لولا تعاطف لجنة التحكيم مع كاتبها القابع في سجون المُحْتَل المغتصب، ومع الشعب الفلسطيني في نضاله ومقاومته للاحتلال الصهيوني. لكن ما لم يخطر بالبال أن يَعدَّ آخرون فوز «قناع بلون السماء» فوزاً سياسياً من «أجل تلميع سمعة السجون الإسرائيلية». والسؤال: لماذا لم يحدث «التلميع» من قبل، خصوصاً أنه صدر لخندقجي 3 روايات قبل «قناع بلون السماء» منذ اعتقاله في 2004؟!

* ناقد وكاتب سعودي


الكتابة البصرية في الفن المعاصر

الكتابة البصرية في الفن المعاصر
TT

الكتابة البصرية في الفن المعاصر

الكتابة البصرية في الفن المعاصر

صدر مؤخراً عن «المركز الثقافي للكتاب»، بيروت - الدار البيضاء، كتاب جديد للناقد المغربي شرف الدين ماجدولين، بعنوان «المؤلف في الصورة: الكتابة البصرية في الفن المعاصر»، ويسعى فيه، حسب ما ورد في تقديمه، إلى الدفاع عن أطروحة ترى أن مفهوم «المؤلف» يحتفظ بجدوى حاسمة في فهم وتحليل الفن المعاصر، في نزوعاته التجريبية، القائمة على الاسترفاد من «الأدبية» و«البحث في المعارف»؛ وارتكازه على قيم مأثورة في الحقلين، تنهض في طليعتها تقاليد: «الكتابة» والعودة إلى «المرجع»، وما قد يلمس من اختصاص فنانين، ذوي شهرة وتأثير، في موضوعات فلسفية وسياسية وثقافية، وتأصيلهم لأسئلتها؛ عبر سنوات من البحث في المواد والخامات والأشكال، بالقدر ذاته من الاجتهاد اللامع المتصل بالبحث في الأرشيفات والكشوفات المعرفية.

وصفة «المؤلف» في ثنايا الكتاب، كما جاء في التقديم، «بقدر ما تركز على طبيعة التشكيل في ارتباطه بتقاليد الكتابة الأدبية والبحث في العلوم الإنسانية، فإنها لا تستثني المأرب الذي سعى لتحصيله الفنانون المعاصرون في الغرب، خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي؛ حيث إن نضالهم لتحصيل صفة المؤلف، أمام المؤسسات الفاعلة في الحقل الثقافي، ارتبط بمطلب (حقوق المؤلف) التي تجعل العمل محصناً من الاستغلال دونما ضوابط، شأنه شأن باقي المؤلفات الفكرية. غير أن اكتساب هذه الصفة ارتبط لديهم أيضاً بوجه أداء متصل بمفهوم التأليف، وطبيعة اشتغاله، ما أفرز في النهاية امتدادات له في التحليلات النقدية والجمالية، أدت إلى انتشاره ورسوخه».

وهي الظاهرة التي جعلت فرضية «الكتابة البصرية» جديرةً بالتأمل، ليس فقط بالمعنى المباشر، الذي يجعل الحروف والمفردات جزءاً من بنية العمل الفني. ولكن أيضاً في استناد أساليب التركيب إلى حدود أدبية، من قبيل: «النص» و«الدليل» و«المعنى» و«السرد» وغيرها... يبحث الكتاب في تفاصيل هذه الأطروحة ويسعى لامتحان جدواها، عبر خمسة فصول، تمزج ما بين النظر والتطبيق، حملت العناوين التالية: «تأليف القول وتكوين العرض»، و«الكتابة البصرية وجدلية الحركة والسكون»، و«الباحث الوثائقي والمؤلف البصري»، و«الكتابة البصرية وخطاب الغيرية»، ثم «السيرة البصرية وتمثيل الذاكرة»، مع مقدمة وخاتمة وفهارس. على امتداد 320 صفحة.


كانط... الأخلاق والمواطنة العالمية

كانط
كانط
TT

كانط... الأخلاق والمواطنة العالمية

كانط
كانط

نشرت «الشرق الأوسط» (صفحة ثقافة وفنون) بتاريخ 2 مايو (أيار)، مقالاً للكاتب علي حسن الفواز يتحدث فيه عن سلافوي جيجيك، وينقل عنه مقولته: «إن إنشاء دولة يهودية هو وضع نهاية لليهودية كدين»، ويقرر أن الدولة اليهودية تأكيد لفقدان العالم للبراءة وتجريد له من تنوعه واستمرار للحروب الدينية التي لا علاقة لها بالاقتصاد ولا الجغرافيا ولا السياسة، وأن هذا الإنشاء يتعارض مع فكرة إيمانويل كانط، فيلسوف عصر التنوير الأكبر، عن المواطنة العالمية والسلام الدائم، ويبث عوضاً عن ذلك، العداوة الآيديولوجية، كما تفعل أي دولة دينية.

