غور الزمان وإهمال المكان

نحن على سطح كوكبنا هذا لناظر آخر في الكون أو الأكوان، حسب نظرية الأكوان المتعددة (د.ب.أ)
نحن على سطح كوكبنا هذا لناظر آخر في الكون أو الأكوان، حسب نظرية الأكوان المتعددة (د.ب.أ)
TT

غور الزمان وإهمال المكان

نحن على سطح كوكبنا هذا لناظر آخر في الكون أو الأكوان، حسب نظرية الأكوان المتعددة (د.ب.أ)
نحن على سطح كوكبنا هذا لناظر آخر في الكون أو الأكوان، حسب نظرية الأكوان المتعددة (د.ب.أ)

حبة رمل على طرف إبهامك على مد ذراعك... تلك هي المساحة المتناهية صغراً المكافئة للصورة التي التقطها التليسكوب الكوني «جيمس ويب» التي حملت تفاصيل بلايين المجرات التي تحوي بلايين الشموس والنجوم الآتي قبس نورها من زمان مضى... أو هكذا نتوهم أنه مضى...!
كل ذلك على مرمى لمحة بصر من لحظة نشأة الكون منذ ثلاثة عشر بليون سنة ضوئية...
هكذا سبرنا غور الزمان ونحن على همل من المكان في ذاك الكون المترامي نسمه كوكباً...!
كوكب يتواقت فيه - حال ما اصطلحنا على أن نسميه - الفجر والسحر والشروق والغروب... يتتام فيه ليله الدامس ونهاره البَين...
شروق الشمس في بعضه هو عين غروبها في بعضه الآخر... يُعبَدُ الله فيه بكل وقت وفي كل وقت... ففي لحظة واحدة على بقاع مختلفة من ذات الأرض يأذن الله لبعض خلقه بالصلاة... فيصلي لله فجراً وظهراً وعصراً ومغرباً وعشاءً... في ذات الآن في بقاع الكوكب شتى...
لحظة واحدة ينطوي فيها في كل آن «لحظة» أمس ويوم وغد بقاع الأرض كلها... لا تَزَيُّدَ في هذا ولا تَوَهُّم...
فيوم هذا الذي يحياه هو يوم لم تطلع شمسه على ذاك الساكن للأرض مثله في بقعة أخرى... وهو ذاته يوم مضى ولن يعود لثالث على ذات الأرض... في ذات الآن.
إن ما نحياه إذاً إنما هو طيف الزمان الواحد... ما نحياه باسم الزمن هو ظل حركتنا في طيف الزمان... أما الزمان الكائن فواحد...!
يتحرك الخلق على الكوكب - حين يتحركون ويتواصلون - بحركة ليس بين شرق وغرب ولكن بين ماضٍ ومستقبل في آنٍ يسمونه حاضراً...
ويسكن الخلق على الكوكب - حين يسكنون - بحركة بين زمانين ماضٍ ومستقبل بحركة الكوكب ذاته في الزمكان...!
ينتقل الخلق ليس من شرق وغرب أو بين شمال وجنوب... ولكن ينتقلون حين ينتقلون بين ماضٍ ومستقبل...
فالغرب زمان أكثر منه مكاناً... والشرق زمان أكثر منه مكاناً... الشرق مستقبل للكوكب لا ينقطع والغرب ماضٍ لا ينقطع.
كوكب لا حاضر عليه بل كله مستقبل يصبح ماضياً في لحظة نحن من يسميها بالحاضر ويحياها حاضراً ليس لكونها حاضراً ولكن لقصور ملكاتنا عن تقرير غير ذلك.
كل موطئ قدم على سطح الكوكب هو في جوهر حقيقته... سرج سابح يحيا في مستقبل موطئ القدم الذي يليه في حركة الدوران وفي ماضي موطئ القدم الذي انتقل بحركة الدورات قبله... وهما ما نسميهما اصطلاحاً بين السبق واللحاق... شرق وغرب... فبالأحرى الشرق هو السبق أبداً والغرب هو اللحاق أبداً...
وكأنها جهات أصلية للكرونوجرافيا أكثر منها جهات أصلية للجغرافيا...
ذاك شأن الله في حركة أجرامه... أما ساكنوها من خلقه فله ولهم شأن آخر في سبق الشرق والغرب...!!

كوكب التواقت فيه إذا أطياف من وحدة زمان، والأحوال فيه أطياف وحدة حال... كما أن نوره الأبيض هو وحدة أطياف كل درجات الضوء المشاهد المبصر والغيب الخفي...
تلك هي الحقيقة إذاً... نحيا في كون من زمان أكثر منا في مكان...
«كون»... لأن به ما كان... وما سيكون... وما هو كائن في ذات الآن.
ولأنه هو ذاته بكل تركيباته الزمانية الحاضر الوحيد الذي يجمع الماضي والمستقبل ولا تعريف للحاضر إلا كونه يجمع الماضي والمستقبل سوياً... ففيه الزمن... كل الزمن.
ما بين لحظة نشأته ولحظة فنائه وحدة كائنة في ذات الآن... لم تكن قبلاً ولن تكون بعد... هي كائنة الآن في ذات الآن...
كون لولا حركة المكان لما وجد الوقت ولولا التباطؤ والقربى من السكون لما وجد الزمان...!
وكما أوردنا في مقالنا السابق في ذات المساحة... بأنه كَون... من أثير...
كل ملموس مشاهد فيه هو أثير مختزن في أثير... مختزن لمن يملك حل شفرته والولوج إلى داخله.
كل الزمان حاضر فيه... ولكنه زمان لا حاضرَ فيه...!
كون هو جُزُر من الزمان إذاً لا جُزُر من المكان...
عين الحاضر فيه ترصد حالَ حاضرٍ هو في حقيقته أصداء ماضٍ ذهب...
نرى على صفحة سمائه صور النجوم أو أثير حقيقتها... أو قل نرى حقيقتها التي نظنها مادية والتي كانت والتي نظنها فنت وهي لم تفن في أثير... لكنها برصد حاضرنا نرصد حقيقتها الأثيرية الكائنة في أثير جديد ولجنا إليه...
نرصد على صفحة سمائه موقعاً نظنه في مادة زمن مضى، ووهجاً كان لنجم احترق وفني... ولكنه موجود في أثير الكون لم يفنَ... لأن ما نظنه ماضياً كان... ما زال كائناً في وحدة الكون الأثير.
ولأننا قلنا نحن نحيا الحاضر والماضي والمستقبل في ذات اللحظة على ذات الكوكب... نحيا في أرضنا بعض ماضي كوننا وحاضره وبعض مستقبل لناظر آخر... فنحن على سطح كوكبنا هذا لناظر آخر في الكون أو الأكوان - حسب نظرية الأكوان المتعددة Multiverse Theory - - كشأن ما نراه من صورة جيمس ويب - نحن ماضٍ كأنه فني وإن لم نفنَ...لأن الأثير باقٍ... ألم نقل هذا في مقالنا السابق.
جزر من الزمان إذاً... لا جزر من المكان... ولكن بمثلها...
فكما أن كل المكان باقٍ مهما انتقلنا بين أطرافه... فكل الزمان باقٍ مهما انتقلنا بين أطرافه...
كون كل الزمان متواقت فيه... من أكبر أجرامه سعة وعظمة وفي أدق ذراته ضيقاً صغراً وتناهياً... كل الزمان فيه حاضر ولكنه زمان لا حاضر فيه...
ماض ومستقبل متواقتان... حاضران في آن... آن لا حاضر فيه...
آن إما ماضٍ فات أو مستقبل آت...
ولكي أدلل على تلك البديهية الحقة... وأنا أكتب تلك الكلمات الآن... كل كلمة كتبت بل كل حرف كتب صار ماضياً لحظة كتب يستشرف مستقبل الحرف التالي الذي لم يكتب...
وأنت كذلك وأنت تقرأ هذه السطور فكل كلمة تجاوزها بصرك أو وقرت في سمعك بعد أن نطقت بها صارت ماضياً وما لم تقرأه هو فعل مستقبل لم يأت بعد... أما الحاضر فهو تلك الهنيهة بين رحيل ما يمضي واستقبال ما يأتي.
وليس في ذلك من جديد... ولكن جديده أن ما كنته أنا على حال الكتابة منذ آن... لم يفن وإن مضى... باقٍ في أثيرنا كما بقيت لحظة الخلق الأولى أو ما بعدها بلمح بصر فالتقطناها وصورناها بآلة ليست هي سقف السبق الإنساني في العلم والتكنولوجيا ولن تكون... وسنلتقط بفتح من الخالق في مضمار العلم ما يكون قاب قوسين أو أدنى من لحظة الانفجار الكوني الأعظم الأولى... ولنشهد بعضاً من ماضينا نحن المختزن في الأثير...!
ألم يصدق علي بن أبى طالب حين قال:
وَتَحْسَبُ أنكَ جُرْمٌ صَغِيرٌ،، وفيك انطَوَى العالم الأكبر
فَكرُوا تَصحُوا...
كاتب ومفكر مصري
8 أغسطس (آب) 2022
* في العلم والوحي والفلسفة...(2)


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


الدبلوماسية السعودية تجاه فلسطين... تاريخ من الاعتدال

الأمير محمد بن سلمان مترئساً القمة العربية - الإسلامية غير العادية في الرياض 11 نوفمبر 2023 (واس)
الأمير محمد بن سلمان مترئساً القمة العربية - الإسلامية غير العادية في الرياض 11 نوفمبر 2023 (واس)
TT

الدبلوماسية السعودية تجاه فلسطين... تاريخ من الاعتدال

الأمير محمد بن سلمان مترئساً القمة العربية - الإسلامية غير العادية في الرياض 11 نوفمبر 2023 (واس)
الأمير محمد بن سلمان مترئساً القمة العربية - الإسلامية غير العادية في الرياض 11 نوفمبر 2023 (واس)

في حال حدوثه، فإن التطبيع مع السعودية سيكون بمنزلة نقطة تحولٍ رئيسية في تاريخ إسرائيل منذ توقيع اتفاقات كامب ديفيد عام 1979. حيث إن الاعتراف بإسرائيل كدولة ذات سيادة يُعد من المحرمات عند معظم الدول الإسلامية والعربية. لكن هذا لا يعني أن الدول الإسلامية جميعها تتبنى هذا الموقف. فعلى سبيل المثال، اعترفت تركيا بدولة إسرائيل في 28 مارس (آذار) 1949، وأرسلت بعثتها الدبلوماسية إلى تل أبيب في يناير (كانون الثاني) 1950. كما اعترفت إيران بدولة إسرائيل في 14 مارس 1950.

وكانت تركيا وإيران آنذاك أقوى الدول ذات الغالبية المسلمة. غير أن الدولة الصهيونية كانت تتطلع لاعتراف سياسي من دولة عربية كبرى، وتنظر لذلك الاعتراف باهتمام أكبر من بقية الدول المسلمة؛ وذلك ما حدث بالضبط في 26 مارس 1979، عندما وقّع كل من الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن على المعاهدة التي رعاها الرئيس جيمي كارتر.

وكما هو الحال عند اليهود والمسيحيين، فإن القدس المحتلة مدينة مقدسة عند المسلمين. على الرغم من ذلك، فإن قضية فلسطين كان يتم تداولها بوصفها قضية عربية أكثر من كونها قضية إسلامية. وثمة حقائق عدة تكمن خلف وضع الهوية الإثنية كأولوية تسبق الهوية الدينية للقضية. لقد أطلق العرب مصطلح «النكبة» لوصف قيام دولة إسرائيل عام 1948 الذي فرض أمراً واقعاً بوجود الدولة العبرية بين الدول العربية.

الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن يتعانقان في 17 سبتمبر 1978 بعد توقيع اتفاقية السلام في الغرفة الشرقية للبيت الأبيض تحت أنظار الرئيس الأميركي جيمي كارتر (أ.ف.ب)

وبعد سنوات قليلة من النكبة، برز الخطاب القومي العربي بقيادة جمال عبد الناصر الذي اتخذ من قضية فلسطين شعاراً رئيسياً لمشروع الوحدة العربية الذي كان ينادي به. لقد أضفى خطاب عبد الناصر البعدَ القوميَ (أي العربي) للقضية الفلسطينية. وبالتالي، فإن الصراع بين العرب واليهود هو صراع قوميات وليس صراعاً دينياً بين المسلمين واليهود. يفسّر هذا الموقف المصري ردّة الفعل العربية القاسية تجاه المعاهدة التي وقّعتها مصر مع إسرائيل، مقارنة بالموقف الذي أبدوه تجاه تركيا وإيران الملكية، حيث لم تقاطعها الدول العربية.

في الفترة المصاحبة لمعاهدة كامب ديفيد، تصاعدت الصحوة الإسلامية التي صاحبت الثورة الإيرانية عام 1979. وقتها، بدأ الثوريون الإسلاميون في استخدام شعارات تحرير فلسطين والمسجد الأقصى كأبرز شعرات التعبئة الجماهيرية لديهم. ولعل هذا ما يفسر التحولات في النخبة الفلسطينية، حيث كانت تسود القيادة اليسارية (منظمة التحرير) والتي تراجعت شعبيتها بين الفلسطينيين لصالح المقاومة الإسلامية، والتي أكدت على الهوية الإسلامية للقضية الفلسطينية. نستذكر في هذا الصدد كون غالبية الشخصيات الإسلامية ترفض وتستنكر اعتبار فلسطين قضية عربية خالصة، وتصرّ على إسلامية القضية ومحورية قدسية المسجد الأقصى.

