كيف تغيرت أمور إلى غير رجعة... وبشكل إيجابي أحياناً؟

التعليم عن بُعد من أبرز سمات فترة «كورونا» (إ.ب.أ)
التعليم عن بُعد من أبرز سمات فترة «كورونا» (إ.ب.أ)
TT

كيف تغيرت أمور إلى غير رجعة... وبشكل إيجابي أحياناً؟

التعليم عن بُعد من أبرز سمات فترة «كورونا» (إ.ب.أ)
التعليم عن بُعد من أبرز سمات فترة «كورونا» (إ.ب.أ)

غيرت جائحة «كورونا» أموراً كثيرة في المجتمعات الإنسانية، خلال العامين الماضيين، بما في ذلك الطريقة التي نتواصل بها ونعتني بالآخرين ونعلم أطفالنا ونعمل وغير ذلك. لكن بعض هذه التغييرات قد تكون وقتية، مثل ارتداء الكمامات في الأماكن العامة، والتباعد الاجتماعي، وغير ذلك، وبعضها قد يبقى معنا بشكل دائم. وهكذا، ما إن تخفّ حدة الأزمة الصحية العالمية، ما السلوكيات والتغييرات في نمط الحياة التي أصبحت هي القاعدة خلال الوباء، والتي ستبقى معنا، وأيها ستنتهي مع انتهاء الجائحة؟
ربما كان التغيير الذي طرأ في مجال العمل هو الأكثر وضوحاً خلال الجائحة؛ فقد اضطر الكثيرون إلى تغيير عملهم، أو تغيير طريقة أدائهم لعملهم. أعاد «كوفيد - 19» تعريف طبيعة العمل لملايين الناس والشركات؛ فقد خرج جنّي العمل من المنزل من القمقم في بعض أماكن العمل، واختفى الروتين المألوف، مثل التنقل اليومي والاجتماعات وجهاً لوجه، ويبدو أن طريقة العمل القديمة لن تعود بشكل كامل، كما كانت في السابق، ولا شك أن الشركات التي تتطلب حضوراً شخصياً بنسبة 100 في المائة، كشرط للتوظيف، ستجد صعوبة في الحصول على موظفين والاحتفاظ بالكفاءات الممتازة.
وقد أجرت «مؤسّسة غالوب ‏الأميركية للتحليلات والاستشارات» مؤخراً استطلاعاً أظهرت نتائجه أن ثلثي العمال المكتبيين (67 في المائة) يعملون من المنزل، إما بشكل كامل (41 في المائة) أو بشكل جزئي (26 في المائة). وعبر 91 في المائة من الموظفين المشاركين في الاستطلاع عن رغبتهم في مواصلة العمل عن بُعد، لأنه يلغي متاعب وتكاليف التنقل اليومي من وإلى العمل، ويوفر المرونة في الموازنة بين التزامات العمل والالتزامات الشخصية. وقال 30 في المائة منهم إنهم سيبحثون عن وظيفة أخرى، إذا ألغت شركتهم العمل عن بُعد.
من ناحية ثانية، بيّن الاستطلاع أن تفضيل العمل من المنزل ليس حِكراً على الموظفين، بل يخطط العديد من أصحاب العمل لمواصلة السماح بالعمل عن بُعد في المستقبل، مستشهدين بانخفاض تكاليف مباني المكاتب والموظفين، بسبب الاكتفاء بالاجتماعات الافتراضية ومحادثات الفيديو، بدل الحاجة إلى الانتقال إلى مكان العمل والتخطيط لعقد المؤتمرات الكبيرة على الأرض، والنشاطات الأخرى التي كانت شائعة في السابق.
كما غيرت الجائحة نظرة الناس إلى الترفيه المنزلي؛ فقد أصبح الكثيرون يميلون للبقاء في المنزل، بعد أن حرمهم الوباء من الخروج وحضور الحفلات الموسيقية وارتياد دور السينما ومراكز الترفيه والمراكز التجارية وحتى دور العبادة. هذا التغير انعكس بالفائدة على «نتفليكس» وغيرها من خدمات البث عبر الإنترنت، وكذلك الأمر بالنسبة لـ«أمازون» والشركات المصنعة لأنظمة المسرح المنزلي.
على سبيل المثال، أبلغت «نتفليكس» عن 214 مليون عضوية مدفوعة عالمياً للربع الثالث من عام 2021، ارتفاعاً من نحو 168 مليوناً في عام 2019، كما شهدت «أمازون» و«ديزني» ارتفاعاً كبيراً في الاشتراكات في العامين الماضيين. ورغم تباطؤ هذا التوجه، فإن الخبراء لا يتوقعون أن يتلاشى اهتمام الناس بالترفيه المنزلي.
