هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

زوار في ساحة آزادي (الحرية) عشية احتفالات «نوروز، في طهران مارس الماضي (إ.ب.أ)
زوار في ساحة آزادي (الحرية) عشية احتفالات «نوروز، في طهران مارس الماضي (إ.ب.أ)
TT

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

زوار في ساحة آزادي (الحرية) عشية احتفالات «نوروز، في طهران مارس الماضي (إ.ب.أ)
زوار في ساحة آزادي (الحرية) عشية احتفالات «نوروز، في طهران مارس الماضي (إ.ب.أ)

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ. ومن ثمّ، ليس كلّ الناس على استعدادٍ لقبول تطفّل الآخرين، ولو أتى هذا التطفّل في صورة المسعى الصادق الرامي إلى اكتشاف الغنى المرصود في قدس الأقداس، أي في أعماق الذات المحصَّنة بأسوارٍ شتّى من الحماية الشرعيّة.
ومع ذلك، لا نستطيع أن نهرب من ضرورات التعبير عن ذاتيّتنا أمام الآخرين، لا سيّما في مجتمعاتنا المعاصرة التي أضحت تتميّز بالتعدّديّة الشاملة، سواء في الأعراق والمنابت أو في المذاهب والتيّارات أو في الأديان والطوائف. يتجاور الناسُ المختلفون في جميع حقول الحياة الاجتماعيّة في مدن التلاقي المسكونيّ كباريس ولندن ونيويورك وساوباولو ونيودلهي وشنغهاي وموسكو وأبيدجان والرياض ودبي والقاهرة وبيروت. الشعور الأوّل الذي ينتابني حين يلاقيني الآخر المختلف أنّه يروم أن يستقرئ العلامات التي تُنبئه بما تنطوي عليه هويّتي الذاتيّة. بيد أنّني، حين أباشر الإفصاح، أحسّ أنّ بعضاً من التردّد يصيبني ويصيبه. يُربكني التردّد، إذ يبدو لي أنّ ما يمكنني أن أقوله ليس كلّه قابلاً الإبلاغَ الواضحَ والاقتبالَ الهنيّ. يُربكه التردّد، إذ إنّه لا يرغب في الإصغاء إلى حقائقَ تخالف مخالفةً فجّةً صارخةً فاضحةً ما استوى عليه كيانُه الذاتيّ من قوامٍ فكريٍّ ومضمونٍ اقتناعيٍّ مكتمل العدّة.
أقول هذا كلّه لأبيّن للقارئ أنّ الإنسان، على وجه العموم، لا يستحسن أن تتحوّل حقيقتُه أو الحقائق التي يعتصم بها إلى مسألةِ أخذٍ وردٍّ. أصلُ هذا الامتناع تصويرُ الحقيقة الذاتيّة في صورة الهيكل المقدّس الذي لا يجوز على الإطلاق مسُّه أو تدنيسُه. والحال أنّ مَن ينظر في حقائق الإنسان يتبيّن له أنّها كلّها، أو على الأقلّ معظمها، آتيةٌ من تقاليد وأعرافٍ وعاداتٍ وطرائق تفكير ومناهج تصرّف انقلبت على توالي الأيّام إلى كتلةٍ اقتناعيّةٍ صلبةٍ، من بعد أن كانت مسألةَ استحسانٍ واستئناسٍ واختيارٍ حرٍّ. أفيَحقّ للإنسان أن يكبّل ذاتَه بأفكارٍ كانت في أصلها سبُلاً حرّةً من التعبير عن اختباراتٍ استحسنها بعضُ الناس وأعرض عنها بعضُهم الآخر؟
إذا أردنا أن نغوص على معاني هذه الحقيقة، كان لا بدّ لنا من أن نستجلي مسارها التكوّنيّ التاريخيّ الذي أصابها منذ نواة النشأة الأولى. هذا مبحثٌ خطيرٌ يستهوي العقل المتّقد. ولكن هناك سبيلٌ آخر يفي بالغرض المقصود، عنيتُ به تفصيل أنواع الحقائق التي يؤيّدها الناسُ. أعتقد أنّ معظم العارفين يُجمعون على القول بأربع حقائق أو أربع دوائر من الحقائق الأساسيّة: دائرة الحقائق العلميّة، ودائرة الحقائق الأخلاقيّة، ودائرة الحقائق الجماليّة، ودائرة الحقائق الاعتقاديّة. واضحٌ أنّ مثل هذا التمييز يفترض أنّ العقل الذي يعتمده قد سبق فانفتح انفتاحاً سليماً على وعود الحداثة الفكريّة. ذلك أنّ العقل الحديث، منذ الفيلسوف الفرنسيّ دِكارت (1596-1650)، ما برح يعتمد معايير الفصل والجمع بحسب مقولات التطلّب البحثيّ العلميّ الموضوعيّ. إذا كان عقلُنا ما فتئ مقيّداً بسلاسل التصوّرات الشموليّة الجامدة القديمة، فإنّه يعجز عن إدراك أسباب هذا التمييز.