بتسارع الأحداث نهاية القرن الماضي، طرأ تغيير كبير في المشهد عندما وقّع الفلسطينيون مع الإسرائيليين على اتفاق أوسلو في 13 سبتمبر (أيلول) 1993. وتبع ذلك معاهدة السلام الإسرائيلية - الأردنية التي أُبرمت في 26 أكتوبر (تشرين الأول) 1994.

المصافحة التاريخية برعاية الرئيس بيل كلينتون بين ياسر عرفات وإسحاق رابين بعد اتفاق أوسلو بواشنطن يوم 13 سبتمبر 1993 (غيتي)

يمكن النظر للسعودية بوصفها رائدة في مجال الخطط العربية الشاملة للسلام مع إسرائيل؛ ففي 7 أغسطس (آب) 1981، أعلن الملك فهد بن عبد العزيز (كان وقتها ولياً للعهد) خطة للسلام في الشرق الأوسط. وتضمنت الخطة ثمانية مقترحات بعنوان «مبادئ السلام». ولخّصت هذه المقترحات قرار الأمم المتحدة رقم 242، والذي يتضمن: حل الدولتين (على أن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية)، والتأكيد على حق الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم مع منح تعويض لأولئك الذين يختارون طوعيّاً عدم العودة. رفضت إسرائيل بشدة هذه الخطة ووصفتها بأنها مخطط للإجهاز على إسرائيل في نهاية المطاف.

في وقت لاحق، أطلق الملك عبد الله بن عبد العزيز مبادرة أخرى في مؤتمر قمة جامعة الدول العربية الذي عُقد في بيروت يوم 28 مارس 2002. جاء الإعلان عن خطة سلام شامل قبل شهر من زيارة الأكاديمي والصحافي الأميركي توماس فريدمان للرياض ولقائه الملك عبد الله (كان وقتها ولياً للعهد) الذي نشر الخبر معه. طرح فريدمان فكرة السلام، فنظر إليه ولي العهد - حسب قوله - بدهشة ساخرة، وقال: «هل اقتحمتَ مكتبي؟»، غير أن المبادرة العربية قوبلت برفض إسرائيلي قاطع مرّده لكون المبادرة تستند إلى قرار الأمم المتحدة رقم 194 والذي يؤكّد على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم.

بعد رفض إسرائيل تلك المبادرات، ظهر جلياً أن فكرة طرح سلام شامل بين العرب وإسرائيل غير قابلة للتطبيق. إن الواضح كون إسرائيل تُفضل عقد اتفاقيات ثنائية منفصلة مع كل دولة عربية.

تعدّ وجهة النظر الإسرائيلية واضحة؛ فهي لا تريد أن يحصل اتفاق عربي - عبري؛ لأن من شأن ذلك أن يضع إسرائيل في موقف ضعيف كونها تقف منفردة أمام تكتل دول الجامعة العربية. يستند الموقف الإسرائيلي إلى كونهم يريدون التعامل مع الدول المجاورة بوصفها دولاً منفردة، وليس تكتلاً إقليمياً.

بالنظر إلى «اتفاقيات إبراهيم» الثنائية عام 2022 التي وقّعتها إسرائيل مع كلٍ من الإمارات، والبحرين، ثم السودان، وأخيراً مع المغرب، فإنها وُقّعت بشكل منفصل. هذه الاتفاقيات الثنائية لا تلزم إلا الأطراف التي وقّعت على كل اتفاق على حدة، من دون النظر للاتفاقيات الأخرى التي تشكّل إسرائيل القاسم المشترك الوحيد فيها.

مراسم توقيع «اتفاقيات إبراهيم» في حديقة البيت الأبيض في 15 سبتمبر 2020 (أ.ف.ب)

على الجانب السعودي، لا ترغب الرياض في أن تكون جزءاً من «اتفاقيات إبراهيم». يرجع ذلك إلى إدراك ولي العهد رئيس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان، أهمية وثقل بلاده الذي يعني الكثير للإسرائيليين الذين يتوقون للتوصل إلى اتفاق مع دولة بحجم السعودية.

يُضاف إلى ذلك مجموعة من الحسابات المعقدة، والأكثر خطورة بالنسبة للجانب السعودي في حال تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهي حسابات تفوق حسابات الإمارات والبحرين. ولهذا السبب؛ لم يتطرق الأمير محمد بن سلمان مطلقاً لعبارة ««اتفاقيات إبراهيم»» في مناقشاته التي جرت حول التطبيع مع إسرائيل. إنه يريد صياغة اتفاقه الخاص بعيداً عن الاتفاقيات مع دول أخرى مهما كانت قوة ارتباط السعودية بها.

وقبل التعمّق في مسألة إمكانية التطبيع السعودي مع إسرائيل، لا بد من أخذ لمحة عن السياق الذي بني عليه المبدأ السعودي في التعامل مع الصراع العربي - الإسرائيلي خلال النصف الأول من القرن العشرين؛ هذا السياق سيسهل على القارئ فهم الدور السعودي في ذلك الصراع.

لماذا السعودية؟

بالنظر إلى مكانتها الريادية في العالمين العربي والإسلامي، فإن المتوقع من السعودية أن توازن بين المحافظة على مصالحها الاستراتيجية المتمثلة في الشراكة مع الولايات المتحدة من ناحية، وأن تفي بالتزاماتها القيادية على المستويين العربي والإسلامي من ناحية أخرى.

لقد قلت يا أخي إنني مستعد للتضحية بنفسي وأبنائي من أجل فلسطين. وأقول مرة أخرى: النفط ليس أغلى من أبنائي. أنا مستعد لإلغاء الامتيازات النفطية إذا كان ذلك يخدم القضية.

الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن («نيويورك تايمز» 13 يوليو 1948)

جدير بالذكر، أنه قبل الإعلان عن قيام دولة إسرائيل، كانت وسائل الإعلام الغربية تصفُ موقف الحكومة السعودية بأنه يصرّ على «الحق العربي» في فلسطين. على سبيل المثال، ذكرت صحيفة «التايمز» الصادرة في 8 سبتمبر (أيلول) 1936 أن «مَلِكَ المملكة العربية السعودية عرض تسخير جهازه الحكومي في سبيل التنسيق مع الحكام العرب الآخرين، في حال كان من الممكن تأمين تعاونهم».

لم تمنع هذه اللغة الدبلوماسية المملكةَ من إدانة موضوع بناء المستوطنات اليهودية في فلسطين («التايمز»، 22 يونيو (حزيران) 1943). بل ذهب الموقف السعودي إلى أبعد من ذلك عندما تحدت السعودية قرار الأمم المتحدة بشأن الصراع الفلسطيني - اليهودي (من كتاب عبد الله فيصل آل ربح (2023) «المملكة العربية السعودية في الصحافة الأنجلو أميركية: تغطية المملكة خلال القرن العشرين». تايلور وفرنسيس. ص 89).

في هذا السياق، يتجدد دائماً السؤال الذي أُثيرَ في عام 1940 حول استخدام حظر النفط كوسيلة لدعم الفلسطينيين ضد المواقف البريطانية والأميركية الداعمة لليهود – الإسرائيليين. نقلت صحيفة «نيويورك تايمز» تعليقاً بتاريخ 13 يوليو (تموز) 1948، قال فيه الملك عبد العزيز: «لقد قلت يا أخي إنني مستعد للتضحية بنفسي وأبنائي من أجل فلسطين. وأقول مرة أخرى: النفط ليس أغلى من أبنائي. أنا مستعد لإلغاء الامتيازات النفطية إذا كان ذلك يخدم القضية».

يمثل الموقف السعودي تجاه فلسطين جزءاً من سياستها الإقليمية الاستراتيجية الدائمة. وبالعودة إلى 14 فبراير (شباط) 1945، التقى الملك عبد العزيز، مؤسس المملكة العربية السعودية، الرئيس فرانكلين روزفلت على متن السفينة «يو إس إس كوينسي» في البحيرات المُرّة الكبرى قرب قناة السويس بمصر.

كان لدى روزفلت هدفان من لقاء الملك عبد العزيز: الأول، الدافع السياسي للوصول إلى حل قاطع للمشكلة الفلسطينية - اليهودية، الدافع الآخر اقتصادي يتمثل في التوصل إلى علاقة استراتيجية أميركية - سعودية تتناسب مع مرحلة ما بعد الحرب العالمية، تضمن حصول الأمريكيين على النفط السعودي.

وعلى الرغم من السردية الإيجابية التي يتبنّاه كل من السعوديين والأميركيين حول هذا الاجتماع، فإن جوهر النقاش كان يهيمن عليه الاختلاف حول مستقبل فلسطين؛ ففي حين دافع روزفلت عن إقامة دولة يهودية، احتج الملك عبد العزيز على ذلك؛ معللاً موقفه بأنه يتوجب على اليهود أن يقيموا دولتهم في مكان آخر.

الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت (الشرق الأوسط)

بدأت الاتصالات المتعلقة بقضية فلسطين بين الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت قبل سنوات من الاجتماع الذي عُقد على متن «يو إس إس كوينسي» عام 1945. ونشرت وزارة الخارجية الأميركية رسائل عدة بعث بها الملك عبد العزيز إلى الرئيس روزفلت بين عامي 1938 و1943 يطالب فيها بحقوق الفلسطينيين في الاحتفاظ بأرضهم، وإدانة السياسة القائمة على توسيع المستوطنات اليهودية في فلسطين.

لقد مثّل هذا الاجتماع نقطة تحول في التواجد الأميركي في الشرق الأوسط؛ إذ شجع الاجتماع المملكة العربية السعودية على تحويل تحالفها الرئيسي من بريطانيا العظمى إلى الولايات المتحدة. لقد كان الهدف من لقاء الملك عبد العزيز مع الرئيس روزفلت يتمثّل في رسم أجندة التحالف السياسي والنفطي في العلاقة بين البلدين، والتي ما زالت قائمة حتى الآن. ومن الجدير بالذكر، أن اتفاقات ابن سعود – روزفلت دخلت حيّز المراجعة في المرحلة ما بعد عام 2016 في ظل التوتر الذي قادته إدارتا الرئيسان دونالد ترمب ثم جو بايدن. تضمنت مراجعات الجانبين الأجندة النفطية والعسكرية؛ إذ تسعى كل من واشنطن والرياض إلى تحقيق الحد الأعلى لمصلحة أجندتهما الوطنية. وفي كل الأحوال، بقيت القضية الفلسطينية موضوعاً تُعاد مراجعته بجدية بعد ما يقرب من سبعة عقود على لقاء عبد العزيز - روزفلت.

عند الحديث عن الصعوبة البالغة والتحديات التي تواجه السعودية فيما يتعلق بمسألة التوصل إلى تسوية شاملة مع دولة إسرائيل، ثمة واقع تاريخي للمملكة يُضاف إلى مكانتها الروحية كموطن للحرمين الشريفين. فالملك السعودي يُلقّب رسمياً بخادم الحرمين الشريفين، بينما الحرم الثالث هو المسجد الأقصى الذي يقع في القدس. ولعل هذا ما يفسر الإصرار السعودي على ضمان الحقوق الفلسطينية قبل توقيع الرياض على أي اتفاق سلام مع إسرائيل.

سياسة محمد بن سلمان تجاه الصراع

في 20 سبتمبر 2023، أجرى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مقابلة مع شبكة «فوكس نيوز»، ناقش فيها مواضيع مختلفة، بما في ذلك سياسته تجاه إسرائيل. وكانت إجابته المختصرة هي أن احتمالات تطبيع العلاقات بين البلدين «تقترب» كل يوم، ومع ذلك، ظلّت مسألة التعامل الإسرائيلي مع الفلسطينيين قضية «مهمة جداً» يجب حلها بالنسبة للسعوديين. وهذا ما يدفعنا للقول إن الإصرار على ضمان حقوق الفلسطينيين كشرطٍ للتطبيع مع إسرائيل، ليس مجرد مطلب هامشي لمسألة خارج حدود السعودية. وكما ذكرنا من قبل، فإن محمد بن سلمان على دراية تامة بما تتمتع به بلاده من وزنٍ ثقيل، ولن يُعرّض مكانتها الدبلوماسية والروحية للخطر مقابل لا شيء.

 

خلال المحادثات الأخيرة التي دارت بين الزعيمين حول حرب غزة في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أبلغ الأمير محمد بن سلمان الرئيس بايدن بأنه «لا بديل عن العودة لمسار السلام من أجل ضمان حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة ومن أجل تحقيق السلام العادل والشامل». وبالإشارة إلى الصفقة المتوقعة، أصرّ الأمير محمد بن سلمان على تضمين الموضوع الفلسطيني كجزء من خطة السلام على أن تكون السلطة الفلسطينية في رام الله ممثلاً للشعب الفلسطيني.

