تزايد حركة السودانيين إلى مصر بحثاً عن مستقبل أكثر إشراقاً

ملاذ أبكر (23 عاماً) والتي انتقلت إلى مصر منذ نحو عامين (رويترز)
ملاذ أبكر (23 عاماً) والتي انتقلت إلى مصر منذ نحو عامين (رويترز)
TT

تزايد حركة السودانيين إلى مصر بحثاً عن مستقبل أكثر إشراقاً

ملاذ أبكر (23 عاماً) والتي انتقلت إلى مصر منذ نحو عامين (رويترز)
ملاذ أبكر (23 عاماً) والتي انتقلت إلى مصر منذ نحو عامين (رويترز)

في منطقة السوق العربية بوسط الخرطوم، حلّت وكالات السفر التي تساعد الشباب السوداني في البحث عن مستقبل اقتصادي أكثر إشراقاً في مصر محل بعض متاجر مواد البناء التي كانت مكتظة في السابق في المركز التجاري الرئيسي بالعاصمة.
يعكس النزوح حالة اليأس المتزايدة إزاء الآفاق في الداخل، حيث يعاني الاقتصاد من السقوط الحر وتقول الأمم المتحدة، إن نقص الغذاء يؤثر على ثلث السكان. ويشيع انقطاع الكهرباء والمياه، بينما تهز الاحتجاجات المناهضة للجيش الشوارع منذ انقلاب وقع قبل نحو عام.
ويقول وكلاء سفر ومهاجرون، إنه في أعقاب استيلاء الجيش على السلطة، عندما أطاح حكومة بقيادة مدنية كانت قد وعدت بفجر اقتصادي جديد، تسارعت أعداد المغادرين.
ولا توفر مصر، التي تستضيف بالفعل جالية سودانية تقدر بنحو أربعة ملايين نسمة، وظائف مربحة تُذكر على غرار تلك التي يبحث عنها السودانيون عادة في الخليج، لكنها تعدّ وجهة أسهل ومألوفة في كثير من الأحيان. وبينما يسافر البعض في رحلات عبر البحر المتوسط محفوفة بالمخاطر إلى أوروبا، تتمتع مصر بمزايا ملحوظة، فيمكن للشباب السوداني السفر إلى الشمال بتكلفة أقل والبحث عن عمل، بينما تسعى العائلات للحصول على الرعاية الصحية والتعليم لأطفالهم وعيش حياة مستقرة.

وقال منذر محمد (21 عاماً) بينما كان يحاول حجز رحلة بالحافلة إلى مصر في وكالة أسفار بالخرطوم «مصر دي ما هي استقرار، مصر دي بتكون معبر، أنا أمشي مصر محطة بتكون حتقعد فيها شهر، شهرين، ثلاثة شهور، عملت لك كم ألف ألفين وتتجه على الحدود الليبية عن طريق الإسكندرية ومرسى مطروح، هناك المدخل بتاع ليبيا، حتخش ليبيا، هناك المدخل بتاع الكُفرة حتقعد ليك برضه فترة طويلة زي ست شهور سبع شهور».
وقال عادل عثمان، سائق حافلة «والله في الحقيقة عدد الباصات متفاوتة يعني، ما بين 15 لعشرين، وفي الموسم مثلاً رمضان بتزيد، ومرات بتنقص من الخمسة عشر ذاتها بتنقص إلى 12، بتزيد لحد 25 في المواسم، ففي البداية ما كان فيه باصات أصلا، كان خمسة ستة باصات».
وقال مالك إحدى شركات الحافلات في الخرطوم، إن ما يصل إلى 30 حافلة تنقل نحو 1500 راكب إلى مصر من السودان يوميا، وقال، إن هذا يمثل زيادة بنسبة 50 في المائة عن العام الماضي، على الرغم من الارتفاع الحاد في أسعار التذاكر.
وذكر اثنان من وكلاء السفر، أن عدد الشبان الذين يسعون للحصول على تأشيرات قد تضاعف تقريباً في العام الماضي. وقال الشاب محمد عبد المنعم، المسافر إلى مصر لتسجيل أخيه في إحدى الجامعات، «البلد (السودان) فيها مشاكل لا تحصى ولا تعد، التقويم الزمني للجامعات فيه مشاكل كبيرة شديدة، يعني حتى لو مرحلة الدراسة لو خمس سنين أو أربع سنين بتاخد معاك من ست لسبع سنين بحسب الحالة اللي أنت بتدرس فيها. فدي واحدة من المشاكل اللي بتواجهها. البلد أمنياً فيها مشاكل الجامعات ما حتقدر تستمر في الوضع الراهن ده؛ نسبة لأن فيه مظاهرات وفيه تقفيل للطرق وفيه كده، فده السبب الرئيسي إنه الناس دي أغلبيتها بتطلع تمشي تدرس بره».

