هل يستطيع الناس المختلفون أن يتعايشوا في المدينة الواحدة؟

لندن من المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس
لندن من المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس
TT

هل يستطيع الناس المختلفون أن يتعايشوا في المدينة الواحدة؟

لندن من المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس
لندن من المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس

تحمل مُدنُنا الإنسانيّة المعاصرة سماتِ التراث الذي نشأت عليه، وبه انطبعت انطباعاً عميقاً، وفيه اختبرت ضروباً شتّى من النموّ والتطوّر. ولكنّنا نراها اليوم تُشرّع أبوابَها لاستضافة أفرادٍ يأتون إليها من كلّ حدب وصوب، إما للسياحة، وإما للتجارة، وإما للتقابس الفكريّ، وإما للإقامة الموقّتة أو الدائمة. لا شكّ في أنّ لكلّ مدينة من مُدننا طابعها التراثي المقترن بهويّتها الثقافيّة الخاصّة. لذلك يلاحظ المرءُ الإرباك الذي ينتاب الضيوف حين يَطؤون أرض الغربة، سواء في الشرق أو في الغرب. فالشرقي الذي يَقصد مُدنَ الغرب يندهش اندهاشاً عظيماً حين يعاين مقدار الاختلافات التي تجعله يفكّر تفكيراً مليّاً في إمكانات تكيّفه وتأقلمه وانسلاكه الهني في المجتمع المستضيف.
شهيرة المفاتحات التي أسرَّ بها إليها الأديب المصري رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز». ومعروفة الملاحظات اللغويّة التي دوّنها العلّامة اللبناني إبراهيم اليازجي (1847-1906) في مجلّة «الضياء» المصريّة، حين أدرك عجز اللغة العربيّة عن وصف أدقّ عناصر الآلات التقنيّة الغربيّة، والإتيان باصطلاحات ومرادفات عربيّة ملائمة تفي بأغراض الإبانة الصحيحة. ولا يخفى على أحد التأثير الطيّب الذي خلّفه أدبُ الرحلة في ذاكرة الشعوب. غالباً ما أستمتع بالصوَر المبدعة التي رسمها الشاعر الفرنسي لامارتين (1790-1869) في وصف رحلته اللبنانيّة (1832)، أو الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة (1889-1888) في الإفصاح عن أحاسيس وجدانه أثناء ترحالاته الروسيّة والفرنسيّة والأميركيّة. لا عجب، من ثمّ، أن يتكرّر السؤال، على سبيل المثال، عن كيفيّة استضافة البلدان الإسلاميّة الأجانبَ الذين يأتون إليها. من المصادفات الباعثة على التفكير أن يسأل المرء اليوم: كيف ستستقبل الدوحة الجموع الغفيرة التي ستنزل في ضيافتها لمناسبة العُرس الكروي العالميّ، حاملة إليها أعرافها وتقاليدها وممارساتها التي تخالف تراث المدينة، وأحكامها المتعلّقة بشرب الكحول، والاحتفالات الليليّة الصاخبة، والمخالطات التغازلية العفويّة.
لا بدّ، والحال هذه، من الاستفسار عن إمكانات المعايشة التمايزيّة في نطاق المدينة الإنسانيّة المعاصرة الواحدة، سواء في الشرق أو في الغرب. إذا كان لكلّ مدينة من مُدننا هويّتها الثقافيّة، وخصوصيّتها التراثيّة، ومُستنداتها الأخلاقيّة، وخلفيّاتها الروحيّة، وأحكامها التشريعيّة، وأعرافها المسلكيّة، فهل يستطيع الناسُ الضيوفُ الذين لا يؤيّدون هذه التصوّرات أن يحيوا فيها حياة سلميّة هادئة؟ إذا اقتصرت الإقامة على بضعة أيّام، أمكننا أن نغضّ الطرف، وأن نستمتع بالغربة الثقافيّة استمتاعاً استثنائيّاً. أما إذا تحوّلت الزيارة إلى سكنٍ دائمٍ، فهل نستطيع أن نتعايش والأقوام الذين يختلفون عنا في مَعشرهم وملبسهم ومأكلهم ومسلكهم ومعبدهم ومفهومهم الثقافي الأرحب؟