مبدأياً، فإن السلطة الفلسطينية تتبنى موقفاً إيجابياً تجاه السلام مع إسرائيل مقابل الاعتراف المتبادل. وإذا نجح ولي العهد السعودي في الضغط على إسرائيل للاعتراف بفلسطين كدولة على أساس اتفاق أوسلو، فإنه سيحفر اسمه في التاريخ كونه قام بحل جزء كبير من الصراع العربي - الإسرائيلي. غير أن العائق الأكبر أمام ذلك هو الموقف الإسرائيلي المتعنت الذي لا يقبل حل الدولتين.

تكمن قوة الموقف الإسرائيلي في إصراره على أسلوب المفاوضات الثنائية مع الدول العربية بشكل منفصل. ويسعى الإسرائيليون إلى التوصل إلى اتفاق ثنائي مع السعودية تحت عنوان «مصلحة البلدين» من دون إشراك طرف ثالث في أي اتفاق محتمل (أي الفلسطينيين). وقد يُقدم الإسرائيليون بعض الوعود الشفهية وبلغةٍ مواربةٍ تحمي طموحاتهم. في المقابل، يرغب السعوديون في الحصول على التنسيق مع الفلسطينيين حول أي وعود الإسرائيلية في المفاوضات؛ حتى يضمنوا موقفهم في حال نشوب أي توتر  مستقبلي بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

جانب من لقاء سابق بين الأمير محمد بن سلمان والرئيس الفلسطيني محمود عباس (واس)

يسعى الأمير محمد بن سلمان للحصول على أعلى سقف من الممكن أن يصل إليه من الاتفاق مع الولايات المتحدة وليس إسرائيل التي ليس لديها الكثير لتطرحه على الطاولة. وعليه، يهدف ولي العهد السعودي إلى فرض شروطه على واشنطن - وليس على تل أبيب - للحصول على المزيد من الضمانات الأمنية التي تشمل الأسلحة المتقدمة والتكنولوجيا العسكرية الأميركية. في حال تمكّن من تحقيق تلك الأهداف؛ فإن السعودية ستحصل على صفقات عسكرية لم تحصل عليها في تاريخها كله.

ثمة حقيقة لا بد من التوقف عندها تتلخص في أن انخراط السعودية في مفاوضات مع إسرائيل لا يضمن التوصل إلى اتفاق نهائي. ومع ذلك، نجح الأمير محمد بن سلمان في توجيه إدارة بايدن إلى الاتجاه الذي يخدم أجندته. لقد عمل منسق البيت الأبيض للشرق الأوسط بريت ماكغورك وسيطاً للاتفاقيات الاقتصادية والأمنية التي فكت الجمود في العلاقات بين السعودية وإسرائيل. وفي هذا السياق، يعد شطب تعهد بايدن بجعل المملكة «منبوذة» خطوة أولى - وغير مشروطة - في هذه المفاوضات، وهذا مكسب سياسي يسجّل لإدارة محمد بن سلمان.

ثمة وقت محدود للغاية أمام الإدارة الديمقراطية للتوصل إلى الصفقة التي من شأنها أن تفوق «اتفاق إبراهيم» الذي حققته إدارة ترمب الجمهورية. وبذلك يُفهم أن بايدن سحب بعض شعاراته المعادية للسعودية التي استخدمها في حملته الانتخابية عام 2020. وإذا لم يتمكن من التوصل إلى اتفاق سلام سعودي - إسرائيلي، فقد يؤثر ذلك على ترشحه للانتخابات الرئاسية عام 2024، الذي هو محل شك في الأصل. في هذه المرحلة، يرى بعض المراقبين أنه على الرغم من تعثر الاتفاق السعودي ـ الإسرائيلي، ربما يكون الأمير محمد بن سلمان قد حصل بالفعل على ما يريد من الانخراط في المفاوضات وإن لم يتم التوقيع.

حرب غزة 2023

لقد أربكت الحرب الأخيرة في غزة الأوضاع في الشرق الأوسط، وجعلت الأمور أكثر صعوبة. حيث أشارت معظم تقارير مراكز الأبحاث والمنصات الإعلامية إلى أن حركة «حماس» بدأت العمل العسكري بهدف تعطيل الاتفاق المحتمل بين السعودية وإسرائيل. فعلى سبيل المثال، كتب ماثيو ليفيت مقالاً في مجلة «فورين أفيرز» يتهم فيه «حماس» باستهداف إمكانية تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية، والذي وصل إلى مرحلة إجرائية أكثر جدية من أي وقت مضى.

ويرى ليفيت أن العامل الذي دفع قيادة «حماس» إلى تنفيذ الهجوم والتسبب في هذا التصعيد كان عرقلة الجهود الدبلوماسية مع السعودية في المقام الأول. ويضيف ليفيت، أن قيادة «حماس» تعتقد أن اتفاقاً كهذا من شأنه أن يُقوض موقف القضية الفلسطينية داخل منظومة الدول العربية والإسلامية. علاوة على ذلك، فإن التطبيع المتوقع يمكن أن يعزز التحالف الإقليمي الفعال ضد إيران وحلفائها، ومن ضمنهم «حماس» و«حزب الله». لذا؛ فقد ذهب التنظيمان إلى ما هو أبعد من تصعيد الخطاب السياسي والإعلامي لتشنّ «حماس» هجومها في هذا التوقيت الحرج.

يتصف الموقف السعودي تجاه الحرب بأنه غاية في التوازن. وبينما لا يؤيد السعوديون «حماس»، فإنهم يدينون بشكل قاطع وبشكل لا لبس فيه الهجومَ الإسرائيلي والحصار المفروض على قطاع غزة.

مع استمرار الحرب، يتخذ السعوديون موقفاً قوياً جداً ضد الغزو البري الإسرائيلي لقطاع غزة. ومن شأن مثل هذا الموقف أن يصعّب - إن لم يجهض - التوصل إلى اتفاق سلام بين السعودية وإسرائيل؛ وهو الأمر الذي لن يكون في مصلحة بايدن والإدارة الديمقراطية.

ماذا بعد؟

لا يبدو أن لدى عرّاب «رؤية 2030» رغبة لاستمرار التوترات لبلاده مع أي من دول محيطها الإقليمي. وهو يتبنى سياسة تصفير المشاكل؛ لذلك نجده قد قبل بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع إيران، وأعرب عن موقف إيجابي تجاه اتفاق سلام يُعقد مع إسرائيل. غير أنه يجب الأخذ في الحسبان أن إسرائيل ليست إيران، فالعلاقة مع إيران فيها قضايا ثنائية يمكن حلها بين الرياض وطهران. لكن حالة إسرائيل تتضمن كثيرا من القضايا العابرة للحدود الوطنية التي تتجاوز العلاقات الثنائية؛ والتي يجب حلّها قبل التوصل لأي اتفاق.

تعتبر القضية الفلسطينية موضوعا حاسما بالنسبة لدولة عربية إسلامية رائدة بمكانة السعودية، التي تتخذ سياسة متوازنة تحسب فيها تحركاتها استراتيجيا. ولا يزال السعوديون يتعاملون مع الولايات المتحدة باعتبارها المورد الرئيس للأسلحة والتقنيات العسكرية. وهذا يعني أن السعودية ستحافظ على موقفها من خلال تأجيل التطبيع مع إسرائيل حتى تُؤمّن ضمانات تُحقق مكاسب معقولة للفلسطينيين. وباعتبارها وسيطا في التوصل إلى اتفاق، يجب على واشنطن التعامل مع المطالب السعودية بالأسلحة والتقنيات إذا وافق حليفا الولايات المتحدة على الجلوس والتفاوض حول اتفاق سلام في المستقبل.


الأشهر الثلاثة الأخيرة من حياة الملك عبد العزيز... أهم قرارات بناء الدولة والمؤسسات والإرث الممتد

الملك عبد العزيز في عرض عسكري في الطائف وقد بدا جلوساً الأمير سعود الكبير والأمير (الملك) سعود بن عبد العزيز
الملك عبد العزيز في عرض عسكري في الطائف وقد بدا جلوساً الأمير سعود الكبير والأمير (الملك) سعود بن عبد العزيز
TT

الأشهر الثلاثة الأخيرة من حياة الملك عبد العزيز... أهم قرارات بناء الدولة والمؤسسات والإرث الممتد

الملك عبد العزيز في عرض عسكري في الطائف وقد بدا جلوساً الأمير سعود الكبير والأمير (الملك) سعود بن عبد العزيز
الملك عبد العزيز في عرض عسكري في الطائف وقد بدا جلوساً الأمير سعود الكبير والأمير (الملك) سعود بن عبد العزيز

حظي تاريخ الملك عبد العزيز على مدى عقود باهتمام المؤرخين والباحثين على اختلاف توجهاتهم وجنسياتهم، وغطت عشرات البحوث والدراسات والمؤلَّفات جوانب متنوعة من ذلك التاريخ، سواء ما يتعلق بسيرة الملك السياسية، وشخصيته القيادية، وفكره الاستراتيجي، ومهاراته العسكرية، ورؤيته النهضوية... فذلك ليس تاريخ ملك فحسب، وإنما تاريخ مملكة وسيرة أمة.

يصف الكاتب والدبلوماسي، خير الدين الزركلي، كيف أنه في أقل من 50 عاماً نجح «رجل واحد في أن ينشئ بين البحر الأحمر وخليج العرب ما عجز 12 قرناً عن إنشائه أو الإتيان بمثله». ووصف الزركلي ذلك بالقول: «إمارات تتوحد، وأمة تتكون، ودولة تُبنى، وحضارة تُشَيَّد».

وإلى ذلك، يضيف الأديب والمؤرخ السعودي محمد حسين زيدان: «الملك عبد العزيز تاج تاريخه. لقد رد الاعتبار لجزيرة العرب في وحدة الكيان الكبير». أما الكاتب والصحافي البريطاني، سيسيل روبرتس، فيشرح كيف «ملأ الملك عبد العزيز فراغاً كبيراً في التاريخ، باسطاً ملكه على مساحة تقارب مساحات إنجلترا وفرنسا وألمانيا مجتمعة»، ويضيف: «لقد غنم ملكاً باذخاً بسيفه، وأمن حمايته بالسياسة».

الملك عبد العزيز وقد شارف على السبعين من عمره

ويرجَّح أن يكون الملك؛ الذي عاش نحو 80 عاماً، قد وُلد في عام 1293هـ - 1876م في مدينة الرياض، بينما سُجلت وفاته في 2 ربيع الأول 1373هـ - 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1953م في مدينة الطائف. ورغم مرور 7 عقود على رحيله؛ فإن وقائع كثيرة أحاطت بتلك الوفاة تحتاج إلى تجلية، وأخرى إلى إيضاح، وثالثة إلى تصويب، وغير هذه وتلك؛ هناك ما يقتضي التدقيق والتثبت أيضاً. وغاية هذا البحث توثيق وقائع الوفاة وما رافقها من ردود فعل رسمية وشعبية من جهة، وأيضاً الإشارة إلى أبرز قرارات الملك المؤسس في أواخر أيامه، وما أوكله من مهام، وأصدره من أوامر وتعليمات، تثبت استقرار البلاد، وترسخ رؤيته في بناء الدولة ودعائمها، والحفاظ على أمنها واستقرارها؛ فالملك عبد العزيز لم يكن حاكماً فحسب، بل صاحب رسالة، وباعث نهضة، وباني دولة، وموحد أمة.

وما يقتضي التدوين والتوثيق أيضاً، طريقة تعامل أبناء الملك عبد العزيز مع ذلك الحدث الجلل؛ فرغم مصابهم بالفقد الكبير، فإن مهمتهم الهائلة في تحمُّل مسؤوليات حكم، وترتيب انتقال سلطة، وتأمين استقرار بلاد، وإدارة شؤون دولة لم تنل أيضاً حقها كاملاً من التوثيق. فما اصطلح الدستوريون على تسميته «فراغ السلطة» في حالات كثيرة؛ أحد أكثر الأوقات حرجاً في تاريخ الدول، هو مما لم تعرفه المملكة العربية السعودية طوال تاريخها. ولا شك في أن مرد ذلك هو المرجعية التي اعتمدتها مؤسسة الحكم، والسوابق الدستورية التي أقرتها، وحرص الملك عبد العزيز على وضع آلياتها قبل وفاته، لا سيما الأشهر الثلاثة الأخيرة من حياته التي يرصدها هذا العمل.

وإذ يسجل شهر نوفمبر الحالي ذكرى مرور 70 عاماً على وفاة الملك عبد العزيز، سنحاول الإجابة عن كثير من التساؤلات التي تتعلق بذلك التاريخ المهم في المملكة العربية السعودية، والذي تزامن مع انتقال مقاليد الحكم إلى أبناء الملك عبد العزيز، بما يحمله من دلالات وأثر على ما تلته من مراحل.

الرحلة الأخيرة

الملك على «الحصان» وهو كرسي متحرك أهداه إياه الرئيس الأميركي فرنكلين روزفلت

لم تعلم الحشود التي توافدت إلى ساحة مطار الرياض فجر السبت 28 ذو القعدة 1372هـ - 8 أغسطس (آب) 1953م لتوديع الملك المؤسس، أنه سيكون الوداع الأخير. وفي ذلك الفجر أنهى الملك صلاته، وخرج بموكبه لآخر مرة من بوابة «قصر المربع» قاصداً المطار وقد بدت عليه أعراض التقدم في العمر، وكان منذ نحو 8 سنوات (1364هـ - 1945م) غير قادر على المشي، ويعتمد في حركته على «الحصان» وهو كرسي متحرك أهداه إياه الرئيس الأميركي فرنكلين روزفلت.

