الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)
أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)
TT

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)
أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر. وسمع كثيرون وقرأوا ما قاله رواد مواقع التواصل الاجتماعي السعوديون خلال نقاش عن أصل بعض الأزياء المنتشرة في بلادهم المترامية الأطراف، علماً بأن الملبس كمخرج نهائي تشكله عوامل مختلفة عدة كالطقس والطبيعة والمهنة والمعتقد والعادات والتقاليد والشخصية والجسم الذي سيملأه والبشرة والعمر وغير ذلك… وصولاً إلى المناسبة، وبالطبع، من دون إهمال الأسباب الأولية كالوقاية والستر.
ولقد تحول الملبس إلى لغة بصرية، فهو جزء من نظام التواصل غير اللفظي. ولغته ترتبط بمضامين متنوعة كالسياسة والاقتصاد والثقافة والفن والجمال وتكثر المدارس وتتعدد النظريات التي تحاول أن تشرح نشأة الملابس.
ويقول عالم الاجتماع الإنجليزي هربرت سبنسر في منتصف القرن التاسع عشر: «لم تنشأ الملابس للوقاية من برد ولا طلباً للحشمة، بل لسبب مختلف تماماً. في المجتمعات البدائية، بعد أن كان الصياد الماهر يصطاد فريسته، لم تكن له وسيلة للتعبير عن مأثرته والتباهي بإنجازها أمام الجماعة أفضل من أن يسلخ الطريدة الصريعة ويغطي جسده بفروها أو جلدها، لكي يستعرض تفوقه على أقرانه الأقل مهارة وقوة، في شكل صارخ ساطع جلي أمام الجميع».
ويخلص العالم الإنجليزي إلى أن «الطبقات الأدنى طالما سعت للترقي عبر تقليد سمات الطبقات الأعلى وعلاماتها المميزة». وهذه النظرة الخاصة لسبنسر في التقليد والترقي، سبقه إليها ابن خلدون بقوله في مقدمته «إن المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده». أما الفيلسوف الألماني جورج سيميل فيفسر ظاهرة الملبس بثنائية «الجذب والدفع»، أي بالانجذاب لطبقة ما (عادة الطبقة الأعلى) والتبرؤ من طبقة أخرى (عادة الأدنى)، عن طريق تقليد الموضة. وكلما زاد تقارب الطبقات زادت حدة ظاهرة الموضة.
وتعد الملابس سجلاً يحفظ بين طياته تاريخ الشعوب، ومؤشراً مهماً للجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي تاريخنا نجد الكثير من التحولات في هذا الخصوص. ويمتد تأثير الملابس إلى مساهمتها في تشكيل صورة الشخص أو الجماعة أمام الآخرين. كما تعطي (الملابس) دلالات على حالات نفسية مؤقتة، كالحزن (بلبس الأسود حداداً على ميت) أو الفرح (بلبس الملون).
وفي استخدامها الحالي، لم تعد الملابس تنتج لنفس الأسباب التي أدت إلى ابتكارها في أزمنة سابقة. فعلى سبيل المثال، كانت الكعوب والتنانير في الأصل للذكور. وفي الحضارات القديمة، كانت تصاميم الأزياء تنطلق من أشكال التنانير الهادلة بسبب سهولة خياطتها من ناحية ومن ناحية ثانية، بسبب سهولة الحركة فيها. واشتهرت التنورة كثيراً كزي عسكري لجنود الإمبراطورية الرومانية.
ولم يظهر الكعب العالي ذاته فجأة في القرن السادس عشر. فالذكور هم أول من انتعلوه لكي يستفيدوا منه في ركوب الخيل، فمتى ثبت الكعب في الركاب ثبتت وضعية الخيال. إلا أن الكعوب كصيحة وموضة درجها الملك لويس الرابع عشر تعويضاً عن قصر قامته. ثم راح نبلاء بلاطه يقلدونه لمجاراته ومسايرته، غير أنهم التزموا بتوجيهات الملك إياه، أن تقل أطوال كعوب أحذيتهم عن ارتفاع كعب حذاء الملك.
- البنطلون… رأفة بالجميع!