من السؤال الثقافي المربك هذا تنبثق استفساراتٌ أخرى: هل يحقّ للضيف أن يبدّل في هويّة المضيف الثقافيّة؟ هل يجوز أن يظلّ الضيفُ المقيمُ على حال التريّث والامتناع عن التأقلم حتّى تتبدّل الأمورُ؟ ما حدود التغيير الذي يمكن أن يتصوّره المرءُ حين يفترض أنّ الغربة تُفضي حتماً إلى التفاعل الثقافي البنّاء، فتُبدّل في الضيف وفي المضيف على حدٍّ سواء؟ متى يصبح الضيف من أهل البيت؟ وما معايير الاندماج الثقافي الحقّ؟
من شروط الاستضافة اللائقة أن يراعي المضيفُ اقتناعات الضيف، وأن يحرص الضيفُ على صون الانتظام الاجتماعي العامّ في مدينة الاستضافة. ينطوي التراث العربي على أعراف ضيافة الأربعين يوماً يَنعم الضيفُ في أثنائها بكرم المضيف، وخصوصاً بحرّيّة الامتناع عن تسويغ إقامته، إذ إنّ المضيف لا يسمح لنفسه بأن يستنطقه أو يستجوبه. غير أنّ هذا كلّه يقتصر على الأخلاقيّات العامّة، في حين أنّ المطلوب النظرُ في إمكانات المعايشة السلميّة بين الناس المختلفين في المدينة الإنسانيّة الواحدة. لذلك لا بدّ لنا من استجلاء بعض الحقائق الأنثروبولوجيّة الأساسيّة التي ينبغي أن نعتصم بها في سياق المباحثات الرامية إلى معالجة هذه المسألة.
لا ريب في أنّ المبدأ الأوّل التنوّعُ الأصلي في الأرض، إذ إنّ الناس يُعبّرون عن ذاتيّاتهم في صوَرٍ شتّى وأشكالٍ مختلفة. ومن ثمّ، لا يجوز أن نسعى إلى إنشاء مدُنٍ محايدة تراثيّاً وثقافيّاً تنشأ على صورة الحياد التقني الانصهاري الذي تفرضه علينا العولمة الجارفة. ولكن من الضروري أن نفكّر في الفصل بين التراث الثقافي الذي يبني الهويّة الجماعيّة، والشريعة الإنسانيّة الكونيّة الواحدة في تنوّع تعابيرها القانونيّة وغزارة منطوياتها التطبيقيّة. يقتضي مثل هذا الفصل أن نقبل الطابع التراثي الثقافي الذي يَهب كلَّ مدينة سحرَها الخاصّ، وأن نَنعم بالغربة الثقافيّة التي تستتبعها الأعرافُ العامّة السائدة في المدينة التي تستضيفنا، ولكن من غير أن نغفل المقتضيات الحقوقيّة الأساسيّة التي تفترضها كرامة الكائن الإنسانيّ.
لذلك لا يجوز لنا أن نطالب بنزع الطابع الثقافي هذا، أو بتغييره، أو بتعديله. لا يجوز لنا أن نبني الهياكل البوذيّة في أنحاء باريس كلّها، وحجّتنا في ذلك أنّ البوذيّة مذهبٌ روحي سلمي يُغني الوجدان الإنسانيّ. ولا يحقّ لنا أن نملأ الأحياء السكنيّة الباريسيّة بالمطاعم الصينيّة، وذريعتنا أنّ النظام الغذائي الصيني من أفضل الأنظمة وأخفّها وأسلمها. ماذا ينفع الحضارة الكونيّة أن نستزرع النموذجَ الصيني في التربة الفرنسيّة، أو أن نستنبت المثالَ الفرنسي في الأرض الصينيّة؟ هل تحتاج الإنسانيّة إلى صين أخرى أو فرنسا أخرى؟
يربكني أشدّ الإرباك أمرُ الأُوروبّيين الذين يرومون أن يفرضوا نظام المدينة الغربيّة في الأرض العربيّة، وأمرُ العرب المهاجرين الذي يسعَون إلى إعادة بناء المدينة الأوروبّيّة المضيفة على هيئة مُدُنهم العربيّة التي تركوها لأسبابٍ شتّى.