وبفيض من المشاعر، يصف الأديب والتربوي السعودي السيد أحمد علي الكاظمي لقاء الملك على عربته عام 1370هـ - 1950م، فيقول: «كنا دخلنا المجلس قبل الملك، ثم بعد قليل جاء جلالته راكباً عربة صغيرة جميلة ذات عجلتين كبيرتين من خلف وعجلتين صغيرتين من أمام، وفوق رأسه مظلة يدفعها أحد المرافقين. وبرؤيته في هذه العربة تذكرت أشياء كثيرة مرت بذاكرتي مرور الطيف والحلم، وكلها تدل على التوفيق الذي رافق هذا الرجل طوال حياته، منذ خروجه لطلب مُلك آبائه. سلسلة من نعم الله التي يسبغها عليه ويغدق عليه بها؛ وذلك - لا شك - جزاء حسن نيته وأعماله الطيبة».

وكان الملك قد أطلق على عربته تلك التسمية المحببة (الحصان)، واستحسن استخدامها؛ ما جعله يترك المشي على قدميه مع تقدم السن والإصابة بتصلب الشرايين، إضافة إلى قلة النوم، والإجهاد بمتابعة شؤون الدولة؛ فهو لم ينم أكثر من 4 إلى 6 ساعات في اليوم، وأصيب بعدد من النوبات التي أثرت في صحته.

ويبقى أن كاريزما الشخصية وهيبة الملك وقوة الحضور لم تغب، كما ظل ملازماً ذلك الحب الكبير من الشعب الوفي لأبي الأمة. وكان الملك رغم ظروفه الصحية عازماً على السفر إلى الطائف للإشراف بنفسه على موسم الحج ذلك العام.

ومع شروق الشمس غادرت الطائرة الملكية من طراز «دي سي 4 سكاي ماستر» الرياض في نحو الساعة 5:30 صباحاً، وكأن شروق شمس ذلك اليوم وبسط أشعتها على هضبة نجد يذكران بشروق شمس الملك عبد العزيز على الرياض قبل ذلك التاريخ بأكثر من 50 عاماً وانطلاقه لتوحيد الجزيرة، وبسط حُكمه عليها بعد قرون من الشتات.

ولا أعلم إن كان أحد في تلك الطائرة المقلعة إلى السماء يتصور أنها الرحلة الأخيرة، وأن شمس الملك عبد العزيز تؤذن بالمغيب، وسط إقلاع سرب من الطائرات أقلّت مرافقي الملك من الأمراء وكبار رجالات الدولة والحاشية والحرس.

الاستقبال في الطائف

الملك عبد العزيز ينزل من طائرته

وفي تمام الساعة 8:20 صباحاً حطت الطائرة الملكية في مطار «الحوية»، وصعد إليها ولي العهد الأمير سعود ونائب الملك في الحجاز ووزير الخارجية الأمير فيصل للترحيب بمقدم عاهل الجزيرة. وعلى أرض المطار اصطفت الحشود من أمراء وعلماء ووزراء وأعضاء مجلس شورى وكبار التجار وقادة الجيش ورؤساء القبائل وعمد المحلات وجموع غفيرة من أبناء الشعب السعودي.

وبعد ذلك، أدت الفرقة العسكرية التحية لجلالته، وعُزف السلام الملكي، ودوّى المطار بالتصفيق، وأقيم سرادق كبير للاستقبال توافدت إليه الحشود قادمة من مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة والطائف وضواحيها لتحية الملك.

وألقى نائب رئيس مجلس الشورى وشاعر جلالة الملك أحمد بن إبراهيم الغزاوي قصيدة ترحيبية قال فيها:

-وأقبلت بك في الأجواء أجنحة

-مسخرات تشق المزن والأفقا

-ما أن تحلق باسم الله موغلة

-إلا وضوؤك فيها يغمر الحدقا

ثم غادر الموكب الملكي مطار الحوية متجهاً إلى الطائف، بينما اصطف أبناء القرى على جانبي الطريق يحيون مليكهم المفدى. وما إن وصل الموكب مدخل الطائف حتى أطلقت المدفعية 21 طلقة ترحيبية، واصطف أشبال أبناء المدارس العسكرية مؤدين التحية ومرددين عبارات الترحيب والإخلاص، كما اصطفت الجماهير على جانبي الطريق الممتدة من مدخل الطائف إلى القصر (طريق الملك فيصل حالياً) منشدين الأهازيج الوطنية. وازدانت الطريق بأقواس النصر والزينات والرايات السعودية التي رُفعت في جميع شوارع الطائف وأسواقها. وكان الأمير فيصل قد أعد قصره الجديد (قصر العقيق حالياً) ليكون مقراً لسكن الملك عبد العزيز، وسيرد تعريفه تالياً بـ«القصر الملكي»، واستأجر «الأمير» فيصل فيلتين في حي العزيزية من أمير الطائف وقتذاك عبد العزيز بن معمر، وانتقل للسكن فيهما مع أسرته.

وعند وصول الموكب إلى القصر الملكي أُدِّيت التحية العسكرية، وعُزف السلام الملكي. وفي مساء اليوم نفسه استقبل الملك وفوداً من أهالي الطائف، وأُلقيت خلال الاستقبال قصيدة لوجيه الطائف الأديب عبد الوهاب عرب، وكلمة الأهالي ألقاها نيابة عنهم المدرس بالمدرسة العزيزية الأستاذ أحمد كمال. واستمر برنامج الملك في استقبال الوفود الرسمية والشعبية، وتصريف شؤون الدولة، ووصفت ذلك الجريدة الرسمية بالقول: «لا يزال القصر الملكي العامر بمدينة الطائف يكتظ كل يوم بالوفود من مختلف الطبقات للتشرف بالسلام على جلالة مولانا الملك المفدى، والترحيب بمقدم جلالته الميمون، فيتفضل جلالته بمقابلتهم، ويغمرهم بعواطفه الملكية الكريمة، إلى جانب استمرار جلالته في تصريف شؤون الدولة، وإدارة سياستها العليا، وتوجيه وزاراتها وإداراتها المسؤولة. مع النظر والإيجاز في ما يرفع إلى أعتاب جلالته من المعاملات والمعروضات».

أما الزركلي فوصف مشهداً مختلفاً فقال: «لما أقبلت للسلام عليه، رأيته جامد البصر، لم يعرفني ولم يعرف أحداً من مقبِّلي يده أو جبهته، وفيهم بعض خواصه والمقربين منه، فارتعدت فريصتاي وحزنت. وفي ذلك العام لم يتمكن من ترؤس الحج، فناب عنه ولي عهده الأمير (الملك) سعود». ولعل الملك كان يصاب بحالات وهن وإرهاق لا يعود فيها قادراً على التركيز الكامل، يعود بعدها إلى طبيعته، ويستجمع قواه.

وروى الكاظمي وغيره شيئاً عن حال الملك في سنواته الأخيرة، وكيف لم يعد يخرج إلى البر أو المقناص، ولا يتحدث مع جلسائه كما في السابق، وأنه في أغلب الأوقات «يجلس ساكناً»، لكنه يبت في ما يُعرض عليه من معاملات، ويعلق على الأخبار. ولا بد لمن يقرأ تاريخ الملك عبد العزيز أن يدرك أن متاعبه الصحية إنما هي نتيجة حتمية لرجل مثله وحّد بلاداً مترامية الأطراف من فوق صهوة جواده، وتعرض لعشرات الجروح والإصابات بعضها معلوم وأخرى لم يُفصح عنها، وسط ضغوط وتحديات هائلة لبناء الدولة، بينما بدأت في السنوات الأخيرة من حياة الملك عبد العزيز زيادة صلاحيات ومهام ولي العهد، وسجلت سنة 1370هـ - 1951م الحجة الأخيرة للملك المؤسس.

الحج وزيارة نجيب

الملك عبد العزيز مولماً للرئيس المصري محمد نجيب وخلفهما الأمير طلال والأمير (الملك) سلمان

بقي الملك في الطائف يتابع شؤون الحج والحجيج، ويتلقى التقارير عما تقوم به أجهزة حكومته للتسهيل على ضيوف الرحمن لأداء نسكهم بكل أمن وسلامة. ومع شروق شمس يوم الخميس 10 ذو الحجة 1372هـ - 20 أغسطس 1953م توجه الموكب الملكي إلى مصلى العيد بالطائف، شمال شرقي القصر الملكي، وتبعد بوابته عن بوابة القصر أقل من كيلومتر واحد. وبعد أداء صلاة عيد الأضحى، عاد إلى القصر، واستقبل المهنئين، وتبادل برقيات التهاني مع القادة والمسؤولين، واستمر في متابعة سير أعمال الحج.

في هذه الأثناء أشرف ولي العهد على شؤون الحجيج، وتأمين سلامتهم وصحتهم، وقد بلغ عددهم نصف مليون حاج، وكان ذلك رقماً قياسياً. وأعلنت وزارة الصحة سلامة الحج من الأوبئة والأمراض، وصادف ذلك العام اكتمال 30 موسم حج تحت حكم الملك عبد العزيز، أَوْلَى خلالها الحرمين الشريفين جل اهتمامه من حيث العمارة والتوسعة والعناية والرعاية، كذلك وطّد الأمن، وأمَّن السبل، ووفَّر الخدمات والماء والغذاء، وسخَّر إمكانات الدولة لخدمة ضيوف الرحمن، وكثير من ذلك لم يكن متوافراً من قبل.

وعصر يوم الأحد 13 ذو الحجة 1372هـ - 23 أغسطس 1953م استقبل الملك عبد العزيز في القصر الملكي بالطائف الرئيس المصري اللواء محمد نجيب الذي وصل إلى الطائف بعد أداء مناسك الحج وهي الزيارة الخارجية الأولى للرئيس المصري بعد ثورة يوليو (تموز) 1952م. وبعد مغرب اليوم نفسه أقام الملك حفلة عشاء تكريماً للرئيس ومرافقيه حضرها الأمراء وكبار رجالات الدولة. وبعكس المتداول بأن لقاء الزعيمين حدث في قصر جبرة، وهو قصر ضيافة أُعد لإقامة ضيف البلاد، فإن اللقاء وحفل العشاء أقيما في القصر الملكي (قصر العقيق حالياً). ووثقت البعثة المصرية تلك الزيارة، وأنتجت فيلماً توثيقياً عنها مع مجموعة من الصور الفوتوغرافية منها الصورة الشهيرة على المائدة، يقف فيها الأمراء طلال وسلمان خلف والدهما الملك عبد العزيز. وهذه الصورة تحديداً من الصور التي يعتز بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وجعلها تتصدر قاعة الطعام الكبرى في قصر العوجا؛ فهي تدل على خدمته المتصلة لدولته وقيادته، وعلى ما رباه وإخوته عليه والدهم، وهو ما أدى إلى تفانيه في ما أوكل إليه من مهام وما تولاه من مناصب، إضافة إلى ما اكتسبه من خبرات وتجارب على مدى 7 عقود. وكما تخرج سلمان في مدرسة الملك عبد العزيز، خرّجت مدرسة سلمان، محمد بن سلمان، وهذا الإرث العظيم هو ما يجني ثماره الشعب السعودي اليوم.

المراسيم والمهام الأخيرة

الملك عبد العزيز في عرض عسكري في الطائف وقد بدا جلوساً الأمير سعود الكبير والأمير (الملك) سعود بن عبد العزيز

وفي يوم 15 ذو الحجة 1372هـ - 25 أغسطس 1953م أصدر الملك عبد العزيز مرسوماً ملكياً بإسناد القيادة العليا العامة لجميع القوات المسلحة السعودية لولي العهد (الأمير) سعود، ونص المرسوم على أن ترتبط قوات الدفاع والحرس والأمن العام وأهل الجهاد والمجاهدين بالقائد الأعلى.

وعصر يوم 17 ذو الحجة – 27 أغسطس شرّف الملك عبد العزيز العرض العسكري للقوات المسلحة، ووصف مندوب الإذاعة عبد الله المزروع المناسبة بـ«العرض التاريخي العظيم، وأنه أعظم عرض عسكري يقام في الطائف، وأشرف عليه الأمير مشعل وزير الدفاع، وأقيم في الساحة الفسيحة التي أمام القصر الملكي (ساحة العقيق)، وحضره نحو 50 ألف مشاهد، وسجلته بعثة الإذاعة. واشترك في العرض طلاب المدارس الحربية ووحدات المشاة والمدفعية والرشاش والصحة والقوات الميكانيكية... وغيرها، كما تضمن العرض استعراضاً جوياً لسلاح الطيران». ووفق ما رُصِدَ، كان ذلك العرض من أواخر المناسبات العامة التي يظهر فيها الملك عبد العزيز أمام الجمهور الذي اصطف لتحيته.

