الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)
أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)
TT

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)
أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر. وسمع كثيرون وقرأوا ما قاله رواد مواقع التواصل الاجتماعي السعوديون خلال نقاش عن أصل بعض الأزياء المنتشرة في بلادهم المترامية الأطراف، علماً بأن الملبس كمخرج نهائي تشكله عوامل مختلفة عدة كالطقس والطبيعة والمهنة والمعتقد والعادات والتقاليد والشخصية والجسم الذي سيملأه والبشرة والعمر وغير ذلك… وصولاً إلى المناسبة، وبالطبع، من دون إهمال الأسباب الأولية كالوقاية والستر.
ولقد تحول الملبس إلى لغة بصرية، فهو جزء من نظام التواصل غير اللفظي. ولغته ترتبط بمضامين متنوعة كالسياسة والاقتصاد والثقافة والفن والجمال وتكثر المدارس وتتعدد النظريات التي تحاول أن تشرح نشأة الملابس.
ويقول عالم الاجتماع الإنجليزي هربرت سبنسر في منتصف القرن التاسع عشر: «لم تنشأ الملابس للوقاية من برد ولا طلباً للحشمة، بل لسبب مختلف تماماً. في المجتمعات البدائية، بعد أن كان الصياد الماهر يصطاد فريسته، لم تكن له وسيلة للتعبير عن مأثرته والتباهي بإنجازها أمام الجماعة أفضل من أن يسلخ الطريدة الصريعة ويغطي جسده بفروها أو جلدها، لكي يستعرض تفوقه على أقرانه الأقل مهارة وقوة، في شكل صارخ ساطع جلي أمام الجميع».
ويخلص العالم الإنجليزي إلى أن «الطبقات الأدنى طالما سعت للترقي عبر تقليد سمات الطبقات الأعلى وعلاماتها المميزة». وهذه النظرة الخاصة لسبنسر في التقليد والترقي، سبقه إليها ابن خلدون بقوله في مقدمته «إن المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده». أما الفيلسوف الألماني جورج سيميل فيفسر ظاهرة الملبس بثنائية «الجذب والدفع»، أي بالانجذاب لطبقة ما (عادة الطبقة الأعلى) والتبرؤ من طبقة أخرى (عادة الأدنى)، عن طريق تقليد الموضة. وكلما زاد تقارب الطبقات زادت حدة ظاهرة الموضة.
وتعد الملابس سجلاً يحفظ بين طياته تاريخ الشعوب، ومؤشراً مهماً للجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي تاريخنا نجد الكثير من التحولات في هذا الخصوص. ويمتد تأثير الملابس إلى مساهمتها في تشكيل صورة الشخص أو الجماعة أمام الآخرين. كما تعطي (الملابس) دلالات على حالات نفسية مؤقتة، كالحزن (بلبس الأسود حداداً على ميت) أو الفرح (بلبس الملون).
وفي استخدامها الحالي، لم تعد الملابس تنتج لنفس الأسباب التي أدت إلى ابتكارها في أزمنة سابقة. فعلى سبيل المثال، كانت الكعوب والتنانير في الأصل للذكور. وفي الحضارات القديمة، كانت تصاميم الأزياء تنطلق من أشكال التنانير الهادلة بسبب سهولة خياطتها من ناحية ومن ناحية ثانية، بسبب سهولة الحركة فيها. واشتهرت التنورة كثيراً كزي عسكري لجنود الإمبراطورية الرومانية.
ولم يظهر الكعب العالي ذاته فجأة في القرن السادس عشر. فالذكور هم أول من انتعلوه لكي يستفيدوا منه في ركوب الخيل، فمتى ثبت الكعب في الركاب ثبتت وضعية الخيال. إلا أن الكعوب كصيحة وموضة درجها الملك لويس الرابع عشر تعويضاً عن قصر قامته. ثم راح نبلاء بلاطه يقلدونه لمجاراته ومسايرته، غير أنهم التزموا بتوجيهات الملك إياه، أن تقل أطوال كعوب أحذيتهم عن ارتفاع كعب حذاء الملك.