استناداً إلى مبدأ التنوّع الذي يتطلّب الفصل بين التراث الخاصّ والشريعة الكونيّة، يجب أن نصوغ مبدأً ثانياً يقضي أن نميّز في التراث الثقافي الخاصّ بين ضربَين من الحقائق الإنسانيّة: الحقائق التي يؤيّدها جميعُ الناس من غير اعتراض أو تحفّظ، والحقائق التي يستحسنها أهلُ المدينة دون سواهم. لا بدّ هنا من التفطّن إلى المخاطر التي ينطوي عليها مثل هذا التمييز. ربَّ سائلٍ يسأل: كيف نستطيع أن نجزّئ الهويّة الثقافيّة الواحدة؟ جوابي أنّ التراثات الثقافيّة الخاصّة تنفرد ببعض الأحكام الاعتباريّة الاستنسابيّة المقترنة باختبارات الجماعة التاريخيّة، ولو أنّها تشتمل على تصوّراتٍ تحمل سمات الحقائق الأنثروبولوجيّة العامّة. بتعبير أوضح، يجب إلقاء البال إلى بعض الأحكام التشريعيّة الخاصّة التي تعتمدها المجتمعات وتفرضها على أبنائها دون سواهم، ومنها ما يتعلّق بالملبس والمأكل وآداب المعاشرة، وما إلى ذلك من شؤون الحياة اليوميّة.
لا أعتقد أنّ مثل هذه التباينات تُعطّل المعايشة السلميّة بين أصحاب الأرض المضيفين والضيوف المستقرّين حتّى زمن اندماجهم التفاعلي الناجز. لا بدّ، في هذا السياق، من التخلّق بأخلاق الحكمة الإنسانيّة السمحة، والاعتراف بأنّ زي المرأة الغربيّة المتحرّرة المتخفّفة من معاطفها لن يُبطل انتظامَ الحياة الاجتماعيّة في المدينة العربيّة، وأنّ الخِمار الأرجواني الزاهي أو الوردي المشرق الذي تتخمّر به المرأة العربيّة المتصوّنة، وبه تزيّن ضفائرَ شعرها، لن يصيب الوعي الفردي الغربي بمكروهٍ حضاري جسيم. غير أنّ العري الجسدي الفاضح في الشارع الغربي والشارع العربي يستقبحه الإنسانُ في جميع التراثات الثقافيّة. كذلك البرقع الأسود الذي يُغشّي جسد المرأة من قمّة الرأس إلى أخمص القدم لا يخيف الناس فحسب؛ بل يحجب هويّة المرأة التي ينبغي أن تتلألأ على محيّاها، ويعطّل العلاقة الإنسانيّة المبنيّة على استجلاء أمارات الوجه وتأوّل انفعالات النفس المتجلّية في حركات الجسد كلّه.
ذكرتُ المثال التفصيلي هذا لأبيّن الغنى التفسيري الذي يحتمله مبدأ الفصل بين الحقائق الخاصّة والحقائق العامّة في التراث الثقافي الواحد. بيد أنّ المسألة تنطوي على خلاصات أوسع وأشمل، إذ إنّ المدُن المعاصرة لا يجوز لها أن تفرض على الضيوف المستقرّين أحكاماً تشريعيّة لا يُقرّها العقل الإنساني السليم. وكذلك الضيوف المستقرّون لا يحقّ لهم أن يسلكوا مسلكاً يخالف هذه الأحكام، ولا يحسن بهم أن يغيّروا في أعراف المجتمع المضيف التي لا تناقض المبادئ الإنسانيّة الأساسيّة. لذلك يجب الاعتصام بمبدأٍ ثالثٍ يصون المعايشة الاختلافيّة التمايزيّة في المدينة الإنسانيّة الواحدة، ويقضي بأن يعتمد أهلُ المسكونة جمعاء شرعة حقوق الإنسان الكونيّة التي أقرّتها أغلبيّة الدساتير الوطنيّة والشرائع المحلّيّة. أعتقد أنّ هذه الشرعة تحتوي على عصارة النضج الإنساني الكوني الذي يفرض على الضيف والمضيف أن يسلكا سلوكاً يراعي كرامة كلّ إنسان وحرّيّته، ويصون أصول العدل والإنصاف، حتّى ينعم الجميع بالحدّ الإنساني الممكن من التضامن الأخوي والتسالم البنّاء.
إذا راعى الناس المبادئ الثلاثة هذه، أمكنهم أن يتعايشوا في المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس. وحدها مثل الحكمة الإنسانيّة الراقية هذه تمنعنا من تقسيم العالم فسطاطَين أو دارَين يتحاربان حتّى الإفناء. ليست الأرض في حال احترابٍ حضاريٍّ؛ بل في طور النضج التحاوري الذي يجعل الناس يعترفون بذاتيّاتهم الثقافيّة، اعترافاً يتيح لكلّ جماعة أن تحيا وتنمو في المدينة الإنسانيّة المعاصرة المبنيّة على شرعة حقوق الإنسان الكونيّة، والمزيّنة بالتراثات الروحيّة الجليلة التي لا تناقض مبادئ هذه الشرعة.
- مفكر لبناني


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.