وبتاريخ 28 ذو الحجة 1372هـ - 18 سبتمبر (أيلول) 1953م، أصدر الملك عبد العزيز مرسوماً ملكياً بتأسيس وزارة المواصلات، وتعيين الأمير طلال بن عبد العزيز وزيراً لها. وفي 1 المحرم 1373هـ - 20 سبتمبر 1953م أصدر مرسوماً آخر بالموافقة على نظام تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي، وشمل النظام: تشكيل رئاسة القضاة، وتفتيش المحاكم الشرعية، وبيان اختصاصاتها وصلاحياتها، وبيان اختصاصات وصلاحيات رؤساء المحاكم والقضاة وكتاب المحاكم الشرعية، والمحضرين، وكتّاب العدل، ومأمور بيت المال ومعاونيه... وغيرها.

وتجدر الإشارة إلى أنه خلال تلك المدة كانت هناك حوادث محلية وإقليمية وعالمية، كما استمر استقبال الملك الوفود الرسمية في القصر الملكي بالطائف؛ إذ استقبل بعد موسم الحج رئيس وزراء اليمن الأمير سيف الإسلام الحسين، ووزير الأوقاف المصري الشيخ أحمد حسن الباقوري، ومفتي القدس الحاج أمين الحسيني، ودولة رئيس وزراء لبنان السابق صائب سلام، والوزير اللبناني المفوض في جدة غالب الترك.

وبتاريخ 13 المحرم 1373هـ - 22 سبتمبر 1953م، وبعد اطلاعه على التقرير السنوي المرفوع لجلالته عن أعمال مجلس الشورى، أصدر مرسوماً ملكياً بتمديد مدة المجلس عاماً كاملاً.

وكان آخر خبر من المصادر الرسمية عن نشاط الملك عبد العزيز في الطائف هو استقباله المفتي الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ يوم 1 صفر 1373هـ - 10 أكتوبر (تشرين الأول) 1953م. وفي التاريخ نفسه أصدر الملك أحد أهم المراسيم الملكية وآخرها، وتقضي بتشكيل مجلس الوزراء، وإسناد رئاسته إلى ولي العهد الأمير سعود. وأسند ولي العهد رئيس مجلس الوزراء نيابة رئاسة المجلس إلى الأمير فيصل. ويلاحظ هنا أن الملك عبد العزيز كان يريد استكمال البناء المؤسسي للدولة قبل وفاته، وتنظيم مؤسسة الحكم وتراتبية الخلافة. وبعد ذلك التاريخ وحتى وفاة الملك المؤسس كانت الأخبار تركز وبشكل واضح على نشاطات ولي العهد رئيس مجلس الوزراء القائد الأعلى العام للقوات المسلحة.

صحة الملك والفريق الألماني

وكانت صحة الملك عبد العزيز قد بدأت تتراجع في الشهر الأخير من حياته، وراجت شائعات بأن الأطباء أشاروا عليه بالسفر للرياض بسبب عدم ملاءمة أجواء مدينة الطائف لصحته لارتفاعها. وكانت هناك استعدادات للسفر، وتكرر الحديث عن سفر الملك ثم العدول عنه، وقيل إنه لم يكن مرتاحاً للسفر.

ويروي الدكتور أمين رويحة رئيس أطباء الجيش السعودي وأحد أعضاء الفريق الطبي الذي أشرف على علاج الملك عبد العزيز في الطائف، أن الملك كان يعاني مرضاً يسمى «التهاباً مفصلياً مشوهاً» تفاقم على مر السنين، وأدى إلى صعوبة حركته، ثم أصيب في أواخر حياته بتصلب في الشرايين. ولم تكن الطائف رغم جودة مناخها تناسب حالته الصحية؛ وذلك بسبب ارتفاعها عن سطح البحر لما يقارب 1700 متر. وازدادت النوبات بعد وصوله للطائف فرأى الأمراء جلب فريق طبي من ألمانيا لمعالجته، وكلف الدكتور رويحة بذلك، ووصل 3 من الأطباء الألمان وبقوا أسبوعاً، أجروا خلاله الفحوصات، وقرروا العلاج المناسب، وشعر معهم الملك بالارتياح، لكن النوبات لم تنقطع.

ويضيف الدكتور رويحة: «كان يشرف على علاج الملك وتنفيذ توصيات الأطباء، طبيب جلالته الخاص الدكتور مدحت شيخ الأرض، الذي استدعاني في صباح أحد الأيام على عجل، فتوجهت مع اثنين من الزملاء، ودخلنا على الراحل في مقر إقامته بقصر الأمير فيصل، فرأيناه جالساً على كرسيه بقامته المديدة وطلعته الجبارة، وقد احتقن وجهه بالزرقة بسبب ما يعانيه من ضيق التنفس. ورغم ذلك كله لم يكن يشكو أو يئن، بل كان يحوقل ويتشهد، وتطلب الأمر إجراء تخطيط كهربائي للقلب ما استدعى إبعاد أي جسم معدني. فاستأذنا نزع الخاتم من إصبعه وهو خاتم ذو فص نقش عليه اسمه، فابتسم طيب الله ثراه وقال: «إنها المرة الأولى التي أنزع فيها هذا الخاتم من إصبعي». وكانت عبارته هذه بمثابة طعنة أصابتني في قلبي؛ لأنني عَدَدْتُها تنبؤاً بالنهاية المنتظرة من الوجهة الطبية. ومع ذلك بقي يلاطفنا ويجاملنا بطيب الحديث طيلة مدة الفحص، وبعد أن حقنه الدكتور مدحت بإبرة طلبنا من الملك أن يرتاح. وحينما عدنا بعد الظهر وجدناه قد عاد إلى كرسيه وبين يديه الشيخ عبد الرحمن الطبيشي يعرض عليه البرقيات».

وصل مرض الملك إلى مرحلة لم تعد تجدي معها الأدوية أو المسكنات، وكان أبناؤه من حوله. يقول الأمير نواف بن عبد العزيز إن الملك عبد العزيز في أحد أواخر أيامه استيقظ فرأى أبناءه متحلقين بجوار سريره فقال: «أنتم ليه مجتمعين هنا؟ أنتم إيش جايبكم تجتمعون عندي؟ أنت يا سعود وش جابك؟ رح اهتم بأمور المسلمين، وارجع إلى جدة، لأن الناس لو شافوكم مجتمعين عندي سيشعرون بشيء سيئ، أو أنكم أهملتم شؤونهم، روحوا كل واحد يهتم بشؤونه». وأمر ولي العهد سعود أن يعود إلى جدة ويدير أمور الدولة، فاتفق ولي العهد مع طبيب الملك الدكتور مدحت أن يتصل عليه عندما تتطور الحالة ويقول له: «خلي أديب يجيب معه الأدوية» وكانت شفرة ليعرف أن حالة الملك حرجة.

قصر الملك السكني ويسمى «قصر الملك عبد العزيز الشمالي المسلح» في الرياض

مع البنات

وقبل 3 أيام من وفاته أتى بعض بنات الملك عبد العزيز لزيارته والاطمئنان عليه، وكانت حالته غير مستقرة، ومع حقنه بالأدوية والمسكنات غدا أكثر الوقت نائماً. وحين دخلن الغرفة وجدنه على السرير وجزء من شماغه قد غطى وجهه. قبّلت البندري بنت عبد العزيز يد والدها، وتبعتها الأخريات دون أن يشعر بهن. كان لقاءً من طرف واحد. ورأت البنات أباهن بحالة لا تسر فخرجن يكفكفن الدموع، ويستعدن ذكرياتهن معه وهو الذي لطالما أحاطهن بحنانه، لا سيما أن للمرأة دوراً كبيراً في حياته، وكثيراً ما افتخر وانتخى بها ونقل عنه قوله: «أنا أخو نورة». وبالتزامن مع فترة اشتداد المرض على الملك كان مقرراً أن يتزوج (الأمير) سلمان بن عبد العزيز من ابنة خاله الأميرة سلطانة بنت تركي السديري، وسبق للملك أن بارك ذلك. وفي إحدى الليالي كانت الأميرة حصة بنت أحمد السديري والدة فهد وسلطان وعبد الرحمن وتركي ونايف وسلمان وأحمد أبناء عبد العزيز ترعى شؤون الملك وتلاحظه، فأفاق وسألها: «هل تزوج سلمان؟». فأجابت أنه قرر تأجيل زواجه حتى يشفيك الله، فرد: «الله يبارك في سلمان» وكررها، وهي تؤمّن على دعائه. هذه التفاصيل وغيرها كثير من القصص عن علاقة الملك عبد العزيز بزوجاته وأولاده بنين وبنات تستحق أن توثق، علماً أن هناك نقصاً في الدراسات المتعلقة بأدوار زوجات الملك عبد العزيز وبناته أفقدنا الكثير من المعلومات عن دور المرأة في تأسيس وبناء الدولة.

الرحيل

يصف الأمير نواف تفاصيل الساعات الأخيرة من حياة الملك عبد العزيز الذي كان يقيم في غرفة بالدور الأرضي من قصر الأمير فيصل، وكان الأمير نواف يقيم معه في الطابق العلوي من القصر: «كانت مع الملك في ليلته الأخيرة زوجته الأميرة هيا بنت سعد السديري (والدة الأمراء بدر وعبد الإله وعبد المجيد)، وشعر الملك بتحسُّن فطلب أن يغتسل فذهبوا به إلى الحمام على العربية، واغتسل وتوضأ ثم عاد إلى غرفته». ويتابع الأمير قوله: «شعرت بأن صحته أفضل، فصعدت إلى غرفتي وبعد مدة سمعت طرقاً على الباب فنزلت مسرعاً، وكان قد أصيب بنوبة، والأطباء مدحت شيخ الأرض والدكتور الفرنسي ميليز... وغيرهم حوله يراقبون الضغط، وفهمت منهم أنه بسبب مرض القلب يجب ألا ينهض مباشرة من الفراش وإنما بالتدرج. ولأنه حاول النهوض مباشرة أصيب بالنوبة، وحاولوا السيطرة على الوضع، وكان لا يزال يتنفس ثم جاء الأمير فيصل، واتصل الدكتور مدحت على الملك سعود وأعطاه الإشارة، وبدأنا نراقب الوضع».

استمر توافد الأمراء، ومع دخول الملك سعود باب القصر فاضت روح الملك عبد العزيز إلى بارئها. ويصف تلك اللحظات الأخيرة الأمير نواف بقوله: «كنت أدرك أنه وصل إلى النهاية، كان يتنفس ببطء وصعوبة، ويمسح خشمه ويتشهد، ومع دخول (سعود) من المدخل الخارجي، توفي الملك عبد العزيز، كأنها نهاية ملك وبداية ملك». كانت الساعة نحو العاشرة من صباح يوم الاثنين 2 ربيع الأول 1373هـ - 9 نوفمبر 1953م.

تحمل المسؤولية

الملك عبد العزيز متوسطاً الملك فيصل والملك سعود

سادت حالة من الحزن الشديد أنحاء المكان، ووفقاً لرواية الأمير نواف قال الأمير عبد الله بن عبد الرحمن للملك سعود: «أنا أخلصت لأبيك، وكنت معه، الآن أعطيك يدي وأبايعك، وانزل بايع، فاتجه إلى الصالون وتبعناه وبايعناه، فالتفت الملك سعود إلينا وقال: الآن يكون فيصل ولياً للعهد». ويفهم من كلام الأمير نواف أنه كان موجوداً في تلك اللحظات الدقيقة من تاريخ المملكة العربية السعودية الأمراء عبد الله بن عبد الرحمن وسعود وفيصل ومحمد وخالد... وغيرهم من أبناء الملك عبد العزيز الذين تحملوا مسؤوليتهم التاريخية في أقسى لحظات الحزن.

اتُخذت الإجراءات، وبدأت ترتيبات الجنازة، وأُعدت البيانات لتبثها الإذاعة، التي بدأت في بث القرآن الكريم، ثم أعلنت نحو الساعة 12:20 ظهراً الخبر، وعممت وزارة الخارجية البيان الرسمي على البعثات الدبلوماسية في جدة والسفارات والممثليات السعودية خارج المملكة. تناقلت الإذاعات والوكالات العالمية الخبر، وتصدر النشرات الإخبارية وعناوين الصحف. أما المشهد في الطائف فكان يسوده الوجوم، ويخيم عليه الحزن. هُرع الناس يتناقلون الخبر، ويعزّي بعضهم بعضاً، وأغلقت الأسواق والدكاكين أبوابها، وخرج التلاميذ من مدارسهم، واتُخذت الاحتياطات والتدابير الأمنية والعسكرية. كان الطائف مقر وزارة الدفاع وقيادة الجيش، وبدأت ترتيبات الجنازة والصلاة والنقل إلى الرياض والدفن، والبيعة العامة للملك سعود.