لنبدأ بالدائرة الأولى. لا يختلف اثنان في اعتماد الحقيقة العلميّة مرجعاً في وصف الظواهر والوقائع والأحداث التي تُفرج عنها الطبيعة الخارجيّة والطبيعة البيولوجيّة. يعلم الجميع أنّ حقائق العلم تنهض على فرضيّاتٍ مستترةٍ لا يفطن إليها الإنسانُ من الوهلة الأولى. يدعو الفلاسفة هذه الفرضيّات بالنماذج المعرفيّة الناظمة (باراديغم). لكلّ حقبة معرفيّة نموذجُها المهيمن. يجوز لنا أن نناقش هذه الفرضيّة، ولكن لا يجوز لنا أن نناقش ما أفرجت عنه من معادلاتٍ جعلت حياتنا العمليّة، في زمنٍ من الأزمنة، تستوي على هيئةٍ نافعةٍ في العلوم الرياضيّة والفيزيائيّة والبيولوجيّة والصحّيّة والمختبريّة والاقتصاديّة، وما إلى ذلك.
تنفرد الدائرة الثانية باشتمالها على المفاهيم والمقولات التي يستقيم بها الوجود الإنسانيّ برمّته. ذلك أنّ الأخلاق مرآة الحضارة الإنسانيّة، إذا فسدت فسدت الأرض، وإذا ارتقت نَضجت مسالكُ الناس وتصرّفاتهم وأفعالهم. لا يخفى على أحد أنّ الناس، بعد أن بلغوا مرتبةً متقدّمةً من الرقيّ الأخلاقيّ، أعرضوا عن ممارساتٍ وحشيّةٍ كانوا يرتاحون إليها في العصر الحجريّ، من مثل أكل لحوم البشر وتقدمة القرابين البشريّة على مذابح الشعوذات والخرافات. أعرف أنّ الأنظمة السياسيّة المؤدلَجة في القرن الحادي والعشرين تأكل لحومنا بطريقة مختلفة. ولكن ما يعنيني أنّ العقل الحديث لم يعد يسوّغ نظريّاً مثل الممارسات الوحشيّة هذه، لا سيّما في الشرعات الأخلاقيّة العظميات، كشرعة حقوق الإنسان الكونيّة. هل يمكننا، والحال هذه، أن نناقش حقائق الأخلاق؟ يبدو لي أنّ مجال المباحثة الوحيد الممكن يشتمل على التطبيقات، لا على النظريّات. معنى ذلك أنّ كلّ المجتمعات الراهنة تؤيّد الحقائق الأنتروبولوجيّة التي تنطوي عليها قيَم الكرامة والحرّيّة والمساواة والعدالة والأخوّة وسواها من المثُل العليا. غير أنّنا نختلف في تطبيقها تطبيقاً عمليّاً في سياق تراثاتنا المحلّيّة.
أمّا الدائرة الثالثة، فينشط فيها النقاش على جميع المستويات النظريّة والعمليّة. ذلك بأنّ الجماليّات خاضعةٌ للنظر الاستنسابيّ في أصولها النظريّة وتطبيقاتها العمليّة. غير أنّ ما يريح الناس في هذه الدائرة ينشأ من براءتها الاستراتيجيّة. أعني بذلك أنّ الاختلاف في الجماليّات لا يُفضي إلى الاحتراب. ولكنّه أيضاً لا يُنشئ اجتماعاً صلباً، إذ نادراً ما يلتئم الناسُ حول نظريّةٍ جماليّةٍ. يتناقش الناسُ بيُسرٍ في موسيقى موتسارت وبيتهوفن، ولا يفعلون ذلك في عقائد أديانهم. ذلك لأنّ الحقائق الجماليّة تذوّقيّةٌ لا تؤثّر في مسلك الإنسان ومصيره، في حين أنّ حقائق الغيب تؤثّر في وجود الإنسان برمّته، ولو أنّ طابعها التذوّقيّ مرتبطٌ بالاختبارات الإيمانيّة الصوفيّة الجوّانيّة.
أصِل إلى الدائرة الرابعة، وهي الأخطر على الإطلاق، إذ إنّ الحقائق الاعتقاديّة تقوم مقام النفس الجوهريّة التي تحيي الكائن الإنسانيّ في أعمق أعماق وجدانه. ولكنّها أيضاً حقائق الاشتباك الكونيّ الأعظم لما تنطوي عليه من شحنٍ انفعاليٍّ وطاقةٍ استنهاضيّةٍ غالباً ما تنفجر عنفاً واقتتالاً. كيف يمكننا، والحال هذه، أن نخفّف من غلواء الحقائق الوجدانيّة هذه حتّى تقوم مقامَها الصحيح من غير تجاوزٍ أو استعلاء؟ يدرك الجميع أنّ الإنسان، بسببٍ من بنية وعيه، يحتاج إلى اختبارٍ في التعالي يخرج به إلى آفاق اللامحدود، بحيث تتنوّع مستويات الاعتقاد. قد يختلف الناس في تعيين هويّة هذا اللامحدود، غير أنّهم يتوقون إليه على مناهج متباينة ومراتب شتّى.
