وما أدراك ما الإدراك؟!

الخوارزميات ستستحيل روبوتات وآلات فائقة الذكاء من حيث القدرة على التحليل والمتابعة وتقديم البدائل (إ.ب.أ)
الخوارزميات ستستحيل روبوتات وآلات فائقة الذكاء من حيث القدرة على التحليل والمتابعة وتقديم البدائل (إ.ب.أ)
TT

وما أدراك ما الإدراك؟!

الخوارزميات ستستحيل روبوتات وآلات فائقة الذكاء من حيث القدرة على التحليل والمتابعة وتقديم البدائل (إ.ب.أ)
الخوارزميات ستستحيل روبوتات وآلات فائقة الذكاء من حيث القدرة على التحليل والمتابعة وتقديم البدائل (إ.ب.أ)

ما الإدراك؟! ما كُنهُهُ...؟! ما حقيقته؟ ما أماراته؟ ما أثره؟! هل تعريفه مسألة حاكمة في حياة الإنسان على الأرض... أم أنها تهويمات فلسفية لا بأس بها أن تقبع في رؤوس أصحابها أو في دوائر الجدل المرسل وتظل هناك بلا أمل يرجى أو بأس يتقى؟!
ما مدى محورية تعريفه في توجيه حياتنا أخلاقياً واجتماعياً ودينياً واقتصادياً وقانونياً وسياسياً؟! هل يستطيع أو استطاع أحد أن يقطع بتعريف كنه الإدراك؟ هل هو الملاحظة؟ هل هو المشاهدة... والقدرة على الرصد؟
هل هو القدرة على التمييز اللوني أو البيولوجي؟ هل هو الشعور والقدرة على التقييم؟ هل هو المعاناة؟
البحث في كنه الإدراك ليس قضية علمية أو فلسفية وكفى... ولا ينبغي لها أن تكون... لأنها قبل ذلك قضية ذات أثر عميق مباشر على توجهاتنا واختياراتنا وقراراتنا القانونية والسياسية وقبلهما الأخلاقية.
فمن قطع أو أراد أن يقطع بأن الإدراك هو الملاحظة أو القدرة على الرصد... فإن كاميرا التصوير الفوتوغرافي والسينمائي قادرة على الملاحظة والرصد...!
ومن أراد الإدراك هو القدرة على التمييز... فإن عدسات المراقبة الإلكترونية المزودة بخوارزميات الذكاء الاصطناعي قادرة وبدقة فائقة على تمييز الأوجه البشرية وتفاوت الألوان والملامح، ومدى تطابق أو اختلاف صور الكائنات والمخلوقات من جماد وحيوان وإنسان.
ومن ظن أن الإدراك هو الشعور والحساسية والقدرة على التقييم... فإن ترموستات الحرارة قادر بلا خطأ أن يشعر بدرجة الحرارة ويقيمها ويسجلها... ومرة أخرى بربطه بخوازميات لتحليل البيانات يستطيع أن يقدم رأياً داعماً في صنع القرار عن التغير المناخي وتداعياته على المستوى البيئي... وفي سياق الاختراق الصناعي والميكنة في حياة البشر - من أبسط الآلات المنزلية اليومية، إلى وسائل انتقالهم، إلى المدن الهائمة في الفضاء من المحطات المدارية ومركبات الفضاء - يستطيع أن يصدر أحكاماً قاطعة عن حال تلك الآلة وقدرتها على الأداء.
إن علم القياس والتحكم قائم على الرقائق الإلكترونية ذات القدرة على القياس والتعيير... ولكن الرقائق بحساسيتها الفائقة تبقى قطعاً صماء أصلها من رمل.
أما الآن وفي الفتح الإنساني الجديد في علم الذكاء الاصطناعي... ونحن ننتقل وبسرعة مذهلة بين عالمين في ذاك المجال... من تكنولوجيا الجيل الخامس إلى تكنولوجيا الجيل السادس في أقل من خمس سنوات من الآن... والفارق لو تعلمون عظيم...!!
فإن كانت تكنولوجيا الجيل الخامس هي ما أفاض علينا فتوحات علمية معروفة بإنترنت الأشياء وذروة سنامها السيارات ذاتية القيادة... وخوارزميات تحديد توجهات الرأي والاختيار لدى البشر بناء على سلوكهم الرقمي على هواتفهم وحواسيبهم وغيرها، إلى درجة التنصت على ما ينبس به الإنسان من بنت شفة حول أمر بعينه، فيتحول إلى كلمة مفتاحية لتلك الخوارزمية، التي ما تلبث أن تمطر هاتفه وحاسبه بمئات الإعلانات والمعلومات عن ذاك الموضوع الذي قاربه في حوار أسَرّ به لبعض أصحابه، أو حدث به نفسه ولكن بصوت عالٍ... إلى تكنولوجيا الجيل السادس وفتح الآلات ذاتية التعلم، التي ستجعل القسمة في المستقبل القريب ليست بين بشر أذكى وبشر أقل ذكاء... ولكن بين آلات مهيمنة بذكائها وبشر ينافح محاولاً أن يبقى على قدرته على منافستها في بعض مجالات عمل يزاح منها بالكلية... ولتتحول مأساة البشر من المعاناة من الاستغلال... استغلال البشر للبشر... إلى فقدان الدور والهامشية في الحياة.
وعليه... فإن قضية الإدراك وكنهه ستكون هي القضية الحاكمة أخلاقياً وقانونياً وسياسياً...!
فهل السيارة ذاتية القيادة... وهي القادرة على الرصد والتوقع ورد الفعل والمناورة في كل ما يواجهها في مسارها... كائن مدرك واعٍ... أم كائن أصم؟ على أي قاعدة فلسفية وأخلاقية نسن قانوناً يجرم أو لا يجرم ما ينتج عن حادث تسببت فيه تلك المركبة ذاتية القيادة فحطمت أو أصابت أو قتلت...؟! من نعاقب وعلام وعلى من يحتسب المجتمع لكي يقر العدل...؟
