سلافوي جيجك: إنشاء دولة يهودية هو وضع نهاية لليهودية كدينٍ

ما جرى ويجري جعل الاستشراق قاصراً عن توصيف الصراع

سلافوي جيجك
سلافوي جيجك
TT

سلافوي جيجك: إنشاء دولة يهودية هو وضع نهاية لليهودية كدينٍ

سلافوي جيجك
سلافوي جيجك

يكتب سلافوي جيجك في كلّ شيء، وعن كلّ شيء، يتحمّل كلَّ التُهم التي تجعله منعوتاً بالخروج عن السياق، وفيلسوفاً أنزل الفلسفة إلى درك اليومي، وجرّدها من أسلحتها المتعالية، وعرّض الأفكار إلى سوء الظن دائماً.

اشتغل في السياسة بوازعٍ من شهوة المزاج الشخصي، والشغف بالمغامرة، مثلما اشتغل بالآيديولوجيا من منطلق أوهام الشيوعي المتمرد الذي لا يثق كثيراً ببداهات الصراع الطبقي، وكراهية الرأسمالية، حتى بدا وكأنه يصدّق حكايات الساحر الأغريقي الذي يؤمن بالنهايات الميتافيزقية للعالم، كما اشتغل في علم النفس بوصفه ممارسات في التطهير والاعتراف، وفي تخفيف حدّة التوتر الليبدوي، فعمد إلى استعارة كل الأدوات العيادية من جاك لاكان لكي يعرف أن هذا العلم المخادع يربط بين أزمة الجنس وأزمات الكينونة والجسد والثورة، ويسوّغ الحديث عن المخفي من أخطاء الحروب والديكتاتوريات والعنف، وتحت يافطة أن العيادي هو أنموذج الكائن الغربي، الذي يعاني من أمراض طبقية وسياسية وجنسية ووجودية، وأن علاقته بالعيادة تتحوّل إلى مجال للاعتراف، وللتنفيس عن طاقات مكبوتة، رغم معرفته بأن الكائن الواعي هو الوحيد الذي يمكنه ممارسة الكبت، والعيش مع التباسات اللاوعي الجمعي، وربما يخضع له، بوصفه توهماً بحيازة سلطة الإخفاء، وهي سلطة غير مرئية...

حميد دباشي

لكن الأخطر في اشتغالات جيجك هو شعبويته، وربما استعراضيته، فكثيراً ما يدعونا إلى ممارسات سقراطية، يجعل من الشارع منصته، ومن الحكمة خطاباً يومياً، ومن السياسة مجالاً للسخرية، ومن النكتة والكاريكاتير عتبات رمزية لفضح «المسكوت عنه» في الحروب القبيحة، وفي السياسات الأكثر قبحاً، ولإدانة ما يسمى بـ«المجتمع الدولي» وتعرية انتهازيته، وسكوته عن الأخطاء الكبرى التي تقود العالم إلى الكارثة، حيث يواصل سؤاله النقدي مع رعب العالم إزاء الخراب الآيكولوجي، فتبدو كتابته عن هذا الملف أشبه بالبحث عن شفرات للتطهير، بالمعنى الأخلاقي، أو المعنى الثقافي أو المؤسساتي، أو حتى المعنى «الشوارعي».

فهو يؤمن بأن تحديات «التلوث» و«النفايات» يمكنها أن تُدمّر العالم أكثر من الدمار النووي، وبهذا يسعى إلى تكريس شعبويته عبر اصطناع المزيد من المنصات في وسائل التواصل الاجتماعي، لكي يكون فيها سقراطياً، خطيباً آيكولوجياً، واعظاً بضرورة حماية المناخ والبيئة ومواجهة الاحتباس الحراري، ومنع صناعة الأسلحة النووية، والدعوة إلى الطاقة الخضراء، بوصفها طاقةً أكثر إنسانيةً، وصالحة لجعل الإنسان يثق بالطبيعة. فالحرب البيولوجية قد تكون هي الحرب المقبلة، إن كانت على شكل جائحة «كوفيد - 19»، أو عبر مظاهر المناخ المُهدد بالتلوث وتغوّل درجات الحرارة، أو عبر مظاهر استشراء العنف الداخلي للجماعات الهامشية، أو عبر احتجاجات شعبيّة ومنازعات اجتماعيّة وآيديولوجية في جميع أنحاء العالم، قد تترافق معها بوادر «حرب باردة جديدة».