ما يهمّني في هذه المسألة أنّ حقائق الاعتقاد الغيبيّ على وجه الحصر تتملّك وعيَ الإنسان تملّكاً يجعله عاجزاً عن الانفلات منها حتّى في سبيل الاستيضاح. لذلك تصعب المباحثة في طبيعة هذه الحقائق وجدارتها وصوابها وملاءمتها وصلاحيتها وخصوبتها الأخلاقيّة، لا على المستوى النظريّ ولا على المستوى العمليّ. البرهان على ذلك أنّ الأنظومات الدِّينيّة المبنيّة على الاعتقاد الغيبيّ لم تتغيّر تغيّراً جوهريّاً منذ نشأتها حتّى اليوم. جرت بعضُ التحسينات اللغويّة في تحديث التعبير عن العقائد. يدلّنا الثبات التاريخيّ هذا على أنّ الناس المؤمنين لم يناقشوا مناقشةً جذريّةً في حقائق معتقداتهم الدِّينيّة. جلُّ ما فعلوه أنّهم، في أفضل الأحوال، استوضح بعضُهم بعضاً المسائلَ الشائكة في علم اللاهوت اليهوديّ، وعلم اللاهوت المسيحيّ، وعلم الكلام الإسلاميّ، والروحيّات الآسيويّة على اختلافها، وسائر الشعائريّات الأفريقيّة والأمِيركيّة الجنوبيّة، وما سواها. النقاش الدِّينيّ الحقّ جرى خارج الأنظومة الدِّينيّة. أعتقد أنّ أضمن السبُل التي تهب الإنسانيّة فرَص التسالم الكونيّ أن يَعمد أهل الدائرة الرابعة إلى الاحترام العقائديّ المتبادل، شرطَ ألّا تتضمّن عقائدُهم انتهاكاً فاضحاً أو مخالفةً صريحةً للمبادئ الأساسيّة التي تنهض عليها شرعة حقوق الإنسان الكونيّة.
وعليه، أعتقد أنّ الإنسان يسلك مسلكاً مختلفاً كلّما تغيّر مستوى الكلام على الحقيقة: في الحقيقة العلميّة لا جدال على الإطلاق؛ في الحقيقة الأخلاقيّة مناقشةٌ تقويميّةٌ مفتوحةٌ على مستوى التطبيق؛ في الحقيقة الفنّيّة استئناسٌ ووصالٌ حرٌّ وتقابسٌ استنسابيٌّ، في الحقيقة الاعتقاديّة احترامٌ متبادلٌ تحت رعاية الشرعة الحقوقيّة الكونيّة. أمّا شروط الحوار، فصالحةٌ في جميع الدوائر. في كتاب «الحقيقة والتسويغ» (Wahrheit und Rechtfertigung)، يشترط الفيلسوف الألمانيّ يُرغن هابرماس (1929-....) في الحوار الموضوعيّ المنصف أن يكون علنيّاً، مفتوحاً، شاملاً جميعَ الأطراف المعنيّة من غير استثناء؛ وأن يمنح المتحاورين الحقوق الفرديّة عينها والفرَص التواصليّة نفسها من أجل التعبير الحرّ عن الرأي؛ وأن ينشط بمعزل عن أيّ ضربٍ من ضروب العنف الصريح أو الضمنيّ، فلا يخضع إلّا لقوّة الدليل الأفضل الناعمة؛ وأن يستند إلى خلفيّةٍ أخلاقيّةٍ تتّصف بالنزاهة والصدق والإعراض عن كلّ ألوان التقيّة والمواربة والخداع.
يبقى أن ننظر في طبيعة الحقيقة التي يرتاح إليها الناسُ خارج الدائرة العلميّة. أعتقد أنّه من الجائز أن نطلق عليها عبارة الحقيقة الوجوديّة. يذهب الفيلسوف الفرنسيّ بول ريكور (1913-2005) إلى أنّ الحقيقة الوجوديّة، في جوهرها، بلاغيّةٌ، مجازيّةٌ استعاريّةٌ، فِساريّةٌ تأويليّةٌ. أمّا السبب الذي يسوّغ مثل هذا التعريف، فيعثر عليه في القول إنّ هذه الحقيقة لا يمكن أن تتحوّل إلى قضيّةٍ منطقيّةٍ تصيب الموضوع إصابةً علميّةً قاتلةً، على غرار الحقيقة العلميّة. الحقيقة الوجوديّة تستند إلى الإبداع الدلاليّ الذي يستثمر كنوز المعنى، مُستخرجاً من اللغة الصوَر البيانيّة الجديدة التي تناسب اندفاق الحياة وجيشان الوجدان. ومن ثمّ، لا يكتفي الإبداع الدلاليّ بوصف الواقع الحياتيّ وصفاً مختلفاً، بل يَعمد بالأحرى إلى التعبير عن حالٍ جديدةٍ تَنهض عليها الأمور من غير أن تُدركها المعاينةُ الحسّيّةُ المباشرةُ. ذلك أنّ أسلوب الاستعارة الناشط في مثل هذا الإبداع إنّما يكتشف ما يُبدعه ويجد ما يبتكره، على حدّ قول ريكور. ليس إبداع المعنى في الحقيقة الوجوديّة خلقاً من عدمٍ، وليس العثور على المعنى تكراراً في جمودٍ. خلاصة القول إنّ الحقيقة الوجوديّة تستند إلى الإبداع الدلاليّ في أسلوب الاستعارة الحيّة، وإنّ هذا الإبداع يصوّر الواقع في هيئاتٍ جديدةٍ لم نألفها، ولكن من غير أن يفرض عليه ما لا يطيق احتمالَه. ومن ثمّ، تتجلّى الحقيقة الوجوديّة في الوقت عينه أمينةً على الواقع المفتوح الملهِم، وعصيّةً على الواقع المغلق المفقِر. شرط الشروط في تجديد الخطاب الدِّينيّ أن يعامل الإنسانُ حقائقَه الاعتقاديّة معاملتَه الحقيقةَ الوجوديّةَ هذه.
- مفكر لبناني