تلك الخوارزميات التي ستستحيل روبوتات وآلات فائقة الذكاء من حيث القدرة على التحليل والمتابعة وتقديم البدائل في ضوء كلمة مفتاحية أو كلمات تنم عن موضوع ما... على من نحتسب إن هي أضلت وساقت طفلاً أو مراهقاً أو حتى رجلاً أو امرأة كاملي النضج، فأودت بهم أو بمقدراتهم أو بثرواتهم أو بحياتهم... ممن يقتص المجتمع... وعلى أي قاعدة عدل يحيا...؟
في وسط هذا التيه، أتت المقاربات الفلسفية نحو تعريف كنه الوعى والإدراك على وجه من ثلاثة أوجه...
أولها... يقرر أن معرفة كنه الوعى والإدراك أمر مستحيل، ولن يستطيع العقل البشرى سبر غوره على أي نحو كان. ثانيها... يقدم قائمة من التصورات القاصرة - أسلفناها - على كون الوعي والإدراك هما المشاهدة المجردة أو الملاحظة غير المنحازة وغير المؤهلة لإصدار أحكام، أو البعد الشعوري والتقويمي للملاحظة... وقد أثبتنا قصورها بل تهافتها بما سقناه من أمثلة.
ثالثها... وأكثرها منطقية... هو ما يؤكد أن «الإدراك هو صنو المعاناة»... فالمعاناة النفسية أو الجسدية هي عنوان الإدراك ودلالته ومنطلقه وأثره... ولكن يبقى لهذا الوجه تحديان واجبا النقاش.
فمن ساقوا هذا الوجه لتعريف الوعي والإدراك... وقد لا يجانبهم الصواب في بعض أطروحتهم... حين يدللون على استقامة طرحهم بأن ما يفرق بين البشر والآلة القادرة على الرصد والمشاهدة أو تلك القادرة على قياس الحرارة... هو مردود ذلك على البشر وعلى إنسانيته... ما يفرحه وما يحزنه... ما يسوؤه وما يؤلمه... وما يشد عضده... ما يوجعه... ما يخيفه... ما يطمئنه... ذاك ما يجعل من الإنسان فاعلاً سياسياً وأخلاقياً... وإلى هنا قد لا نختلف في كثير.
ولكن ما يذهب إليه بعض من هؤلاء بُغيَة تغريب الوحي أو تضحيل دوره في تسيير حياة البشر وترقيها... بأنه، وإن جزمنا بأن الوعي هو صنو المعاناة... وأن المعاناة ليست بالضرورة هي الوجع، ولكنها رغبة الإنسان في تغيير واقع ما إلى واقع أفضل... قد يكون من واقع ألم ووجع إلى واقع مهادنة وسكون... أو من واقع رحب جيد إلى واقع أكثر رحابة وجودة... أو إلى إحراز متعة حسية ونفسية على نحو ما... فإن مصدر تعريف الأفضل والأجود وما يورث السكينة وما يورث النعيم والمتعة، هو ما فيه الاختلاف...!
فإن أتى تعريف الاستقامة والاعوجاج، في قديم من وحي السماء (أو هكذا كان يظن القدماء في زعم هؤلاء المحدثين)... فما لبث أن حلت سلطة الدولة محل السلطة الإلهية... وأخيراً فقد صار ما يقرر طبيعة المعاناة ونوع النجاة منها لا وحي السماء ولا سلطة الدولة ولكن سلطة الضمير الفرد.
والضمير الفرد هو ما يقرر إلى أي مدى يكون الفعل آثماً أو صالحاً بمدى المعاناة التي يوقعها بغيره... ويذهب هؤلاء إلى صك ما يسمونه «جرائم اللاضحايا»...!
ففي عرف هؤلاء، المثلية والشذوذ الأخلاقي مثلاً... هما فعل اختيار وتراض لا يخرج أثره (في عرفهم) معاناة على أي نحو إلى المجتمع... فهو فعل بين أطرافه... وبمثلها أي جريمة يعدها الوحي (الدين) أو العرف أو سلطة الدولة جرائم، في حين أن ضمير فرد يستطيع تصنيفها في إطار جريمة اللاضحية (أي جريمة لا ضحايا لها)... فهو فعل طبيعي مستقيم... بل مستحسن...!!
وينطلق هؤلاء إلى «تعريف الوعي والإدراك على كونه القدرة على المعاناة»... ويكون إنفاذ أثره سياسياً وأخلاقياً وقانونياً على نحو ما ينتهى إليه الضمير الفرد... وقد تسرب هذا الفهم ولم يزل إلى كثير من القضايا الكبرى التي تزلزل المجتمع الإنساني برمته وتنذر بسوء عاقبة.
قد لا نختلف مع من يذهبون إلى أن الوعي والإدراك ظاهره هو صنو المعاناة... ولكن ما نجزم به أن جوهره ما زال وسيظل مستغلقاً... ففهمنا لمنشأ المعاناة ومدرج نضجها وتعاظمها وما تمليه على النفس من أثر سيظل تعريفه من ضروب المستحيل.
لأن كل ما يقارب حقيقة لماذا تنشأ المعاناة... ولما تتعاظم في نفس وتهون في أخرى... وكيف تكون أطوارها في نفس واحدة لشخص واحد تأرجحاً بين التسامي والانحطاط بين النفس الأمارة بالسوء... إلى النفس اللوامة... إلى النفس الزاهدة المطمئنة... هو من أمر الروح...!
وهو ما قدره أن يبقى مستغلقاً علماً وفلسفة إلى أن يكون أمر ربي بإزالة الحجب.
ألم نقل إن العلم والوحي والفلسفة هي قوائم استقرار الفكر الإنساني... في تكاملها تمام نضجه وترقيه... وفي إقحام تنافر بينها إقحام لعنت إنساني ثقيل، وهدر لأعمارها سدى.
فَكرُوا تَصحُوا...
* كاتب ومفكر مصري


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


خط الفقر يلتهم السوريين ولا انفراجات اقتصادية بلا مسار سياسي

عروض على المواد الغذائية وليس هناك من يشتري (الشرق الأوسط)
عروض على المواد الغذائية وليس هناك من يشتري (الشرق الأوسط)
TT

خط الفقر يلتهم السوريين ولا انفراجات اقتصادية بلا مسار سياسي

عروض على المواد الغذائية وليس هناك من يشتري (الشرق الأوسط)
عروض على المواد الغذائية وليس هناك من يشتري (الشرق الأوسط)

مع تشكيل الحكومة السورية الجديدة برئاسة محمد الجلالي، تصدرت مسألة تحسين الأوضاع المعيشية مطالب المواطنين الذين أنهك الفقر غالبيتهم العظمى. وبينما لم يكسر التطور الحاصل، حالة اليأس من حدوث انفراجة، بسبب معاناة الأسر مع الحكومات السابقة، خصوصاً الأخيرة التي وُصفت بـ«حكومة التجويع»، استبعدت مصادر متابعة أن تستطيع الحكومة الجديدة انتشال البلاد من التدهور الاقتصادي الحاد، لأن الأمر مرهون بحصول تقدم على المسار السياسي المجمد، ولأن رئيس الحكومة وأعضاءها «ليسوا أصحاب قرار»، بل مجرد «موظفين» ينفّذون قرارات السلطات العليا.