تولى الأمير فيصل الإشراف على تلك الترتيبات، وفي القصر تناوب أبناء الملك عبد العزيز مع بعض رجالاتهم على غسل والدهم وتجهيزه وتكفينه. يتذكر الأمير محمد الفيصل أن والده قال له: «روح مع سلمان واحملوا النعش»، ويبرر ذلك ربما لأنهما كانا أطول الموجودين من شباب الأسرة. ويضيف: «حملت النعش خلف سلمان بن عبد العزيز مع بقية الأبناء، وخرجنا به من الباب الرئيسي». شيعت جنازة الملك عبد العزيز من باب القصر محمولة على أعناق أبنائه وأحفاده ورجالات دولته، وساروا بها على الأقدام يتقدمهم الملك سعود وولي عهده فيصل وكبار الأمراء والعلماء والأعيان، وخرج الشعب بمختلف طبقاته لمصلى العيد، حيث أقيمت صلاة الجنازة على فقيد الأمة عند الساعة الثانية ظهراً. أمَّ المصلين الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز آل الشيخ رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإمام وخطيب مسجد عبد الله بن عباس. والشائع لدى أكثر من مصدر، ومنهم الزركلي وتبعه في ذلك جمهرة من المؤرخين، أنه صُلي على الملك عبد العزيز في الحوية، بينما الصلاة أقيمت في مصلى العيد القديم في الطائف (موقع جامع الملك فهد حالياً)، وذلك وفق ما ورد في المصادر الرسمية.

حُمل الجثمان من مصلى العيد في سيارة نقل إلى مطار الحوية، وتحرك الموكب المهيب يتقدمه ملك البلاد وولي عهده. يقول الأمير محمد الفيصل: «كان الأمراء نواف وسلمان وأنا مع الجثمان في السيارة، وكان الموكب متصلاً طوال الطريق الذي يبلغ طوله نحو 35 كيلومتراً من الطائف إلى مطار الحوية». وقد خرجت الطائف عن بكرة أبيها، وتحركت كل سياراتها لتشييع الإمام العادل الذي ضمها إلى حكمه؛ فذاقت في عهده طعم الأمن المفقود، والعدل المنشود، والاستقرار والرخاء، وأصبحت عاصمته الصيفية، وقاعدة جيشه، وركيزة منظومة تعليمه المدني والعسكري، وبلغت في عهده أوج تألقها ونمائها.

وفي المطار كانت الوفود قد اجتمعت من أنحاء البلاد لتودع ملكاً وتبايع ملكاً، والطائرات مصطفة في ساحة المطار. تلقى الملك سعود وولي عهده التعازي والبيعة، وحُمل الجثمان إلى الطائرة الملكية من طراز «دي سي 4 سكاي ماستر». وغادرت الطائرة التي أقلت مع الجثمان، ولي العهد الأمير فيصل وإخوته محمد وخالد وسعد وعبد الله وبندر وعبد المحسن وسلطان وعبد الرحمن وبدر وتركي ونواف وفواز وماجد أبناء الملك عبد العزيز، ورافقهم رئيس الخاصة الملكية عبد الرحمن الطبيشي. كما غادرت مجموعة من الطائرات الأخرى التي أقلت عدداً من الأمراء الآخرين وبعض المسؤولين والحرس والمرافقين. ووفقاً للترتيبات التي أُعدت، بقي الملك سعود في الطائف لتلقي التعازي والبيعة، ومعه أخوه وزير الدفاع الأمير مشعل وعدد آخر من إخوتهما.

من الرياض وإليها

وقبيل الغروب وتحديداً عند الساعة 4:40 دقيقة هبطت الطائرة الملكية في مطار الرياض الذي وصف مشهده يومئذ المؤرخ السعودي الشيخ حمد الجاسر بقوله: «اكتظ مطار الرياض بالجماهير الغفيرة التي اختلطت دموعهم بدعواتهم، يتقدمهم ابن عم الملك الأمير سعود الكبير، وأمير الرياض نايف بن عبد العزيز، وحشد من الأمراء والعلماء والأعيان، وجموع عظيمة من مختلف طبقات الأمة، وبعد إنزال الجثمان من الطائرة، حُمل في سيارة يرافقه الأمير فيصل وإخوته والجموع تتبعهم بعيون شاخصة وقلوب واجفة ودموع منهمرة، إلى مصلى العيد القديم (شرق بوابة الثميري وهو موقع مبنى أمانة مدينة الرياض وحديقة البلدية فيما بعد). ضاقت الساحة وما جاورها من طرقات وأسواق بجموع المصلين من الرجال والنساء والكبار والصغار، حيث صُلي على فقيد الأمة بعد صلاة المغرب، وأمَّ المصلين المفتي الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وكان منظراً مثيراً لكامن الحزن، حيث لا تقع عين الناظر بين تلك الفئام الكثيرة إلا على باكٍ حزين، أو متجلد يحاول إخفاء الأسى، ولكن الدموع تبرزه، أو مُظهِر للصبر ولكن حشرجة صوته تخونه.

وبعد الصلاة نُقل الجثمان بالسيارة إلى مقبرة العود، وانطلقت الجماهير تحف بالسيارة، وغصت المقبرة بجموع المشيعين، وازدحموا على جنازة الملك عبد العزيز ازدحاماً شديداً وهو الذي تبوأ في كلِّ قَلْبٍ من قلوب أفراد شعبه مكاناً رَحْباً، ومُسْتَقَراً دائماً، وأَحْدَثَ موتُه في كل قلب من الكآبة والحزن ما عجز القلم عن وصفه والتعبير عنه، ففي كل وجه من وجوه أفراد الأمة أثر بارز، وفي كلِّ نفس حسرة ولوعة.

رسالة بخط اليد من الملك إلى أبنائه سعود وفيصل ومحمد وخالد

ووسط تلك الجموع الغفيرة في المقبرة، تولى الأمير فيصل وعدد من إخوته إنزال جثمان والدهم إلى القبر، ثم شاركت الحشود في مواراته الثرى. لقد استرد الملك عبد العزيز الرياض وضمها قبل شروق شمس أحد أيام شهر شوال 1319هـ يناير (كانون الثاني) 1902م، وضم ثرى الرياض جسد الملك عبد العزيز بعد غروب شمس ذلك الاثنين الحزين، وبين التاريخين أكثر من 50 عاماً أشرق بها الملك عبد العزيز على الرياض، وأشرقت بعهده الرياض، استقراراً ونماءً وتطوراً وغير ذلك الكثير، وامتدت إشراقته لتعم كل أرجاء مملكته العربية السعودية (مملكة عبد العزيز).

في الأيام التالية، تقاطرت الوفود من كل مكان، وأبرق زعماء الدول معزين في عاهل الجزيرة، وأعلنت دولٌ الحدادَ على الراحل الكبير، ونُكست الأعلام، ونعاه الكتّاب والساسة، وعدّدوا مآثره، وأقيمت صلاة الغائب بعد صلاة الجمعة 6 ربيع الأول 1373هـ - 13 نوفمبر 1953م في المسجد الحرام وفي المسجد النبوي.

وكتب المؤرخ الألماني داكوبرت فون ميكوش: «لم يصبح ابن سعود عظيماً بفضل الإرث، ولكنه استطاع بشخصيته الفذة التي ليس لها في التاريخ العربي مثيل، تأسيس مملكته، وتوحيد الجزيرة العربية، وتجديد تعاليم الإسلام، وتوطيد الأمن الذي كان ولا شك من أهم ما أخذه ابن سعود على عاتقه من مهام، وبقي أن يستمر الجهد لإكمال العمل الذي بدأه ابن سعود خلال حكمه الطويل الأغر، ولئن مات ابن سعود فسيظل في التاريخ العربي حياً بوصفه رجلاً عظيماً فريداً من نوعه، شق الطريق لشعبه وللأمة العربية نحو قمة المجد».

ولا شك أن الملك عبد العزيز لم يملأ فراغاً كبيراً في التاريخ الحديث فحسب، بل ترك إرثاً عظيماً لم يقتصر على إنشائه دولة من الصفر، وتوحيد شعب من الشتات، وما تبع ذلك من التأسيس والبناء، ولكنه تَمَثَّلَ أيضاً في حرصه على تحميل أبنائه المسؤولية، وتأهيلهم لمتطلبات الحكم وخدمة الناس.

يلخص ذلك الشاعر السوري الدكتور خالد البرادعي في أبياته التي أنقلها بتصرف:

-صقر الجزيرة أنت أم رئبالها؟

-أم صبحها العربي في الآماد

-نوديت باسمك والملوك تهالكوا

-في ندوة الألقاب دون تفادي

-وغدت لاسمكَ لذة تندى بها

-أفواه شعبك بعد كل تنادي

-وكتبت ملحمة الخلود تتمة

-لملاحم الدنيا مع الأجداد

-وغدوت بعد الموت أطول قامة

-مما حييت بزندك الميقاد

-متجدداً في كل يوم مقبلاً

-نحو العروبة في مخاض ولاد

-عبد العزيز تركت خلفك ضمة

-من أنجم وكواكب وهوادي

-ملك يغيب فيرتقي لمقامه

-ملك يوازنه بكل مجاد

-ورثوا فرائدك الأوابد مثلما

-أورثتها عن سامق الأنضاد

ويكفي أن نقرأ رسالة الملك عبد العزيز التوجيهية إلى أبنائه الأكبر سناً وقتذاك، لندرك المبادئ التي أنشاء عليها دولته، ولنفهم أسس ذلك الإرث العظيم:

«من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل:

إلى الأبناء سعود وفيصل ومحمد وخالد سلمهم الله تعالى

بعد ذلك، من طرف أربعة أمور سأذكرها لكم أدناه وهي: أولاً: تكونون يداً واحدة فيما بينكم صغيركم يوقر ويمتثل أمر كبيركم، وكبيركم يعطف على صغيركم. كما أن الصغير إذا رأى أمراً ما يجوز من الكبير فيجب أن يبين له ذلك، ويقول إن الأمر هذا لا يجوز منك، وعلى الكبير الإصغاء لأخيه الصغير، كما هو لازم عليه مناصحة أخيه الصغير.

ثانياً: إن كل شيء آمر فيه أو دبرة أدبرها تنفذونها ولا تعترضونها، أو تعارضوا من وكلت إليه أمرها.

ثالثاً: إن كل ما سألتكم عنه أو لزم لكم رفعه لي تصدقونني فيه بأي حال تكون.

رابعاً: ألا تعترضوا أمور ماليتي لا قريبها ولا بعيدها، في قليل ولا كثير.

هذه الأربعة أمور افهموها، واحرصوا على تنفيذ موجبها، وكل شيء يصير منكم مخالفاً لشيء منها اجزموا أنه سيكون سبباً لسخطي عليكم، يكون معلوماً».

20 ربيع الآخر 1349هـ - 13 سبتمبر 1930م

تضمنت هذه الرسالة وصايا أربعاً، ووُجهت إلى الأربعة أبناء الأكبر سناً، وجاء الرد الفوري منهم في اليوم نفسه:

«أدام الله وجودكم

بعد لثم أياديكم الشريفة، كل ما ذكره جلالتكم أعلاه عن الأمور الأربعة تم فهمها، وإن شاء الله نعمل حسب ما جاء بها، وترون ما يسركم ويرضيكم بحول الله وقوته.

مملوككم الابن مملوككم الابن مملوككم الابن مملوككم الابن

فيصل محمد خالد سعود»

ويعلق على هذه الرسالة رجل الدولة السياسي السعودي الشيخ عبد العزيز التويجري قائلاً: «إنها رسالة أوسع من كل التصورات، عليها هيبة الأب، ورجل الدولة»، وهذه في تقديري إحدى معادلات الحكم الصعبة التي تمكن الملك عبد العزيز ومن بعده أبناؤه من تجاوزها بوضع أسس الفصل بين علاقة الأخوة وعلاقة رجال الدولة، وتنظيم العلاقة بينهم؛ لأن الملك عبد العزيز لم يكن يربي أبناءً فقط، لكنه كان يُخرّج قادة، ويؤهل رجالات دولة.

وها نحن أولاء نعيش اليوم فصلاً من فصول إرث الملك عبد العزيز المجيد، يكتبه سلمان بن عبد العزيز بتأهيله جيلاً من القادة من أحفاد عبد العزيز، يقودهم محمد بن سلمان الذي فاجأ العالم بمنجزاته، كما فعل الملك عبد العزيز قبل أكثر من 100 عام.


ما بعد أكتوبر 1973فخر... ومعاهدات... وانتهاكات

الرئيس المصري الراحل أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل مناحم بيغن في القدس 19 نوفمبر 1977 (غيتي)
الرئيس المصري الراحل أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل مناحم بيغن في القدس 19 نوفمبر 1977 (غيتي)
TT

ما بعد أكتوبر 1973فخر... ومعاهدات... وانتهاكات

الرئيس المصري الراحل أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل مناحم بيغن في القدس 19 نوفمبر 1977 (غيتي)
الرئيس المصري الراحل أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل مناحم بيغن في القدس 19 نوفمبر 1977 (غيتي)

عندما كان الجنود المصريون يعبرون قناة السويس، ونظراؤهم السوريون يقتحمون مرتفعات الجولان، بعد ظهيرة يوم السادس من أكتوبر عام 1973، ربما لم يُدر في خلدهم تلك الحسابات المعقدة والتحولات غير المسبوقة التي ستلي المعارك العسكرية. لكن هذا ما حدث على أي حال -بدرجات متفاوتة- في ساحات السياسة والدبلوماسية، لتدخل المنطقة في حقبة «ما بعد أكتوبر» منعطفاً جديداً تقاطعت فيه مصائر العرب مع استراتيجيات الدول الكبرى.