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.

تحقيقات وقضايا أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر.

أحمد الفاضل

يوم هزَّت «أيلول الأسود» شِباك الألعاب الأولمبية في ميونيخ

TT

يوم هزَّت «أيلول الأسود» شِباك الألعاب الأولمبية في ميونيخ

أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)
أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)

كان يحيى السنوار في العاشرة من عمره حين هزت منظمة «أيلول الأسود» الفلسطينية في 1972 شِباك دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ، وجابت صور جثث المهاجمين والرهائن العالم بأسره.

نحو مليار شخص تابعوا ما سميت «مجزرة ميونيخ» التي اختلط فيها الرصاص الألماني بالرصاص الفلسطيني، وكان ذلك قبل هبوب رياح العولمة وولادة الهاتف الذكي. وبمقاييس تلك الأيام ومسرح الحدث غير المسبوق يمكن وصف ما حدث بأنه «طوفان» لكنه انطلق على الأرض الأوروبية.

رفضت حكومة غولدا مائير، رئيسة الوزراء الإسرائيلية، الرضوخ لمطالب الخاطفين وبينها السماح لهم بالمغادرة إلى مصر مع رهائنهم. وخدعت الحكومة الألمانية الخاطفين واستهدفتهم نيران قواتها. تسبب الافتقار إلى الخبرة في مقتلة دُبّجت عنها كتب وأُنتجت أفلام وأُهرق حبر كثير. ترددت مائير في البداية، لكنها وافقت تحت ضغط عدد من وزرائها على عملية «غضب الرب» التي تقضي باغتيال كل من له علاقة بهجوم ميونيخ في مطاردة عابرة للخرائط.

أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)

لا غرابة إذاً أن تؤرق استضافة الدورة الحالية من الألعاب الأولمبية بلداً مثل فرنسا. فهذا الحدث العالمي قد يُغري المجموعات الإرهابية التي تبحث عن منبر استثنائي لتوجيه ضربة مدوية على الصعيد الدولي. يضاعف المخاوف أن العقود الماضية شهدت ولادة تنظيمات أدمت العالم، من قماشة «القاعدة» و«داعش» وغيرها.

يقع الصحافي في فخ المحطات المثيرة فيروح يسأل عنها كلما عثر على شريك فيها أو شاهد. وأنا كنت من هؤلاء ولا أزال. وشاءت المهنة أن ألتقى الرجلين اللذين صنعا موقعة ميونيخ تخطيطاً وتنفيذاً. اسم الأول صلاح خلف (أبو إياد) عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح»، والرجل الثاني فيها بعد ياسر عرفات. واسم الثاني محمد داود عودة (أبو داود) عضو «المجلس الثوري» لحركة «فتح».

عرفات أبلغ وعباس صرف التكاليف

بعد ما يزيد قليلاً على نصف قرن، يمكن القول إن «الموساد» الإسرائيلي قتل كثيرين لكنه لم يقتل الثلاثة الذين وُلدت الفكرة على أيديهم وتحققت في صورة مأساة. والثلاثة هم: «أبو إياد»، ومساعده فخري العمري (أبو محمد)، و«أبو داود». اُغتيل «أبو إياد» والعمري لكن برصاص صبري البنا («أبو نضال» زعيم انشقاق «فتح - المجلس الثوري»، وأُصيب «أبو داود» برصاص «أبو نضال» أيضاً).

في تونس، قال لي «أبو داود» إن الفكرة «جاءت من العمري في لقاء ثلاثي. استوقفتْ الفكرة (أبو إياد) ثم أعجبته وأيّدتُها أنا». ويقول «أبو داود» إن عرفات «كان يعرف أن عمليةً لاحتجاز الرهائن ومبادلتهم بسجناء فلسطينيين في إسرائيل ستجري في ميونيخ، وتولى محمود عباس (أبو مازن) مسؤول المالية في (فتح) صرف المبلغ اللازم لتنفيذها».

وشدد «أبو إياد»، رداً على سؤال طرحتُه عليه، على أن العملية خرجت عن مسارها بسبب تشدد مائير ورعونة الحكومة الألمانية، وأن تعليمات مشدَّدة كانت قد أُعطيت للمنفذين بعدم قتل الرهائن أو إطلاق النار إلا في حالة الاضطرار القصوى للدفاع عن النفس. ويؤكد «أبو داود» أن التعليمات كانت صارمة بعدم القتل.

ملابس داخلية لتهريب السلاح

قصة مثيرة فعلاً. تولى «أبو إياد» شخصياً إحضار الأسلحة التي استخدمها المنفذون وكانت برفقته سيدة لبنانية سميت «جولييت» ساهم فتح حقيبتها المغطاة بملابس داخلية في إحراج رجل الجمارك الألماني، فمرَّر الحقائب الأخرى من دون تفتيش وهي كانت تحمل الرشاشات. وتولى «أبو داود» تخزين الحقائب في محطة القطار وتبديل أماكنها يومياً بانتظار موعد التنفيذ.

«أبو داود» خلال الحديث إلى الزميل غسان شربل (الشرق الأوسط)

لم تراود الشكوك أجهزة الأمن الألمانية في ما يتعلق بزائر كان يتنقل بين فنادق ميونيخ بجواز سفر عراقي يحمل اسم سعد الدين ولي. كان الرجل المتنكر «أبو داود». وسيتولى استطلاع القرية الأولمبية أكثر من مرة.