- البنطلون… رأفة بالجميع!
بدأت رحلة تطور البنطلون مع القديس بانتليون حامي مدينة فينيسيا، واسمه باليونانية يعني «الرأفة للجميع». وطرأت عليه بتطورات كثيرة وكان مثار سخرية في البداية. والحق أن الشاعر والمسرحي الإنجليزي ويليام شكسبير هو الذي منح الاسم لهذا الزي في ملهاته «على ذوقك» (As you like it). وكان استعار إحدى شخصياتها «بنتالوني» من الكوميديا ديلارتي الإيطالية وجعله يرتدي بنطلوناً وهكذا يقال إنه درج. أما الجينز فمنسوب إلى جنوى الإيطالية وقد صممه الخياط المهاجر ليفي ستراوس خصيصاً لعمال المناجم، حين استبدل قماش القنب بقماش الدنيم، ودق في أطرافه عند نقاط معينة مسامير لكي يتحمل ثقل معدات العمال آنذاك.
وقبل ذلك بكثير، بدأ استخدام البنطلون (السروال) بسبب برودة الطقس وركوب الخيل، من الساموراي في اليابان إلى الرعاة الرحل في منغوليا. لكن أول ظهور مسجل للسروال يعود إلى القرن السادس قبل الميلاد وكان يرتديه الخيالة في بلاد فارس وشرق ووسط آسيا.
اليونانيون القدماء من جهتهم، رفضوا السروال وترفعوا عنه لأنه كان سخيفاً يشبه الكيس. والأمر نفسه ينطبق على الرومان الذين احتقروا السروال لأنه كان يرتبط بالبرابرة. ولكنهم، مع توسع إمبراطوريتهم، استسلموا للراحة والدفء اللذين يوفرهما البنطلون. وفي تطوير القصات وتفاصيل أخرى، يعود الفضل إلى الملك الإنجليزي إدوارد السابع، ابن الملكة فيكتوريا، في إضافة ثنية الساق، إذ طلب تصميماً خاصاً يمكنه من ارتداء البنطلون في الأيام الماطرة من دون أن يتبلل طرفه أو يتسخ!
واستكمالاً لسرد التطورات في مكونات الملابس وأجزائها، استغرق تطوير السحاب أو الزمام أو السوستة، الذي كان يستخدم أساساً لإغلاق الجزمات، أكثر من خمسة عقود ليتحول إلى السحاب كما نعرفه حالياً في 1914.
- الملابس الجاهزة وما سبقها
بقيت التطورات على حالها حتى حصلت ثورة حقيقية في عالم الأزياء، مع ظهور ما يسمى بـ«الملابس الجاهزة»، فمنذ خمسينات القرن العشرين انتشرت فروع المحلات الكبرى والماركات والبراندات في جميع أنحاء العالم، ومن ثم بدأت المجتمعات تشهد ظهوراً قوياً للمشاهير من ممثلين ومغنين أثر على سوق الأزياء والموضة وانتشارها.
عوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية دفعت إلى تشكيل موضة عالمية، رغم بقاء مناطق عدة متمسكة بعاداتها وتقاليدها في الملبس. ففي روسيا، كان للسياسة أثرها على اللبس وبخاصة مع بداية بطرس الأكبر في تنفيذ إصلاحات في شتى المجالات بأواخر القرن السابع عشر. وهو شرع في ذلك إثر عودته من جولة في أوروبا استمرت 18 شهراً شهد فيها مدى التقدم الذي أحرزته الدول الأوروبية. وقرر أنه سيجعل من بلاده نسخة طبق الأصل عن أوروبا. وبدأ بإصدار فرمان ألزم كل الرجال بحلق لحاهم وفرض غرامة باهظة على كل من لا ينفذ هذا الأمر. ولم يتوقف عند فرمان اللحية، فما لبثت أن تلته تبعتها فرمانات أخرى تأمر الجميع، رجالاً ونساءً، بنبذ الرداء الروسي التقليدي واستبداله بأزياء ألمانية ومجرية.