من ناحية أخرى، أصبح الناس أكثر اهتماماً بصحتهم الشخصية وصحة أحبائهم والمقربين منهم. لقد جعلت الأزمة العالمية الناس يركزون على أهمية صحتهم، وهو تحول إيجابي يتوقع الخبراء أن يستمر بعد أن يخف الوباء. حتى بعض السلوكيات التي ربما بدت غريبة قبل الوباء، مثل تعقيم اليدين وارتداء الكمامة في الأماكن العامة، أصبحت طبيعية ومقبولة لمعظم الناس.
ومن الناحية الاجتماعية، تسبب الحجر الصحي المفروض على مئات الملايين من البشر في جميع أنحاء العالم، في تغيير وتيرة الحياة اليومية وعاداتنا وسلوكياتنا الاجتماعية، لكنها حملت في ثناياها فوائد، وساهمت في خلق إيجابيات وسلوكيات جديدة لم تكن لتطرأ على حياتنا لولا هذه الجائحة. وأبرزت هذه الأزمة الإنسانية جوانب إيجابية، مثل روح التضامن بين الجيران، وقضاء المزيد من الوقت مع الأسرة، وتراجع الوتيرة السريعة للحياة اليومية، وحتى انخفاض معدل تلوث الهواء على مستوى العالم.
وقد أعربت كثير من الأمهات، في لقاءات تلفزيونية وصحافية، عن سعادتهن، لأن وجودهن في المنزل منحهن الفرصة للعناية بالأسرة والأولاد وقتاً أطول، كما أنه من الواضح أن أفراد الأسرة أصبحوا أكثر تقارباً، بسبب وجودهم مع بعضهم داخل المنزل فترات طويلة. حتى العلاقات بين الجيران صارت أفضل. كما أن الوقت الطويل الذي قضاه الناس في المنزل، وتوفر الإنترنت منح الكثيرين الفرصة لتعلم مهارات جديدة، وتطوير قدراتهم إلى حد كبير.
ورغم افتقاد الأصدقاء والعلاقات الاجتماعية والنقاشات في محيط العمل بسبب الحجر الصحي؛ فقد وجد الكثيرون توازناً نفسياً ممتعاً، بسبب قلَّة ضغوط الحياة اليومية وظروف العمل والقدرة على النوم بشكل أفضل وأطول. هذه التجارب الإيجابية لم تكن لتحدث لولا جائحة «كورونا».
كما أبرزت الأزمة الصحية العالمية أهمية التكافل الاجتماعي، حيث بادر كثيرون إلى دعم الفقراء وأصحاب الأعمال البسيطة الأكثر تضرراً بسبب الجائحة، وذلك بتوفير المواد الغذائية الأساسية لمئات الآلاف من الفقراء في شتى أنحاء العالم.
أما تأثير أزمة «كوفيد - 19» على البيئة، فقد كان إيجابياً إلى حد كبير، خلال حالة الإغلاق العام، وتراجع الأداء الاقتصادي، وتقييد حركة انتقال البشر، وانخفاض معدل استخدام وسائل النقل العام وركوب السيارات وحظر الطيران، أصبحت البيئة المستفيد الأول من هذه الأزمة غير المسبوقة في القرن الحادي والعشرين. عدد من التقارير العلمية كشف انخفاض مستوى التلوث حتى في الدول الصناعية الكبرى، وأولها الصين. وأظهر تحليل لموقع «موجز الكربون» أن هذه الأزمة قلَّلت مؤقتاً انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الصين بنسبة 25 في المائة، مع استمرار الانبعاثات دون المستوى الطبيعي، بعد أكثر من شهرين من دخول البلاد في حالة إغلاق. هذه الحقيقة قد تشجع كثيراً من الجهات على اتخاذ تدابير إضافية بعد القضاء على «كوفيد - 19»، التي من شأنها تقليل الانبعاثات، مثل العمل عن بُعد وتقصير خطوط التوريد العالمية.
أما من حيث المزايا الأكاديمية، التي لمستها عن قرب بسبب عملي في «جامعة الملك عبد العزيز» في جدة خلال الجائحة، فإن التعلم عبر الإنترنت يساعد في ضمان التعلُّم عن بعد، ويمكن إدارته، ويمكن للطلاب الوصول بسهولة إلى أساتذتهم وإلى المواد التعليمية المطلوبة. كما خففت الأزمة المهام الإدارية، مثل تسجيل المحاضرات وتسجيل الحضور. كما أن طرائق التعلم عبر الإنترنت شجعت على تركيز الطالب أثناء حالة الإغلاق، وتعلم الطالب تنظيم وقته وجهده بشكل ذاتي خلال اليوم.
ختاماً، يمكن القول إن جائحة «كوفيد - 19»، رغم كل الآلام التي تسببت بها لقطاعات واسعة من الناس، كان لها جوانب إيجابية أيضاً، وقدمت دروساً قد تستفيد منها الأجيال القادمة بشكل كبير.
- باحث ومترجم سوري