وفي ليلة التنفيذ سيستخدم قامته الفارعة لمساعدة بعض المنفذين على تخطي السياج المحيط بالقرية الأولمبية. وتشاء الصدفة أن يتولى مساعدة منفذين آخرين رياضيون أميركيون عائدون من سهرة سمر من دون معرفة هوية رفاق «أبو داود» وأن حقائبهم ستختطف بعد قليل أنفاس الدورة الأولمبية والعالم.

قصة «أيلول الأسود»

لم تكن «أيلول الأسود» منظمة مستقلة. وُلدت على دويّ المعارك التي دارت بين الجيش الأردني والتنظيمات الفلسطينية في سبتمبر (أيلول) 1970 واختتمت في العام التالي بعد معارك جرش وعجلون التي قُتل فيها القيادي الفتحاوي «أبو علي إياد».

وُلدت «أيلول الأسود» من رغبة في الثأر من النظام الأردني ومن المواجهة المفتوحة مع إسرائيل. كانت يافطة تستخدمها مجموعات في «فتح» لتنفيذ عمليات لا تريد تحمل مسؤولية مباشرة عنها، ونسبت إليها أحياناً عمليات لا علاقة لها بها. ويقول «أبو داود» إن علي حسن سلامة الذي اغتاله «الموساد» في بيروت لم تكن له علاقة على الإطلاق بعملية ميونيخ. ويضيف أن ما حصل في ميونيخ أثار حماسة الشعب الفلسطيني، ما دفع سلامة إلى الإيحاء بأنه شريك في العملية، خصوصاً أنه استخدم لافتة «أيلول الأسود» لتنفيذ بعض العمليات.

أثار الخروج القسري من الأردن حالة من الغضب في صفوف الفلسطينيين. وطُرحت أسئلة عن مسؤولية القيادات الفلسطينية في خسارة ما كان يعد الموقع الأفضل لمواجهة إسرائيل وإبقاء التواصل قائماً مع الأراضي المحتلة. ترك الخروج جرحاً في نفس «أبو إياد» لا سيما بعدما استمر اللغط حول ما قيل إنه اتفاق توصل إليه مع السلطات الأردنية إبان اعتقاله في أحداث 1970.

تحت لافتة «أيلول الأسود» ستتم عملية تصفية الحسابات. في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 1971 سددت «أيلول الأسود» ضربة مؤلمة إلى الأردن. ففي ذلك اليوم اغتيل رئيس الوزراء الأردني وصفي التل، لدى دخوله فندق «شيراتون» في القاهرة. أربعة من أفراد المنظمة كانوا في انتظاره. وستطلق الحادثة جدلاً طويلاً لم يتوقف حتى اليوم وثمة من لا يزال يعتقد أن التل سقط برصاصة قناص كان يرابط على سطح بناية قريبة وليس برصاص فريق «أيلول الأسود».

إفراج السلطات المصرية عن المنفذين من دون محاكمتهم عزز شكوكاً أردنية بأن جهازاً مصرياً شارك أو تساهل. وكان نذير رشيد، مدير المخابرات الأردنية، قد نصح التل بعدم التوجه إلى القاهرة، لكنه رفض، وكان ما كان. تحدث «أبو إياد» في مواضيع كثيرة لكنه كان يرفض الخوض في حادثة اغتيال وصفي التل نظراً لحساسيتها، خصوصاً أن الأخير كان معروفاً بالنزاهة والشجاعة والدفاع عن فكرة الدولة والتنمية.

«أبو داود» أيضاً لم يرغب يوماً في الاسترسال في هذا الموضوع الذي تردد أنه كان ملفاً مقيماً لدى فخري العمري بعدما نال قرار اغتيال التل «موافقة مَن لا بد من موافقتهم».

بعد نحو أسبوعين من اغتيال التل، انهمر الرصاص على سيارة السفير الأردني في بريطانيا زيد الرفاعي، وأسعفه الحظ بالنجاة، واقتصرت الأضرار على إصابة في يده. حملت المحاولة توقيع «أيلول الأسود» أيضاً. وكانت هناك فصول أخرى لا يتسع المجال هنا لذكرها.

إحباطات متراكمة

في 1972 بدا الجو الفلسطيني ملبداً. خيبة الخروج من الأردن وافتقار قوات الفصائل الفلسطينية في جنوب لبنان إلى ما يمكّنها من التصدي للغارات الإسرائيلية أو التوغلات. خاف قادة فلسطينيون من انهيار المعنويات أو شيوع اليأس.

بدأ التفكير في الربيع في حلقة ضيقة في ضرورة القيام بعمل مدوٍّ يثير الاهتمام الدولي بالوضع الفلسطيني ويؤكد لسكان المخيمات أن المقاومة قادرة على إيذاء إسرائيل وإيلامها.

«أبو إياد» نقل الأسلحة إلى ألمانيا بجواز سفر مزور و«زوجة» مزيفة (غيتي)

ازداد اهتمام «أبو إياد» مع مجيء الصيف بالقيام بعمل كبير وكان موعد الألعاب الأولمبية يقترب. طلب من «أبو داود» زيارة بلغاريا والحصول هناك على مسدسات مزوَّدة بكواتم صوت «لأننا سنحتاج إليها في أوروبا». وكان العمري يمتلك لائحة المواصفات المطلوبة. كان الغرض تسديد ضربات إلى عملاء «الموساد» في القارة الأوروبية.