وبالمثل، شهدت أواخر الحكم العثماني عملية تغيير كبيرة في الملابس، عندما تخلت النخب التركية عن الملابس التقليدية وشرعت في ارتداء الثياب الأوروبية. وكانت السلالة الخديوية أولى النخب العربية الحاكمة التي تبنت اللباس الأوروبي الغربي، وحذت حذو السلطان العثماني محمود الثاني.
- الأزياء والثقافات والتقاليد
لطالما شكلت الأزياء طرقاً تعبيرية وصوراً جمالية تحمل كل منها في ثناياها سرديات ثقافية واجتماعية. وقد خضعت الملابس في تاريخها لعوامل أساسية، من أهمها مدى ملاءمتها ظروف المكان أو الموقع الجغرافي والتقاليد. فطبيعة الجلوس أرضاً فرضت الملابس الطويلة والفضفاضة للجنسين. والملابس في المنطقة الوسطى من الجزيرة العربية تتسم بالأكمام الواسعة التي تسمح بدخول الهواء، وفي جبال السروات يرتدي الأفراد ملابس مناسبة للعمل الزراعي.
ويلتبس على كثيرين الفرق بين الملابس الأثرية والتراثية والشعبية رغم صعوبة التفريق أحياناً بين الأخيرتين. فالملابس الاثرية هي الملابس التي لم يعد لها وجود سوى في الرسوم الأثرية والنقوش على الصخور وجدران الكهوف، أو تلك الموصوفة في الكتب، ولكنها ليست موجودة ولم تعد تصنع. والملابس التراثية هي الملابس التي كانت تلبس في حقبة من الزمن في منطقة معينة وشكلت هوية هذه المنطقة. والملابس الشعبية هي مجموعة ملابس مقتبسة من عدة شعوب ومناطق. ويمكن أن يكون الزي شعبياً مستوحى من التراث الشامي أو المصري، لكنه لا يمثل هوية المنطقة.
فعلى سبيل المثال، العقال تظهر الدلائل القديمة لارتدائه بشكله الحالي في شمال الجزيرة العربية في أوائل القرن الثامن عشر في البدايات المبكرة للعصر الحديث. ويبدو أن ارتداء العقال والغترة/ الشماغ انتشر من وسط وشمال الجزيرة العربية ومنها إلى بقية العرب في آسيا. ويقول الباحثان بروس إنغم ونانسي لندسفارن - ترابر إن العقال كان يتميز به العرب ذوو الثقافة البدوية داخل الجزيرة العربية، من وسطها إلى شمالها، بينما امتاز العرب الحضر في مناطق محدودة من ضفتي الخليج العربي، وفي الحجاز واليمن والشام ومصر وأفريقيا، بارتداء العمامة.
يختلف شكل العقال ليدل على صاحب البلد في الخليج العربي. فمثلاً العقال المهدب المكتل يدل على الرجل القطري، أما العقال الصغير فيدل على الرجل الكويتي. والأبيض يرتديه أمراء قبيلة ربيعة في العراق سابقاً وكذلك العلماء في الجزيرة العربية. والمقصب وهو العقال الحجازي المضلع ويرتديه في الغالب الأعيان والأمراء. وسمي بالمقصب لأنه يقصب بخيوط ذهبية أو فضية. والعقال الديري نسبة لدير الزور يكون غليظاً من قطعة واحدة متصلة مجزأة بفواصل. ويذكر أن العقال المقصب موجود منذ العهد العباسي وكان من خمس طبقات ومزخرفا باللون الأحمر.
أما الشماغ فيرجع الباحثون ظهوره إلى حقبة السومريين حيث كانوا يضعون على رؤوسهم قطعة من القماش. فأول من ارتدى الشماغ كان الحاكم السومري كوديا في الفترة 2146 – 2112 ق.م. ويقال إن أصل كلمة شماغ تعود إلى لفظ «اش ماخ» بالسومرية أو اش ساخ أي غطاء الرأس. ورسمة الشماغ هي عبارة عن عيون شباك الصيد الموشح بخطوط عريضة في جوانبه وهي متموجة تشبه أمواج مياه الأهوار. وفي حافته، خطوط ورسوم سود تمثل زعانف الأسماك التي اعتقد السومريون بأنها تطرد الأرواح الشريرة، وفي سياق آخر، تعبر عن سنبلة القمح والحنطة للاستبشار بالخير.
