وما أدراك ما الإدراك؟!

الخوارزميات ستستحيل روبوتات وآلات فائقة الذكاء من حيث القدرة على التحليل والمتابعة وتقديم البدائل (إ.ب.أ)
الخوارزميات ستستحيل روبوتات وآلات فائقة الذكاء من حيث القدرة على التحليل والمتابعة وتقديم البدائل (إ.ب.أ)
TT

وما أدراك ما الإدراك؟!

الخوارزميات ستستحيل روبوتات وآلات فائقة الذكاء من حيث القدرة على التحليل والمتابعة وتقديم البدائل (إ.ب.أ)
الخوارزميات ستستحيل روبوتات وآلات فائقة الذكاء من حيث القدرة على التحليل والمتابعة وتقديم البدائل (إ.ب.أ)

ما الإدراك؟! ما كُنهُهُ...؟! ما حقيقته؟ ما أماراته؟ ما أثره؟! هل تعريفه مسألة حاكمة في حياة الإنسان على الأرض... أم أنها تهويمات فلسفية لا بأس بها أن تقبع في رؤوس أصحابها أو في دوائر الجدل المرسل وتظل هناك بلا أمل يرجى أو بأس يتقى؟!
ما مدى محورية تعريفه في توجيه حياتنا أخلاقياً واجتماعياً ودينياً واقتصادياً وقانونياً وسياسياً؟! هل يستطيع أو استطاع أحد أن يقطع بتعريف كنه الإدراك؟ هل هو الملاحظة؟ هل هو المشاهدة... والقدرة على الرصد؟
هل هو القدرة على التمييز اللوني أو البيولوجي؟ هل هو الشعور والقدرة على التقييم؟ هل هو المعاناة؟
البحث في كنه الإدراك ليس قضية علمية أو فلسفية وكفى... ولا ينبغي لها أن تكون... لأنها قبل ذلك قضية ذات أثر عميق مباشر على توجهاتنا واختياراتنا وقراراتنا القانونية والسياسية وقبلهما الأخلاقية.
فمن قطع أو أراد أن يقطع بأن الإدراك هو الملاحظة أو القدرة على الرصد... فإن كاميرا التصوير الفوتوغرافي والسينمائي قادرة على الملاحظة والرصد...!
ومن أراد الإدراك هو القدرة على التمييز... فإن عدسات المراقبة الإلكترونية المزودة بخوارزميات الذكاء الاصطناعي قادرة وبدقة فائقة على تمييز الأوجه البشرية وتفاوت الألوان والملامح، ومدى تطابق أو اختلاف صور الكائنات والمخلوقات من جماد وحيوان وإنسان.
ومن ظن أن الإدراك هو الشعور والحساسية والقدرة على التقييم... فإن ترموستات الحرارة قادر بلا خطأ أن يشعر بدرجة الحرارة ويقيمها ويسجلها... ومرة أخرى بربطه بخوازميات لتحليل البيانات يستطيع أن يقدم رأياً داعماً في صنع القرار عن التغير المناخي وتداعياته على المستوى البيئي... وفي سياق الاختراق الصناعي والميكنة في حياة البشر - من أبسط الآلات المنزلية اليومية، إلى وسائل انتقالهم، إلى المدن الهائمة في الفضاء من المحطات المدارية ومركبات الفضاء - يستطيع أن يصدر أحكاماً قاطعة عن حال تلك الآلة وقدرتها على الأداء.
إن علم القياس والتحكم قائم على الرقائق الإلكترونية ذات القدرة على القياس والتعيير... ولكن الرقائق بحساسيتها الفائقة تبقى قطعاً صماء أصلها من رمل.
أما الآن وفي الفتح الإنساني الجديد في علم الذكاء الاصطناعي... ونحن ننتقل وبسرعة مذهلة بين عالمين في ذاك المجال... من تكنولوجيا الجيل الخامس إلى تكنولوجيا الجيل السادس في أقل من خمس سنوات من الآن... والفارق لو تعلمون عظيم...!!
