(تحليل إخباري)
منذ ثلاثة أشهر، على مضي آخر اجتماع حصل بخصوصه، غاب الملف النووي الإيراني عن المشهد الدبلوماسي العالمي ولم تنجح الوساطة الأوروبية ممثلة بـجوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد، الذي قدّم الصيف الماضي ورقة مقترحات «نهائية» في التوفيق بين المطالب الإيرانية والأميركية.
ومعها تبخر التفاؤل السابق بإمكانية إحياء الاتفاق النووي للعام 2015 بعد 16 شهراً شهدت مئات الساعات من المفاوضات الشاقة، ولكن أيضاً أشهراً من الانقطاع. وجاءت المفاجأة أول من أمس من طهران، حيث أعلن وزير خارجيتها أمير حسين عبداللهيان، أن وفداً إيرانياً سيتوجه إلى فيينا «في الأيام المقبلة لبدء محادثات مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، معرباً عن أمله «في حل القضايا العالقة بناءً على ما اتفقنا عليه في الأيام الماضية».
وفي اليوم التالي، كشف المسؤول الإيراني، عقب اتصاله مع بوريل، عن ثلاثة أمور متصلة ببعضها بعضاً: الأول، العلاقة بين بلاده والوكالة الدولية، والثاني استمرار التواصل مع الجانب الأميركي عبر الوسيط الأوروبي، والثالث تمسك طهران بالتوصل إلى اتفاق بشأن برنامجها النووي.
وكعادته، سعى عبداللهيان للترويج لأجواء متفائلة. فمن جهة، أفاد، وفق ما نقلت عنه وكالة «إرنا»، بأن «الاتفاق على تعاون جيد بين الوكالة وإيران جارٍ في الوقت الحاضر». ومن جهة ثانية، وفي حين العلاقات بين طهران وواشنطن بالغة التوتر، قال عبداللهيان، إن إيران «قدمت آراءها إلى الجانب الأميركي بنهج بنّاء وماضٍ إلى الأمام». وأخيراً، شدد على أن إيران «مستعدة للتوصل إلى اتفاق نووي جيد وقوي ومستقر». ويبدو أن عدوى التفاؤل وصلت إلى بوريل الذي التزم بـ«مواصلة الجهود البناءة من أجل التوصل إلى الاتفاق النهائي ونحن متفائلون بالنتيجة»، ورأى في التوافق بين طهران والوكالة على التواصل واستمرار الجهود لحل الخلافات بينهما بأنه «خطوة إلى الأمام». ثمة تساؤل يطرح نفسه بقوة: ما هي الأسباب والمبررات التي تدفع بإيران اليوم لإحياء الحديث عن الاتفاق النووي بينما الظروف الموضوعية كافة تدفع بعكس ذلك؟
حقيقة الأمر، أن السياق الراهن بعيد كل البعد عن الأجواء المريحة التي من شأنها تسهيل الحوار بين إيران والغربيين. فالقمع الذي تمارسه السطات الإيرانية بحق المتظاهرين الذين ينزلون إلى الشوارع منذ وفاة الشابة مهسا أميني في 16 سبتمبر (أيلول) الماضي والذي أفضى إلى مقتل العشرات والقبض على المئات، دفع الغربيين إلى التنديد بالنظام الإيراني وإلى فرض عقوبات على من يعتبرهم الغربيون مسؤولين عن القمع.
وأبعد من ذلك، تسعى واشنطن لطرد إيران من لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق المرأة. وجاء في بيان لنائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس، أول من أمس «تعتقد الولايات المتحدة أنه لا ينبغي أن تقوم أي أمة تنتهك حقوق النساء والفتيات بصورة ممنهجة بدور داخل أي منظمة دولية، أو أممية مكلفة حماية هذه الحقوق». وأضاف البيان «سنعمل مع شركائنا لاستبعاد إيران» من المفوضية.
كذلك، فإن الغربيين أبدوا قلقاً وامتعاضاً وتنديداً مما يعتبرونه مساهمة إيرانية في الحرب الروسية على أوكرانيا من خلال تزويد موسكو بمسيرات «وربما أيضاً بصواريخ» تستخدم في ضرب المرافق المدنية الحيوية مثل شبكة الكهرباء والبنى التحتية، كل ذلك فاقم النقمة على إيران التي ردت من جهة، باتهام الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً بـتأجيج الاحتجاجات، لا، بل أيضاً باستثارتها. وذهب المرشد الإيراني علي خامنئي إلى اعتبار أن الأحداث الأخيرة «حرب مركبة» يستخدم فيها أعداء إيران وعلى رأسهم واشنطن «لدورها الواضح في إثارة أعمال الشغب».
أما بالنسبة لأوكرانيا، فقد نفت أي دور لها. ووصف عبداللهيان الاتهامات الموجهة لبلاده بأنها «لا أساس لها من الصحة».