ولا توجد بيانات متاحة تظهر توجهات السفر في الآونة الأخيرة من السودان إلى مصر. لكن دبلوماسياً مصرياً قال، إن الأرقام في ارتفاع منذ عام 2019، عندما أطاحت انتفاضة الرئيس السوداني السابق عمر البشير.
وأضاف، أن حركة السودانيين إلى مصر تتزايد بشكل تدريجي ومتناسب مع تدهور الوضع في السودان. وفي السوق العربية، يقضي العمال والكهربائيون وغيرهم ممن يفترض وجودهم عادة في مواقع البناء أوقاتهم في شرب الشاي ولعب الطاولة أثناء انتظارهم للعمل.
وقال صاحب أحد متاجر مواد البناء التي لا تزال تعمل في السوق «زمان تشتهي تقعد خمسة دقايق حسي اليوم كلو بتكون قاعد».
ويقول أصحاب المتاجر والمحال التجارية، إن جزءاً كبيراً من الدخل الضئيل الذي لا يزال بإمكانهم جَنيه يذهب إلى سداد الزيادة في الضرائب والرسوم ورسوم الترخيص التي أقدمت عليها الحكومة التي فقدت دعماً اقتصادياً خارجياً بالمليارات بعد الانقلاب.
وقال وزير المالية جبريل إبراهيم، إن الدولة ستعتمد على مواردها الداخلية لتمويل الميزانية. وارتفعت الضرائب والرسوم بنسبة 400 في المائة أو أكثر في بعض الحالات، وفقا لأصحاب الأعمال.
وقال صاحب متجر مواد البناء «أثرت علينا تأثيراً شديداً».

وأغلق التجار الأسواق الرئيسية الأسبوع الماضي في مدينتي سنار والقضارف هذا الشهر احتجاجاً على الرسوم. كما تواجه الحكومة، التي لم يتم تعيين رئيس لها منذ الانقلاب، إضرابات لعمال الكهرباء والصرف الصحي وكذلك لأطباء الامتياز (المتدربون) بسبب تدني الأجور.
وتراجع معدل التضخم الرسمي من 423 في المائة العام الماضي إلى 117 في المائة في أغسطس (آب)، وهو ما يقول رجال أعمال ومحللون، إنه يعكس الركود الاقتصادي، لكنه لا يزال من أعلى المعدلات على مستوى العالم.
وانخفضت قيمة الجنيه السوداني بنسبة 950 في المائة خلال السنوات الأربع الماضية، بينما أصبح الوقود، الذي كان مدعماً بشكل كبير في السابق، أغلى منه في العديد من البلدان الغنية.
ويقول أصحاب الأعمال، إن معظم الناس لم يعد بإمكانهم تحمّل تكاليف أكثر من السلع الأساسية؛ مما تسبب في إبطاء نشاط العديد من التجار والمصانع أو إغلاق متاجر.
وقد يدفع ذلك المزيد من الناس للمغادرة. وقال متحدث باسم المنظمة الدولية للهجرة، إنها «تتوقع أن يفكر المزيد من الناس في الهجرة كخيار، أو كآلية للتكيف» في إشارة إلى السودان.
والظروف في مصر صعبة أيضاً، حيث بلغ التضخم أعلى مستوياته منذ ما يقرب من أربع سنوات، كما أن نحو ربع الشباب عاطلون عن العمل، وفقاً لمنظمة العمل الدولية.
وكثيراً ما ينتهي الحال بالشباب السوداني إلى العمل في وظائف متدنية في المصانع ومناجم الذهب أو كعمالة منزلية، وفقاً لوكلاء سفر ومهاجرين. لكن لديهم مجتمعاً يمكنهم الاعتماد عليه، ويمكن أن يكسبوا أكثر مما يكسبونه في بلدهم، وقالت ملاذ أبكر، البالغة من العمر 23 عاماً والتي انتقلت إلى مصر منذ نحو عامين «البيت كلو كان شغال (في السودان) وما بندخل دخل كبير وكلو بيمشي للأكل والشراب».
وتقول، إنها الآن تستطيع أن ترسل لعائلتها ما يصل إلى 120 ألف جنيه سوداني (208 دولارات) شهرياً من عملها كجليسة أطفال.

