«فُوَّه»... قبلة مميزة للسياحة الدينية في مصر

مساجد وبيوت أثرية... وحرف يدوية

«فُوَّه»... مدينة المساجد والطراز المعماري المميز (الرحالة ياسر الرسول)
«فُوَّه»... مدينة المساجد والطراز المعماري المميز (الرحالة ياسر الرسول)
TT

«فُوَّه»... قبلة مميزة للسياحة الدينية في مصر

«فُوَّه»... مدينة المساجد والطراز المعماري المميز (الرحالة ياسر الرسول)
«فُوَّه»... مدينة المساجد والطراز المعماري المميز (الرحالة ياسر الرسول)

تستمد بعض الأمكنة خصوصيتها من الأجواء الروحانية التي تسود تفاصيلها، وأمكنة أخرى تجتذب زوارها بسبب دفء حكاياتها وبيوتها وشوارعها وأزقتها. وتجمع مدينة فُوَّه في مصر بين الأمرين؛ لذلك تُعد وجهة سياحية دينية مثالية في شهر رمضان.
تشعر منذ اللحظة الأولى لزيارة المدينة الواقعة في شمالي وسط الدلتا بأنها مكان مختلف، أهم ما يميزه زخم معالمه الأثرية، لكن لا تعتقد بأنه سيكون من السهل بالنسبة لك مشاهدة جانب كبير من هذه المعالم في زيارة واحدة؛ لأنها تضم 365 مسجداً أثرياً، أي بعدد أيام السنة؛ ناهيك عن المزارات الأخرى التي تنتمي لمختلف العصور الإسلامية (الفاطمي والعباسي والأيوبي والمملوكي والعثماني)، وللسبب نفسه اختارتها منظمة اليونيسكو «المدينة الثالثة محلياً»، من حيث الآثار الإسلامية بعد القاهرة ورشيد، والرابعة على مستوى العالم.
لا يمكن أن تزور فُوَّه من دون التوجه إلى مسجد وجامع «العمري»؛ لأنه من أقدم المساجد الأثرية الموجودة بها، فقد تم بناؤه سنة 21 هجرياً، وسُمي بهذا الاسم لإنشائه في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وإذا كنت من عشاق العمارة والتدقيق أمام تفاصيلها فإنك حتماً ستنبهر بتخطيط «العمري»؛ لأنه وفق الطراز الإسلامي القديم، الذي يشبه تخطيط المسجد النبوي بالمدينة، ومن أهم ملامح تصميمه «الصحن المكشوف» الموجود في وسط سقف المسجد، وبجواره 4 أروقة.
يستوقفك أن هذا المسجد الأثري لا توجد به مئذنة حتى الآن! ويرجع ذلك إلى أن الإمكانيات المادية للفاتحين الذين قاموا ببناء المسجد لم تمكّنهم من إقامة مئذنة، وظل إلى اليوم من دون مئذنة حفاظاً على شكله الأصلي.
ومن المساجد التي ينبغي ألا تفوتك زيارتها كذلك مسجد «الباكي»؛ لأنه يزودك بلمحة عن المساجد المعلقة في مصر، إذ إن «الباكي» الذي أنشئ في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي ذو مدخل مرتفع عن مستوى أرضية الطريق ويتم الصعود إليه بسلالم، أما أسفله فتقبع حوانيت موقوفة عدة.
وإذا أردت أن تتعرف على بعض القرارات لبعض الحكام أو النصوص السلطانية قم بزيارة مسجدي «نصر الله» و«أبو النجاة» بفُوَّه، فهناك ستجد التاريخ ماثلاً أمامك عبر المراسيم الرخامية التي تتناول تنظيم بعض الأمور الحياتية مثل منع عادة اجتماعية معينة، أو رفع ظلم من المظالم، إضافةً إلى بعض القرارات التي قد تعكس طرائف التاريخ.
كذلك ستجد هذه المراسيم في مسجد «القنائي»، وهو من أشهر المساجد الأثرية، اذهب إلى شاطئ نهر النيل بالمدينة، حيث يطل المسجد، وهناك ستلفت نظرك مئذنته المرتفعة فهي الأعلى بمنطقة وسط الدلتا، ويبلغ طولها 36 متراً. لكن ذلك ليس فقط المبهر، إذ يصفه المتخصصون بأنه من المساجد الفريدة؛ لتضافر الحضارات فيه، وحين تسأل عن السر وراء ذلك سيجيبك أهل المدينة بفخر بأن فُوَّه كانت عاصمة لمصر في فترة من الفترات الفرعونية، وكان اسمها «واع أمنتى»، وشهدت انتعاشة في العصرين اليوناني والروماني، حتى إنها كانت تسمى «مدينة الأجانب»؛ فقد كانت مقراً لقناصل التجاريين بسبب وجودها أيضاً على فرع رشيد.