واليوم وبعد نصف قرن على «يوم المفاجأة» العربي لإسرائيل، تبدو صورة الحدث منقسمة بين فخر وطني لا يزال راسخاً في الأذهان، ومعاهدات لافتة تضمن لها القوى الكبرى السريان. وبين هذا وذاك، انتهاكات واعتداءات تخبو حيناً وتتفجر أحياناً.

تابعوا تغطية «الشرق الأوسط» الخاصة والمتواصلة لذكرى مرور نصف قرن على حرب أكتوبر، والتي تركز في هذا الجزء على رصد وتحليل التطورات التي أعقبت المواجهات العسكرية.

اقرأ أيضاً


المسار الأردني... من ضغط «كامب ديفيد» إلى «وادي عربة»

المسار الأردني... من ضغط «كامب ديفيد» إلى «وادي عربة»
TT

المسار الأردني... من ضغط «كامب ديفيد» إلى «وادي عربة»

المسار الأردني... من ضغط «كامب ديفيد» إلى «وادي عربة»

ما إن بدأت «حرب أكتوبر» من العام 1973 حتى وجد العاهل الأردني الراحل الملك الحسين نفسه تحت ضغط المشاركة الرمزية في الحرب من خلال اللواء (40) من القوات المسلحة الأردنية (الجيش العربي) الذي بعث به عبر جبهة الجولان التي شهدت قتالا عنيفا بين الجيشين السوري والإسرائيلي.

وتحت مطالبات داخلية أهمها انقسام الجيش بين مؤيد ومعارض للمشاركة في الحرب، أرسل الحسين أحد أقوى ألوية جيشه، الذي شارك في حروب العام 1948 و1967 و1968 وكان له دور الحسم في مواجهات من العام 1970، وقد كُلف اللواء بالقتال في الجولان والدِّفاع عن مدينة دمشق بالتعاون مع «قوات صلاح الدِّين» العراقية، إذ «تمكن من صدِّ الهجوم الإسرائيلي على محور درعا دمشق وقدم 21 شهيداً بين ضباط وأفراد و110 جرحى»، بحسب رواية وثقتها «وكالة الأنباء الأردنية» (بترا) على لسان المقدَّم ملوح نزَّال العيسى.

بموازاة ذلك فقد كان هناك تحد داخلي يتصاعد بوجه العاهل الأردني بعد انقسام آراء كبار قادة الجيش من المشاركة في الحرب التي انطلقت، ففي جلسة مجلس الوزراء برئاسة زيد الرفاعي (الحكومة الأولى من العام 1973 - 1974)، تفجر نقاش حاد على خلفية عدم مشاركة الأردن في الحرب، ما دفع وزراء للتهديد بتقديم استقالاتهم.

أمام الحكومة

ولدى سماع عاهل الأردن بالأمر، جاء في اليوم التالي لمجلس الوزراء، وقدم شرحاً فيه تقدير موقف للأردن الرسمي، وقال إنه إذا كان متأكدا من قدرة الجيش العربي خلال أيام الحرب على استعادة الضفة الغربية، لكنه تساءل عن الحال بعد توقف الحرب على الجبهتين السورية والمصرية... وأصاف: «هل باستطاعتنا بعدها حماية الضفة الشرقية من الاحتلال؟» فانتهت القضية باستقالة الوزراء اسحق الفرحان، ومحمد نوري شفيق، وزهير المفتي، وكامل أبو جابر من الحكومة، وفق ما يوثقه كتاب (القرار) لمدير المخابرات ورئيس الوزراء الأسبق الراحل مضر بدران.

ولا تخفي مذكرات رجالات الحسين ما واجهه من ضغوط أميركية للحاق الأردن بـ«كامب ديفيد»، وهي الضغوط التي ضمنت على الأقل استمرار حلقات اللقاءات السرية بين الحسين والإسرائيليين، والتي توجت بمشاركة الأردن بـ«المؤتمر الدولي للسلام في مدريد» وبعدها في واشنطن، وانتهت بتوقيع معاهدة السلام بين البلدين في العام 1994 أو ما بات يُعرف بـ«اتفاق وادي عربة»، وكان ذلك بعد توصل «منظمة التحرير الفلسطينية» إلى إبرام «اتفاق أوسلو» في سبتمبر (أيلول) من العام 1993، الذي اعترف بالسلطة الوطنية الفلسطينية ومنحها حكما ذاتيا على الفلسطينيين.

سياسياً، أعلنت اتفاقية السلام الأردنية - الإسرائيلية إنهاء حالة الحرب، وارتخت أطول حدود برية للمملكة الأردنية من حالة الطوارئ المعلنة في صفوف القوات المسلحة الأردنية (الجيش العربي)، والتي عاشتها البلاد بعد احتلال الضفة الغربية في 4 يونيو (حزيران) العام 1967.

حصاد الاتفاق

لم ينل ينل الأردن في اتفاق «وادي عربة» سوى حقوق الحدود والمياه، واحترام الدور الهاشمي في الوصاية على المقدسات، غير أن الاتفاق ظل فاترا والتطبيع ليس فاعلا بعد مضي 29 عاما على توقيعه، وذلك كنتيجة حتمية في ظل تصاعد دور اليمين المتطرف الإسرائيلي والممارسات التي تستهدف تغيير الواقع على الأرض وزيادة رقع الاستيطان.

وشعبياً، صعّدت تلك الاتفاقية من حالة الاحتقان، وتبلورت مؤسسات أهلية متعددة تحت شعار مقاومة التطبيع، وقادت تلك الجهود نخب سياسية محسوبة على النظام الأردني، واصطدمت تلك الجهود بقمع خشن في أكثر من مرة نهاية عقد التسعينات من القرن الماضي. كما مست تلك الاتفاقية حدود حرية الرأي والتعبير في البلاد، ونفذت حملات اعتقالات واسعة ضد معارضيها.

وظل الموقف الشعبي ضاغطاً ومطالبا بإلغاء اتفاق السلام، وذلك عبر عشرات المذكرات النيابية التي تباينت في مطالبها بين إلغاء المعاهدة أو طرد السفير الإسرائيلي، لكن رجال الحسين، الذين غابوا منذ «المعاهدة»، كانوا مدركين أن إسرائيل لن تمنح أي حق فلسطيني، فهي تريد سلاما من دون تنازلات، وسلاما على قياس مصالح الطرف الأقوى في الصراع.


مصريون وسوريون يتذكرون معركتهم بفخر رغم «التشويش»

TT

مصريون وسوريون يتذكرون معركتهم بفخر رغم «التشويش»

أطفال يلعبون فوق دبابة قتال إسرائيلية أميركية الصنع في متحف مصري مخصّص لذكرى حرب أكتوبر (أ.ف.ب)
أطفال يلعبون فوق دبابة قتال إسرائيلية أميركية الصنع في متحف مصري مخصّص لذكرى حرب أكتوبر (أ.ف.ب)

عند كل ذكرى لحرب أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1973، موعد لا يخطئه المصريون مع جدل متجدد حول «آخر الحروب» الكبرى التي خاضها الجيش المصري. ورغم مضي خمسة عقود على الحرب، فإن أحاديث «الفخر» لا تزال ميراثاً متداولاً من جيل إلى جيل، تحفظه حكايات الجدات، وترسم معالمه ملامح الآباء الذين قضوا في الحرب، أو بعدها، تاركين خلفهم صورة في زي عسكري، تُزيّن جدران البيوت.

ويعزو مؤرخون ومواطنون ارتباط المصريين بالحرب إلى «وشائج ذات أبعاد عدة، تختلط فيها وقائع القتال، بتفاعلات اجتماعية، وقومية، وذاكرة جمعية تتفق على أهمية ذلك الفصل من التاريخ الوطني»، بحسب الدكتور عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة حلوان.

يقول الدسوقي، لـ«الشرق الأوسط»: إن الجيل الشاب من المصريين يتفاعل مع ذكرى حرب أكتوبر من خلال ما يتم نشره من أحاديث مع رجالات الجيش في الحرب، والمذكرات واليوميات التي سبق نشرها، ويعاد طباعتها. وأشار المؤرخ المصري إلى أن الوسائط التكنولوجية الحديثة «ساعدت على زيادة التفاعل، من خلال سرعة تداول الإفادات، والسير البطولية، فضلاً عن توفير الكتب الرقمية».

وبينما يقرّ بتراجع الاهتمام أحياناً، يقول: إن ذلك «لم يؤثر على نظرة المصريين الشباب للصراع مع إسرائيل، وخاصة في ظل واقع القضية الفلسطينية».

أطفال مصريون يلتقطون صوراً لمشاهد تجسّد «حرب أكتوبر» في متحف خاص بالمعركة في القاهرة (أ.ف.ب)

وعبر موقع «فيسبوك»، نشرت صفحة باسم «اكتشف معنا السويس»، صورة لمنزل قديم، في سبتمبر (أيلول)، قبل أيام من حلول ذكرى الحرب، تقول: «عند دخولك لهذه المدينة ستجد لافتة كُتب عليها: ارفع رأسك عالياً، أنت في مدينة الأبطال. بيوت السويس القديمة، وما زالت آثار طلقات النار على جدرانها موجودة حتى الآن».

ويحتفظ مواطنو مدن إقليم قناة السويس في مصر (الإسماعيلية والسويس وبورسعيد)، بمشاعر فخر إزاء الحرب، تغذيها أغنيات شعبية عن الصمود، عُرفت بها خلال سنوات الصراع في مطلع سبعينات القرن الماضي.

ويرى الدكتور جمال شقرة، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عين شمس، أن هناك «معركة تديرها إسرائيل في الإعلام لإثبات أنها انتصرت في حرب 1973»، ويقول لــ«الشرق الأوسط»: «أجد شباباً مثقفين يعرفون حقيقة ما جرى، يردّون على الذين يشوّهون تاريخ حرب أكتوبر ويُفحمونهم بقراءاته. وهذا النوع من الشباب هو الذي نريده ليحافظ على وعيه التاريخي وهويته».

وخلال الأعوام القليلة الماضية، دأب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، على الترويج عبر المنصات الاجتماعية، مع حلول ذكرى الحرب، لإفادة تقول: إن هذه المواجهة «التي بدأت بمفاجأة كبيرة، انتهت بنصر عسكري إسرائيلي وفتحت أبواب السلام مع أعظم دولة عربية»، وهو ما قوبل بتعليقات مضادة من المصريين الذين دافعوا عن «السردية المصرية لمجريات الحرب ومآلاتها».

وهنا، يقول الأكاديمي المصري جمال شقرة: إن على المؤرخين والمؤسسات المعنية بالتنشئة الاجتماعية «مواجهة الأكاذيب والشائعات عبر العمل على تنمية الوعي التاريخي، وضخ مادة علمية موثّقة حول حرب أكتوبر في الفضاء الافتراضي، بأشكال مختلفة».

في عام 2019، حقق فيلم «الممر»، وهو إنتاج مصري عن كتيبة مصرية في فترة «حرب الاستنزاف» التي مهّدت لحرب أكتوبر، إيرادات عدّها نقاد قياسية، بلغت 73 مليوناً، و616 ألف جنيه (الدولار يساوي 30.9 جنيه) بعد عشرة أسابيع في دور العرض، وفق تقارير صحافية مصرية.

أسرة مصرية تحضر عرضاً في متحف «بانوراما حرب السادس من أكتوبر» بالقاهرة مطلع الشهر الحالي (أ.ف.ب)

ويقول المصري حسام الجارحي (45 عاماً): إن حرب السادس من أكتوبر «عصيّة على النسيان أو التزييف مهما تباعدت السنون». ويوضح الشاب الذي يعمل مديراً بأحد مصانع مدينة السادات (أنشئت بقرار جمهوري في عام 1978)، أن تفاعل الشباب الآن «يمكن رصده من خلال المشاركة الواسعة عبر المنصات الاجتماعية عندما تحل ذكرى الحرب».

ويضيف، في نبرة حماسية لـ«الشرق الأوسط»: «أولادي لم يشهدوا الحرب، ومع ذلك يفاخرون بحكايات الأجداد والأقارب الذين قضوا سنوات طويلة في ثياب الجندية المصرية. كفاح المصريين في السادس من أكتوبر لم يكن مرتبطاً فقط بالجهد العسكري؛ فقد كانت الأمهات في البيوت، والآباء في الحقول، يوصون أبناءهم بالثأر العسكري من هزيمة 1967 القاسية».

ويشير الجارحي إلى أغنية ألّفها شاعر العامية المصري الراحل، أحمد فؤاد نجم، عقب نكسة 1967، عن قصة لمجند مصري يدعى عبد الودود يتلقى رسالة من أسرته عندما كان مرابضاً على الجبهة ومما جاء فيها: «واه يا عبد الودود... يا رابض عالحدود... ومحافظ عالنظام... كيفك يا واد صحيح... عسى الله تكون مليح... وراقب للأمام... عقولَّك وانت خابر... كل القضية عاد... حِسّك عينك تزحزح... يدّك عن الزناد... خليك يا عبدو راصد... لساعة الحساب... آن الأوان يا ولدي... ما عاد إلا المعاد».