وقالت أبوك سيبيت، وهي من جنوب السودان وانتقلت من الخرطوم للقاهرة، «آه هو السبب اللي خلاني إني أفكر آجي مصر، إن هو المظاهرات اللي عملوها سبب الحاجات اللي ارتفعت، الحاجات اللي ارتفع هو كل شيء أصبح غالي، فأنت عاوز عيش أنت مش بتمشي علطول تقول عاوز عيش (خبز)، أنت لازم تقف ثلاث ساعات أربع ساعات لحد إن أنت تاخد عيش، فهو صعب جدا، أنت تقوم من الصبح تكون واقف في الصف لحد إنك تاخد عيش بخمسين جنيه، فهو بيكون صعب جدا. فيه ستات مش قادرين يتحملوا من الضغط وفيه حد عنده سكري وحد عنده بتاع، فالزول بيتعب علطول».
وظهرت المحال التي تبيع الأطعمة السودانية في القاهرة، كما تعلن المدارس الخاصة عن فروع مصرية على اللوحات الإعلانية في الخرطوم، ويسافر الكثيرون إلى مصر للحصول على الرعاية الصحية التي تراجعت بشكل متزايد في بلدهم.
وبالنسبة للبعض، مثل آدم البالغ من العمر 23 عاماً والقادم من إقليم دارفور المنكوب بالحرب، فإن مصر هي محطة قبل محاولة خوض الرحلة المحفوفة بالمخاطر عبر البحر المتوسط إلى أوروبا.
وقال وهو يقف في طابور للحصول على تأشيرة في القنصلية المصرية بوسط الخرطوم مع عشرات آخرين «السفر عبر البحر خطر، ولكن أفضل المخاطرة والحصول علي حياة كريمة بدلاً عن المعاناة والفقر وفقدان الأمل في السودان».
وتقول أبوك سيبيت «يعني أنا أروح الشغل، آجي في بيتي اليوم أنا أتصرف بألفين تلاتة، وآجي بيتنا من جاي أتصرف بخمسة ستة لأن عيلتي أكتر من بيتي أنا. فأكيد بيتي حاتصرف اتنين ثلاثة، وإذا جيت لعيلتي يمكن أنا أتصرف خمسة ستة. يعني أنا ممكن في عيلتي أنا في يوم أخسر فيه عشرة ألف، وممكن في يوم في بيتي أخسر ستة ألف، فهو كده كثير عليه جدا مش قادرة أنا، فهو ده السبب اللي أنا خلاني أسيب السودان وأفكر إنه أنا آجي لمصر».
(الدولار= 578 جنيهاً سودانياً)


مقالات ذات صلة

هل يحد «الحوار الوطني» من «قلق» المصريين بشأن الأوضاع السياسية والاقتصادية؟

شمال افريقيا هل يحد «الحوار الوطني» من «قلق» المصريين بشأن الأوضاع السياسية والاقتصادية؟

هل يحد «الحوار الوطني» من «قلق» المصريين بشأن الأوضاع السياسية والاقتصادية؟

حفلت الجلسة الافتتاحية لـ«الحوار الوطني»، الذي دعا إليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قبل أكثر من عام، برسائل سياسية حملتها كلمات المتحدثين، ومشاركات أحزاب سياسية وشخصيات معارضة كانت قد توارت عن المشهد السياسي المصري طيلة السنوات الماضية. وأكد مشاركون في «الحوار الوطني» ومراقبون تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، أهمية انطلاق جلسات الحوار، في ظل «قلق مجتمعي حول مستقبل الاقتصاد، وبخاصة مع ارتفاع معدلات التضخم وتسببه في أعباء معيشية متصاعدة»، مؤكدين أن توضيح الحقائق بشفافية كاملة، وتعزيز التواصل بين مؤسسات الدولة والمواطنين «يمثل ضرورة لاحتواء قلق الرأي العام، ودفعه لتقبل الإجراءات الحكومية لمعالجة الأز

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا السيسي يبحث انعكاسات التطورات الإقليمية على الأمن القومي المصري