السير في شوارع وأزقة فُوَّه يمنحك نوعاً آخر من الأجواء الخاصة التي يندر وجودها في العصر الراهن؛ تلك الأجواء التي تكاد تنقلك في رحلة عبر الزمن إلى دفء البيوت، وعبق التاريخ، حيث المنازل الأثرية متعددة الطوابق والأبواب العتيقة ذات التفاصيل الدقيقة والزخارف البديعة.
ويعود معظم المباني إلى القرن التاسع عشر الميلادي، وهي مبنية من الطوب المنجور، ومزدانة بزخارف إسلامية ومشربيات وشرفات تتشابه إلى حد كبير مع شرفات منازل مدينة جدة بالمملكة السعودية، ومن اللافت أيضاً وجود تشابه بين أسماء الأسواق والشوارع بين مدينتي فُوَّه وفاس المغربية مثل شارع «الصاغة» و«سوق الديوان».
لكن ليس ذلك فقط ما يمنح بيوت فُوَّه خصوصيتها، فحين تقترب أكثر منها وتتجول بين ناسها أو تتعامل معهم ستأسرك طيبتهم المفرطة وبساطة حديثهم وأفعالهم وترحيبهم الشديد بكل زائر لمدينتهم. هناك مقولة شهيرة متوارثة يرددونها هناك أمام كل زائر، وهي «فُوَّه تحب الغريب»؛ وذلك حتى يزيلوا أي حواجز أو غربة قد يشعر بها السائح.
في فُوَّه مطاعم عديدة معروفة تقدم الأطباق التقليدية من المطبخ المصري، وإذا كنت أكثر جرأة في تجريب الطعام المحلي للبلدان الأخرى، فتوجه إلى أحد مطاعم الفسيخ المنتشرة هناك، والفسيخ أسماك مملحة، يتم تخزينها بطريقة معينة متوارثة منذ الحضارة المصرية القديمة.
أما إذا كنت سعيد الحظ وسافرت مع أحد المصريين ممن له أصدقاء أو أقارب من أهل المكان، فستتناول في منزلهم أطباقاً، بعضها لا يوجد في أي مكان آخر ربما حتى في المدن المصرية؛ فهناك ستتناول طبق «الكبابي» وهو عبارة أرز تم طحنه مع اللحم المفروم والخضرة، تضاف إلى ذلك التوابل، ويتم تحميره. أيضاً تنتظرك طواجن «الدس» المكونة من اللحم أو الطيور والأرز واللبن والبهارات... وبقِطع لحم الضأن المستقرة وسط قطع البطاطس والبصل الحلقات والتوابل ستستمتع بمذاق لا يقاوم لـ«ورقة اللحم» التي تعرف بهذا الاسم؛ لأنها بالفعل تُوضع في ورق سميك وتُطهى داخل الفرن، وبالطبع سيقدم لك الفطير المشلتت الساخن على الإفطار أو العشاء، حيث يبرع كثيرون في إعداده بالطريقة المصرية التقليدية.
نشاطات عديدة تعيدك إلى الحياة البسيطة تنتظرك لتمارسها في فوه، منها الاستمتاع بالسير في المساحات الخضراء، أو أن تركب «الحنطور» (عربة يجرها حصان) على شط النيل. زيارة ورش السجاد والكليم والجوبلان اليدوي تعد واحداً من الأشياء التي يقصدها السياح دوماً عند زيارة فوه، لا سيما إذا كانوا قد سبق لهم اقتناء قطعة منها، إذ يتم تصديرها إلى بعض دول أوروبا وأميركا، وأنصحك بزيارتها ومشاهدة الحرفيين أثناء أداء عملهم الدقيق، وسيحكون لك تفاصيل ومتطلبات الحرفة التي ورثوها عن أجدادهم.
المدهش أنك كلما تجولت في أزقة المدينة ستعثر على كنوز ومقتنيات قديمة نادرة تحكي عن أهلها وتعاملاتهم اليومية، ومن ذلك عند زيارة متجر صغير اسمه «السنهوري» ستتفاجأ بوجود ميزان يعود إلى عصر محمد علي، وصفه الكاتب حمدي حماده بأنه «لا يوجد مثيل له على مستوى الجمهورية».
وقد يصحبك أحد السكان إلى أطلال «مصنع الطرابيش»، وسيحكي لك بثقة وحماس كيف كان ينتج نحو 130 ألف طربوش شهرياً.
إذا قررت التوجه إلى فوه قادماً من العاصمة، فإن الأمر لن يستغرق سوى ساعة وربع الساعة على الأكثر، وهي ميزة مهمة إذا كنت ممن لا يروقه السفر المحلي لمسافات طويلة، إذ تبعد عن القاهرة نحو 181 كيلومتراً، ويمكنك أن تستقل سيارة خاصة، أو تختار إحدى حافلات النقل العام إليها، أما عن الإقامة فأمامك إما أن تختار شقة في إحدى بنايات فوه، وإما أن تنزل في فندق قريب في محافظة كفر الشيخ، وستجد معظم الفنادق يبدأ باسم «دلتا»، وتتراوح الأسعار ما بين 1500 و3500 في الليلة (الدولار يعادل نحو 30 جنيهاً مصرياً).