فإن كانت تكنولوجيا الجيل الخامس هي ما أفاض علينا فتوحات علمية معروفة بإنترنت الأشياء وذروة سنامها السيارات ذاتية القيادة... وخوارزميات تحديد توجهات الرأي والاختيار لدى البشر بناء على سلوكهم الرقمي على هواتفهم وحواسيبهم وغيرها، إلى درجة التنصت على ما ينبس به الإنسان من بنت شفة حول أمر بعينه، فيتحول إلى كلمة مفتاحية لتلك الخوارزمية، التي ما تلبث أن تمطر هاتفه وحاسبه بمئات الإعلانات والمعلومات عن ذاك الموضوع الذي قاربه في حوار أسَرّ به لبعض أصحابه، أو حدث به نفسه ولكن بصوت عالٍ... إلى تكنولوجيا الجيل السادس وفتح الآلات ذاتية التعلم، التي ستجعل القسمة في المستقبل القريب ليست بين بشر أذكى وبشر أقل ذكاء... ولكن بين آلات مهيمنة بذكائها وبشر ينافح محاولاً أن يبقى على قدرته على منافستها في بعض مجالات عمل يزاح منها بالكلية... ولتتحول مأساة البشر من المعاناة من الاستغلال... استغلال البشر للبشر... إلى فقدان الدور والهامشية في الحياة.
وعليه... فإن قضية الإدراك وكنهه ستكون هي القضية الحاكمة أخلاقياً وقانونياً وسياسياً...!
فهل السيارة ذاتية القيادة... وهي القادرة على الرصد والتوقع ورد الفعل والمناورة في كل ما يواجهها في مسارها... كائن مدرك واعٍ... أم كائن أصم؟ على أي قاعدة فلسفية وأخلاقية نسن قانوناً يجرم أو لا يجرم ما ينتج عن حادث تسببت فيه تلك المركبة ذاتية القيادة فحطمت أو أصابت أو قتلت...؟! من نعاقب وعلام وعلى من يحتسب المجتمع لكي يقر العدل...؟
تلك الخوارزميات التي ستستحيل روبوتات وآلات فائقة الذكاء من حيث القدرة على التحليل والمتابعة وتقديم البدائل في ضوء كلمة مفتاحية أو كلمات تنم عن موضوع ما... على من نحتسب إن هي أضلت وساقت طفلاً أو مراهقاً أو حتى رجلاً أو امرأة كاملي النضج، فأودت بهم أو بمقدراتهم أو بثرواتهم أو بحياتهم... ممن يقتص المجتمع... وعلى أي قاعدة عدل يحيا...؟
في وسط هذا التيه، أتت المقاربات الفلسفية نحو تعريف كنه الوعى والإدراك على وجه من ثلاثة أوجه...
أولها... يقرر أن معرفة كنه الوعى والإدراك أمر مستحيل، ولن يستطيع العقل البشرى سبر غوره على أي نحو كان. ثانيها... يقدم قائمة من التصورات القاصرة - أسلفناها - على كون الوعي والإدراك هما المشاهدة المجردة أو الملاحظة غير المنحازة وغير المؤهلة لإصدار أحكام، أو البعد الشعوري والتقويمي للملاحظة... وقد أثبتنا قصورها بل تهافتها بما سقناه من أمثلة.
ثالثها... وأكثرها منطقية... هو ما يؤكد أن «الإدراك هو صنو المعاناة»... فالمعاناة النفسية أو الجسدية هي عنوان الإدراك ودلالته ومنطلقه وأثره... ولكن يبقى لهذا الوجه تحديان واجبا النقاش.
فمن ساقوا هذا الوجه لتعريف الوعي والإدراك... وقد لا يجانبهم الصواب في بعض أطروحتهم... حين يدللون على استقامة طرحهم بأن ما يفرق بين البشر والآلة القادرة على الرصد والمشاهدة أو تلك القادرة على قياس الحرارة... هو مردود ذلك على البشر وعلى إنسانيته... ما يفرحه وما يحزنه... ما يسوؤه وما يؤلمه... وما يشد عضده... ما يوجعه... ما يخيفه... ما يطمئنه... ذاك ما يجعل من الإنسان فاعلاً سياسياً وأخلاقياً... وإلى هنا قد لا نختلف في كثير.