إدوارد سعيد

هذا العنف، أو صورة الحرب المُهدِدة ليست بعيدةً عن الصراع السياسي الدولي، ولا عن طبيعة إعادة إنتاج «الثقافات المتعالية». فجيجك يتحدث عن علاقة العنف والكراهية بالآيديولوجيا، ومن منطلق الفكرة التي تؤكد على هوية ما تُنتجه «المركزية الأوروبية» في مختبراتها الآيديولوجية، وتمثلاتها في صيانة أنموذجها المتداول، عبر توصيفه كمواطن عالمي، وتوصيف قوته المسؤولة عن صناعة الحضارة والمستقبل. وعلى الآخرين أن يصدّقوا هذه الحكاية التي لم تكن بعيدةً عن تاريخ الفلسفة الأوروبية، فكانط كان عنصرياً في عديد أفكاره حول «اللون والمكان» وهيغل كان يؤمن بـ«المواطن الأوروبي» ونيتشه كان يضع إنسانه المتعالي نظيراً لهذا المواطن، وحتى هيدغر الفينومينولوجي أعطى للأوربة توصيفاً يربطها بالحضارة، وأن الغرب الذي يملك القوة، يمكنه أن يجعل المعرفة جزءاً من مفهوم الحضارة، ومن القوة المندفعة نحو السيطرة على العالم.

وأحسب أن مواقف جيجك من الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وحتى موقفه إزاء العدوان الإسرائيلي على غزة ليست بعيدة عن سرائر تلك النزعة المركزية، وعن حساسيتها، وربما عن قلقه إزاء طبيعة المتغيرات التي يمكن أن تتضخم مع تلك الصراعات، والتحوّل إلى مهددات، وإلى أشكال معقدة لسرديات حروب لم يتحمّلها الأوروبي، صانع المتعاليات الاستشراقية.

أزمة الأوروبي مع المركزية ليست بعيدةً عن علاقته بذاكرة الخطيئة، وأن دفاعه المستميت عنها يقوده دائماً إلى ذاكرة التطهير، وإلى ما أسسته من أوهام ميتافيزقية، وأحسب أن هذا هو ما دفع الكاتب الأميركي حميد دباشي إلى السخرية من هذه المركزية بالقول: «يعاني الأوربيون من النزعة الأوروبية قطعاً، كما أن الملا نصر الدين ظنّ بأن الموقع الذي ثبّت فيه لجام بغلته هو مركز الكون» (حميد دباشي/ هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟).

حديث المركزية الأوروبية، أو الغربية بمعنى أدق فتح أفقاً لحديث يتعلق بنقد الاستشراق، ولطبيعة ما يُثيره من أسئلة جديدة، تتجاوز نظرات إدوارد سعيد وفرانز فانون وغاياتري سبيفاك وغيرهم، ليس لأن «الاستشراق» خطاب زمني وتاريخي، بل لأن ما جرى ويجري جعل من الاستشراق قاصراً عن توصيف الصراع، والدفع باتجاه مراجعة أكثر شمولاً لمفاهيم معقدة مثل العولمة والأمركة والهيمنة، وهي ممارسات سياسية واقتصادية وآيديولوجية، تنطلق من فكرة المركزية، وتؤسس لها أجهزة صيانية تقوم على العنف والاغتيال، وعلى العقوبات، وعلى استنزاف الثروات، مثلما تقوم على المركزية المعلوماتية والإعلامية، وعلى تخليق «صور ذهنية» عن تلك المفاهيم، بوصفها جزءاً من الصور الذهنية عن سيطرة المتعالي.

أكد حميد دباشي هذا الأمر، عبر نقد تلك الأطروحات بالقول «إن ما يوحّد كلاً من جيجك وليفيناس وكانط هي فلسفة التعميم الذاتية، فهي تستند عندهم دائماً على نفي قدرة الآخرين على التفكير النقدي أو الإبداعي من خلال تمكين وتفويض وتخويل أنفسهم للتفكير بالنيابة عن العالم» (الفيلسوف سلافوي جيجك والقضية الفلسطينية - جعفر هادي حسن).