كانت الجهات الفلسطينية قد وجّهت منذ بداية السنة رسالة إلى اللجنة الدولية الأولمبية طلبت فيها تمكين الفلسطينيين من المشاركة في دورة ميونيخ لكن اللجنة لم ترد. واجهت رسالة ثانية المصير نفسه.

في الثامن من يوليو (تموز)، كان «أبو داود» في مدينة دورتموند لشراء سيارة قد تحتاج المجموعة إليها في عملياتها الأوروبية. اتصل في ذلك النهار بـ«أبو إياد» الذي عاجله بخبر مؤلم. خبر اغتيال الروائي والصحافي الفلسطيني غسان كنفاني رئيس تحرير مجلة «الهدف» الناطقة باسم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». قُتلت معه بانفجار سيارته ابنة شقيقته لميس الذي اصطحبها لتسجيلها في جامعة في بيروت.

بدا واضحاً أن كنفاني دخل دائرة الخطر مذ تولى إعلان مسؤولية الجبهة عن الهجوم على مطار اللد الذي نفَّذه ثلاثة من «الجيش الأحمر الياباني» يعملون تحت عباءة الدكتور وديع حداد، مسؤول «المجال الخارجي» في الجبهة والذي هز العالم بعمليات خطف الطائرات.

على مقهى في روما وُلدت الفكرة

في أول لقاء مع «أبو إياد» بعد الحادثة طرح السؤال عن رد قوي على الاعتداءات الإسرائيلية التي تخطت كل حدود. اقترح العمري مهاجمة سفارات وقنصليات إسرائيلية لكن «أبو إياد» رأى أن ذلك سيضع المقاومة في مواجهة مع الدول التي تستضيف هذه السفارات. سأل «أبو إياد» «أبو داود» رأيه فأجابه أنه لم يبلور لديه اقتراح لكن البقاء في الوضع الراهن غير ممكن.

سيكون الموعد الثلاثي المقبل في مقهى في روما. أبلغ «أبو إياد» باستمرار اللجنة الدولية الأولمبية في تجاهل وجود الفلسطينيين فانتابه الغضب. قال العمري: «ما داموا يصرون على تجاهلنا لماذا لا نحاول التسلل إلى المدينة الأولمبية؟». سأله «أبو إياد» عن الغرض فأجاب: «لنحتجز رياضيين إسرائيليين». سأله «أبو إياد» إن كان مجنوناً؟ تدخل «أبو داود» ملمحاً إلى أن معظم الإسرائيليين لهم علاقة ما بالمؤسسة الأمنية أو تابعوا تدريبات عسكرية.

صمت «أبو إياد» وبدا كمن يمحص الفكرة. قطع فجأة صمته وقال: «في مقابل من نحتجزهم من رياضيين وإداريين إسرائيليين نطالب بإطلاق عدد وازن من سجنائنا في إسرائيل. الفكرة ليست سيئة». وبعد لحظات خاطب «أبو داود» قائلاً: «ميونيخ في طريقك إلى بلغاريا».

انطلقت التحضيرات لعملية ميونيخ. وقبل المغادرة طلب «أبو داود» من «أبو إياد» التحدث إلى «أبو مازن» للحصول على تمويل للعملية، فردّ: «لا تقلق سأتحدث إليه في الوقت المناسب. أنا متأكد من موافقته وسنحصل على المبلغ اللازم».

لم ينجح «أبو داود» في إقناع البلغار بتسليمه الأسلحة. اشترطوا اتصالاً من جهة رسمية وكانوا يقصدون منظمة التحرير أو قيادة «فتح». تدخل «أبو إياد» لكنهم وضعوا شرطاً جديداً وهو أن تتجه الأسلحة إلى الشرق الأوسط لا إلى أوروبا نظراً لخطورة انكشافها هناك.

«أبو داود» مصاباً بعد محاولة اغتيال في وارسو عام 1981 (غيتي)

كان «أبو داود» يتحدث في ليل العاصمة التونسية كمن يسترجع شبابه أو لحظة عرسه. لم يستثمر دوره في ميونيخ كما فعل «كارلوس» الفنزويلي بعد عملية احتجاز وزراء «أوبك» في فيينا. أخفيت ذهولي كي لا يشعر أنه ذهب بعيداً. لا شيء يشبع شراهة الصحافي كهذه القصة المثيرة عن رجال يتحركون بجوازات سفر مزورة وتأشيرات تم التلاعب بها وتبديل فنادق وعناوين وتضليل حراس.

زيارتان استطلاعيتان

كرر «أبو داود» محاولاته لاستكشاف القرية الأولمبية. استعان ذات يوم بسيدة فلسطينية تتقن شيئاً من الألمانية. تظاهر بأنه رجل برازيلي ويريد الدخول لمصافحة أصدقاء له. رق قلب الحارس الألماني وسمح لهما. سيعود لاحقاً برفقة الشابين اللذين سيتوليان قيادة الفريق المنفذ وهما يوسف نزال ومحمد مصالحة.