ولكن ما يذهب إليه بعض من هؤلاء بُغيَة تغريب الوحي أو تضحيل دوره في تسيير حياة البشر وترقيها... بأنه، وإن جزمنا بأن الوعي هو صنو المعاناة... وأن المعاناة ليست بالضرورة هي الوجع، ولكنها رغبة الإنسان في تغيير واقع ما إلى واقع أفضل... قد يكون من واقع ألم ووجع إلى واقع مهادنة وسكون... أو من واقع رحب جيد إلى واقع أكثر رحابة وجودة... أو إلى إحراز متعة حسية ونفسية على نحو ما... فإن مصدر تعريف الأفضل والأجود وما يورث السكينة وما يورث النعيم والمتعة، هو ما فيه الاختلاف...!
فإن أتى تعريف الاستقامة والاعوجاج، في قديم من وحي السماء (أو هكذا كان يظن القدماء في زعم هؤلاء المحدثين)... فما لبث أن حلت سلطة الدولة محل السلطة الإلهية... وأخيراً فقد صار ما يقرر طبيعة المعاناة ونوع النجاة منها لا وحي السماء ولا سلطة الدولة ولكن سلطة الضمير الفرد.
والضمير الفرد هو ما يقرر إلى أي مدى يكون الفعل آثماً أو صالحاً بمدى المعاناة التي يوقعها بغيره... ويذهب هؤلاء إلى صك ما يسمونه «جرائم اللاضحايا»...!
ففي عرف هؤلاء، المثلية والشذوذ الأخلاقي مثلاً... هما فعل اختيار وتراض لا يخرج أثره (في عرفهم) معاناة على أي نحو إلى المجتمع... فهو فعل بين أطرافه... وبمثلها أي جريمة يعدها الوحي (الدين) أو العرف أو سلطة الدولة جرائم، في حين أن ضمير فرد يستطيع تصنيفها في إطار جريمة اللاضحية (أي جريمة لا ضحايا لها)... فهو فعل طبيعي مستقيم... بل مستحسن...!!
وينطلق هؤلاء إلى «تعريف الوعي والإدراك على كونه القدرة على المعاناة»... ويكون إنفاذ أثره سياسياً وأخلاقياً وقانونياً على نحو ما ينتهى إليه الضمير الفرد... وقد تسرب هذا الفهم ولم يزل إلى كثير من القضايا الكبرى التي تزلزل المجتمع الإنساني برمته وتنذر بسوء عاقبة.
قد لا نختلف مع من يذهبون إلى أن الوعي والإدراك ظاهره هو صنو المعاناة... ولكن ما نجزم به أن جوهره ما زال وسيظل مستغلقاً... ففهمنا لمنشأ المعاناة ومدرج نضجها وتعاظمها وما تمليه على النفس من أثر سيظل تعريفه من ضروب المستحيل.
لأن كل ما يقارب حقيقة لماذا تنشأ المعاناة... ولما تتعاظم في نفس وتهون في أخرى... وكيف تكون أطوارها في نفس واحدة لشخص واحد تأرجحاً بين التسامي والانحطاط بين النفس الأمارة بالسوء... إلى النفس اللوامة... إلى النفس الزاهدة المطمئنة... هو من أمر الروح...!
وهو ما قدره أن يبقى مستغلقاً علماً وفلسفة إلى أن يكون أمر ربي بإزالة الحجب.
ألم نقل إن العلم والوحي والفلسفة هي قوائم استقرار الفكر الإنساني... في تكاملها تمام نضجه وترقيه... وفي إقحام تنافر بينها إقحام لعنت إنساني ثقيل، وهدر لأعمارها سدى.
فَكرُوا تَصحُوا...
* كاتب ومفكر مصري


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.