بدأت رحلة تطور البنطلون مع القديس بانتليون حامي مدينة فينيسيا، واسمه باليونانية يعني «الرأفة للجميع». وطرأت عليه بتطورات كثيرة وكان مثار سخرية في البداية. والحق أن الشاعر والمسرحي الإنجليزي ويليام شكسبير هو الذي منح الاسم لهذا الزي في ملهاته «على ذوقك» (As you like it). وكان استعار إحدى شخصياتها «بنتالوني» من الكوميديا ديلارتي الإيطالية وجعله يرتدي بنطلوناً وهكذا يقال إنه درج. أما الجينز فمنسوب إلى جنوى الإيطالية وقد صممه الخياط المهاجر ليفي ستراوس خصيصاً لعمال المناجم، حين استبدل قماش القنب بقماش الدنيم، ودق في أطرافه عند نقاط معينة مسامير لكي يتحمل ثقل معدات العمال آنذاك.
وقبل ذلك بكثير، بدأ استخدام البنطلون (السروال) بسبب برودة الطقس وركوب الخيل، من الساموراي في اليابان إلى الرعاة الرحل في منغوليا. لكن أول ظهور مسجل للسروال يعود إلى القرن السادس قبل الميلاد وكان يرتديه الخيالة في بلاد فارس وشرق ووسط آسيا.
اليونانيون القدماء من جهتهم، رفضوا السروال وترفعوا عنه لأنه كان سخيفاً يشبه الكيس. والأمر نفسه ينطبق على الرومان الذين احتقروا السروال لأنه كان يرتبط بالبرابرة. ولكنهم، مع توسع إمبراطوريتهم، استسلموا للراحة والدفء اللذين يوفرهما البنطلون. وفي تطوير القصات وتفاصيل أخرى، يعود الفضل إلى الملك الإنجليزي إدوارد السابع، ابن الملكة فيكتوريا، في إضافة ثنية الساق، إذ طلب تصميماً خاصاً يمكنه من ارتداء البنطلون في الأيام الماطرة من دون أن يتبلل طرفه أو يتسخ!
واستكمالاً لسرد التطورات في مكونات الملابس وأجزائها، استغرق تطوير السحاب أو الزمام أو السوستة، الذي كان يستخدم أساساً لإغلاق الجزمات، أكثر من خمسة عقود ليتحول إلى السحاب كما نعرفه حالياً في 1914.
- الملابس الجاهزة وما سبقها
بقيت التطورات على حالها حتى حصلت ثورة حقيقية في عالم الأزياء، مع ظهور ما يسمى بـ«الملابس الجاهزة»، فمنذ خمسينات القرن العشرين انتشرت فروع المحلات الكبرى والماركات والبراندات في جميع أنحاء العالم، ومن ثم بدأت المجتمعات تشهد ظهوراً قوياً للمشاهير من ممثلين ومغنين أثر على سوق الأزياء والموضة وانتشارها.
عوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية دفعت إلى تشكيل موضة عالمية، رغم بقاء مناطق عدة متمسكة بعاداتها وتقاليدها في الملبس. ففي روسيا، كان للسياسة أثرها على اللبس وبخاصة مع بداية بطرس الأكبر في تنفيذ إصلاحات في شتى المجالات بأواخر القرن السابع عشر. وهو شرع في ذلك إثر عودته من جولة في أوروبا استمرت 18 شهراً شهد فيها مدى التقدم الذي أحرزته الدول الأوروبية. وقرر أنه سيجعل من بلاده نسخة طبق الأصل عن أوروبا. وبدأ بإصدار فرمان ألزم كل الرجال بحلق لحاهم وفرض غرامة باهظة على كل من لا ينفذ هذا الأمر. ولم يتوقف عند فرمان اللحية، فما لبثت أن تلته تبعتها فرمانات أخرى تأمر الجميع، رجالاً ونساءً، بنبذ الرداء الروسي التقليدي واستبداله بأزياء ألمانية ومجرية.
وبالمثل، شهدت أواخر الحكم العثماني عملية تغيير كبيرة في الملابس، عندما تخلت النخب التركية عن الملابس التقليدية وشرعت في ارتداء الثياب الأوروبية. وكانت السلالة الخديوية أولى النخب العربية الحاكمة التي تبنت اللباس الأوروبي الغربي، وحذت حذو السلطان العثماني محمود الثاني.