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


«أكبر اختراق» يطارد «الخدمة السرية» الأميركية

TT

«أكبر اختراق» يطارد «الخدمة السرية» الأميركية

عناصر من الخدمة السرية يستبقون وصول الرئيس الأميركي جو بايدن في قاعدة أندروز في ماريلاند (أ ف ب)
عناصر من الخدمة السرية يستبقون وصول الرئيس الأميركي جو بايدن في قاعدة أندروز في ماريلاند (أ ف ب)

في الثالث عشر من يوليو (تموز) الحالي، وفي تمام الساعة السادسة والربع مساء بتوقيت واشنطن، تردد طنين الأخبار العاجلة في كل أرجاء البلاد، والعالم: الرئيس السابق دونالد ترمب أُصيب بإطلاق نار في حدث انتخابي في بنسلفانيا.

ترمب المدمَّى الوجه، وقف مُحكماً قبضته أمام الكاميرات، ومشى بثبات برفقة أعضاء الخدمة السرية المسؤولين عن حمايته، فاستقلَّ سيارته متوجهاً إلى مستشفى محلي لتلقي العلاج.

لحظات صدمت الشارعين الأميركي والدولي. فمحاولة اغتيال رئيس أميركي سابق هي لحظة مخيفة، وتاريخية في الولايات المتحدة، تعيد إلى الأذهان مشاهد اغتيال رؤساء سابقين كجون كينيدي وأبراهام لينكولن، ومحاولة اغتيال رونالد ريغان، الرئيس الجمهوري السابق، وتعد تكراراً لسوابق خطيرة من الإخفاقات الأمنية لعناصر الخدمة السرية كادت تودي في هذه الحالة بحياة رئيس سابق ومرشح رئاسي.

فشل أمني «ذريع»

بمجرد اتضاح الصورة بعد مغادرة ترمب ساحة الجريمة، صُعق الجميع لدى رؤية ما جرى: منفّذ الاعتداء، الأميركي البالغ من العمر 20 عاماً ماثيو كروكس، متسللاً بوضوح فوق سطح أحد المباني القريبة من موقع الخطاب، وبيده بندقية «آر 15».

دونالد ترامب مغادراً المنصّة بعد انتهاء مؤتمر الحزب الجمهوري في ملوواكي (أ ف ب)

كروكس تمكن من الاقتراب بشكل مثير للعجب من ترمب الموجود على مسافة 140 متراً منه، وإطلاق النار قبل قنصه من أحد عناصر الخدمة السرية، فيما وُصف بأكبر خرق أمني منذ محاولة اغتيال ريغان.

ويتحدث مارك هيريرا رقيب الشرطة السابق ومدير الأمن المسؤول عن المنشآت التجارية التابعة لوزارة الأمن القومي عن الإخفاقات الأمنية المحيطة بالحادثة، فيقول في حديث مع «الشرق الأوسط» إن أحد أسباب القلق الأساسية هي المحيط الأمني. وأوضح: «لقد تمكن مطلق النار من الوصول إلى موقع مشرف على الحدث، مما يدل على تقصير شديد في حماية المحيط بشكل فعّال».