وقيل إن العمائم هي تيجان العرب. وقد اعتمر النبي محمد العمامة البيضاء والخضراء والسوداء. وارتدى سادة العرب العمائم المهراة الصفر نسبة إلى مدينة هراة. ولألوان العمائم مناسبات، فهارون الرشيد كان يلبس العمامة السوداء المصنوعة من الخز في المجالس العامة. وتعددت أشكال العمائم بتعدد من يلبسها، فالرصافية هي العمامة ذات الطيات العمودية نسبة للرصافة. والكردية (الكرسية) عصائب من الصوف الطويلة تلف حول الرأس. والكوفية قطعة القماش المربعة بألوان عدة ومرقطة. والعلويون في الأهوار يلبسون الشماغ الأخضر ليميزهم عن باقي الناس للدلالة على أنهم من سلالة الرسول.
وفيما يخص لبس الشماغ الأحمر، تشير الروايات إلى ارتباطه قديماً بنجد وقبائل الشمال، وأكثر أعلامها حمر. ويقول الشيخ العلامة عبد القادر شيبة محقق كتاب «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» بأن رجال أهل نجد والمملكة العربية السعودية عموماً يلبسون الشماغ الأحمر، فهم يعتبرون لبس الشماغ الأحمر رمزاً للقوة والشجاعة وعدم الاكتراث بالموت. ويروي الشيخ شيبة أن الشيطان جاء يوم بدر إلى كفار قريش بهيئة رجل نجدي يلف العصابة الحمراء (الشماغ) على رأسه ليحرض الكفار على قتال المسلمين، وذلك لقناعة المشركين آنذاك بأن هذا الرجل النجدي الشجاع الذي لا يهاب الموت سوف يقاتل معهم فلم لا يقاتلون وهم أولى بالقتال.
أما «الغبانة»، التي هي نوع من أنواع العمائم الملونة فتلبس في الحجاز. وهي أحد أهم الموروثات القديمة؛ وتحكي كتب التاريخ أن «الغبانة» من الكلمة «ياباني»، نسبة إلى اليابان، لأنه كان يأتي مطرزا غالباً من اليابان. ولكن ثمة رأي آخر يقول إن الملابس أحياناً تسمى بناء على طريقة الاستخدام لا المنشأ. فـ(العمامة) مرسلة الذوائب للوجاهة عموماً و(العمة) تكون ملفوفة على الرأس للعمل عند أهل البحر والزراعة.
و«البقشة» إذا كان سيجمع فيها أغراضه ويربطها ويحملها على كتفيه كبديل عن الحقيبة. و(الغبانة) إذا كان سيحتزم بها الرجل ليرفع الثوب عن الأرض تغبن الثوب أي تقصره، فالغبن يكون بطي الثوب مؤقتا بحبل أو حزام. وأما الخبن فهو طي الثوب طياً نهائياً.
ومع مر الزمن، أصبح يطلق على العمة غبانة وعلى الغبانة بقشة. وقد تميزت منطقة الحجاز بوفرة الأقمشة، خصوصاً تلك التي كان يجلبها الحجاج معهم من الهند وجنوب شرقي آسيا، ما يجعل أشكالها متعددة وألوانها مختلفة.
وعن دلالة الملابس يقول الأديب سليمان فيضي في مذكراته نقلاً عن لسان الملك عبد العزيز: «وقد أقسم الملك عبد العزيز أن لا يلبس العقال المقصب حتى يثأر من خصمه. وبقي يرتدي العقال الأسود حتى اليوم الذي حملوا إليه ختم خصمه بعد مقتله، حينئذ نادى: ائتوني بعقال مقصب. فلما أحضروه وضعه على رأسه فيما صدحت الهتافات والأهازيج». والعقال المقصب الذي ذاع صيته بعد أن لبسه الملك عبد العزيز، ثم لبسه الملكان سعود وفيصل الذي كان آخر من لبسه وهو ملك. ولبسه أيضاً الملك فهد والملك عبد الله قبل توليهما الحكم، وكذلك الأمير سلطان رحمهم الله وغيرهم من الأمراء... لطالما كانت ملابس الشعوب تاريخها.
- كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