من جهة أخرى، يبدو أن خلاف إيمانويل كانط (ت 1804) مع اليهود لا ينحصر فقط في فكرة إسرائيل، ولا في قيام الدولة؛ إنه خلاف في فهم الدين وما معنى أن يكون الدين ديناً. لقد قرأ الأناجيل قراءة عقلية نقدية، قراءة تنطلق من شخصية كانط نفسه، فهو مفكر عقلاني أخلاقي لا يقبل إلا بما يؤدي إليه العقل فقط، ولذلك نقد ألوهية المسيح، وعقيدة التثليث والصلب والفداء، والإيمان بقيامة المسيح والمعجزات، وفهم الدين على أساس أخلاق العقل الخالص، ولذا قيل إنه قد أفرغ المسيحية من مضامينها الأساسية وصنع نسخته الخاصة من الدين.

وفي هذه النسخة الخاصة قال بواحدية الدين الصحيح مع تنوع العقائد واعتمد كثيراً على تأويل النصوص بمعانٍ غير تلك الشائعة عند المؤمنين، وهكذا يمنح هذه العقيدة محتوى عقلانياً بحيث تصبح قيامة المسيح مجرد صورة رمزية لظهور الأخلاق وسيادتها على الحياة، حياة الفرد وحياة المجتمع والدولة، وملكوت الله هو ملكوت الأخلاق المأخوذة من العقل الخالص الذي يعانق الإنسانية كلها، وعلى هذا يمكن بسهولة تصور كل مساره الفكري الذي انطلق في خط مستقيم نحو استبعاد أي عنصر لاهوتي عن فلسفته.

إذا كانت هذه هي قراءته للمسيحية، فماذا سيقول عن اليهودية؟ هو لا يعدّها ديناً بأي معنى يخطر بالبال. والسبب في ذلك أن الدين عنده يجب أن يكون أخلاقياً وأن يكون لكل الناس. وفوق هذا لا بد من الإيمان بالحياة الأخرى. يعتقد كانط أن اليهود لا يؤمنون بالدار الآخرة، وهذه الفكرة يمكن أن تكون محل نزاع كبير، وقد يكون مخطئاً فيما قال، خصوصاً إذا نظرنا إلى اختلاف الفرق اليهودية بهذا الخصوص، وإن كان يشوب كل ذلك قدر من غياب الوضوح.

وهكذا انطلق كانط ليقرر أنه لم يجد في النص اليهودي إلا الأحاديث عن جوائز الثواب ونوازل العقاب الدنيوية التي تكرّس الطاعة وامتثال الأوامر، ولم يجد أثراً لذكر الآخرة، مع أنه لا يصح وجود دين بلا آخرة. لماذا الآخرة مهمة عند كانط؟ السبب هو ذاته في كل مرة: لأن الآخرة تلعب دوراً أساسياً في قيام الأخلاق. فيلسوف التنوير واضح للغاية.

لم يلحظ في نصوص الأحبار ما يدل على مبادئ أو تصورات أخلاقية ملموسة. لا توجد بالنسبة إليه سوى قوانين وتشريعات تتطلب الطاعة من دون أسئلة، وهذا من وجهة نظره ليس بدين لأنه لا بد من أن يكون الدين فعّالاً في حياة الناس وفي تنقية النفوس وتصفية الضمير الإنساني وطهارة القلب، وأن تحب لأخيك ما تحب لنفسك.

في مقابل هذا، يرى كانط أن اليهودية تؤمن برب خاص بها وبشعبها ولا ترحب بالقادمين الجدد، فهي عبارة عن نادٍ خاص لعرق خاص. وما تعبده الشعوب الأخرى ليس إلهاً على الصحيح، ولا يوجد إلا هذا الإله الواحد الذي سيحرم منه البقية للأبد، فلا إله إلا إله اليهود، وهو لليهود وحدهم. وهذا الإله هو في الواقع يشبه ملوك بني إسرائيل، يشبه داود وسليمان ويوشع، ملك غازٍ للشعوب الأخرى. والوصايا العشر تحوي بعض القيم لكنها خاصة باليهود وليست لكل الشعوب، ولا يأمر الله فيها شعبه بإصلاح الباطن، بل يكتفي بالتقيد الظاهري بالأوامر والنواهي. ويمضي كانط في كتابه «الدين في حدود العقل الخالص»، مقرراً أن هذا الإله الذي لا يدعم النوايا الطيبة، ليس هو ما تحتاجه البشرية، لأنه ليس رب العالمين.