مقالات ذات صلة

هل يحد «الحوار الوطني» من «قلق» المصريين بشأن الأوضاع السياسية والاقتصادية؟

شمال افريقيا هل يحد «الحوار الوطني» من «قلق» المصريين بشأن الأوضاع السياسية والاقتصادية؟

هل يحد «الحوار الوطني» من «قلق» المصريين بشأن الأوضاع السياسية والاقتصادية؟

حفلت الجلسة الافتتاحية لـ«الحوار الوطني»، الذي دعا إليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قبل أكثر من عام، برسائل سياسية حملتها كلمات المتحدثين، ومشاركات أحزاب سياسية وشخصيات معارضة كانت قد توارت عن المشهد السياسي المصري طيلة السنوات الماضية. وأكد مشاركون في «الحوار الوطني» ومراقبون تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، أهمية انطلاق جلسات الحوار، في ظل «قلق مجتمعي حول مستقبل الاقتصاد، وبخاصة مع ارتفاع معدلات التضخم وتسببه في أعباء معيشية متصاعدة»، مؤكدين أن توضيح الحقائق بشفافية كاملة، وتعزيز التواصل بين مؤسسات الدولة والمواطنين «يمثل ضرورة لاحتواء قلق الرأي العام، ودفعه لتقبل الإجراءات الحكومية لمعالجة الأز

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا السيسي يبحث انعكاسات التطورات الإقليمية على الأمن القومي المصري