آراء حميد دباشي أثارت عصفاً فكرياً حول «المركزية الأوروبية» دعت سلافوي جيجك إلى الرد العنيف، بقوله «إن دباشي يريد فتح موضوع قديم، جديد، وهو إشكالية مركزية العقل الأوروبي» (علي سعيد: دباشي وجيجك والسؤال المستفز: هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟) وكأنه بهذا الرد يرفض القبول بوجهات نظرات «الشرق» الساخط على مركزية الغرب، وعلى أنموذجه الأوروبي.

تظل مراجعة فكرة المركزية الأوروبية موضوعاً إشكالياً، لأن مجادلتها ليست خاضعة بالضرورة إلى قياس قهري محكوم بعقدة المتعالي التاريخي، بل يتطلب الأمر وضعها في سياق ظروفها التاريخية، ومقاربتها من منطلق تمثيل الثنائية الملتبسة لـ«الأنا والآخر» بوصف الآخر جزءاً من تلك المركزية، ويملك تاريخاً ضاغطاً علينا، بدءاً من حروبه الصليبية، إلى حروبه التبشيرية، إلى حربه الآركيولوجية من خلال حملات الآثار في عدد من البلدان الشرقية، وصولاً إلى حقبة الاستعمار والاحتلال وما رافقها من عنف وتطهير إثني وهوياتي، وليس انتهاءً بفرضية الهيمنة الثقافية عبر الجغرافيا السياسية والاقتصادات التابعة والاستشراق بأقنعته المتعددة.

كما أن «الأنا» ليست بريئةً، وليست هي الضحية دائماً، فبقدر رثاثتها التاريخية وضعف أدواتها، وتشظي هويها، فإنها بدت أكثر التباساً في إطار أنساق حاكمة، صنعها الآخر أيضاً، وفرضها في سياق التداول كموجهات لتوصيف هامشية «الأنا» وعزلتها، عبر تأطيرها في اختراعات جيوسياسية مثل «العالم الثالث، الشرق الأوسط، الشرق الإسلامي، الدول النامية».

العالم لم يعد بحاجة إلى فلاسفة يفكرون على طريقة إيمانويل كانط، لكنه أيضاً يحتاج فلاسفة يفكرون بطريقة جيجك ودباشي وإدوارد سعيد

العالم ليس بريئاً

صحيح أن العالم لم يعد بحاجة إلى فلاسفة يفكرون على طريقة إيمانويل كانط، لكنه أيضا بحاجة إلى فلاسفة يفكرون بطريقة جيجك ودباشي وإدوارد سعيد، ليس لحساب تقعيد التفكير الثوري، بل لجعل «اللابراءة» مُحرضاً على التمرد، وعلى مواجهة تضخم الأقوياء من الذين يُفكّرون بصناعة «المراكز» المُستَبدة.

الجدل هو البراءة يتحمل مراجعات مفتوحة، منها ما يتعلّق بمناقشة المركزيات، والموقف من القضايا الإشكالية، مثل الموقف من «السامية» التي جعلها «العقل الصهيوني» أشبه بـ«الخطيئة الكبرى» لتسويق مفاهيم عن العنف والكراهية، وعن التعالق المريب بين التاريخ والأسطورة، فعبر «معاداة السامية» يتحول العالم إلى عدو، كما يدّعي الصهاينة، مثلما يتحول الموقف من العدالة إلى موقف آيديولوجي، يرتهن إلى حساسيات جعلها الغرب جزءاً من سياساته المركزية، في العلاقة مع الآخر، بوصف كيان إسرائيل أنموذجاً كنائياً لـ«النموذج الغربي» بقطع النظر عن عنصريته، وعن تقاطعه مع تاريخية فكرة «المواطن العالمي» التي تحدث عنه كانط.