ويؤكد هيريرا أهمية توسيع المناطق المحمية قدر المستطاع خصوصاً في المناطق المرتفعة التي توفر «موقعاً استراتيجياً»، ويقول محذراً: «مواقع من هذا النوع تسمح لطلقات البندقية بإصابة أهدافها بدقة مدمرة»، على غرار ما حصل في عملية اغتيال الرئيس الـ35 جون كينيدي الذي قضى بعد إصابته بطلقات نارية وهو في سيارته إلى جانب زوجته جاكلين في ولاية تكساس في عام 1963».

عناصر من جهاز الخدمة السرية يحيطون المرشح الجمهوري دونالد ترامب وهو يدخل سيارته بعد تعرضه لمحاولة اغتيال (أ ب)

العميلة السابقة في مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) كاثرين شوايت، تلفت إلى وجود «ثغرات» محتملة في خطة عناصر الخدمة السرية لحماية ترمب، وتفسر قائلة في حديث مع «الشرق الأوسط»: «سيتم النظر على وجه التحديد فيما إذا كان المحيط الأمني للمكان ضيقاً بما سمح لمطلق النار من الاقتراب. كما سيتم تقييم التقارير عن رؤيته قبل إطلاق النار لتحديد ما إذا كانت هناك فرصة ضائعة للتدخل قبل ذلك». وذلك في إشارة إلى شهادات شهود عيان في موقع الحادثة قالوا إنهم نبهوا العناصر الأمنية إلى وجود مسلح على سطح المبنى قبل إطلاق النار بدقائق، كهذا الشاهد الذي قال لشبكة (بي بي سي) إنه رأى المسلح قبل أن يطلق النار: «كنت أفكر، لماذا لا يزال ترمب يتكلم؟ لماذا لم يسحبوه من المنصة؟ ثم سمعنا 5 رصاصات...».

ويسلّط هيريرا الضوء على مشكلة أخرى وهي ردة فعل عناصر الخدمة السرية بعد إصابة ترمب، فيرى أن إخراجه من موقع الحادثة كان غير منظم «مما أدى إلى تعريضه للخطر في 3 مناسبات منفصلة»، ويشدد على ضرورة أن يكون الرد على هذه التهديدات سريعاً وحاسماً لضمان سلامة الرئيس، وهو ما لم يظهر في الرد على هذه الحادثة، على حد تعبيره.

تحقيقات واتهامات

على ضوء هذه المعطيات، تواجه الخدمة السرية ومديرتها كيمبرلي تشيتل، المرأة الثانية التي تتسلم هذا المنصب في التاريخ الأميركي، انتقادات حادة بسبب هذه الإخفاقات الأمنية، وصلت إلى حد فتح تحقيقات تشريعية بهذا الخصوص، واستدعاء تشيتل للإدلاء بإفادتها أمام الكونغرس في مواجهة دعوات لاستقالتها. ويقول النائب الجمهوري جايمس كومر، رئيس لجنة المراقبة والإصلاح الحكومي، الذي استدعى تشيتل: «هناك كثير من الأسئلة يطالب الشعب الأميركي بالحصول على أجوبة عنها».

ولا تقتصر هذه الدعوات على الجمهوريين فحسب، بل تتخطاها لتشمل الديمقراطيين على رأسهم الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي أوصى بفتح تحقيق مستقل بشأن الأمن القومي لتقييم ما جرى متعهداً بـ«مشاركة نتائج التحقيق مع الشعب الأميركي».

شرطيان أميركيان يقفان أمام منل توماس ماثيو كروكس المتهم بالتورط في محاولة اغتيال ترامب (رويترز)

وبانتظار هذه التحقيقات المتفرقة، فتح مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) تحقيقه الخاص في عملية الاغتيال، وهذا ما ذكرته شوايت، مشيرةً إلى أن «إف بي آي»، التابع لوزارة العدل، والخدمة السرية، التابعة لوزارة الأمن القومي «سيعملان معاً مع وكالات فيدرالية أخرى للغوص في تفاصيل ما جرى وتشخيص نقاط الضعف». وأضافت: «هذا يتضمن مراجعة الخطط وإجراء مقابلات مع عناصر الأمن وقوات الأمن المحلية».