- الأزياء والثقافات والتقاليد
لطالما شكلت الأزياء طرقاً تعبيرية وصوراً جمالية تحمل كل منها في ثناياها سرديات ثقافية واجتماعية. وقد خضعت الملابس في تاريخها لعوامل أساسية، من أهمها مدى ملاءمتها ظروف المكان أو الموقع الجغرافي والتقاليد. فطبيعة الجلوس أرضاً فرضت الملابس الطويلة والفضفاضة للجنسين. والملابس في المنطقة الوسطى من الجزيرة العربية تتسم بالأكمام الواسعة التي تسمح بدخول الهواء، وفي جبال السروات يرتدي الأفراد ملابس مناسبة للعمل الزراعي.
ويلتبس على كثيرين الفرق بين الملابس الأثرية والتراثية والشعبية رغم صعوبة التفريق أحياناً بين الأخيرتين. فالملابس الاثرية هي الملابس التي لم يعد لها وجود سوى في الرسوم الأثرية والنقوش على الصخور وجدران الكهوف، أو تلك الموصوفة في الكتب، ولكنها ليست موجودة ولم تعد تصنع. والملابس التراثية هي الملابس التي كانت تلبس في حقبة من الزمن في منطقة معينة وشكلت هوية هذه المنطقة. والملابس الشعبية هي مجموعة ملابس مقتبسة من عدة شعوب ومناطق. ويمكن أن يكون الزي شعبياً مستوحى من التراث الشامي أو المصري، لكنه لا يمثل هوية المنطقة.
فعلى سبيل المثال، العقال تظهر الدلائل القديمة لارتدائه بشكله الحالي في شمال الجزيرة العربية في أوائل القرن الثامن عشر في البدايات المبكرة للعصر الحديث. ويبدو أن ارتداء العقال والغترة/ الشماغ انتشر من وسط وشمال الجزيرة العربية ومنها إلى بقية العرب في آسيا. ويقول الباحثان بروس إنغم ونانسي لندسفارن - ترابر إن العقال كان يتميز به العرب ذوو الثقافة البدوية داخل الجزيرة العربية، من وسطها إلى شمالها، بينما امتاز العرب الحضر في مناطق محدودة من ضفتي الخليج العربي، وفي الحجاز واليمن والشام ومصر وأفريقيا، بارتداء العمامة.
يختلف شكل العقال ليدل على صاحب البلد في الخليج العربي. فمثلاً العقال المهدب المكتل يدل على الرجل القطري، أما العقال الصغير فيدل على الرجل الكويتي. والأبيض يرتديه أمراء قبيلة ربيعة في العراق سابقاً وكذلك العلماء في الجزيرة العربية. والمقصب وهو العقال الحجازي المضلع ويرتديه في الغالب الأعيان والأمراء. وسمي بالمقصب لأنه يقصب بخيوط ذهبية أو فضية. والعقال الديري نسبة لدير الزور يكون غليظاً من قطعة واحدة متصلة مجزأة بفواصل. ويذكر أن العقال المقصب موجود منذ العهد العباسي وكان من خمس طبقات ومزخرفا باللون الأحمر.
أما الشماغ فيرجع الباحثون ظهوره إلى حقبة السومريين حيث كانوا يضعون على رؤوسهم قطعة من القماش. فأول من ارتدى الشماغ كان الحاكم السومري كوديا في الفترة 2146 – 2112 ق.م. ويقال إن أصل كلمة شماغ تعود إلى لفظ «اش ماخ» بالسومرية أو اش ساخ أي غطاء الرأس. ورسمة الشماغ هي عبارة عن عيون شباك الصيد الموشح بخطوط عريضة في جوانبه وهي متموجة تشبه أمواج مياه الأهوار. وفي حافته، خطوط ورسوم سود تمثل زعانف الأسماك التي اعتقد السومريون بأنها تطرد الأرواح الشريرة، وفي سياق آخر، تعبر عن سنبلة القمح والحنطة للاستبشار بالخير.