مهمة مستحيلة

يأتي تشكيل الحكومة الجديدة في وقت تعاني فيه كل القطاعات في مناطق الحكومة السورية من تدهور ينحدر بشكل يومي إلى قعر جديد، ومن تفاقم الفساد، وتعمق الفقر والجوع وازدياد نسبتهما.

وتقول مهندسة تقطن وسط دمشق: «فقدنا القدرة على التحمل. وأحياناً تفوق وجبة البيض قدراتنا».

وتشهد الأسواق حالة انكماش غير مسبوقة رغم حصول تخفيضات بنسبة 20 إلى 50 في المائة على كثير من المواد الأساسية والغذائية منذ نحو أسبوعين أو أكثر حسبما رصدت «الشرق الأوسط».

لكنَّ صاحب بقالية في منطقة الزاهرة جنوبي دمشق، يؤكد أنه «لا يوجد إقبال على الشراء، لأنه لا توجد سيولة بين الناس التي تسعى لتأمين الخبز».

طفلان يفترشان الشارع في أحد أحياء جنوب دمشق (الشرق الأوسط)

محمد، وهو من سكان حي «دف الشوك» شرقي دمشق، يقول: «لا كهرباء، وتأمين الماء يحتاج إلى مرتب موظفَين اثنين، وأسطوانة الغاز باتت تصل كل 90 يوماً... هذه ليست عيشة. يجب تأمين الحد الأدنى من الخدمات الأساسية».

وما زاد الأوضاع سوءاً، تجدُّد أزمة المواصلات منذ ثلاثة أسابيع، بسبب توقف محطات الوقود عن تزويد حافلات النقل الخاصة بمادة المازوت نتيجة النقص الحاد.

ويؤشر إلى ذلك مشهد تجمع الحشود في مواقف الحافلات، وانتشار أعداد كبيرة في الشوارع الرئيسية عائدين إلى منازلهم سيراً على الأقدام.

«الحكومة مشكورة أوصلتنا إلى هذا الحال»، يقول موظف لـ«الشرق الأوسط» وهو عائد مشياً من مكان عمله في وسط دمشق. ويوضح: «عدا عن الانتظار الطويل، الركوب في حافلة يحتاج إلى خوض معركة بسبب الازدحام». ويلفت إلى انقطاع كثير من زملائه عن العمل بسبب ندرة المواصلات، وبعضهم لعدم توفر أجور النقل لديهم، بينما يؤكد سائق حافلة توقف غالبية أصحاب حافلات النقل عن العمل لعدم توفر المازوت.

أول رئيس حكومة من الجولان

وبعد عشرة أيام من تكليف الجلالي، خلفاً لرئيس الوزراء السابق حسن عرنوس، صدر مرسوم رئاسي بتشكيلة الحكومة الجديدة. ومن أبرز التغييرات تعيين نائب وزير الخارجية والمغتربين بسام الصباغ وزيراً للخارجية، خلفاً للوزير فيصل المقداد الذي أصبح نائباً لرئيس الجمهورية، ومفوضاً بمتابعة تنفيذ السياسة الخارجية والإعلامية في إطار توجيهات رئيس الجمهورية.

رئيس الوزراء السوري الجديد محمد غازي الجلالي (الإخبارية السورية)

والجلالي، وفق معلومات «الشرق الأوسط»، يتحدر من قرية «راوية» إحدى قرى هضبة الجولان السورية المحتل، وتنتمي عائلته إلى عشيرة «الهوادجة» العربية، وهو أول شخصية تنحدر من الجولان يتم تكليفها بتشكيل الحكومة في عهدَي الأسد الأب والأسد الابن.

وبعد نكسة يونيو (حزيران) عام 1967، نزحت عائلة الجلالي إلى دمشق، واستقرت في القسم الشرقي من حي التضامن جنوب دمشق، حيث ترعرع في الحي ودرس في مدارسه، وتمكن والده غازي الجلالي بحكم عمله أمين فرقة في «حزب البعث» من الحصول على إيفاد خارجي لابنه الوحيد على نفقة الحزب لمتابعة تحصيله العلمي العالي في جامعة مصرية، وذلك بعد حصوله على إجازة في الهندسة المدنية من جامعة دمشق عام 1992.

وإثر اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، نزحت عائلة الجلالي أواخر العام نفسه من حي التضامن، وسكنت في «مدينة البعث» بمدينة القنيطرة، في حين بقي الجلالي يقيم في دمشق.