اقترب من مقر البعثة الإسرائيلية ورأى امرأة تحمل أوراقاً. سألها بالإنجليزية عن مقر البعثة الإسرائيلية فاستفسرت عن سبب السؤال. رد بأنه برازيلي ويحلم كرفيقيه بزيارة إسرائيل والحصول على معلومات عن هذا البلد وكذلك على أعلام له لنقلها إلى أولادهم. تبين أن السيدة إسرائيلية ووقعت في الفخ، فما إنْ توجهت إلى المقر القريب حتى دخل الثلاثة برفقتها للتعرف على جغرافيا المكان الذي سيشهد الهجوم. استطلع «البرازيليون» قدر الإمكان المداخل والممرات والأجنحة الملحقة.

استلزمت الأسابيع الأخيرة من الإعداد لقاءات ورحلات في اتجاه جملة مدن بينها أثينا ومدريد وصوفيا وجنيف، فضلاً عن بيروت وطرابلس الليبية. كان لـ«أيلول الأسود» مركز تدريب في نقطة قريبة من صيدا في جنوب لبنان. لكن الضرورة اقتضت إرسال مجموعة من المقاتلين لمتابعة دورة سريعة ومكثفة في طرابلس.

طُرحت في أحد الاجتماعات المسألة الأهم، وهي كيف يمكن إيصال الأسلحة في ظل إجراءات استثنائية لا بد من أن تواكب حدثاً يشارك فيه رياضيون من 120 دولة. فوجئ «أبو داود» والعمري بـ«أبو إياد» يقول بلهجة حاسمة: «أنا سأوصلها». استبعد «أبو داود» أن يضطلع «أبو إياد»، وهو رجل ذائع الصورة والصيت مباشرةً، بمهمة محفوفة بالأخطار، ورجح أن يستعين بمنظمة أو مجموعة.

زوجة لبنانية مزيفة... وقنابل في حقيبة يد

أرسل «أبو إياد» إلى «أبو داود» أن ينتظره في مطار فرانكفورت في 24 أغسطس (آب) 1972. ذهب «أبو داود» إلى الموعد وراقب من وراء الزجاج. انتظر إطلالة «أبو إياد» بفارغ الصبر وعلى قدر من القلق. فجأة أطل «أبو إياد» في صحبة سيدة لبنانية تظاهر بأنها زوجته وسُميت جولييت، فضلاً عن تاجر صديق له واسمه علي أبو لبن.

كان «أبو إياد» ثابت الأعصاب على خلاف أبو لبن الذي وصل به الأمر حد تناول المهدئات. أشار رجل الجمارك إلى «أبو إياد» أن يفتح الحقائب فخاف «أبو داود» أن تنهار العملية برمتها. وفجأة بدأ «أبو إياد» في إخراج الملابس الداخلية لـ«زوجته» مبدياً شيئاً من التذمر من هذا النوع من المعاملة. أُصيب موظف الجمارك بالإحراج وأشار بمرور الحقائب كمن يعتذر. وهكذا وصلت الأسلحة المخبأة في الحقائب الأخرى.

لم يقترب «أبو داود» من «أبو إياد» الذي صعد مع رفيقيه إلى سيارة تاكسي. تبعه «أبو داود» في السيارة الموالية وطلب من السائق السير وراء سيارة صديقه. ضحك سائق السيارة الثانية من إصرار «أبو داود» على متابعة صديقه ودفَعَه الخبث إلى التفكير أن عين الرجل هي على السيدة الموجودة في التاكسي الآخر ولم يخطر بباله أن رجال السيارتين سيشعلون حريقاً كبيراً سيلازم اسم ميونيخ والألعاب الأولمبية.

هكذا عرف «أبو داود» الفندق الذي ينزل فيه «أبو إياد». ترجل من السيارة ومشى قليلاً في اتجاه آخر للتضليل ثم دخل الفندق وصعد إلى غرفة أبو لبن. وجد «أبو إياد» مسترخياً هناك وكانت «جولييت» في غرفة أخرى.

اكتشف «أبو داود» أن عدد الرشاشات ثمانية وطلب منه «أبو إياد» التصرف على أساس أن الفريق المهاجم سيكون من ثمانية لا عشرة. لاحظ «أبو داود» غياب القنابل فاتفق أن يعود أبو لبن سريعاً إلى بيروت لإحضارها في حقيبة يد تفادياً لإثارة الشبهة. وهذا ما حصل. نقل «أبو داود» الأسلحة إلى خزائن الأمانات في محطة القطار في ميونيخ، وأضاف إليها لاحقاً القنابل وكان يغيّر مكانها يومياً ومن دون أن يثير شكوك أجهزة الأمن.

اللمسات الأخيرة

وصل أعضاء الفريق المشارك من طرابلس وتولى مصالحة ونزال توزيعهم في ثلاثة فنادق مختلفة بمعدل اثنين في كل فندق ومن دون ذكر اسم «أبو داود». وكان على «أبو داود» أن يشتري لهم ثياباً رياضية وحقائب وبعض الضمادات والبسكويت في حال طال احتجاز الرهائن.

عناصر من الأمن الألماني يحاولون دخول موقع الاحتجاز في القرية الأولمبية (غيتي)

افتُتحت الألعاب الأولمبية في 26 أغسطس. اختار المخططون الانتظار كي يسود الانطباع أن الألعاب تجري طبيعية وتتراخى التدابير الأمنية.

كنت أشعر أنني أنتظر قصة جديدة كلما أشعل «أبو داود» سيجارة إضافية.