أنموذج «الدولة اليهودية» هو تأكد على فقدان البراءة، وتجريد العالم من تنوعه، فدعوة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو لليهود في فرنسا إلى المجىء لكيانه هو تكريس لمفهوم الدولة الدينية التي ستجعل من حروب المستقبل حروباً دينية ولا علاقة لها بالاقتصاد والجغرافيا والسياسة، وعبر استعارة تاريخية تنطلق من فكرة الانحياز إلى الضحية المثيولوجية، رغم شكوك جيجك حول الاعتماد على «صورة اليهود كضحايا في سبيل إضفاء الشرعية على سياسة القوّة الخاصة بها، فضلاً عن إدانة مُنتقديها باعتبارهم مُناصرين خفيين للهولوكوست، وأن اليهود أخذوا الأرض من الفلسطينيين، وليس من أولئك الذين كانوا السبب في معاناتهم؛ أولئك المدينين لهم بالتعويضات». (سلافوي جيجك: الصهيونية.. إلى أين؟).

أطروحات جيجك حول «لا براءة العالم» تجد في قضية الكراهية والعنصرية موضوعاً مهماً لمواجهة تضخم الآيديولوجيا العنصرية، إذ يربط بين هذا التضخم والعنف، ليدين من خلالها شكل «الدولة الدينية» ذي المواصفات الإسرائيلية بالقول «إن إنشاء دولة يهودية، يعني وضع نهاية لليهودية كدين، لذلك كان النازيون يؤيدون هذه الفكرة. وأن إنشاء هذه الدولة، في رأيه، يناقض التسامح، بل يعني كرهاً للآخرين، ويعني أيضاً التمسك بعنصرية خالصة» (سلافوي جيجك: الصهيونية.. إلى أين؟).


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق مسلسل «مئة عام من العزلة» يعيد إحياء تحفة غابرييل غارسيا ماركيز الأدبيّة (نتفلكس - أ.ب)

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»
TT

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته، وشجاعته، وطارت شهرته، حتى صارت تفاصيل حياته مجالا للبحث والاهتمام.

يعيدنا وزير خارجية ليبيا السابق، في روايته الجديدة «القائد العاشق المقاتل»، الصادرة عن «دار الرواد للنشر والتوزيع» إلى فترة تاريخية، كان لا يزال للفروسية فيها دور بارز في قيادة المعارك، وللشهامة قيمة أخلاقية. تحكي الرواية سيرة مقاتل ليست ككل السير، حيث تختلط السياسة بالحب، والتاريخ بالمزاج الشخصي، والحكمة بالجسارة، والقتال بعشق الشرق وشغف المعرفة.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي، فبفضل شخصيته المتوثبة والكاريزما التي تمتع بها، وحبه للثقافات، أصبح صديقاً للعرب، يلبس على شاكلتهم، يتكلم لغتهم، يستمتع بشعرهم، يأنس لمجالسهم. وحين أنهى مهمته العسكرية عاد إليهم دبلوماسياً نشطاً، وسائحاً هائماً.

«القائد الشيطان»

تقول الرواية: «عشق أميديو السلاح كما عشق المرأة»، وتلك عبارة مفتاح، إذ تنسج الرواية خيوطها، بهذا الجانب الرومانسي للقائد المقدام الذي تقترن بطولاته بغرام دائم، وعشق لا ينقطع. ويتنقل القارئ بين الأحداث السياسية وشراسة الأطماع الاستعمارية، وحكايات أميديو مع عشيقاته اللواتي شغلن الجزء الذي لم تملأه الحروب من يومياته.

«القائد الشيطان»، هذا هو لقبه، الذي استحقه عن جدارة. فبعد أن خاض أميديو الحرب الأهليّة الإسبانيّة إلى جانب قوات الملكيّين قادته ظروف الحرب إلى ليبيا. وأضافت لتكتيكاته الفريدة في مقارعة أعدائه، حيث واجه البريطانيين، وحارب المقاومة الليبية، عاش قصة حب حارقة مع ممرضته الليبية اليهودية التي أنسته كل ما عداها، تعرف إليها أثناء علاجه في مستشفى في طرابلس، من إصابة تعرض لها. نعيش مع العقيد أميديو لحظات تحرّقه وعشقه لريزا بـ«قوامها الممشوق ووجهها الأبيض الوضاء وعينيها الواسعتين وهي تقدم له حبات الدواء وتصير صباح الشفاء والسعادة». ثم بعد ذلك، نكابد معه فراق ريزا، واختفاءها تحت وطأة تهديد النازيين لها ولعائلتها ولملتها، ومنع العقيد من الزواج بها بسبب القوانين العنصرية التي فرقت بينهما.