السيسي يبحث انعكاسات التطورات الإقليمية على الأمن القومي المصري

عقد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، اجتماعاً، أمس (الخميس)، مع كبار قادة القوات المسلحة في مقر القيادة الاستراتيجية بالعاصمة الإدارية الجديدة، لمتابعة دور الجيش في حماية الحدود، وبحث انعكاسات التطورات الإقليمية على الأمن القومي للبلاد. وقال المستشار أحمد فهمي، المتحدث الرسمي باسم الرئاسة المصرية، في إفادة رسمية، إن «الاجتماع تطرق إلى تطورات الأوضاع على الساحتين الإقليمية والدولية، وانعكاساتها على الأمن القومي في ظل الظروف والتحديات الحالية بالمنطقة». وقُبيل الاجتماع تفقد الرئيس المصري الأكاديمية العسكرية المصرية، وعدداً من المنشآت في مقر القيادة الاستراتيجية بالعاصمة الإدارية. وأوضح المتحدث ب

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا مصر: ظاهرة «المقاتلين الأجانب» تهدد أمن واستقرار الدول

مصر: ظاهرة «المقاتلين الأجانب» تهدد أمن واستقرار الدول

قالت مصر إن «استمرار ظاهرة (المقاتلين الأجانب) يهدد أمن واستقرار الدول». وأكدت أن «نشاط التنظيمات (الإرهابية) في أفريقيا أدى لتهديد السلم المجتمعي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا حادث تصادم بمصر يجدد الحديث عن مخاطر «السرعة الزائدة»

حادث تصادم بمصر يجدد الحديث عن مخاطر «السرعة الزائدة»

جدد حادث تصادم في مصر الحديث بشأن مخاطر «السرعة الزائدة» التي تتسبب في وقوع حوادث سير، لا سيما على الطرق السريعة في البلاد. وأعلنت وزارة الصحة المصرية، (الخميس)، مصرع 17 شخصاً وإصابة 29 آخرين، جراء حادث سير على طريق الخارجة - أسيوط (جنوب القاهرة).

منى أبو النصر (القاهرة)
شمال افريقيا مصريون يساهمون في إغاثة النازحين من السودان

مصريون يساهمون في إغاثة النازحين من السودان

بعد 3 أيام عصيبة أمضتها المسنة السودانية زينب عمر، في معبر «أشكيت» من دون مياه نظيفة أو وجبات مُشبعة، فوجئت لدى وصولها إلى معبر «قسطل» المصري بوجود متطوعين مصريين يقدمون مياهاً وعصائر ووجبات جافة مكونة من «علب فول وتونة وحلاوة وجبن بجانب أكياس الشيبسي»، قبل الدخول إلى المكاتب المصرية وإنهاء إجراءات الدخول المكونة من عدة مراحل؛ من بينها «التفتيش، والجمارك، والجوازات، والحجر الصحي، والكشف الطبي»، والتي تستغرق عادة نحو 3 ساعات. ويسعى المتطوعون المصريون لتخفيف مُعاناة النازحين من السودان وخصوصاً أبناء الخرطوم الفارين من الحرب والسيدات والأطفال والمسنات، بالتعاون مع جمعيات ومؤسسات أهلية مصرية، على


السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
TT

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)

في الوقت الذي يتجه فيه السودان صوب المجاعة، يمنع جيشه الأمم المتحدة من جلب كميات هائلة من الغذاء إلى البلاد عبر معبر حدودي حيوي؛ ما يؤدي فعلياً إلى قطع المساعدات عن مئات الآلاف من الناس الذين يعانون من المجاعة في أوج الحرب الأهلية. ويحذّر الخبراء من أن السودان، الذي بالكاد يُسيّر أموره بعد 15 شهراً من القتال، قد يواجه قريباً واحدة من أسوأ المجاعات في العالم منذ عقود. ولكن رفْض الجيش السوداني السماح لقوافل المساعدات التابعة للأمم المتحدة بالمرور عبر المعبر يقوّض جهود الإغاثة الشاملة، التي تقول جماعات الإغاثة إنها ضرورية للحيلولة دون مئات الآلاف من الوفيات (ما يصل إلى 2.5 مليون شخص، حسب أحد التقديرات بحلول نهاية العام الحالي).