«المقاومة العراقية» إلى «حرب أوسع» في لبنان

فلسطيني يحمل صندوق تبرعات لضحايا حرب غزة خلال حملة نظمتها «حماس» في عيد الأضحى (رويترز)
فلسطيني يحمل صندوق تبرعات لضحايا حرب غزة خلال حملة نظمتها «حماس» في عيد الأضحى (رويترز)
TT

«المقاومة العراقية» إلى «حرب أوسع» في لبنان

فلسطيني يحمل صندوق تبرعات لضحايا حرب غزة خلال حملة نظمتها «حماس» في عيد الأضحى (رويترز)
فلسطيني يحمل صندوق تبرعات لضحايا حرب غزة خلال حملة نظمتها «حماس» في عيد الأضحى (رويترز)

حين حذّر وزير خارجية العراق، فؤاد حسين، من اندلاع حرب في لبنان، كان من المرجح أن يلقى كلامه المقلق استجابة عاصفة من الفصائل العراقية الموالية لإيران، أقلها التحضير لمساندة الحليف «حزب الله» اللبناني. ولم يحدث هذا كما جرت العادة بين حلفاء «محور المقاومة».

في 13 يونيو (حزيران)، كان الوزير حسين، يتحدث في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الإيراني بالإنابة، علي باقري كني، ومن دون سياق مسبق، وفي سابقة بين البلدين، رمى «طلقة تحذير» حول الجنوب اللبناني، بينما بغداد ملتزمة بالهدنة بظلال حكومة تحظى بإعجاب الأميركيين يوماً بعد آخر.

قال حسين: «لو اندلعت حرب هناك، ستتأثر المنطقة برمتها، وليس لبنان فقط».

وبالنسبة لكثيرين، كان كلام كبير الدبلوماسية العراقية «رسالة» تستند إلى معطيات وفرّها الزائر الإيراني، باقري كني، الذي كان قبل أسبوعين من وصوله إلى بغداد، يجري لقاءات «طبيعية» في بيروت ودمشق عن «الشراكة الوثيقة والدائمة».

شخصيتان في «الإطار التنسيقي»، أخبرتا «الشرق الأوسط»، أن باقري كني حين وصل إلى بغداد تحدث في الكواليس مع مسؤولين عراقيين، عن «حرب محتملة تُخطط لها إسرائيل في جنوب لبنان، فما موقف العراقيين؟».

وتقاطعت معلومات المصدرين حول أن باقري طلب صراحةً أن يكون «لبنان محور المؤتمر الصحافي المشترك». وقال أحدهما لـ«الشرق الأوسط»: «بالطبع، الحرب في لبنان تقلق الجميع، وستُسمع أصداؤها في بغداد أولاً»، ولهذا تبرّع الوزير العراقي بالتحذير، لأن حكومته والتحالف الشيعي الحاكم كان عليهم التعاطي مع جس نبض الإيرانيين بشأن لبنان.

وفي محاولة لاستنباط موقف «العسكريين»، تحدثت «الشرق الأوسط» إلى قائد فصيل عراقي فقال: «لقد وجّهت إلينا أسئلة عن موقفنا لو اشتعلت جبهة لبنان أكثر. فقلنا: مستعدون (...) سنذهب إلى هناك».

لكن الدوائر الدبلوماسية والسياسية ليست حاسمة إلى تلك الدرجة، فقد أكد مسؤول دبلوماسي أن «الأمر (طلب باقري) لم يكن بهذه الطريقة»، كما أن خبيراً عراقياً فسّر كلام فؤاد حسين بأنه «للموازنة السياسية بين الحكومة والمقاومة»، مقللاً من احتمالات حرب «أوسع».

وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين تولّى التحذير من حرب في لبنان بحضور نظيره الإيراني باقري كني (رويترز)

مَن يريد توسعة الحرب... إيران أم إسرائيل؟

تشهد مناطق الجنوب اللبناني والشمال الإسرائيلي منذ أشهر أعنف هجمات متبادلة منذ حرب 2006، لكنها أقل من أن توصف بالحرب المفتوحة. ثمة قواعد اشتباك غير تقليدية تجعلها حرباً على جرعات، بتكاليف عالية، لاسيما من جهة «حزب الله» وحاضنته في الجنوب.

تقول مصادر لبنانية، لـ«الشرق الأوسط»، إن حصيلة الأشهر الماضية تعادل أضرار حرب شاملة، لكنها في ميزان القوى، ليست كذلك.

وتزداد كثافة النيران الإسرائيلية على عمق 4 كيلومترات من الحدود، بمعدل قصف يومي، وتقل تدريجياً بعد عمق 10 كيلومترات وصولاً إلى نهر الليطاني.

المصادر التي قدمت هذه التوصيفات الميدانية قالت إن مناطق القصف شبه خالية ومدمرة على نحو غير مسبوق، والحديث عن «حرب أشد» مستحيل بغياب حاضنة اجتماعية، ومع تغير مواقع إدارة العمليات لـ«حزب الله»، على نحو طارئ.