إزاء كل ما سبق، ترى مصادر أوروبية في باريس، أن رغبة إيران في إعادة التداول بالملف النووي وإظهار الليونة والاستعداد للذهاب إلى توقيع الاتفاق رغم الأجواء العامة العدائية بين إيران والغرب «لا يمكن فهمه إلا من خلال رغبة المسؤولين الإيرانيين في حرف الانتباه عما يحصل في الداخل الإيراني».
وتستطرد هذه المصادر بالقول، إن ما تعيشه إيران من احتجاجات مكثفة منذ ما يقارب 60 يوماً «كشف هشاشة النظام وكشف عن القطيعة بينه وبين شرائح واسعة من المجتمع التي لم تعد قادرة على السكوت؛ الأمر الذي تكشفه المظاهرات الواسعة والشاملة والمتنقلة».
بيد أن هناك أسباباً أخرى، وفق المصادر المشار إليها، تدفع النظام إلى محاولة معاودة التواصل مع الغربيين انطلاقاً من اعتبار أن «الانفتاح» في الملف النووي يمكن أن يفضي إلى تغير في اللهجة الغربية إزاء طهران ما يمكن النظر إليه على أنه «مناورة دبلوماسية». وما يدفع إلى هذا الاعتقاد أن الملف - العقبة الذي منع حتى اليوم من التوصل إلى اتفاق يتمثل في امتناع طهران عن التعاون مع الوكالة الدولية بشأن المواقع الثلاثة غير المعلنة التي عثر فيها مفتشو الوكالة على آثار لتخصيب نووي. والحال، أن هذه المسألة قديمة وتعود لما قبل اتفاق العام 2015.
ومنذ العام 2019، تسعى الوكالة لإلقاء كامل الضوء عليها ولكن دون طائل. وقد حاول رافاييل غروسي، مدير الوكالة، بزياراته العديدة لطهران ولقاءاته خارجها، الحصول على المعلومات التي تمكنه من الاستجابة للمطلب الإيراني أي إغلاق الملف الذي جعلته طهران شرطاً لا تنازل عنه لقبول العودة إلى الاتفاق. لذا؛ فإن السؤال اليوم يتناول «الجديد» الذي يدفع طهران للتعاون مع الوكالة بشكل جدي في حين امتنعت عنه منذ ثلاث سنوات على الأقل؟
حقيقة الأمر، أن إيران ترصد المتغيرات الإقليمية والدولية، وأهمها ثلاثة: الانتخابات النصفية الأميركية القريبة وما يبدو أنه سيحرم، وفق استطلاعات الرأي المتواترة، الحزب الديمقراطي، أي الرئيس جو بايدن، من الأكثرية في مجلسي الشيوخ والنواب.
ويعني ذلك عملياً الحد من قدرته على التحرك إن في سياساته الداخلية أو الخارجية التي ستواجه عقبات، ومن بينها تلك الخاصة بالملف النووي الإيراني. والنتيجة، أنه سيكون صعباً على طهران الحصول منه على «تنازلات» تسهّل دربها للعودة إلى الاتفاق النووي. والتحول الثاني عنوانه عودة بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية التي ستكون الأكثر يمينية ربما في تاريخ إسرائيل. ولم ينسَ أحد ما قام به نتنياهو لدفع الرئيس دونالد ترمب للخروج من الاتفاق النووي وكم عارض بقوة وعنف رغبة خلفه بايدن العودة إلى الاتفاق، فضلاً عن اتهاماته لخلفه نفتالي بينيت ثم يائير لبيد بـ«الضعف» و«الخنوع لواشنطن». ولا شك أن نتنياهو سيعاد السير على سياسته السابقة ما سيشكل عامل ضغط إضافياً على طهران.
وكان لافتاً أن حسين طائب، مستشار القائد العام لـ«الحرس الثوري»، عدّ أن عودة نتنياهو إلى السلطة «ستضعف الحكومة الديمقراطية في أميركا وستكون بداية تحدٍ جديد لكل من إسرائيل وواشنطن»، وفاته أن يضيف «لإيران أيضاً». والتحول الثالث يكمن في قلق السلطات الإيرانية من اصطفاف الأوروبيين وراء المواقف الأميركية المتشددة المستجدة وبالتالي خسارتها لـ«التفهم» الأوروبي لمواقفها. والقاسم المشترك بين العواصم الأوروبية الثلاث (باريس ولندن وبرلين) وواشنطن اليوم، أنها تعتبر كلها أن إيران هي العقبة، وأن النص الذي طرحه الوسيط الأوروبي موجود على الطاولة ولا ينقصه سوى توقيع طهران.
هذه صورة الوضع اليوم التي تبدو داكنة إلى درجة أن تفاؤل الوزير عبداللهيان لا يجد ما يبرره إلا إذا كانت إيران مستعدة للإقدام على خطوة ليست في الحسبان، وهو أمر مستبعد.
تساؤلات حول مساعي إيران لإعادة ملفها النووي إلى الواجهة
مصادر أوروبية في باريس: «انفتاح» طهران «مناورة دبلوماسية» وأسبابها الرئيسية أربعة
تساؤلات حول مساعي إيران لإعادة ملفها النووي إلى الواجهة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة