الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)
أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)
TT

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)
أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر. وسمع كثيرون وقرأوا ما قاله رواد مواقع التواصل الاجتماعي السعوديون خلال نقاش عن أصل بعض الأزياء المنتشرة في بلادهم المترامية الأطراف، علماً بأن الملبس كمخرج نهائي تشكله عوامل مختلفة عدة كالطقس والطبيعة والمهنة والمعتقد والعادات والتقاليد والشخصية والجسم الذي سيملأه والبشرة والعمر وغير ذلك… وصولاً إلى المناسبة، وبالطبع، من دون إهمال الأسباب الأولية كالوقاية والستر.
ولقد تحول الملبس إلى لغة بصرية، فهو جزء من نظام التواصل غير اللفظي. ولغته ترتبط بمضامين متنوعة كالسياسة والاقتصاد والثقافة والفن والجمال وتكثر المدارس وتتعدد النظريات التي تحاول أن تشرح نشأة الملابس.
ويقول عالم الاجتماع الإنجليزي هربرت سبنسر في منتصف القرن التاسع عشر: «لم تنشأ الملابس للوقاية من برد ولا طلباً للحشمة، بل لسبب مختلف تماماً. في المجتمعات البدائية، بعد أن كان الصياد الماهر يصطاد فريسته، لم تكن له وسيلة للتعبير عن مأثرته والتباهي بإنجازها أمام الجماعة أفضل من أن يسلخ الطريدة الصريعة ويغطي جسده بفروها أو جلدها، لكي يستعرض تفوقه على أقرانه الأقل مهارة وقوة، في شكل صارخ ساطع جلي أمام الجميع».
ويخلص العالم الإنجليزي إلى أن «الطبقات الأدنى طالما سعت للترقي عبر تقليد سمات الطبقات الأعلى وعلاماتها المميزة». وهذه النظرة الخاصة لسبنسر في التقليد والترقي، سبقه إليها ابن خلدون بقوله في مقدمته «إن المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده». أما الفيلسوف الألماني جورج سيميل فيفسر ظاهرة الملبس بثنائية «الجذب والدفع»، أي بالانجذاب لطبقة ما (عادة الطبقة الأعلى) والتبرؤ من طبقة أخرى (عادة الأدنى)، عن طريق تقليد الموضة. وكلما زاد تقارب الطبقات زادت حدة ظاهرة الموضة.
وتعد الملابس سجلاً يحفظ بين طياته تاريخ الشعوب، ومؤشراً مهماً للجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي تاريخنا نجد الكثير من التحولات في هذا الخصوص. ويمتد تأثير الملابس إلى مساهمتها في تشكيل صورة الشخص أو الجماعة أمام الآخرين. كما تعطي (الملابس) دلالات على حالات نفسية مؤقتة، كالحزن (بلبس الأسود حداداً على ميت) أو الفرح (بلبس الملون).
وفي استخدامها الحالي، لم تعد الملابس تنتج لنفس الأسباب التي أدت إلى ابتكارها في أزمنة سابقة. فعلى سبيل المثال، كانت الكعوب والتنانير في الأصل للذكور. وفي الحضارات القديمة، كانت تصاميم الأزياء تنطلق من أشكال التنانير الهادلة بسبب سهولة خياطتها من ناحية ومن ناحية ثانية، بسبب سهولة الحركة فيها. واشتهرت التنورة كثيراً كزي عسكري لجنود الإمبراطورية الرومانية.
ولم يظهر الكعب العالي ذاته فجأة في القرن السادس عشر. فالذكور هم أول من انتعلوه لكي يستفيدوا منه في ركوب الخيل، فمتى ثبت الكعب في الركاب ثبتت وضعية الخيال. إلا أن الكعوب كصيحة وموضة درجها الملك لويس الرابع عشر تعويضاً عن قصر قامته. ثم راح نبلاء بلاطه يقلدونه لمجاراته ومسايرته، غير أنهم التزموا بتوجيهات الملك إياه، أن تقل أطوال كعوب أحذيتهم عن ارتفاع كعب حذاء الملك.
- البنطلون… رأفة بالجميع!