لبنانيات يلتقطن صورة إلى جانب منزل مدمَّر بغارة إسرائيلية في بلدة عيتا الشعب بالجنوب (أ.ف.ب)

إذن، ما الحرب الأشد التي حذّر منها الوزير فؤاد حسين؟ ومَن يريد إشعالها؟ طهران أم حكومة بنيامين نتنياهو؟ على الأقل، فإن آموس هوكستين، مستشار الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي وصل إلى إسرائيل الاثنين، ومنها إلى بيروت، لديه رسالة لثني نتنياهو عن أي تصعيد محتمل، قد يثير ذعر إيران ويدفعها إلى التدخل المباشر في لبنان، والتدخل سيكون بأذرعها في العراق.

ويعتقد عقيل عباس، وهو أستاذ العلوم السياسية من واشنطن، أن نتنياهو «يريد هذه الحرب أكثر من (حزب الله)، ومن إيران بالضرورة»، لأن الأخيرة تريد المحافظة على نسق الضربات المتواترة من «حزب الله» لتخفيف الضغط على «حماس» في غزة. أكثر من هذا سيكون ضاراً لها.

كما أن «حزب الله» نفسه يريد الحفاظ على «ديناميكية الردع» بمنسوبها الحالي، فإن أي عملية عسكرية مفتوحة من الإسرائيليين ستدمر البنى التحتية اللبنانية أكثر مما هي الحال الآن، و«هذا يسبب مشكلة لحسن نصر الله مع الشركاء اللبنانيين»، كما يقول عباس.

رواية أخرى... إيران تُلوّح بورقة «حزب الله»

قبل أن يصل باقري كني إلى بغداد، كانت إيران تنقل رسائل جس نبض إلى العراقيين توحي بأنها تواجه 3 مشاكل مستعصية؛ فراغًا خلّفه رئيسي وعبداللهيان، والضغط الهائل من الأميركيين والغرب في البرنامج النووي، وموضع طهران في صفقة وقف النار بغزة، وفي كل منها ستضطر إلى التخلي عن أحد محاورها في المنطقة، لكن الحصة «في المقابل» لا تساوي ثمنها، كما يصف سياسي عراقي على اطلاع بهذه الرسائل.

يقول السياسي العراقي: «إن التلويح بحرب قائمة بالفعل ضغط سياسي، حتى يعرف الإيرانيون حصتهم من صفقة وقف النار في غزة، لا سيما المرحلة الثانية منها».

في هذه الأجواء، إيران هي من تريد وضع ورقة «جنوب لبنان» على الطاولة لتحسين ظروفها في المفاوضات. ليس من الواضح ملاءمة هذه الفرضية مع حالة «حزب الله» الذي يتحدث كثيرون عن إنهاكه ومحدودية حركته. ويرد السياسي العراقي بالقول: «لم يختبر أحد حتى الآن حقيقة أن (حزب الله) منهك، بينما يستطيع في أي وقت إحداث خرق مؤذٍ للإسرائيليين».

وإلى حد كبير يوافق على هذا الطرح عقيل عباس، الذي يرصد قلقاً إسرائيلياً تشاركه تل أبيب مع واشنطن بشأن «القدرات العسكرية والتكنولوجية لـ(حزب الله)»، حتى بعد أشهر من الاستنزاف.

أرشيفية لعناصر حركة «النجباء» التي تنشط في شرق سوريا خلال عرض عسكري في بغداد

«الأيدي على الزناد يا لبنان»

حين خرج الوزير العراقي بتحذيره اللبناني، كانت بغداد تحظى بمسافة أمان عن نيران حرب غزة في المنطقة. الحكومة استطاعت إدامة الهدنة مع القوات الأميركية لأشهر، ورئيسها محمد شياع السوداني يمسك بصعوبة بلحظة التوازن بين متطلبات إيران وطموحات الفصائل، ومنذ وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لم يسمع قادة الأحزاب الشيعية والفصائل أشياء كثيرة مهمة من الإيرانيين.

يقول قائد فصيل شيعي في بغداد، طلب عدم نشر اسمه وعنوان الفصيل، إن الزيارات غير المعلنة للعسكريين الإيرانيين إلى العراق أصبحت قليلة جداً منذ وفاة رئيسي. مع ذلك، «هناك اتصالات روتينية فُهم منها أن طهران مشغولة بمشكلتها (...) سنتكلم لاحقاً».

قبل أن يزور باقري كني بغداد وأربيل، وصلت «أسئلة مباشرة من الإيرانيين لكتائب «حزب الله» وحركة «النجباء»: «هل تشاركون في حرب جنوب لبنان لو هاجمتها إسرائيل». يقول قائد الفصيل، لـ«الشرق الأوسط»: «قلنا لهم، نعم بالطبع. الأيدي على الزناد، نشارك وندعم».