كانط لا يهتم كثيراً بالمنهج التاريخي بل يصف الجماعة اليهودية التي عرفها والنصوص التي وصلت إلى يديه

وبرغم كل ما يقال عن دين كانط من رافض له وقابل له، فإنه يؤمن بالكنيسة وبضرورة قيامها على الأرض، وهنا يضيف لوماً آخر لليهود لأنهم لم يقيموا مثل هذه الكنيسة، يعني الكنيسة التي ترحب بالجميع. وكل هذا بطبيعة الحال يشير إلى رفضه المطلق لفكرة شعب الله المختار.

اليهودية - عند كانط - ليست سوى مشروع دولة سياسية دنيوية لشعب تجمعه الإثنية، ولا يمكن أن تتواءم مع مشروع التنوير الكانطي وفكرة المواطنة العالمية. هذا التحليل برغم عمقه وقوته وواقعيته، فإنه يفصح عن جانب من منهج هذا الفيلسوف، فهو لا يمنح كثيراً من الاهتمام بالمنهج التاريخي، بل يصف حال الجماعة اليهودية التي لقيها في حياته والنصوص التي وصلت إلى يديه. ولو أنه منح بعض الوقت للنقد التاريخي للتوراة كما نجده عند سبينوزا وإسحاق لا بيرير وغيرهما من الفلاسفة اليهود، لوجد أن التوراة هي أكثر النصوص الدينية التي تعرضت للتحريف، وهكذا يمكن الحديث عن عدة يهوديات، لا واحدة. إذا كان هذا هو رأي فيلسوف التنوير في اليهودية، فكيف سنتخيل رأيه في إسرائيل؟

لنعد مرة أخرى إلى جيجيك. لكل ما تقدم، أراه مخطئاً في تحليله للمشهد، فإسرائيل ليست دولة دينية كما يقرر. إسرائيل أسستها الحركة الصهيونية؛ وهي علمانية تماماً ولا علاقة لها بالدين والتديّن، لكنها في الوقت نفسه وبلا شك دولة فصل عنصري، وليست دولة للجميع، كما يحدث في أي دولة علمانية حديثة. يمكن التعايش مع اليهودية كدين، أما الفصل العنصري فلا بد أن ينتهي كما حدث في جنوب أفريقيا.


بول أوستر... رحيل صاحب «ثلاثية نيويورك»

بول أوستر
بول أوستر
TT

بول أوستر... رحيل صاحب «ثلاثية نيويورك»

بول أوستر
بول أوستر

توفي مساء أول من أمس (الثلاثاء) الروائي الأميركي بول أوستر عن 77 عاماً في نيويورك، التي ارتبط كثير من أعماله باسمها ومن بينها سلسلته الشهيرة «ذي نيويورك تريلوجي» (ثلاثية نيويورك).

وربما يكون أوستر هو الروائي الأكثر حضوراً في المشهد الثقافي الأميركي والأوروبي في السنوات العشرين الأخيرة. وقد عُرف عالمياً أيضاً على نطاق واسع، فقد تُرجمت رواياته إلى 40 لغة، ومن بينها العربية التي تُرجمت إليها غالبية أعماله، ومنها: «حماقات بروكلين»، و«في بلد الأشياء الأخيرة»، و«قصر القمر»، و«اختراع العزلة» و «ثلاثية نيويورك»، من ضمن أعمال أخرى.

وتتوزع كتاباته الروائية وغير الروائية بين موضوعين مركزيين: الوحدة والعنف.

وهذان الموضوعان انغرسا فيه منذ انطلاقته الأولى، شاعراً، ثم كاتب سيناريو، ومترجماً، وأخيراً روائياً، حيث وجد نفسه أكثر. وكانت الكتابة بالنسبة إليه متعته الكبرى، وربما وسيلة هربه الوحيدة من تهميش المجتمع الأميركي، وشعوره الدائم بالوحدة، فقد نشأ مفتقداً وجود الأب، وكتب عن ذلك في مذكراته «اختراع الوحدة»، الصادرة عام 1982. وانعكس هذا الشعور في معظم أعماله اللاحقة.