والجلالي من ضمن 45 اسماً اختارهم الرئيس بشار الأسد ليكونوا أعضاء في اللجنة المركزية لـ«حزب البعث» خلال انتخابات الحزب الأخيرة في مايو (أيار) الماضي، بعدما أفرزت نتائج الانتخابات 80 عضواً.

وفي يوم تكليفه، أعاد الجلالي نشر مقولة كان قد نشرها العام الماضي على صفحته الشخصية في موقع «فيسبوك» لفردريك باستيا، المنظِّر الليبرالي الكلاسيكي والاقتصادي السياسي الفرنسي، الذي يعد من أنصار المذهب الحر في الاقتصاد، وعاش في القرن التاسع عشر، وقال فيها: «ليس هناك إلا فارق واحد بين الاقتصادي الجيد والاقتصادي السيِّئ، وهو أنَّ الاقتصادي السيِّئ يقصر نفسه على التأثير المرئي. أما الاقتصادي الجيد فيأخذ في حسبانه معاً التأثير الذي يُمكن أن يُرى وتلك التأثيرات التي يجب التنبؤ بها».

محل ألبسة رجالية وسط دمشق (الشرق الأوسط)

تباين في الآراء والأرقام

وعلى أن الشارع متفق اليوم على ضرورة إحراز تقدم ولو بسيطاً على مستوى الخدمات الأساسية إلا أن التعيين الجديد أُحيط بآراء متباينة كثيرة. فقد نشرت صحيفة «صاحبة الجلالة» الإلكترونية المحلية أبرز آراء ومقترحات الجلالي قبل الإعلان عن تكليفه. ومن ذلك على سبيل المثال أن «تدني القدرة الشرائية للمواطن يجعل السكن في المرتبة الثانية ضمن أولوياته، رغم أنه حاجة ماسة. إلا أن حاجة الطعام والشراب اليومية تحتل المرتبة الأولى ضمن تلك الاحتياجات»، و«على الحكومة أن تعزز بداية المناخ الاستثماري من خلال توفير بنية تحتية آمنة للاستثمار».

في المقابل، جاءت تعليقات على منشور «صاحبة الجلالة» تقول: «لن نحكم حتى نرى نتيجة أفعاله لا أقواله. الناس جاعت»، و«نفس أقوال عرنوس، ومن قبله (عماد) خميس ومن قبله (وائل) الحلقي، ونفس أقوال الذي سيأتي بعد الجلالي، وهكذا دواليك، والحال من سيئ لأسوء».

وبقي في الحكومة الجديدة التي تضم 27 وزيراً، 11 وزيراً من الحكومة السابقة منهم وزراء الدفاع والداخلية والأوقاف، في حين دخل 14 وزيراً جديداً بينهم الإعلامي والخبير الاقتصادي زياد غصن، الذي آلت إليه حقيبة وزارة الإعلام، بينما بدل اثنان حقيبتيهما.

موظفون لا أصحاب قرار

مصدر مقرب من دوائر صنع القرار في دمشق، استبعد أن تتمكن الحكومة الجديدة من إيجاد حلول للأزمات الغارقة فيها البلاد. وقال المصدر الذي فضل عدم ذكر اسمه لـ«الشرق الأوسط»: «الأمر لا يتعلق بالأشخاص، القضية هي أن رئيس الوزراء في سوريا والوزراء ليسوا أصحاب قرار. هو أكبر موظف في الحكومة، والوزراء موظفون أيضاً. هم ينفِّذون قرارات تصدر من فوق».

وأضاف المصدر: «قرار استبعاد أكثر من 600 ألف عائلة من الدعم الحكومي الذي جاء ضمن خطط إلغاء الدعم، لم يُصدره عرنوس، وكذلك قرارات رفع الأسعار».

عجوز تجمع النفايات والبلاستيك وسط دمشق (الشرق الأوسط)

ورأى المصدر أن «الانفراج الاقتصادي مرهون بحصول تقدم على المسار السياسي المجمد منذ فترة طويلة»، وقال: «الغرب يطالب بتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254، والدول العربية تطالب بتنفيذ المبادرة العربية للحل في سوريا والمعروفة بـ(خطوة مقابل خطوة)».

ولا شك أن الأمر أكثر تعقيداً من وصول حكومة ذات كفاءة أو لا. فتطبيق القرار الدولي الذي صدر في 2015 يقضي بإجراء انتخابات حرة ونزيهة وانتقال سلمي للسلطة، مرهون أيضاً بالعقوبات الاقتصادية وأولها قانون قيصر الأميركي الذي فُرض في 2020 وكان بداية الانهيار الاقتصادي السريع في البلاد.