قائد قوة القدس التابعة لـ«الحرس الثوري» الإيراني، إسماعيل قاآني كان في قلب تلك الاتصالات التي كسرت صمت طهران عن الحلفاء العراقيين منذ وفاة رئيسي. وحين وصل باقري كني كانت الحكومة العراقية تشعر بالضغط، كما يقول قيادي في الإطار التنسيقي، واضطرت إلى التحذير لمنح الانطباع بأن العراق لن يواصل الجلوس في «منطقة الراحة» خلف توترات غزة، في لبنان تحديداً.

مع ذلك، يرى الخبير عقيل عباس، أن كلام الوزير العراقي «فعل موازنة سياسي وإعلامي لإظهار أن العراق مع إيران ومع المقاومة بشكل عام، وليس محور المقاومة بشكل خاص».

يفسر عباس هذه المعادلة بأن ما تقوم به الحكومة من وراء كل هذه التحركات، بما فيها التحذير من حرب في جنوب لبنان، هو الموازنة، لا أكثر. «لأن حكومة السوداني غاضبة من الفصائل، وتحاجج ضدها داخل الإطار التنسيقي، وتطالب بمواقف جدية ضدها، من ضمنها إدخال إيران نفسها بصفتها فاعلاً ضاغطاً يردع الفصائل».

لكن الفصائل ليست سعيدة، خصوصاً حركة «النجباء» وكتائب «حزب الله»، اللتين تظهران حنقاً من الهدنة، وتحاولان استغلال أي فرصة للتمرد عليها.

وكانت مصادر عراقية، أبلغت «الشرق الأوسط» أن الهجمات التي تعرضت لها مطاعم أميركية في بغداد والمحافظات كان تخفي «نية للتمرد على الهدنة، وإيصال رسالة للإيرانيين بأنها حانقة على قرار التهدئة الذي ترعاه طهران في العراق».

وأكدت المصادر أن السوداني «تحدث مع قادة حلفاء وأصدقاء عن ضرورة لجم هذه الحركات التي لا معنى لها، سوى الاعتراض على وضع سياسي لا يلائم بعض القادة الشيعة».

بهذا المعنى، يقول سياسي عراقي مقرب من رئيس الحكومة: «إن الأخير يلاحق جميع المنافذ التي يمكن أن تفلت منها الفصائل إلى حرب (تجر معها الجميع)».

هوكستين أبلغ بري بأن التهديد الإسرائيلي «جدي جداً» (رئاسة البرلمان اللبناني)

«حزب الله» لا يريد العراقيين

«بالفعل، نستعد لأي طارئ في لبنان (...) نعرف ما تواجهه درة تاج المقاومة في المنطقة (حزب الله)»، يقول قائد ميداني لفصيل شيعي متنفذ، ينشط في محافظة نينوى (شمال العراق)، وزعم أنه «أبلغ (الحرس الثوري) الاستعداد للقتال إلى جانب المقاومة في لبنان».

يبدو أن طهران تريد من «الأطراف المعنية» إظهار هذا الموقف علناً، بينما يتعرض «حزب الله» إلى ضغط هائل من الإسرائيليين الذين يخططون لحرب بهدف تفكك «المقاومة جنوب لبنان»، كانوا يريدون منح الانطباع بأن الهجوم على الجنوب أكثر سيجذب كل المقاومة أكثر إلى حرب شاملة.

غير أن مشاركة العراقيين «المقاومين» في حرب إلى جانب «حزب الله» ليست مضمونة، رغم أن العراقيين يعرضون «العدة البشرية»، فالفصيل اللبناني لم يبلغ أحداً من «رفاق المقاومة» بأنه سيسمح لهم بالانتشار في الميدان، على الأراضي اللبنانية.

يتفق قائدا الفصيلين الشيعيين في بغداد ونينوى على أن «(حزب الله) لن يستقبل العراقيين، لأنه ينظر إليهم غير مؤهلين، ولا يمتلكون كياناً متماسكاً، وهم في أفضل الأحوال حلفاء سيئون، لديهم مشاكل لا تعد ولا تحصى في صناعة القرار».

ما يزيد القناعة بعدم مشاركة الفصائل العراقية في حرب جنوب لبنان، هو التفاهم النادر بين الإيرانيين والحكومة في بغداد على حماية صيغة الاستقرار القائمة.