وتفسر شوايت، التي شمل عملها التنسيق مع الشرطة المحلية للتحقيق في حوادث إطلاق النار والرد عليها، مهمة مكتب التحقيقات الفيدرالي المسؤول عن الحوادث الداخلية في الولايات المتحدة، فتقول: «يعمل عناصر (إف بي آي) مع الخدمة السرية بشكل متواصل لمشاركة الاستخبارات حول التهديدات المحدقة بالأشخاص الذين يتطلبون الحماية، ويشارك المكتب بالتعاون مع عناصر الشرطة المحلية بالتخطيط للأحداث العامة»، لكنها تستطرد مشيرةً إلى أن «إف بي آي» هي الوكالة الوحيدة المسؤولة عن التحقيق في كل مرة يحصل فيها اعتداء على مسؤول فيدرالي، وتعطي مثالاً على ذلك بالتحقيقات في محاولات اغتيال الرئيسين السابقين رونالد ريغان وجيرالد فورد قائلة: «(إف بي آي) تجمع الأدلة وتحللها وعناصرها سيجرون مقابلات مع الحاضرين لوضع جدول زمني وصورة كاملة لمن كان متورطاً في الاعتداء. وفي حال اتضحت ضرورة توجيه تهم جنائية يطلب المكتب من وزارة العدل النظر في توجيه هذه التهم».

توصيات

وبانتظار هذه التحقيقات، تُجري الخدمة السرية تحقيقاتها الخاصة حول الثغرات الأمنية المحتملة، والإصلاحات التي يجب أن تُفرض للحؤول دون تكرار حوادث من هذا النوع. ويقول فيريرا إنه من الضروري جداً تعزيز تدريبات القوى الأمنية في الخدمة السرية المسؤولة عن حماية شخصيات بارزة، معتبراً أنه كان من الواضح من خلال رد فعل العناصر الموجودين حول ترمب أن بعضهم يفتقر للتدريب الكافي. ويفسر ذلك قائلاً: «لقد رأينا فريق الخدمة السرية يتردد عدة مرات ويعرّض الهدف (ترمب) للخطر. يجب تحديد الأدوار والمسؤوليات بوضوح لكل عضو في الفريق. هذا يخفف من التردد ويضمن اطّلاع الجميع على مهامهم المحددة في حال الطوارئ». ويضيف فيريرا، المسؤول عن تأمين الحماية الأمنية لمنشآت وزارة الأمن القومي التجارية: «يجب أن تمر الفرق بتمارين مكثفة، مما يعني إجراء تدريبات منتظمة وواقعية تحاكي مجموعة متنوعة من التهديدات المحتملة لضمان سرعة التصرف. كما يجب التركيز بشكل أساسي على التدريب في أجواء ضاغطة لمساعدة العناصر على الحفاظ على رباطة جأشهم واتخاذ قرارات سريعة تحت الضغط».

إخفاقات سابقة

تكرَّر على لسان الكثيرين مقارنة بين حادثة إطلاق النار على ريغان في العاصمة الأميركية واشنطن في عام 1981 التي أُصيب خلالها بجروح أدت إلى مكوثه في المستشفى لمدة 12 يوماً، وحادثة إطلاق النار على ترمب من حيث الإخفاقات الأمنية. وهذا ما قاله النائب الديمقراطي روبن غاليغو، الذي تحدث عن «أكبر فشل أمني على أعلى المستويات منذ محاولة اغتيال الرئيس ريغان».

يتفق عنصر الخدمة السرية المتقاعد تيم مكارثي مع توصيف ما جرى بـ«الفشل الأمني»، ويقول مكارثي الذي كان ضمن العناصر المكلفين بحماية ريغان، وأُصيب بطلقة نارية في صدره جراء محاولة الاغتيال: «عندما يُصاب شخص تحت حماية الخدمة السرية، فهذا يعد فشلاً لأن هذا يجب ألا يحصل». ويتابع مكارثي في مقابلة مع شبكة (إن بي سي): «قد يكون الأمر فشلاً فردياً أو من نوع آخر، لكنه فشل من دون أدنى شك. إن محاولة اغتيال ريغان كانت فشلاً أمنياً لأنه أُصيب بجراح. وما جرى مع ترمب هو فشل أمني ويجب أن ننظر إلى أسبابه».