ويتعاظم الخطر في دارفور، المنطقة التي تقارب مساحة إسبانيا، والتي عانت من الإبادة الجماعية قبل عقدين من الزمان. ومن بين 14 ولاية سودانية معرّضة لخطر المجاعة، تقع 8 منها في دارفور، على الجانب الآخر من الحدود التي تحاول الأمم المتحدة عبورها، والوقت ينفد لمساعدتها.

نداءات عاجلة

ويقع المعبر الحدودي المغلق -وهو موضع نداءات عاجلة وملحة من المسؤولين الأميركيين- في أدري، وهو المعبر الرئيسي من تشاد إلى السودان. وعلى الحدود، إذ لا يزيد الأمر عن مجرد عمود خرساني في مجرى نهر جاف، يتدفق اللاجئون والتجار والدراجات النارية ذات العجلات الأربع التي تحمل جلود الحيوانات، وعربات الحمير المحملة ببراميل الوقود.

رجل يحمل سوطاً يحاول السيطرة على حشد من اللاجئين السودانيين يتدافعون للحصول على الطعام بمخيم أدري (نيويورك تايمز)

لكن ما يُمنع عبوره إلى داخل السودان هو شاحنات الأمم المتحدة المليئة بالطعام الذي تشتد الحاجة إليه في دارفور؛ إذ يقول الخبراء إن هناك 440 ألف شخص على شفير المجاعة بالفعل. والآن، يقول اللاجئون الفارّون من دارفور إن الجوع، وليس الصراع، هو السبب الرئيسي وراء رحيلهم. السيدة بهجة محكر، وهي أم لثلاثة أطفال، أصابها الإعياء تحت شجرة بعد أن هاجرت أسرتها إلى تشاد عند معبر «أدري». وقالت إن الرحلة كانت مخيفة للغاية واستمرت 6 أيام، من مدينة الفاشر المحاصرة وعلى طول الطريق الذي هددهم فيه المقاتلون بالقضاء عليهم.

دهباية وابنها النحيل مؤيد صلاح البالغ من العمر 20 شهراً في مركز علاج سوء التغذية بأدري (نيويورك تايمز)

لكن الأسرة شعرت بأن لديها القليل للغاية من الخيارات. قالت السيدة محكر، وهي تشير إلى الأطفال الذين يجلسون بجوارها: «لم يكن لدينا ما نأكله». وقالت إنهم غالباً ما يعيشون على فطيرة واحدة في اليوم.

الجيش: معبر لتهريب الأسلحة

وكان الجيش السوداني قد فرض قراراً بإغلاق المعبر منذ 5 أشهر، بدعوى حظر تهريب الأسلحة. لكن يبدو أن هذا لا معنى له؛ إذ لا تزال الأسلحة والأموال تتدفق إلى السودان، وكذلك المقاتلون، من أماكن أخرى على الحدود الممتدة على مسافة 870 ميلاً، التي يسيطر عليها في الغالب عدوه، وهو «قوات الدعم السريع».

لاجئون فرّوا حديثاً من منطقة في دارفور تسيطر عليها «قوات الدعم السريع» في مخيم بتشاد (نيويورك تايمز)