وحظي بول أوستر بتقدير خاص في فرنسا التي كان يعدّها «بلده الثاني»، وحصل فيها على جائزة ميديسيس للرواية الأجنبية عن كتابه عن «ليفياثان» عام 1993.


رحيل بول أوستر... الضمير المأساوي للمجتمع الأميركي

بول أوستر
بول أوستر
TT

رحيل بول أوستر... الضمير المأساوي للمجتمع الأميركي

بول أوستر
بول أوستر

تتوزع كتابات بول أوستر، الذي رحل أول من أمس عن 77 عاماً بعد صراع طويل مع مرض السرطان، بين ثيمتين كبريين في أعماله الروائية وغير الروائية؛ هما الوحدة والعنف، اللذان يترابطان معاً، ويقود أحدهما للآخر، ويتبادلان أدوارهما ونتائجهما.

هذان الموضوعان انغرسا فيه منذ انطلاقته الأولى، شاعراً، ثم كاتب سيناريو، ومترجماً، وأخيراً روائياً؛ حيث وجد نفسه أكثر: «لم يكن أمامي أي خيار آخر، سوى أن أكتب، وأن أكرّس كل حياتي للكتابة»، كما قال مرة في إحدى المقابلات معه. كانت الكتابة متعته الكبرى، وربما وسيلة هربه الوحيدة من تهميش المجتمع الأميركي، ومن شعوره الدائم بالوحدة. لكن الكتابة هي أيضاً لعنته، كما يقول في الحوار نفسه.

من هنا اكتسب أوستر شعوراً مأساوياً بالحياة، ومن هنا أيضاً يمكن أن نطلق عليه «الضمير المأساوي للمجتمع الأميركي»، كما عبّر عن ذلك في أعماله، التي تجاوزت الثلاثين عملاً.

كاتب حياة

يصنف بعض النقاد أوستر ضمن روائيي «ما بعد الحداثة»، وآخرون يدرجونه تحت تيار التفكيكية، ويتحدثون عن أثر جاك دريدا علية فكرياً بعدما عاش أوستر بعض السنوات في فرنسا واطلع من كثب على كتابات دريدا. ويذهب البعض الآخر إلى تصنيف رواياته على أنها «روايات بوليسية». لكن أوستر ليس معنياً بذلك، بل على العكس يتحدث عن تأثير لويس بورخيس وديكنز وأميلي برونتي وتولستوي عليه، إضافة إلى الحكايات الأميركية الشعبية.

لا تنظير «ولا صفحات ذهنية أو فكرية» نعثر عليها في كتاباته، وإذا وردت هنا وهناك فهي تأتي ضمن نسيجه الروائي المحكم. صحيح أن هناك عناصر في بعض رواياته يمكن نسبتها إلى «الرواية البوليسية»، لكنها ليست العنصر الرئيسي، بل هي شكل روائي يقود إلى أبعد منه. أوستر كاتب حياة أولاً وأخيراً، كأي روائي كبير آخر..

غلاف رواية «بومغارتنر» لأوستر

في مذكراته «اختراع العزلة»، الصادرة عام 1982، وهي أول كتبه في هذا المجال، يتحدث أوستر عن بداية حياته بوصفه ابناً لأب غائب دائماً. والكتاب مليء بذلك الشعور الذي سينعكس في كل أعماله الروائية وغير الروائية: الحزن، والشعور بالفقدان، والوحدة، والضمير الشقي.

غصة الثلاثية

ولعل ثلاثيته، المكونة من «مدينة الزجاج» و«الأشباح» و«الغرفة الموصدة»، التي ارتبط اسمه بها، أكثر من أي عمل آخر، هي أكثر أعماله التي تعكس الثيمتين اللتين شغلتاه طوال حياته، وهما كما أشرنا: الوحدة والعنف.

عمل أوستر على الجزء الأول من الثلاثية عام 1981 ثم أعاد كتابة مسرحية له أنجزها قبل سنوات، ليحولها إلى جزء ثانٍ، ليلحقهما بجزء ثالث. ويبرر ذلك بقوله إن موضوع المسرحية الأولى والقسمين اللاحقين، هو موضوع واحد: الغموض، وكيفية تعلم العيش مع الغموض وعدم اليقين، وهذا هو جوهر «الثلاثية» كلها.