قال «أبو داود» إن اجتماعاً عُقد سابقاً في بيروت وشمل أيضاً «أبو إياد» و«أبو مازن» خلص إلى التشديد بصورة قاطعة على عدم اعتبار العملية فرصة للثأر والتنكيل وأن «العملية سياسية قبل أن تكون عسكرية والمصلحة تقضي بعدم إراقة الدماء إلا في حال الخطر وفي سياق الدفاع عن النفس». وأضاف أنه أبلغ الفريق المنفذ بذلك في اجتماع عقده معه «بوصفي برازيلياً مؤيداً للثورة الفلسطينية وكنت أتحدث خلال الاجتماع بالإنجليزية ويتولى أحدهم الترجمة».

كانت الاستعدادات قد اكتملت: سيدخل المنفذون من أقرب نقطة في السياج الأولمبي إلى المبنى 31 الذي تقيم فيه البعثة الإسرائيلية. سيحاول احتجاز أكبر عدد ممكن من الرهائن. سيتولى مصالحة عملية التفاوض. سيسلم الوسطاء لائحة تطالب بإطلاق أكثر من مائتي سجين فلسطيني في إسرائيل وهي تتضمن أيضاً اسم كوزو أوكاموتو الياباني الذي شارك في هجوم اللد، إضافة إلى الإفراج عن أولريكه ماينهوف وأندرياس بادر من جماعة «بادر ماينهوف» الألمانية الراديكالية.

كانت هناك تعليمات بخفض المطالب إذا تعقدت المفاوضات، «وكانت الخطة تقضي بطلب طائرة لاصطحاب الرهائن إلى دولة شرق أوسطية ويفضل أن تكون مصر التي ستطالب بالتأكيد بعملية تبادل لإطلاق الإسرائيليين المحتجزين»، كما روى «أبو داود».

ليلة التنفيذ

في الرابع من سبتمبر شعر «أبو داود» باكتمال التحضيرات فأعطى إشارة التنفيذ. بعد منتصف الليل سيكون إلى جانب السياج مع المنفذين بثيابهم الرياضية والرشاشات المخبأة في حقائبهم. يقول «أبو داود» إن «الشباب كانوا يستعدون لتسلق السياج حين سمعنا ضجيجاً وسرعان ما تبين أنهم لاعبون أميركيون سهروا وأسرفوا في الشراب وقرروا تسلق السياج للعودة. المضحك أنهم عرضوا على شبابنا المساعدة وقدموها وشملت رمي الحقائب التي تحوي السلاح إلى الجهة المقابلة. واستخدمت أنا طولي لمساعدة من وجد صعوبة. وكانت المفاجأة أن الرجل الذي ساعدته قال لي: شكراً أبو داود، وأنا كنت أتوهم أنني نجحت في إخفاء هويتي عن المنفذين باستثناء نزال ومصالحة».

ترك «أبو داود» المكان وعاد إلى فندق سجل نفسه فيه باسم مستعار آخر. شرارة البدء في الرابعة والنصف صباحاً. مرت ساعات ولم تبث الإذاعات شيئاً. وكان «أبو داود» قد اتفق مع مصالحة ونزال على أن يلتحق به أعضاء الفريق في محطة القطار إذا فشلت المحاولة لأن جوازاتهم كانت في حوزته. في الثامنة بثت وسائل الإعلام نبأ اقتحام القرية الأولمبية. وهكذا صارت القصة ملك العالم بأسره.

مروحية الخاطفين والرهائن مدمَّرة بعد تبادل النار في مطار عسكري قرب ميونيخ (غيتي)

رفضت حكومة غولدا مائير شروط الخاطفين. ويعتقد أنها مارست ضغوطاً على حكومة ألمانيا الغربية بذريعة أن التجاوب يشجع الإرهاب. خدعت الحكومة الألمانية الخاطفين. وافقت على انتقالهم إلى مطار عسكري حيث ستنتظرهم طائرة «لوفتهانزا» لنقلهم إلى مصر. هبطت طائرتا الهليكوبتر في المطار وتوجه نزال ومصالحة لتفقد طائرة الركاب، ولدى خروجهما اندلع الرصاص واختلط. حاولت الأجهزة الألمانية قتل الخاطفين وكانت النتيجة مقتل خمسة منهم، إضافة إلى رهائنهم التسع وشرطي ألماني. ويُذكَر أن رياضيين إسرائيليين قُتلا خلال عملية الاقتحام وتجميع الرهائن.

«غضب الرب»

بعد ميونيخ وافقت حكومة مائير على عملية «غضب الرب» التي أدت إلى اغتيال عدد من المسؤولين والدبلوماسيين الفلسطينيين ولم تكن لمعظمهم علاقة من قريب أو بعيد بعملية ميونيخ. نجحت إسرائيل في اغتيال كثيرين إلا الحلقة الأساسية. فقد اغتيل «أبو إياد» وفخري العمري في تونس في 14 يناير (كانون الثاني) ومعهما المسؤول الأمني هايل عبد الحميد (أبو الهول) على يد شاب اسمه حمزة أبو زيد اندسّ في جهاز حماية عبد الحميد بناءً على طلب «أبو نضال».

كان «أبو إياد» متحفظاً في الكلام عن المحطات التي لعب دوراً فيها. لم يرد ترك بصماته مباشرةً في أي مكان. كان ينسب ما تحقق إلى «الشباب» ولهذا لمست قدراً من العتب عليه من جانب «أبو داود» الذي لعب دوراً حاسماً في عملية ميونيخ وغيرها.