ولا يسيطر الجيش حتى على المعبر في أدري، إذ يقف مقاتلو «قوات الدعم السريع» على بُعد 100 متر خلف الحدود على الجانب السوداني. وعلى الرغم من ذلك، تقول الأمم المتحدة إنها يجب أن تحترم أوامر الإغلاق من الجيش، الذي يتخذ من بورتسودان مقراً له على بُعد 1000 ميل إلى الشرق، لأنه السلطة السيادية في السودان. وبدلاً من ذلك، تضطر الشاحنات التابعة للأمم المتحدة إلى القيام برحلة شاقة لمسافة 200 ميل شمالاً إلى معبر «الطينة»، الذي تسيطر عليه ميليشيا متحالفة مع الجيش السوداني؛ إذ يُسمح للشاحنات بدخول دارفور. هذا التحول خطير ومكلّف، ويستغرق ما يصل إلى 5 أضعاف الوقت الذي يستغرقه المرور عبر «أدري». ولا يمر عبر «الطينة» سوى جزء يسير من المساعدات المطلوبة، أي 320 شاحنة منذ فبراير (شباط)، حسب مسؤولين في الأمم المتحدة، بدلاً من آلاف شاحنات المساعدات الضرورية التي يحتاج الناس إليها. وقد أُغلق معبر «الطينة» أغلب أيام الأسبوع الحالي بعد أن حوّلت الأمطار الموسمية الحدود إلى نهر.

7 ملايين مهددون بالجوع

وفي الفترة بين فبراير (شباط)، عندما أُغلق معبر «أدري» الحدودي، ويونيو (حزيران)، ارتفع عدد الأشخاص الذين يواجهون مستويات طارئة من الجوع من 1.7 مليون إلى 7 ملايين شخص. وقد تجمّع اللاجئون الذين وصلوا مؤخراً على مشارف مخيم أدري، في حين انتظروا تسجيلهم وتخصيص مكان لهم. ومع اقتراب احتمالات حدوث مجاعة جماعية في السودان، أصبح إغلاق معبر «أدري» محوراً أساسياً للجهود التي تبذلها الولايات المتحدة، كبرى الجهات المانحة على الإطلاق، من أجل تكثيف جهود المساعدات الطارئة. وصرّحت ليندا توماس غرينفيلد، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، مؤخراً للصحافيين: «هذه العرقلة غير مقبولة على الإطلاق».

أحد مراكز سوء التغذية تديره منظمة «أطباء بلا حدود» في أدري إذ يُطبّب طفل من جرح ملتهب في ذراعه ناجم عن العلاج الوريدي المستمر لسوء التغذية (نيويورك تايمز)

وكان إيصال المساعدات إلى دارفور صعباً حتى قبل الحرب. وتقع أدري تقريباً على مسافة متساوية من المحيط الأطلسي إلى الغرب والبحر الأحمر إلى الشرق، أي نحو 1100 ميل من الاتجاهين. فالطرق مليئة بالحفر، ومتخمة بالمسؤولين الباحثين عن الرشوة، وهي عُرضة للفيضانات الموسمية. وقال مسؤول في الأمم المتحدة إن الشاحنة التي تغادر ميناء «دوالا» على الساحل الغربي للكاميرون تستغرق نحو 3 أشهر للوصول إلى الحدود السودانية. ولا يقتصر اللوم في المجاعة التي تلوح في الأفق على الجيش السوداني فحسب، فقد مهّدت «قوات الدعم السريع» الطريق إليها أيضاً، إذ شرع مقاتلو «الدعم السريع»، منذ بدء الحرب في أبريل (نيسان) 2023 في تهجير ملايين المواطنين من منازلهم، وحرقوا مصانع أغذية الأطفال، ونهبوا قوافل المساعدات. ولا يزالون يواصلون اجتياح المناطق الغنية بالغذاء في السودان، التي كانت من بين أكثر المناطق إنتاجية في أفريقيا؛ ما تسبّب في نقص هائل في إمدادات الغذاء.

استجابة دولية هزيلة

وكانت الاستجابة الدولية لمحنة السودان هزيلة إلى حد كبير، وبطيئة للغاية، وتفتقر إلى الإلحاح.