وحسب المصدر، حتى بعض الانفراجات القليلة التي لاحت، سواء مع بعض العواصم العربية أو مع أنقرة وكان من شأنها ان تنفِّس الاحتقان المعيشي والاقتصادي داخلياً لم تُترجَم استثمارات فعلية على الأرض.

وعلَّق المصدر على مسألة تزامن تشكيل الحكومة الجديدة مع إشارات من دمشق منذ بداية العام الجاري إلى أنها بدأت عملية إصلاح إداري، شملت الأجهزة الأمنية وتشكيلات عسكرية و«حزب البعث»، بالقول: «(تغييرات) شكلية. هل تم استئصال مافيات الفساد المتحكمة في البلاد؟ وهل تراجعت جرائم القتل والسرقة والخطف؟ الوقائع على الأرض تقول: لا».

وسبق أن كشف وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك السابق عمرو سالم الذي جرت إقالته من حكومة عرنوس في مارس (آذار) 2023، في منشوراته، عن أن الدولة «تخسر مبلغ 38 ألف مليار ليرة كل عام بسبب سرقة الدقيق والقمح والخبز».

تنفيس مدروس

وبعدما تحولت الحكومة السابقة إلى تسيير أعمال، عقب انتخابات مجلس الشعب في منتصف يونيو (حزيران) الماضي، كان لافتاً تصاعُد حدة الانتقادات الموجهة إليها.

وتعليقاً على قرارها أن يحصل المواطن العائد إلى البلاد عبر مطار دمشق الدولي على «شيك» ورقي بقيمة 100 دولار ملزَم بتصريفها قبل دخوله البلاد، على أن يتسلم قيمته لاحقاً من المصارف التجارية بدلاً من الأجهزة الموجودة في المطار، كتبت «صاحبة الجلالة» في منشور: «فيما يخص قرار الشيك للمائة دولار. لماذا نتحدث عنه بصيغة المجهول؟ مَن اقترح هذا القرار؟ ولماذا؟ ومَن وافق عليه؟ حددوا لنا مَن اقترح ومَن وافق؟ ليس كل قرار غبيّ يسجَّل ضد مجهول».

الخبير الاقتصادي عامر شهدا، كتب على صفحته الشخصية على «فيسبوك»: «ما أمنياتكم للحكومة في رحيلها بعد ساعات؟ بالنسبة لي أدعوهم للبكاء على الأطلال التي خلَّفوها».

وأوضحت مصادر متابعة في دمشق، في تفسيرها لأسباب الحملة ضد الحكومة، لـ«الشرق الأوسط»: «أغلبية ما يُنشَر في مواقع أو صفحات موالية خصوصاً ما يتعلق بالحكومة، يأتي بتوجيه من السلطة من أجل التنفيس عن المواطنين».

في 8 مايو (أيار) الماضي، وبعد تقديم عرنوس عرضاً أمام مجلس الشعب حول ما نفَّذته حكومته، نشر شهدا منشوراً مطولاً ناقض فيه ما تضمنه العرض.

سوق باب سريجة وسط دمشق المختص ببيع المواد الغذائية واللحوم والخضار وتبدو فيه حركة المارة ضعيفة جداً (الشرق الأوسط)

وقال: «تمنينا أن نسمع من معاليكم وضعاً مقارناً لنسب الهدر والفساد من عام 2020 لغاية 2024، وأن نسمع وضعاً مقارناً عن انتشار الجريمة والسرقات في المجتمع وانخفاض أعمار الداخلين لسوق الدعارة».

وعرض شهدا ما سمّاها «أرقام الشعب السوري»، منذ تشكيل عرنوس الحكومة عام 2020، وقال: «بفضل شماعة العقوبات وارتفاع الأسعار العالمية وتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد نقدي ريعي، موازنة 2020 بلغت (2.9) مليار دولار، بينما في 2024 أصبحت (2.6) مليار دولار. وسعر الصرف الرسمي في 2020 كان 434 ليرة مقابل 800 في السوق السوداء، بينما في 2024 وصل سعر الصرف الرسمي إلى 13 ألف و500 ليرة».

وحسب الأرقام، ارتفعت تكاليف المعيشة بين 2022 و2023 بحدود 97.9 في المائة، فيما بقي الحد الأدنى للأجور عند راتب يناهز 93 ألف ليرة أي نحو 7 دولارات. وبلغ عدد السكان الذي يحتاجون إلى المساعدة نحو 15 مليون نسمة، 90 في المائة منهم تحت خط الفقر.