لماذا اعتبرت هذه الثلاثية أهم أعماله واشتهرت أكثر من غيرها، حتى إن خبر رحيله في أغلب الصحف العالمية ورد مقروناً بها؟

يشعر أوستر، كما يشعر كثيرون حين تقترن أسماؤهم بعمل واحد، بالغصة، وهو لا يعرف كيف يفسر ذلك، ويلقي اللوم على الصحافيين الذين يسارعون إلى وصف العمل الذي عرف اهتماماً ما من القراء بأنه أهم عمل للكاتب.

غلاف رواية «4321» لأوستر

في عمله الثاني «قصر القمر»، الصادر عام 1989، يعود أوستر إلى ما طرحه في كتابه «اختراع العزلة»: شخصية منعزلة يبحث عن أب غائب، وكل محاولاته مصيرها الفشل؛ إذ يهاجر ستانلي فوغ من نيويورك ليتعقب ماضي عائلة في رحلة ذات مواقف كوميدية لا تفضي إلى شيء.

تتكرر ثيمة الوحدة والعزلة والبحث عن المجهول في رواية «كتاب الأوهام»، الصادرة عام 2002، بل إن شخصية ديفيد زيمر، التي كانت قد ظهرت في رواية «قصر القمر» وإن بشكل سريع، تعاود الظهور في الرواية الجديدة بوصفها شخصية رئيسية. إنه يعاني الوحدة، ونوعاً من التدمير الذاتي بعدما فقد عائلته في تحطم طائرة. ثم يصبح ممسوساً بشخصية هكتور مان، وهو ممثل اختفى قبل عقود، واعتبر ميتاً. ولكن بعدما كتب عنه، تسلم زيمر رسالة تفيد بأن بطله لا يزال حياً يرزق، وهكذا يتهاوى عالمه كله.

أما رواية «حمقى بروكلين»، الصادرة عام 2005، فتأتي كأنها نبوءة لمصير أوستر نفسه: رجل مصاب بالسرطان، يبحث عن مكان هادئ ليموت فيه، حتى يلتقي شخصاً يسبب له أزمة وجودية شديدة.

«4321»... رواية التتويج

وفي عام 2017، أصدر أوستر رواية «4321»، التي يمكن عدّها تتويجاً لمعظم أعماله. وهي رواية مركبة، خلط فيها أوستر أشكالاً سردية عدة بحرفية عالية، ولغة ظل طوال حياته يصقلها ويصفيها، فقد كانت اللغة عنصراً جوهرياً في أي عمل أدبي، وأحد مشاغله الأساسية، وينبغي أن تكون محل اهتمام أي روائي يريد أن يقدم أعمالاً جديرة بالبقاء.

وكان كتاب أوستر الأخير عملاً غير روائي، حول العنف في أميركا وقد صدر عام 2021 بعنوان «الشعب الدموي». وكان الزميل الدكتور سعد البازعي قد استعرض هذا الكتاب في هذه الصفحة حين صدوره، وترجم الكتاب لاحقاً أيضاً، وهو «توثيق للعنف وتأملات تحليلية حول جذوره وأسبابه ومآلاته»، وحلّل «أبعاد النزاع الدموي الذي ظلل التاريخ الأميركي منذ بداية الاستيطان حتى أيامنا هذه».

والحقيقة، أن أوستر قد دخل ذلك النفق الرهيب قبل سنتين من رحيله، وحينها كتبت زوجته:

«أعتقد أنه سيكون أمراً فظيعاً أن تكون وحيداً في (أرض السرطان)، العيش مع شخص مصاب بالسرطان يتعاطى العلاج الكيميائي والمناعي، هو مغامرة في القرب والابتعاد. يجب أن يكون الشخص قريباً بما فيه الكفاية ليشعر بالعلاجات التي تنهك جسد المريض كما لو أنه هو المعني بتعاطيها، وفي الوقت نفسه يكون بعيداً بما فيه الكفاية ليتمكن من تقديم المساعدة الحقيقية. فالشفقة الزائدة قد تشعر المريض بأنه عديم الفائدة! ليس من السهل دائماً القيام بهذه المهمة الحساسة».


سلافوي جيجك: إنشاء دولة يهودية هو وضع نهاية لليهودية كدينٍ

سلافوي جيجك
سلافوي جيجك
TT

سلافوي جيجك: إنشاء دولة يهودية هو وضع نهاية لليهودية كدينٍ

سلافوي جيجك
سلافوي جيجك

يكتب سلافوي جيجك في كلّ شيء، وعن كلّ شيء، يتحمّل كلَّ التُهم التي تجعله منعوتاً بالخروج عن السياق، وفيلسوفاً أنزل الفلسفة إلى درك اليومي، وجرّدها من أسلحتها المتعالية، وعرّض الأفكار إلى سوء الظن دائماً.

اشتغل في السياسة بوازعٍ من شهوة المزاج الشخصي، والشغف بالمغامرة، مثلما اشتغل بالآيديولوجيا من منطلق أوهام الشيوعي المتمرد الذي لا يثق كثيراً ببداهات الصراع الطبقي، وكراهية الرأسمالية، حتى بدا وكأنه يصدّق حكايات الساحر الأغريقي الذي يؤمن بالنهايات الميتافيزقية للعالم، كما اشتغل في علم النفس بوصفه ممارسات في التطهير والاعتراف، وفي تخفيف حدّة التوتر الليبدوي، فعمد إلى استعارة كل الأدوات العيادية من جاك لاكان لكي يعرف أن هذا العلم المخادع يربط بين أزمة الجنس وأزمات الكينونة والجسد والثورة، ويسوّغ الحديث عن المخفي من أخطاء الحروب والديكتاتوريات والعنف، وتحت يافطة أن العيادي هو أنموذج الكائن الغربي، الذي يعاني من أمراض طبقية وسياسية وجنسية ووجودية، وأن علاقته بالعيادة تتحوّل إلى مجال للاعتراف، وللتنفيس عن طاقات مكبوتة، رغم معرفته بأن الكائن الواعي هو الوحيد الذي يمكنه ممارسة الكبت، والعيش مع التباسات اللاوعي الجمعي، وربما يخضع له، بوصفه توهماً بحيازة سلطة الإخفاء، وهي سلطة غير مرئية...

حميد دباشي

لكن الأخطر في اشتغالات جيجك هو شعبويته، وربما استعراضيته، فكثيراً ما يدعونا إلى ممارسات سقراطية، يجعل من الشارع منصته، ومن الحكمة خطاباً يومياً، ومن السياسة مجالاً للسخرية، ومن النكتة والكاريكاتير عتبات رمزية لفضح «المسكوت عنه» في الحروب القبيحة، وفي السياسات الأكثر قبحاً، ولإدانة ما يسمى بـ«المجتمع الدولي» وتعرية انتهازيته، وسكوته عن الأخطاء الكبرى التي تقود العالم إلى الكارثة، حيث يواصل سؤاله النقدي مع رعب العالم إزاء الخراب الآيكولوجي، فتبدو كتابته عن هذا الملف أشبه بالبحث عن شفرات للتطهير، بالمعنى الأخلاقي، أو المعنى الثقافي أو المؤسساتي، أو حتى المعنى «الشوارعي».

فهو يؤمن بأن تحديات «التلوث» و«النفايات» يمكنها أن تُدمّر العالم أكثر من الدمار النووي، وبهذا يسعى إلى تكريس شعبويته عبر اصطناع المزيد من المنصات في وسائل التواصل الاجتماعي، لكي يكون فيها سقراطياً، خطيباً آيكولوجياً، واعظاً بضرورة حماية المناخ والبيئة ومواجهة الاحتباس الحراري، ومنع صناعة الأسلحة النووية، والدعوة إلى الطاقة الخضراء، بوصفها طاقةً أكثر إنسانيةً، وصالحة لجعل الإنسان يثق بالطبيعة. فالحرب البيولوجية قد تكون هي الحرب المقبلة، إن كانت على شكل جائحة «كوفيد - 19»، أو عبر مظاهر المناخ المُهدد بالتلوث وتغوّل درجات الحرارة، أو عبر مظاهر استشراء العنف الداخلي للجماعات الهامشية، أو عبر احتجاجات شعبيّة ومنازعات اجتماعيّة وآيديولوجية في جميع أنحاء العالم، قد تترافق معها بوادر «حرب باردة جديدة».

إدوارد سعيد

هذا العنف، أو صورة الحرب المُهدِدة ليست بعيدةً عن الصراع السياسي الدولي، ولا عن طبيعة إعادة إنتاج «الثقافات المتعالية». فجيجك يتحدث عن علاقة العنف والكراهية بالآيديولوجيا، ومن منطلق الفكرة التي تؤكد على هوية ما تُنتجه «المركزية الأوروبية» في مختبراتها الآيديولوجية، وتمثلاتها في صيانة أنموذجها المتداول، عبر توصيفه كمواطن عالمي، وتوصيف قوته المسؤولة عن صناعة الحضارة والمستقبل. وعلى الآخرين أن يصدّقوا هذه الحكاية التي لم تكن بعيدةً عن تاريخ الفلسفة الأوروبية، فكانط كان عنصرياً في عديد أفكاره حول «اللون والمكان» وهيغل كان يؤمن بـ«المواطن الأوروبي» ونيتشه كان يضع إنسانه المتعالي نظيراً لهذا المواطن، وحتى هيدغر الفينومينولوجي أعطى للأوربة توصيفاً يربطها بالحضارة، وأن الغرب الذي يملك القوة، يمكنه أن يجعل المعرفة جزءاً من مفهوم الحضارة، ومن القوة المندفعة نحو السيطرة على العالم.

وأحسب أن مواقف جيجك من الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وحتى موقفه إزاء العدوان الإسرائيلي على غزة ليست بعيدة عن سرائر تلك النزعة المركزية، وعن حساسيتها، وربما عن قلقه إزاء طبيعة المتغيرات التي يمكن أن تتضخم مع تلك الصراعات، والتحوّل إلى مهددات، وإلى أشكال معقدة لسرديات حروب لم يتحمّلها الأوروبي، صانع المتعاليات الاستشراقية.

أزمة الأوروبي مع المركزية ليست بعيدةً عن علاقته بذاكرة الخطيئة، وأن دفاعه المستميت عنها يقوده دائماً إلى ذاكرة التطهير، وإلى ما أسسته من أوهام ميتافيزقية، وأحسب أن هذا هو ما دفع الكاتب الأميركي حميد دباشي إلى السخرية من هذه المركزية بالقول: «يعاني الأوربيون من النزعة الأوروبية قطعاً، كما أن الملا نصر الدين ظنّ بأن الموقع الذي ثبّت فيه لجام بغلته هو مركز الكون» (حميد دباشي/ هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟).

حديث المركزية الأوروبية، أو الغربية بمعنى أدق فتح أفقاً لحديث يتعلق بنقد الاستشراق، ولطبيعة ما يُثيره من أسئلة جديدة، تتجاوز نظرات إدوارد سعيد وفرانز فانون وغاياتري سبيفاك وغيرهم، ليس لأن «الاستشراق» خطاب زمني وتاريخي، بل لأن ما جرى ويجري جعل من الاستشراق قاصراً عن توصيف الصراع، والدفع باتجاه مراجعة أكثر شمولاً لمفاهيم معقدة مثل العولمة والأمركة والهيمنة، وهي ممارسات سياسية واقتصادية وآيديولوجية، تنطلق من فكرة المركزية، وتؤسس لها أجهزة صيانية تقوم على العنف والاغتيال، وعلى العقوبات، وعلى استنزاف الثروات، مثلما تقوم على المركزية المعلوماتية والإعلامية، وعلى تخليق «صور ذهنية» عن تلك المفاهيم، بوصفها جزءاً من الصور الذهنية عن سيطرة المتعالي.

أكد حميد دباشي هذا الأمر، عبر نقد تلك الأطروحات بالقول «إن ما يوحّد كلاً من جيجك وليفيناس وكانط هي فلسفة التعميم الذاتية، فهي تستند عندهم دائماً على نفي قدرة الآخرين على التفكير النقدي أو الإبداعي من خلال تمكين وتفويض وتخويل أنفسهم للتفكير بالنيابة عن العالم» (الفيلسوف سلافوي جيجك والقضية الفلسطينية - جعفر هادي حسن).

آراء حميد دباشي أثارت عصفاً فكرياً حول «المركزية الأوروبية» دعت سلافوي جيجك إلى الرد العنيف، بقوله «إن دباشي يريد فتح موضوع قديم، جديد، وهو إشكالية مركزية العقل الأوروبي» (علي سعيد: دباشي وجيجك والسؤال المستفز: هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟) وكأنه بهذا الرد يرفض القبول بوجهات نظرات «الشرق» الساخط على مركزية الغرب، وعلى أنموذجه الأوروبي.

تظل مراجعة فكرة المركزية الأوروبية موضوعاً إشكالياً، لأن مجادلتها ليست خاضعة بالضرورة إلى قياس قهري محكوم بعقدة المتعالي التاريخي، بل يتطلب الأمر وضعها في سياق ظروفها التاريخية، ومقاربتها من منطلق تمثيل الثنائية الملتبسة لـ«الأنا والآخر» بوصف الآخر جزءاً من تلك المركزية، ويملك تاريخاً ضاغطاً علينا، بدءاً من حروبه الصليبية، إلى حروبه التبشيرية، إلى حربه الآركيولوجية من خلال حملات الآثار في عدد من البلدان الشرقية، وصولاً إلى حقبة الاستعمار والاحتلال وما رافقها من عنف وتطهير إثني وهوياتي، وليس انتهاءً بفرضية الهيمنة الثقافية عبر الجغرافيا السياسية والاقتصادات التابعة والاستشراق بأقنعته المتعددة.

كما أن «الأنا» ليست بريئةً، وليست هي الضحية دائماً، فبقدر رثاثتها التاريخية وضعف أدواتها، وتشظي هويها، فإنها بدت أكثر التباساً في إطار أنساق حاكمة، صنعها الآخر أيضاً، وفرضها في سياق التداول كموجهات لتوصيف هامشية «الأنا» وعزلتها، عبر تأطيرها في اختراعات جيوسياسية مثل «العالم الثالث، الشرق الأوسط، الشرق الإسلامي، الدول النامية».

العالم لم يعد بحاجة إلى فلاسفة يفكرون على طريقة إيمانويل كانط، لكنه أيضاً يحتاج فلاسفة يفكرون بطريقة جيجك ودباشي وإدوارد سعيد

العالم ليس بريئاً

صحيح أن العالم لم يعد بحاجة إلى فلاسفة يفكرون على طريقة إيمانويل كانط، لكنه أيضا بحاجة إلى فلاسفة يفكرون بطريقة جيجك ودباشي وإدوارد سعيد، ليس لحساب تقعيد التفكير الثوري، بل لجعل «اللابراءة» مُحرضاً على التمرد، وعلى مواجهة تضخم الأقوياء من الذين يُفكّرون بصناعة «المراكز» المُستَبدة.

الجدل هو البراءة يتحمل مراجعات مفتوحة، منها ما يتعلّق بمناقشة المركزيات، والموقف من القضايا الإشكالية، مثل الموقف من «السامية» التي جعلها «العقل الصهيوني» أشبه بـ«الخطيئة الكبرى» لتسويق مفاهيم عن العنف والكراهية، وعن التعالق المريب بين التاريخ والأسطورة، فعبر «معاداة السامية» يتحول العالم إلى عدو، كما يدّعي الصهاينة، مثلما يتحول الموقف من العدالة إلى موقف آيديولوجي، يرتهن إلى حساسيات جعلها الغرب جزءاً من سياساته المركزية، في العلاقة مع الآخر، بوصف كيان إسرائيل أنموذجاً كنائياً لـ«النموذج الغربي» بقطع النظر عن عنصريته، وعن تقاطعه مع تاريخية فكرة «المواطن العالمي» التي تحدث عنه كانط.

أنموذج «الدولة اليهودية» هو تأكد على فقدان البراءة، وتجريد العالم من تنوعه، فدعوة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو لليهود في فرنسا إلى المجىء لكيانه هو تكريس لمفهوم الدولة الدينية التي ستجعل من حروب المستقبل حروباً دينية ولا علاقة لها بالاقتصاد والجغرافيا والسياسة، وعبر استعارة تاريخية تنطلق من فكرة الانحياز إلى الضحية المثيولوجية، رغم شكوك جيجك حول الاعتماد على «صورة اليهود كضحايا في سبيل إضفاء الشرعية على سياسة القوّة الخاصة بها، فضلاً عن إدانة مُنتقديها باعتبارهم مُناصرين خفيين للهولوكوست، وأن اليهود أخذوا الأرض من الفلسطينيين، وليس من أولئك الذين كانوا السبب في معاناتهم؛ أولئك المدينين لهم بالتعويضات». (سلافوي جيجك: الصهيونية.. إلى أين؟).

أطروحات جيجك حول «لا براءة العالم» تجد في قضية الكراهية والعنصرية موضوعاً مهماً لمواجهة تضخم الآيديولوجيا العنصرية، إذ يربط بين هذا التضخم والعنف، ليدين من خلالها شكل «الدولة الدينية» ذي المواصفات الإسرائيلية بالقول «إن إنشاء دولة يهودية، يعني وضع نهاية لليهودية كدين، لذلك كان النازيون يؤيدون هذه الفكرة. وأن إنشاء هذه الدولة، في رأيه، يناقض التسامح، بل يعني كرهاً للآخرين، ويعني أيضاً التمسك بعنصرية خالصة» (سلافوي جيجك: الصهيونية.. إلى أين؟).