السيسي يبحث انعكاسات التطورات الإقليمية على الأمن القومي المصري

عقد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، اجتماعاً، أمس (الخميس)، مع كبار قادة القوات المسلحة في مقر القيادة الاستراتيجية بالعاصمة الإدارية الجديدة، لمتابعة دور الجيش في حماية الحدود، وبحث انعكاسات التطورات الإقليمية على الأمن القومي للبلاد. وقال المستشار أحمد فهمي، المتحدث الرسمي باسم الرئاسة المصرية، في إفادة رسمية، إن «الاجتماع تطرق إلى تطورات الأوضاع على الساحتين الإقليمية والدولية، وانعكاساتها على الأمن القومي في ظل الظروف والتحديات الحالية بالمنطقة». وقُبيل الاجتماع تفقد الرئيس المصري الأكاديمية العسكرية المصرية، وعدداً من المنشآت في مقر القيادة الاستراتيجية بالعاصمة الإدارية. وأوضح المتحدث ب

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا مصر: ظاهرة «المقاتلين الأجانب» تهدد أمن واستقرار الدول

مصر: ظاهرة «المقاتلين الأجانب» تهدد أمن واستقرار الدول

قالت مصر إن «استمرار ظاهرة (المقاتلين الأجانب) يهدد أمن واستقرار الدول». وأكدت أن «نشاط التنظيمات (الإرهابية) في أفريقيا أدى لتهديد السلم المجتمعي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا حادث تصادم بمصر يجدد الحديث عن مخاطر «السرعة الزائدة»

حادث تصادم بمصر يجدد الحديث عن مخاطر «السرعة الزائدة»

جدد حادث تصادم في مصر الحديث بشأن مخاطر «السرعة الزائدة» التي تتسبب في وقوع حوادث سير، لا سيما على الطرق السريعة في البلاد. وأعلنت وزارة الصحة المصرية، (الخميس)، مصرع 17 شخصاً وإصابة 29 آخرين، جراء حادث سير على طريق الخارجة - أسيوط (جنوب القاهرة).

منى أبو النصر (القاهرة)
شمال افريقيا مصريون يساهمون في إغاثة النازحين من السودان

مصريون يساهمون في إغاثة النازحين من السودان

بعد 3 أيام عصيبة أمضتها المسنة السودانية زينب عمر، في معبر «أشكيت» من دون مياه نظيفة أو وجبات مُشبعة، فوجئت لدى وصولها إلى معبر «قسطل» المصري بوجود متطوعين مصريين يقدمون مياهاً وعصائر ووجبات جافة مكونة من «علب فول وتونة وحلاوة وجبن بجانب أكياس الشيبسي»، قبل الدخول إلى المكاتب المصرية وإنهاء إجراءات الدخول المكونة من عدة مراحل؛ من بينها «التفتيش، والجمارك، والجوازات، والحجر الصحي، والكشف الطبي»، والتي تستغرق عادة نحو 3 ساعات. ويسعى المتطوعون المصريون لتخفيف مُعاناة النازحين من السودان وخصوصاً أبناء الخرطوم الفارين من الحرب والسيدات والأطفال والمسنات، بالتعاون مع جمعيات ومؤسسات أهلية مصرية، على


الجزائر: نقض أحكام بإعدام 38 شخصاً في «قضية حرائق القبائل»

مدانون بالإعدام في قضية الانتماء إلى «ماك» وحرائق القبائل (الشرق الأوسط)
مدانون بالإعدام في قضية الانتماء إلى «ماك» وحرائق القبائل (الشرق الأوسط)
TT

الجزائر: نقض أحكام بإعدام 38 شخصاً في «قضية حرائق القبائل»

مدانون بالإعدام في قضية الانتماء إلى «ماك» وحرائق القبائل (الشرق الأوسط)
مدانون بالإعدام في قضية الانتماء إلى «ماك» وحرائق القبائل (الشرق الأوسط)

قال محامون في الجزائر إن المحكمة العليا قبلت طعناً بالنقض في قضية أثارت جدلاً كبيراً العام الماضي، تمثلت في إصدار محكمة الجنايات بالعاصمة حكماً بإعدام 38 شخصاً، بتهمة «إشعال النار في منطقة القبائل، بناءً على توجيهات من تنظيم إرهابي»، يُسمى «حركة الحكم الذاتي في القبائل».

صورة لنيران منطقة القبائل صيف 2021 (الشرق الأوسط)

وأكد المحامي والحقوقي الشهير، مصطفى بوشاشي، الذي ترافع لصالح بعض المتهمين، لصحافيين، أن أعلى غرفة الجنايات بأعلى هيئة في القضاء المدني نقضت، مساء أمس الخميس، الأحكام التي صدرت فيما بات يعرف بـ«قضية الأربعاء ناث إراثن»، وهي قرية ناطقة بالأمازيغية (110 كيلومترات شرق)، شهدت في صيف 2021 حرائق مستعرة مدمرة، خلفت قتلى وجرحى، وإتلافاً للمحاصيل الزراعية ومساحات غابات كبيرة، وعقارات ومبانٍ على غرار قرى أخرى مجاورة.