بدأت رحلة تطور البنطلون مع القديس بانتليون حامي مدينة فينيسيا، واسمه باليونانية يعني «الرأفة للجميع». وطرأت عليه بتطورات كثيرة وكان مثار سخرية في البداية. والحق أن الشاعر والمسرحي الإنجليزي ويليام شكسبير هو الذي منح الاسم لهذا الزي في ملهاته «على ذوقك» (As you like it). وكان استعار إحدى شخصياتها «بنتالوني» من الكوميديا ديلارتي الإيطالية وجعله يرتدي بنطلوناً وهكذا يقال إنه درج. أما الجينز فمنسوب إلى جنوى الإيطالية وقد صممه الخياط المهاجر ليفي ستراوس خصيصاً لعمال المناجم، حين استبدل قماش القنب بقماش الدنيم، ودق في أطرافه عند نقاط معينة مسامير لكي يتحمل ثقل معدات العمال آنذاك.
وقبل ذلك بكثير، بدأ استخدام البنطلون (السروال) بسبب برودة الطقس وركوب الخيل، من الساموراي في اليابان إلى الرعاة الرحل في منغوليا. لكن أول ظهور مسجل للسروال يعود إلى القرن السادس قبل الميلاد وكان يرتديه الخيالة في بلاد فارس وشرق ووسط آسيا.
اليونانيون القدماء من جهتهم، رفضوا السروال وترفعوا عنه لأنه كان سخيفاً يشبه الكيس. والأمر نفسه ينطبق على الرومان الذين احتقروا السروال لأنه كان يرتبط بالبرابرة. ولكنهم، مع توسع إمبراطوريتهم، استسلموا للراحة والدفء اللذين يوفرهما البنطلون. وفي تطوير القصات وتفاصيل أخرى، يعود الفضل إلى الملك الإنجليزي إدوارد السابع، ابن الملكة فيكتوريا، في إضافة ثنية الساق، إذ طلب تصميماً خاصاً يمكنه من ارتداء البنطلون في الأيام الماطرة من دون أن يتبلل طرفه أو يتسخ!
واستكمالاً لسرد التطورات في مكونات الملابس وأجزائها، استغرق تطوير السحاب أو الزمام أو السوستة، الذي كان يستخدم أساساً لإغلاق الجزمات، أكثر من خمسة عقود ليتحول إلى السحاب كما نعرفه حالياً في 1914.
- الملابس الجاهزة وما سبقها
بقيت التطورات على حالها حتى حصلت ثورة حقيقية في عالم الأزياء، مع ظهور ما يسمى بـ«الملابس الجاهزة»، فمنذ خمسينات القرن العشرين انتشرت فروع المحلات الكبرى والماركات والبراندات في جميع أنحاء العالم، ومن ثم بدأت المجتمعات تشهد ظهوراً قوياً للمشاهير من ممثلين ومغنين أثر على سوق الأزياء والموضة وانتشارها.
عوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية دفعت إلى تشكيل موضة عالمية، رغم بقاء مناطق عدة متمسكة بعاداتها وتقاليدها في الملبس. ففي روسيا، كان للسياسة أثرها على اللبس وبخاصة مع بداية بطرس الأكبر في تنفيذ إصلاحات في شتى المجالات بأواخر القرن السابع عشر. وهو شرع في ذلك إثر عودته من جولة في أوروبا استمرت 18 شهراً شهد فيها مدى التقدم الذي أحرزته الدول الأوروبية. وقرر أنه سيجعل من بلاده نسخة طبق الأصل عن أوروبا. وبدأ بإصدار فرمان ألزم كل الرجال بحلق لحاهم وفرض غرامة باهظة على كل من لا ينفذ هذا الأمر. ولم يتوقف عند فرمان اللحية، فما لبثت أن تلته تبعتها فرمانات أخرى تأمر الجميع، رجالاً ونساءً، بنبذ الرداء الروسي التقليدي واستبداله بأزياء ألمانية ومجرية.
وبالمثل، شهدت أواخر الحكم العثماني عملية تغيير كبيرة في الملابس، عندما تخلت النخب التركية عن الملابس التقليدية وشرعت في ارتداء الثياب الأوروبية. وكانت السلالة الخديوية أولى النخب العربية الحاكمة التي تبنت اللباس الأوروبي الغربي، وحذت حذو السلطان العثماني محمود الثاني.
- الأزياء والثقافات والتقاليد
لطالما شكلت الأزياء طرقاً تعبيرية وصوراً جمالية تحمل كل منها في ثناياها سرديات ثقافية واجتماعية. وقد خضعت الملابس في تاريخها لعوامل أساسية، من أهمها مدى ملاءمتها ظروف المكان أو الموقع الجغرافي والتقاليد. فطبيعة الجلوس أرضاً فرضت الملابس الطويلة والفضفاضة للجنسين. والملابس في المنطقة الوسطى من الجزيرة العربية تتسم بالأكمام الواسعة التي تسمح بدخول الهواء، وفي جبال السروات يرتدي الأفراد ملابس مناسبة للعمل الزراعي.
ويلتبس على كثيرين الفرق بين الملابس الأثرية والتراثية والشعبية رغم صعوبة التفريق أحياناً بين الأخيرتين. فالملابس الاثرية هي الملابس التي لم يعد لها وجود سوى في الرسوم الأثرية والنقوش على الصخور وجدران الكهوف، أو تلك الموصوفة في الكتب، ولكنها ليست موجودة ولم تعد تصنع. والملابس التراثية هي الملابس التي كانت تلبس في حقبة من الزمن في منطقة معينة وشكلت هوية هذه المنطقة. والملابس الشعبية هي مجموعة ملابس مقتبسة من عدة شعوب ومناطق. ويمكن أن يكون الزي شعبياً مستوحى من التراث الشامي أو المصري، لكنه لا يمثل هوية المنطقة.
فعلى سبيل المثال، العقال تظهر الدلائل القديمة لارتدائه بشكله الحالي في شمال الجزيرة العربية في أوائل القرن الثامن عشر في البدايات المبكرة للعصر الحديث. ويبدو أن ارتداء العقال والغترة/ الشماغ انتشر من وسط وشمال الجزيرة العربية ومنها إلى بقية العرب في آسيا. ويقول الباحثان بروس إنغم ونانسي لندسفارن - ترابر إن العقال كان يتميز به العرب ذوو الثقافة البدوية داخل الجزيرة العربية، من وسطها إلى شمالها، بينما امتاز العرب الحضر في مناطق محدودة من ضفتي الخليج العربي، وفي الحجاز واليمن والشام ومصر وأفريقيا، بارتداء العمامة.
يختلف شكل العقال ليدل على صاحب البلد في الخليج العربي. فمثلاً العقال المهدب المكتل يدل على الرجل القطري، أما العقال الصغير فيدل على الرجل الكويتي. والأبيض يرتديه أمراء قبيلة ربيعة في العراق سابقاً وكذلك العلماء في الجزيرة العربية. والمقصب وهو العقال الحجازي المضلع ويرتديه في الغالب الأعيان والأمراء. وسمي بالمقصب لأنه يقصب بخيوط ذهبية أو فضية. والعقال الديري نسبة لدير الزور يكون غليظاً من قطعة واحدة متصلة مجزأة بفواصل. ويذكر أن العقال المقصب موجود منذ العهد العباسي وكان من خمس طبقات ومزخرفا باللون الأحمر.
أما الشماغ فيرجع الباحثون ظهوره إلى حقبة السومريين حيث كانوا يضعون على رؤوسهم قطعة من القماش. فأول من ارتدى الشماغ كان الحاكم السومري كوديا في الفترة 2146 – 2112 ق.م. ويقال إن أصل كلمة شماغ تعود إلى لفظ «اش ماخ» بالسومرية أو اش ساخ أي غطاء الرأس. ورسمة الشماغ هي عبارة عن عيون شباك الصيد الموشح بخطوط عريضة في جوانبه وهي متموجة تشبه أمواج مياه الأهوار. وفي حافته، خطوط ورسوم سود تمثل زعانف الأسماك التي اعتقد السومريون بأنها تطرد الأرواح الشريرة، وفي سياق آخر، تعبر عن سنبلة القمح والحنطة للاستبشار بالخير.
وقيل إن العمائم هي تيجان العرب. وقد اعتمر النبي محمد العمامة البيضاء والخضراء والسوداء. وارتدى سادة العرب العمائم المهراة الصفر نسبة إلى مدينة هراة. ولألوان العمائم مناسبات، فهارون الرشيد كان يلبس العمامة السوداء المصنوعة من الخز في المجالس العامة. وتعددت أشكال العمائم بتعدد من يلبسها، فالرصافية هي العمامة ذات الطيات العمودية نسبة للرصافة. والكردية (الكرسية) عصائب من الصوف الطويلة تلف حول الرأس. والكوفية قطعة القماش المربعة بألوان عدة ومرقطة. والعلويون في الأهوار يلبسون الشماغ الأخضر ليميزهم عن باقي الناس للدلالة على أنهم من سلالة الرسول.
وفيما يخص لبس الشماغ الأحمر، تشير الروايات إلى ارتباطه قديماً بنجد وقبائل الشمال، وأكثر أعلامها حمر. ويقول الشيخ العلامة عبد القادر شيبة محقق كتاب «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» بأن رجال أهل نجد والمملكة العربية السعودية عموماً يلبسون الشماغ الأحمر، فهم يعتبرون لبس الشماغ الأحمر رمزاً للقوة والشجاعة وعدم الاكتراث بالموت. ويروي الشيخ شيبة أن الشيطان جاء يوم بدر إلى كفار قريش بهيئة رجل نجدي يلف العصابة الحمراء (الشماغ) على رأسه ليحرض الكفار على قتال المسلمين، وذلك لقناعة المشركين آنذاك بأن هذا الرجل النجدي الشجاع الذي لا يهاب الموت سوف يقاتل معهم فلم لا يقاتلون وهم أولى بالقتال.
أما «الغبانة»، التي هي نوع من أنواع العمائم الملونة فتلبس في الحجاز. وهي أحد أهم الموروثات القديمة؛ وتحكي كتب التاريخ أن «الغبانة» من الكلمة «ياباني»، نسبة إلى اليابان، لأنه كان يأتي مطرزا غالباً من اليابان. ولكن ثمة رأي آخر يقول إن الملابس أحياناً تسمى بناء على طريقة الاستخدام لا المنشأ. فـ(العمامة) مرسلة الذوائب للوجاهة عموماً و(العمة) تكون ملفوفة على الرأس للعمل عند أهل البحر والزراعة.
و«البقشة» إذا كان سيجمع فيها أغراضه ويربطها ويحملها على كتفيه كبديل عن الحقيبة. و(الغبانة) إذا كان سيحتزم بها الرجل ليرفع الثوب عن الأرض تغبن الثوب أي تقصره، فالغبن يكون بطي الثوب مؤقتا بحبل أو حزام. وأما الخبن فهو طي الثوب طياً نهائياً.
ومع مر الزمن، أصبح يطلق على العمة غبانة وعلى الغبانة بقشة. وقد تميزت منطقة الحجاز بوفرة الأقمشة، خصوصاً تلك التي كان يجلبها الحجاج معهم من الهند وجنوب شرقي آسيا، ما يجعل أشكالها متعددة وألوانها مختلفة.
وعن دلالة الملابس يقول الأديب سليمان فيضي في مذكراته نقلاً عن لسان الملك عبد العزيز: «وقد أقسم الملك عبد العزيز أن لا يلبس العقال المقصب حتى يثأر من خصمه. وبقي يرتدي العقال الأسود حتى اليوم الذي حملوا إليه ختم خصمه بعد مقتله، حينئذ نادى: ائتوني بعقال مقصب. فلما أحضروه وضعه على رأسه فيما صدحت الهتافات والأهازيج». والعقال المقصب الذي ذاع صيته بعد أن لبسه الملك عبد العزيز، ثم لبسه الملكان سعود وفيصل الذي كان آخر من لبسه وهو ملك. ولبسه أيضاً الملك فهد والملك عبد الله قبل توليهما الحكم، وكذلك الأمير سلطان رحمهم الله وغيرهم من الأمراء... لطالما كانت ملابس الشعوب تاريخها.
- كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».