الحبيبة ريزا

ريزا هي كما غيرها من اليهود الذين «اضطروا إلى الهرب خارج العاصمة الليبية، وتغيير أسمائهم، وأماكن إقامتهم». لكن مهمة الضابط المغامر الذي يمتطي صهوة جواده، ويتقدم الفرسان، ويهاجم كما لو أنه نسي الموت، لا تتوقف هنا، بل نراه ينتقل إلى إثيوبيا وإريتريا، حيث يطور هناك أساليبه القتالية، وتتجلى مشاعره العشقية، حين يعيش قصة حب جديدة مع خديجة الإثيوبية، التي «بثت فيه عشقاً لم يعرفه أبداً». ابنة شيخ القبيلة مختار، صاحبة الجمال الخمري التي تحفظ الشعر العربي، تتسلل إلى خيمته كل ليلة، تجالسه، تحادثه بهمس، عن الفروسية، وصفات الخيل، وشجاعة المحاربين. يصف الكاتب خديجة «الطويلة الرشيقة، بلباسها الملون، وعطرها الفواح» بأنها «استولت على كل شيء فيه». أما هي، فقد افتتنت بفارسها بجنون. معها «نسي حبيبته الطرابلسية ريزا، التي صارت إلى المجهول في ليبيا يخنق حبل الفاشية العنصري يهودها، أما حبيبته الإيطالية بياتريس جوندولفو، ومشروع زواجه القديم منها، فقد طوتها عيون خديجة وقوامها وصوتها وشَعرها وشِعرها، وعطرها».

خديجة تشد أزره

على هذا النحو الآسر، يجعلنا شلقم نعيش مناخات الحرب العالمية الثانية، وما رافقها من اضطرابات، وتوترات وقلق، مع العقيد الذي يخوض غمار معاركه، مستعيناً على ذلك بنساء كنّ له الظهر والسند. غير أن خديجة هذه بقيت شيئاً آخر. و«لأول مرة يتمنى الفارس الصنديد، مدمن القتال، «أن تفارق الحرب عقول البشر إلى الأبد. وهو يطارح خديجة حديث الحب».

جاءته الأوامر من روما أن يستسلم، لكنه رفض، مع علمه أن الوضع قد أصبح ميئوساً منه. جهزت له خديجة فرساناً أشداء، وقالت له: «قاتل ولا تستسلم يا حبيبي، لقد خلقك الله لتكون الفارس الذي يفر من أمامه العتاة».

بين جبهات الحروب الشرسة، وجبهات الحب العاصفة، ينقلنا الكاتب، وهو يبدع في رسم علاقة أميديو مع عشيقاته، وتوصيف علاقته مع كل منهن، وكأن كل واحدة أنارت له جانباً مختلفاً من شخصيته، وأضافت لفضوله معارف جديدة، وفتحت أبواباً للضوء. فقد كان أميديو يتمتع بشخصية مغامرة وجذابة، مما جعله محبوباً بين النساء. يقول لخديجة وقد أنهكه القتال: «لم تعد لي القدرة على الاستمرار في محاربة البريطانيين. رجالي قتل بعضهم وجُرح معظمهم، لم يبق لي منهم سوى ثلاثين نفراً، أنت كل ما لدي من هذه الدنيا، ولكن الله غالب».

المرحلة اليمنية

ولما كانت العودة إلى إيطاليا شائكة بسبب تمرده على الأوامر، والوضع المتأزم هناك، يمم وجهه صوب اليمن، وقد صار اسمه أحمد عبد الله الرضائي. وصل إلى ميناء الحديدة، بعد مغامرات كادت تودي به وبرفيق الرحلة. طلب اللجوء السياسي، شك اليمنيون في أمره، وأخضعوه شهراً للسجن والاستجواب. محادثاته المتناسلة مع سجانيه وصلت إلى قصر إمام اليمن يحيى حميد الدين الذي طلب رؤيته. وكان صيته قد سبقه، ما سيجعل العلاقة الوطيدة سريعة مع الإمام وسيكلفه تدريب كتائب جيشه وشرطته.