مبنى المحكمة العليا بأعالي العاصمة الجزائرية (الشرق الأوسط)

غير أن الحرائق ليست أخطر ما حدث يومها في نظر القضاء، فعندما كان سكان القرية يواجهون النيران بوسائلهم الخاصة البسيطة، تناهى إليهم أن شخصاً بصدد إضرام النار في بلدتهم عمداً، وفعلاً ألقت الشرطة بهذه الشبهة على ثلاثيني من منطقة بوسط البلاد، يُدعى جمال بن سماعين، فتوجهوا وهم في قمة الغضب إلى مقر الأمن، وكان الشاب في تلك الأثناء داخل سيارة الشرطة فأخرجوه منها، غير عابئين بالعيارات النارية، التي أطلقها رجال شرطة لثنيهم عن قتله، وأخذوه إلى الساحة العامة، فنكّلوا به وأحرقوا جثته، بينما كان يتوسل إليهم أن يخلوا سبيله، وبأنه حضر إلى القرية للمساعدة وليس لإشعال النار.

وجرى تصوير مشاهد التنكيل المروعة بكاميرات الهواتف النقالة، واعتقل الأمن لاحقاً كل الذين ظهروا في الصور.

جمال بن سماعين قُتل على أيدي سكان قرية التهمتها النيران (متداولة)

على أثر ذلك، طالبت قطاعات واسعة في المجتمع بـ«القصاص»، ورفع التجميد عن عقوبة الإعدام، التي تصدرها المحاكم دون أن تنفذ، وذلك منذ تطبيقه بحق 3 إسلاميين عام 1993، بتهمة تفجير مطار العاصمة صيف 1992 (42 قتيلاً). لكن أثبت التحقيق بأن بن سماعين لا يد له في الأحداث المأساوية.

وبثّ الأمن الجزائري «اعترافات» لعدد كبير من المعتقلين بعد الأحداث، أكدوا كلهم أنهم وراء النيران المستعرة، وبأنهم ارتكبوا الجريمة بأوامر من رئيس تنظيم «حركة الحكم الذاتي في القبائل»، المعروف اختصاراً بـ«ماك»، فرحات مهني، الذي يتحدر من المنطقة، ويقيم منذ سنوات طويلة بفرنسا بصفته لاجئاً سياسياً.

فرحات مهني المتهم بإشعال النار في منطقة القبائل (الشرق الأوسط)

وقال محامو المتهمين بعد تداول هذه «الاعترافات» إن القضاء «يبحث عن مسوّغ لإنزال عقوبة ثقيلة في حقهم»، وهو ما حدث بالفعل في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، بإدانتهم بالإعدام. علماً بأن التهم وجهت لمائة شخص في هذه القضية، وحُكم على بعضهم بالسجن بين عام و5 سنوات مع التنفيذ، في حين نال آخرون البراءة.

وتمثلت التهم أساساً في «نشر الرعب في أوساط السكان بإشعال النيران»، و«الانتماء إلى منظمة إرهابية» تُدعى «ماك»، و«قتل شخص عن سبق إصرار والتنكيل بجثته»، و«القيام بأفعال إرهابية وتخريبية تستهدف أمن الدولة والوحدة الوطنية، واستقرار المؤسسات وسيرها العادي، عن طريق بث الرعب في أوساط السكان، وخلق جو انعدام الأمن»، وتم تثبيت الأحكام بعد استئنافها.

أما فرحات مهني فكذّب، في فيديو نشره بالإعلام الاجتماعي، التهمة المنسوبة إليه، وطالب بفتح تحقيق مستقل في الأحداث «من طرف جهة أجنبية».

وفي نظر عدد كبير من المحامين على صلة بهذا الملف، فإن القضاء يبحث من خلال نقض الأحكام عن «إصلاح أخطاء تسبب فيها بإصدار قرارات متسرعة»، وبأن القضاة «كانوا تحت ضغط رأي عام طالب بالقصاص». ووفق ما ينص عليه القانون، ستعاد محاكمة المتهمين في محكمة الجنايات بتشكيل قضاة غير الذين أدانوهم في المرة السابقة.