وقيل إن العمائم هي تيجان العرب. وقد اعتمر النبي محمد العمامة البيضاء والخضراء والسوداء. وارتدى سادة العرب العمائم المهراة الصفر نسبة إلى مدينة هراة. ولألوان العمائم مناسبات، فهارون الرشيد كان يلبس العمامة السوداء المصنوعة من الخز في المجالس العامة. وتعددت أشكال العمائم بتعدد من يلبسها، فالرصافية هي العمامة ذات الطيات العمودية نسبة للرصافة. والكردية (الكرسية) عصائب من الصوف الطويلة تلف حول الرأس. والكوفية قطعة القماش المربعة بألوان عدة ومرقطة. والعلويون في الأهوار يلبسون الشماغ الأخضر ليميزهم عن باقي الناس للدلالة على أنهم من سلالة الرسول.
وفيما يخص لبس الشماغ الأحمر، تشير الروايات إلى ارتباطه قديماً بنجد وقبائل الشمال، وأكثر أعلامها حمر. ويقول الشيخ العلامة عبد القادر شيبة محقق كتاب «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» بأن رجال أهل نجد والمملكة العربية السعودية عموماً يلبسون الشماغ الأحمر، فهم يعتبرون لبس الشماغ الأحمر رمزاً للقوة والشجاعة وعدم الاكتراث بالموت. ويروي الشيخ شيبة أن الشيطان جاء يوم بدر إلى كفار قريش بهيئة رجل نجدي يلف العصابة الحمراء (الشماغ) على رأسه ليحرض الكفار على قتال المسلمين، وذلك لقناعة المشركين آنذاك بأن هذا الرجل النجدي الشجاع الذي لا يهاب الموت سوف يقاتل معهم فلم لا يقاتلون وهم أولى بالقتال.
أما «الغبانة»، التي هي نوع من أنواع العمائم الملونة فتلبس في الحجاز. وهي أحد أهم الموروثات القديمة؛ وتحكي كتب التاريخ أن «الغبانة» من الكلمة «ياباني»، نسبة إلى اليابان، لأنه كان يأتي مطرزا غالباً من اليابان. ولكن ثمة رأي آخر يقول إن الملابس أحياناً تسمى بناء على طريقة الاستخدام لا المنشأ. فـ(العمامة) مرسلة الذوائب للوجاهة عموماً و(العمة) تكون ملفوفة على الرأس للعمل عند أهل البحر والزراعة.
و«البقشة» إذا كان سيجمع فيها أغراضه ويربطها ويحملها على كتفيه كبديل عن الحقيبة. و(الغبانة) إذا كان سيحتزم بها الرجل ليرفع الثوب عن الأرض تغبن الثوب أي تقصره، فالغبن يكون بطي الثوب مؤقتا بحبل أو حزام. وأما الخبن فهو طي الثوب طياً نهائياً.
ومع مر الزمن، أصبح يطلق على العمة غبانة وعلى الغبانة بقشة. وقد تميزت منطقة الحجاز بوفرة الأقمشة، خصوصاً تلك التي كان يجلبها الحجاج معهم من الهند وجنوب شرقي آسيا، ما يجعل أشكالها متعددة وألوانها مختلفة.
وعن دلالة الملابس يقول الأديب سليمان فيضي في مذكراته نقلاً عن لسان الملك عبد العزيز: «وقد أقسم الملك عبد العزيز أن لا يلبس العقال المقصب حتى يثأر من خصمه. وبقي يرتدي العقال الأسود حتى اليوم الذي حملوا إليه ختم خصمه بعد مقتله، حينئذ نادى: ائتوني بعقال مقصب. فلما أحضروه وضعه على رأسه فيما صدحت الهتافات والأهازيج». والعقال المقصب الذي ذاع صيته بعد أن لبسه الملك عبد العزيز، ثم لبسه الملكان سعود وفيصل الذي كان آخر من لبسه وهو ملك. ولبسه أيضاً الملك فهد والملك عبد الله قبل توليهما الحكم، وكذلك الأمير سلطان رحمهم الله وغيرهم من الأمراء... لطالما كانت ملابس الشعوب تاريخها.
- كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».