وهذا ما تعهد به النائب غاليغو الذي قال في رسالة إلى مديرة الخدمة السرية: «لا يمكن تكرار ما جرى، وأنا أطالب بتحمل المسؤولية».

وهي ليست المرة الأولى التي تواجه فيها تشيتل انتقادات من هذا النوع، فقد سبق أن تعرضت لموجة من الانتقادات جراء أحداث اقتحام الكابيتول في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، وذلك بعد أن أصدر تحقيق فيدرالي تقريراً قال فيه إن الوكالة محت رسائل هاتفية لعناصرها خلال الأحداث، كان من الممكن لها أن تسلّط الضوء على الإخفاقات الأمنية في ذلك اليوم. وبررت الخدمة السرية سبب محو الرسائل بـ«تغيير في تقنيات النظام الهاتفي» في الوكالة.

وواجهت الوكالة انتقادات متكررة كذلك بعد دخول متسلل إلى منزل مستشار الأمن القومي جايك سوليفان، الذي يتمتع بحماية عناصر الخدمة السرية في عام 2023.

وفي 2021 تأخر عناصر الوكالة 90 دقيقة في إجلاء نائبة الرئيس كامالا هاريس من موقع وجود قنبلة خارج اللجنة الوطنية الديمقراطية.

أما في عام 2014 فقد تمكن متسلل من القفز فوق سور البيت الأبيض والدخول من الباب الأمامي قبل إلقاء القبض عليه في عهد الرئيس السابق باراك أوباما.

ناهيك بفضيحة دعارة في كولومبيا في عام 2012 على هامش قمة الأميركيتين شملت أكثر من 20 امرأة في فندق في «كارتاخينا» تورط فيها عناصر من الوكالة ولطخت سمعتها.

ما «الخدمة السرية»؟

لم تكن مهمة الوكالة حماية المسؤولين في بداية عهدها، فقد أسَّسها الرئيس السابق أبراهام لينكولن في الخامس من يوليو (تموز) 1865 للتصدي لتزوير العملة، وكانت حينها تحت سلطة وزارة الخزانة.

بعد اغتيال الرئيس السابق ويليام كينلي، عام 1901 وجّه الكونغرس الوكالة إلى توفير الحماية للرؤساء لتصبح الوكالة الاستخباراتية الأولى الداخلية في الولايات المتحدة، قبل أن يتم تجيير مهمة جمع الاستخبارات الداخلية إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي لدى تأسيسه في عام 1908.

وبينما اقتصرت مهمة تأمين الحماية على الرؤساء فقط في بداية الأمر، عاد الكونغرس وطلب توسيع نطاقها بعد اغتيال السيناتور السابق والمرشح الديمقراطي للرئاسة روبرت ف. كينيدي في عام 1968 لتشمل عائلات الرؤساء والمرشحين للرئاسة ونوابهم.

في عام 2003 نُقل الإشراف على الوكالة من وزارة الخزانة إلى وزارة الأمن القومي، وهي تتضمن 8300 عنصر، وتصل موازنتها السنوية إلى 3.2 مليار دولار.

أسماء مشفرة

يستعمل عناصر الخدمة السرية أسماء مشفرة للرؤساء وعائلاتهم والمسؤولين الأجانب والمقرات الفيدرالية الأميركية لدى التواصل فيما بينهم. وقد بدأت هذه السياسة لأسباب أمنية قبل تشفير التواصل الإلكتروني، لتصبح اليوم تقليداً معتمداً لدى الوكالة، وهنا بعض الأسماء المعتمدة:

باراك أوباما: رينيغايد، أو المتمرد.

دونالد ترمب: موغل، أي القطب أو الشخص المهم.

جو بايدن: سيلتيك، أي الشخص من أصول أوروبية – آيرلندية.

البيت الأبيض: القصر.

الكونغرس: بانشبول، أو وعاء العصير.

البنتاغون: كاليكو، في إشارة إلى شكله الخماسي.

وزارة الخارجية: بيردز، أي أو عين الطائر.

الموكب الرئاسي: بامبو.