المرحلة اليمنية من حياة أميديو، تفتح الباب أمام شلقم ليرسم لنا صورة بانورامية عن الحياة الاجتماعية، والأجواء السياسية في تلك المرحلة، في هذه المنطقة العربية. «سيلف أميديو حول خاصرته قطعة من القماش، ويضع الخنجر المقوس وسط حزامه. جلسة مع خلان سيتعرف عليهم، يخزنون القات معاً، ويسهرون الليالي في مطارحات شعرية إلى أن يدركهم الصباح، ويخرجون ليروا مباني المدينة الشاهقة المزخرفة بألوان، تضيف الانشراح إلى الأرواح». وفي اليمن أيضاً سيلتقي بياتريس.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي بل شخصية متوثبة وكاريزمية

صفحة حب جديدة

بياتريس الحبيبة الجديدة. هذه المرة هي مصرية، مسيحية وفارسة تعشق الخيول، تعزف على آلة البزق وتهرّب الأسلحة، حين يلزم الأمر. امرأة جذابة يلفها الغموض «عندها عصارة العصارة، ولها القدرة على قراءة ما سمعت، فهي مثقفة ودارسة متبحرة في عالم النفس، ولها القدرة على قراءة ما في فناجين الرؤوس».

لكن تلك الحياة الرغدة بعجائبيتها ومحنها، سرعان ما تنقلب في اليمن، وتطيح بالإمام، ويحلّ الجدري، وينفضّ الجمع، ولا يبقى لـ«القائد الشيطان» سوى الهرب.

بأسلوبه الرشيق والمشوق، يقصّ شلقم من خلال روايته، حكاية هذا القائد الإيطالي الذي تحول إلى أسطورة، وشبهه البعض بلورانس العرب، لتشابه بين سيرتيهما، مستفيداً من سيرته التي كتبها العقيد بنفسه، ومصادر أخرى، مضيفاً إليها حبكته ونكهته المستقاة من «ألف ليلة وليلة» التي يؤتى على ذكرها مرات عدة في النص. وقد عاش أميديو من العمر قرناً كاملاً وسنة، تمكن خلالها من الانتقال إلى حياة دبلوماسية، لا تقل أهمية عن حياته العسكرية. عين سفيراً لدى عدد من الدول العربية بينها الأردن الذي عشقته زوجته بياتريس التي ارتبط بها بعد تجواله ومغامراته العشقية. وعين الرجل سفيراً لدى المغرب، ويكتب له أن يشهد حادثة انقلاب الصخيرات الشهيرة، التي نقرأ تفاصيلها في الرواية كما عاشها أميديو، وكأننا في قلب الحدث.

التاريخ يعيد نفسه

مفاصل تاريخية كثيرة، عن فترة مفصلية من عمر العرب، والتدخلات الأجنبية على أرضهم، بحيث يبدو وجودهم السياسي هامشياً، في ما يطغى حضورهم الاجتماعي في الرواية، كل ذلك مشدود إلى أوتار عواطف جياشة، ومشاعر فياضة، تلهم القائد المقدام.

وفي الجزء الأخير من الكتاب، يتاح لنا أن نعيش مع أميديو، وقد استقر به الحال أخيراً متقاعداً يستعيد ذكرياته ويتأمل مشواره بهدوء ودعة. وتشاء الظروف أن يلتقي بالضباط والقادة الذين كان يقاتل في مواجهتهم، حيث يتحول أعداء الأمس وقد انتهت الحرب، إلى أصدقاء اليوم، يتبادلون الذكريات والاعترافات، وكأنما كل ذاك الدم الذي سال، كان عبثاً، أو كأنهم كانوا جزءاً من آلة تغيرت أدوارهم ورؤاهم، بمجرد تفكيكها.

الرواية تعيدني ثمانين سنة إلى الوراء، ولعالم غير الذي نعيشه اليوم، لكن بقليل من التدقيق، تشعر أن النزاعات في أعماقها لا تزال هي نفسها، والمآلات تبدو متشابهة وتستحق المقارنة والعبرة والتأمل.