يقول مسؤول بارز في حكومة عادل عبد المهدي إن «العراق هو درة التاج لدى الإيرانيين، أكثر من (حزب الله)، ولن يغامر به في حرب جنوب لبنان». ويضيف: «ما قام به الوزير فؤاد حسين هو الضغط لمنع الحرب، وليس العكس».

ويقول عقيل عباس، إن «الجنرال قاآني توصل إلى اتفاق مع الأميركيين، نضج مع وزير الخارجية الراحل حسين أمير عبداللهيان، بعدم استهداف القوات الأميركية حتى تنتهي الحملة الانتخابية للرئيس جو بايدن».

يدفع هذا عباس إلى الاعتقاد بأن طهران لا تريد تسهيل فوز ترمب بضرب الأميركيين تحت ولاية منافسه بايدن.

في السياق، يكشف المسؤول العراقي السابق، أن إيران «أكثر من هذا»، تريد إبعاد الحرب عن حدود العراق، لأنهم «الآن أكثر حرصاً على الهدوء في العراق».

وأظهرت إيران خلال مراسم عزاء رئيسي إشارات تهدئة، حينما قدّم المرشد الإيراني، في مجلس تأبين أقامه يوم في 25 مايو (أيار) 2024، شخصيات سياسية ضالعة في الحكومة الحالية، وليس في الفصائل «المتمردة»، وأجلست في الصف الأول من المعزين شخصيات، مثل عمار الحكيم زعيم تيار «الحكمة»، ورئيس مجلس القضاء فائق زيدان، وحيدر العبادي رئيس الوزراء الأسبق، خلافاً لقادة فصائل وضعت ترتيب جلوسهم في المقاعد الخلفية، مثل أكرم الكعبي زعيم حركة «النجباء»، وعبد العزيز المحمداوي، المعروف بـ«أبو فدك»، رئيس أركان هيئة «الحشد الشعبي».

صورة وزعها مكتب خامنئي لتأبين رئيسي في 25 مايو ويظهر في الصف الأول مسؤولون وسياسيون عراقيون

النموذج السوري في لبنان

يقول المسؤول العراقي السابق، بناءً على اتصالات يجريها من واشنطن مع قيادات عراقية ولبنانية حول التوتر الأخير، إن «الحرب الشاملة غير موجودة إلا في خيالات اللبنانيين». ومع ذلك، لو حدثت «ليس من المرجح أن يحتاج (حزب الله) إلى الكتائب العراقية، على سبيل المثال»، لأن «الوضع الميداني صعب على أبناء المقاومة المحلية، الذين يتحركون بالكاد في مناطقهم، فكيف على مسلح قادم من العراق».

لكن لو اندلعت الحرب فإن «إيران لن تترك (حزب الله) لوحده. هذا لن يحدث (...) ستفعل شيئاً بالتأكيد»، يقول المسؤول الذي يرى أن مجيء سفيرة أميركية جديدة إلى العراق بموقف متطرف ضد الإيرانيين على صلة بالأمر، «يبدو أن واشنطن تحسب حسابات اليوم التالي لحرب غزة بتدابير سياسية جديدة من بغداد، لصد رد الفعل الإيراني على المرحلة الثانية من وقف الحرب في القطاع (...) لو أنجزت المرحلة الأولى منه».

لكن السيناريو المغرق في التشاؤم يفيد بأن الحرب «الأوسع» ستندلع في جنوب لبنان، وحينها ستلجأ إيران إلى النموذج السوري في لبنان، تحت ضغط صفقة غزة، ومفاوضات النووي. يقول المسؤول العراقي: «هذا يعني تقسيم خريطة لبنان وفق معطيات وحسابات معينة، بين فصائل من العراق واليمن وأفغانستان، والزحف إليها سيبدأ من سوريا».

في المحصلة، ليس هناك تقاطع معلومات حاسم بشأن حرب أوسع في جنوب لبنان، ومشاركة الفصائل العراقية فيها. على الأرجح فإن الطرف العراقي المعني بـ«محور المقاومة» يمتلك الرسائل دون الحقائق، وأن إيران من خلفه تحاول استخدام جميع الأوراق بحذر لإجراء تعديلات لصالحها في صفقة «اليوم التالي» لغزة، وتخشى انفلات «الساحات» التي تديرها إلى حرب تفقدها القدرة على المناورة.