في مؤتمر عُقد في باريس في أبريل، تعهّد المانحون بتقديم ملياري دولار مساعدات إلى السودان، أي نصف المبلغ المطلوب فقط، لكن تلك التعهدات لم تُنفذ بالكامل. وفي مخيمات اللاجئين المزدحمة في شرق تشاد، يُترجم الافتقار للأموال إلى ظروف معيشية بائسة. وقالت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، التابعة للأمم المتحدة، التي تدير مخيمات اللاجئين في تشاد، إن عملياتها ممولة بنسبة 21 في المائة فقط في شهر يونيو. وقد اضطر برنامج الأغذية العالمي مؤخراً إلى خفض الحصص الغذائية، إثر افتقاره إلى الأموال.

يعيش ما يقرب من 200 ألف شخص في مخيم أدري الذي يمتد إلى الصحراء المحيطة حيث المأوى نادر ولا يوجد ما يكفي من الطعام أو الماء (نيويورك تايمز)

ومع هطول الأمطار بغزارة، جلست عائشة إدريس (22 عاماً)، تحت غطاء من البلاستيك، تمسّكت به بقوة في وجه الرياح، في حين كانت تُرضع ابنتها البالغة من العمر 4 أشهر. وكان أطفالها الثلاثة الآخرون جالسين بجوارها، وقالت: «نحن ننام هنا»، مشيرة إلى الأرض المبتلة بمياه الأمطار. لم يكن هناك سوى 3 أسرّة خالية في مركز لسوء التغذية تديره منظمة «أطباء بلا حدود»، وكان ممتلئاً بالرضع الذين يعانون من الجوع. وكان أصغرهم يبلغ من العمر 33 يوماً، وهي فتاة تُوفيت والدتها في أثناء الولادة. في السرير التالي، كان الطفل مؤيد صلاح، البالغ من العمر 20 شهراً، الذي كان شعره الرقيق وملامحه الشاحبة من الأعراض المعروفة لسوء التغذية، قد وصل إلى تشاد في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بعد أن اقتحم مسلحون منزل أسرته في الجنينة، عبر الحدود في دارفور، وقتلوا جده. وقالت السيدة دهباية، والدة الطفل مؤيد: «لقد أردوه قتيلاً أمام أعيننا». والآن، صار كفاحهم من أجل البقاء على قيد الحياة بفضل حصص الأمم المتحدة الضئيلة. ثم قالت، وهي تضع ملعقة من الحليب الصناعي في فم طفلها: «أياً كان ما نحصل عليه، فهو ليس كافياً بالمرة».

سفير سوداني: المساعدات مسيّسة

وفي مقابلة أُجريت معه، دافع الحارث إدريس الحارث محمد، السفير السوداني لدى الأمم المتحدة، عن إغلاق معبر «أدري»، مستشهداً بالأدلة التي جمعتها الاستخبارات السودانية عن تهريب الأسلحة.

مندوب السودان لدى الأمم المتحدة الحارث إدريس خلال جلسة سابقة لمجلس الأمن (أ.ب)

وقال إن الأمم المتحدة «سعيدة» بترتيب توجيه الشاحنات شمالاً عبر الحدود في الطينة. وأضاف أن الدول الأجنبية التي تتوقع مجاعة في السودان تعتمد على «أرقام قديمة»، وتسعى إلى إيجاد ذريعة «للتدخل الدولي». ثم قال: «لقد شهدنا تسييساً متعمّداً ودقيقاً للمساعدات الإنسانية إلى السودان من الجهات المانحة». وفي معبر أدري، يبدو عدم قدرة الجيش السوداني على السيطرة على أي شيء يدخل البلاد واضحاً بشكل صارخ. وقال الحمّالون، الذين يجرّون عربات الحمير، إنهم يُسلّمون مئات البراميل من البنزين التي تستهلكها سيارات الدفع الرباعي التابعة لـ«قوات الدعم السريع»، التي عادة ما تكون محمّلة بالأسلحة.

*خدمة نيويورك تايمز