ويضيف الجارحي: «هذه الأغنية عبّرت منذ كتابتها وتداولها، وحتى اليوم، عن الموقف الشعبي المصري في الحرب». ويبدي اعتقاده أن مصادر الشبان المصريين عن الحرب أكثر من أن تُحصى، وخاصة مذكرات الذين شاركوا في الحرب، وفي مقدمتهم الفريق سعد الشاذلي، (رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية بين 1971 وحتى أواخر 1973)، وصاحب أشهر مذكرات عسكرية عن الحرب، والمعنونة: «حرب أكتوبر... مذكرات الشاذلي».

ماذا عن سوريا؟

خمسون عاماً مرّت لم تخفف من وهج الرواية الرسمية السورية بشأن بطولات «أسطورية» لوقائع «حرب أكتوبر (تشرين الأول) التحريرية 1973» بل تزداد عاماً بعد آخر، إلى حد أن اعتبار «معركة تشرين (أكتوبر)» لا تزال متواصلة حتى اليوم، وفق ما تذهب تقارير وكالة الأنباء الرسيمة في المناسبة؛ إذ تفيد بأن «التشابه في العدوان وأدواته وأهدافه يجعل ذكرى حرب تشرين (أكتوبر) التحريرية أكثر من مجرد حدث يُحتفل به كل عام، فقد تحولت إلى واقع معيش في ميادين التصدي للإرهاب في سوريا، وغيرها من دول المنطقة».

وبمزجٍ بين الماضي والحاضر، تطرقت أسرة المهندس السوري الشاب عامر (28 عاماً) إلى ذكرى «حرب تشرين (أكتوبر)»، غير أن الابن عامر أجاب عن سؤالنا: «ماذا تبقَّى في ذاكرة السوريين من حرب تشرين (أكتوبر)؟»... أجاب بسؤال آخر: «بل يجب أن نسأل: ماذا بقي من سوريا والسوريين؟».

عامر الذي طلب ذكر اسمه الأول فقط، قال لـ«الشرق الأوسط» إن «الرواية الرسمية بشأن الانتصار في الحرب أفضت إلى تبريد جبهة الجولان بموجب اتفاقية دولية وبالتالي السقوط بالتقادم». وربما يمكن تفسير تشاؤم عامر، عند وضعه في مواجهة الحنين المتدفق من حديث والده (70 عاماً) عن «ذكريات حرب تشرين (أكتوبر)، والزخم والحماس الذي خيَّم على السوريين عموماً حينذاك، خصوصاً في الأيام الأولى التي شهدت تسطير أروع البطولات».

جنود سوريون يهاجمون موقعاً إسرائيلياً على جبل الشيخ في سوريا يوم 29 أكتوبر 1973 (غيتي)

يتحدث الأب عمّا رآه عندما «كان الناس في دمشق والمناطق القريبة من الجبهة يصعدون إلى الأسطح لمشاهدة إسقاط الطائرات الإسرائيلية». مستطرداً: «لقد انتظر السوريون والعرب تلك الحرب لرد الاعتبار للكرامة العربية التي أهدرتها هزيمة يونيو (حزيران) المشينة، وتداعي العرب من (المغرب والعراق والأردن والسعودية والكويت) للوقوف في خندق واحد مع السوريين والمصرين ضد إسرائيل... لقد خضنا الحرب وكلنا ثقة بأننا سنحرِّر القدس»!

ويضيف الأب السوري أن «ساحة السبع بحرات وسط دمشق التي أُعيد تأهيلها مؤخراً سُميت ساحة (التجريدة المغربية) تكريماً للفرقة المغربية التي شاركت في حرب تشرين (أكتوبر) بسبب قتالهم ببسالة على جبهة الجولان واستشهاد العشرات منهم ودفنهم في سوريا».

برهان وطنية

و«التجريدة المغربية» فرقة مشاة عسكرية مغربية أرسلها المغرب إلى سوريا في يونيو 1973 للمشاركة في حرب تشرين (أكتوبر)، وشاركت بشكل أساسي في معارك الجولان خلال الأيام الأولى، وقادها الجنرال عبد السلام الصفريوي، وتم تكليف الكولونيل عبد القادر علام بتسليمها للقيادة السورية، وكان في مقدمة الشهداء المغاربة في حرب تشرين (أكتوبر).

وبالعودة إلى الابن عامر الذي أكلت الحرب الدائرة في سوريا 13 عاماً من عمره، يقول الشاب: إن «أقصى طموحه الآن هو الهجرة».

ومع ذلك فإن السوريين في محافظة السويداء التي تشهد احتجاجات مناهضة للحكومة منذ أكثر من شهر، لم يجدوا سوى ذكرى حرب تشرين (أكتوبر) عند إثارة الجدل حول ولاء ضابط متقاعد من أبناء المحافظة، وكان من براهين وطنيته مشاركته في رفع العَلم السوري على مرصد جبل الشيخ الذي تم تحريره في حرب تشرين (أكتوبر).

«حرب تشرين (أكتوبر) ورغم اقتصار تذكرها سنوياً على الإعلام الرسمي، فإنها لا تزال تمثل نقطة مضيئة في تاريخ الصراع مع إسرائيل، لدى معاصريها، وذلك رغم عدم تحقيق أهدافها بمحو آثار هزيمة يونيو 1967»، حسب تقييم صحافي سوري بارز تحدث إلى «الشرق الأوسط» شريطة عدم ذكر اسمه لعمله بالإعلام الرسمي.

ويقول الصحافي السوري: «اعتدنا خلال عملنا على مدى عقود الاحتفال سنوياً بهذه الذكرى، ومع تسلم الرئيس بشار الأسد السلطة بدأت المساحات الكبيرة التي كان يخصصها الإعلام الرسمي للاحتفال بالمناسبة وتمجيد قائدها الرئيس الراحل حافظ الأسد تتقلص، وتنحدر نحو (التكرار)».

السردية الرسمية

أما على المستوى الرسمي، فإن الرواية بشأن حرب تشرين (أكتوبر)، «تفيد بتوغل الجيش السوري في الأيام الأولى من الحرب إلى عمق هضبة الجولان المحتل، إلا أن ما قلب موازين المعركة هو تدخُّل الولايات المتحدة الأميركية في اليوم السادس إلى جانب إسرائيل، التي بدورها شنَّت هجوماً معاكساً تصدى له الجيش السوري بمساندة عربية باستبسال عزّ نظيره، إلا أنه أجبر على التراجع، أمام تقدم إسرائيل لتصل إلى بُعد 40 كم من العاصمة».

طلبة سوريون يزورون متحفاً خاصاً بـ«حرب تشرين» ضمن رحلة مدرسية (فيسبوك)

ومع قبول سوريا في 24 أكتوبر قرار وقف إطلاق النار، بدأ ما سُميت «حرب استنزاف» التي استمرت حتى 31 مايو (أيار) عام 1974، وبعدها تم توقيع اتفاقية فك اشتباك أفضت إلى إعادة مدينة القنيطرة المدمرة إلى سوريا، مقابل إبعاد الجيش السوري عن خط الهدنة، وإحلال قوة خاصة للأمم المتحدة لمراقبة تنفيذ الاتفاقية، ولتبقى هضبة الجولان محتلة.

ورغم ذلك تَعد وزارة الدفاع السورية حرب تشرين (أكتوبر)، «محطة مفصلية في مسار الصراع العربي - الإسرائيلي»، وتقول إن من أهم نتائج حرب تشرين (أكتوبر) أنها انتزعت زمام المبادرة بالحرب من إسرائيل. مقللةً من أهمية الخسائر الجغرافية قياساً إلى النتائج العامة للحرب وتقول في عرضها لتلك النتائج عبر موقعها الرسمي على الإنترنت: «قد نكون خسرنا أرضاً هنا، وربحنا أرضاً هناك، إنما، مهما تكن حصيلة هذه الحرب العربية - الإسرائيلية من حيث الربح والخسارة الجغرافيتين، فالقضية ليست كما تريد إسرائيل تصويرها للناس، في محاولة يائسة منها لطمس آثار حرب تشرين (أكتوبر) التحريرية ونتائجها الإيجابية بالنسبة إلى الأمة العربية».


حروب إسرائيل بعد 1973... كيف بدأت وإلى أين انتهت؟

TT

حروب إسرائيل بعد 1973... كيف بدأت وإلى أين انتهت؟

دخان يتصاعد بعد غارات جوية إسرائيلية على مبنى في غزة عام 2021 (أ.ب)
دخان يتصاعد بعد غارات جوية إسرائيلية على مبنى في غزة عام 2021 (أ.ب)

استفاق اللبنانيون في 6 يونيو (حزيران) 1982 على عملية عسكرية إسرائيلية واسعة، وصلت إلى بيروت وأثارت صدمة داخل وخارج البلد الذي تحولت نصف مساحته تقريباً ساحةً مشتعلة، احتل خلالها الإسرائيليون، الجنوب وبيروت وأجزاء من جبل لبنان والبقاع.

والغزو الذي سمّته إسرائيل «عملية سلام الجليل»، كان أوسع عملية عسكرية تخوضها تل أبيب بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، ذلك أن «عملية الليطاني» التي أطلقتها في 14 مارس (آذار) 1978، كانت محدودة في جنوب ضفة «نهر الليطاني» جنوب البلاد.

ويُعتقد أن حجم العملية كان الأكبر بالنسبة لإسرائيل؛ إذ زجت بآلاف الجنود بقيادة آرييل شارون الذي كان وزيراً للدفاع آنذاك، وأدى الاجتياح إلى إنهاك المؤسسات الحكومية اللبنانية المضطربة أصلاً جراء الحرب الأهلية (1975: 1990)، وحوّل لبنان ساحة حرب ما بين الإسرائيليين، والقوات الفلسطينية، والأحزاب اللبنانية، والجيش السوري.

كانت ذريعة الإسرائيليين أن عمليتهم رداً على محاولة اغتيال سفير تل أبيب في لندن شلومو أرجوف، في 3 يونيو 1982، والتي نفذتها جماعة «فتح - المجلس الثوري» (المنشقة عن «منظمة التحرير الفلسطينية») بقيادة أبو نضال.

وتمثلت أهداف تل أبيت في: إجلاء كل القوات العربية عن لبنان ومن ضمنها الجيش السوري، وتدمير «منظمة التحرير الفلسطينية» بقيادة ياسر عرفات، وتوقيع اتفاقية سلام مع الحكومة اللبنانية، وضمان أمن المستوطنات الإسرائيلية الشمالية.

الدبابات الإسرائيلية تحاصر بيروت في 21 يوليو 1982 (أ.ف.ب)

استمرت الحرب الإسرائيلية على لبنان حتى عام 1985 وأسفرت عن سقوط نحو 17 ألف قتيل وإصابة أكثر من 30 ألف شخص من اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين، وانسحبت بعدها القوات الإسرائيلية إلى خلف الشريط الشائك في جنوب لبنان.

وصحيح أن الحرب بشكلها المعروف انتهت عام 1985، إلا أن آثارها لم تنتهِ حتى 25 مايو (أيار) من عام 2000 عندما انسحب الجيش الإسرائيلي وأعوانه فعلياً من جنوب لبنان.

صبرا وشاتيلا

مثّلت مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا التي بدأت في 16 سبتمبر (أيلول) 1982 واستمرت ليومين، وراح ضحيتها أكثر من 800 قتيل، غالبيتهم من النساء والأطفال الفلسطينيين والبنانيين، الصورة الأكثر مأساوية لهذه الحرب.

ولا تزال مشاهد تلك المجزرة عالقة في ذاكرة المواطن اللبناني حسن حرب، الذي يقول لـ«الشرق الأوسط»: إن «قوات الاحتلال الإسرائيلي وبعض الميليشيات اللبنانية التي كانت تساندها، ارتكبت أبشع مجزرة بتاريخ البشرية، بعد خروج المقاتلين من بيروت (الغربية) نتيجة اتفاقية وقف إطلاق النار».

ويروي حرب الذي كان منضوياً في تنظيم «المرابطون»، أن «آرييل شارون (رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل) تعهّد وقف الأعمال العسكرية فور خروج مقاتلي (فتح) و(المرابطون) وتحالف أحزاب القوى الوطنية والإسلامية، لكن وما إن تأكد من خلو بيروت من المسلحين، أشرف شخصياً (شارون) على تنفيذ المجزرة بدمٍ بارد».

ورغم ذكراها المؤلمة التي عايشها بعد تسليم سلاحه، يقول حرب: إن «الإسرائيليين افتتحوا المجزرة بقتل رجل مسّن يبلغ من العمر 83 عاماً أمام محله الذي كان يبيع من خلاله الكعك عند مدخل صبرا». ويضيف: «الجرائم بحق الأبرياء ارتُكبت بالرصاص، والسكاكين والفؤوس وفسخ الشخص إلى نصفين».

شاهد آخر على مجزرة «صبرا وشاتيلا» هو المسعف عبد القادر الترك، والذي كان يعمل حينها في فرق انتشال جثث القتلى من صبرا وشاتيلا، يشير إلى أن «أغلب المقاتلين الذين سلّموا أسلحتهم اقتادهم الإسرائيليون إلى داخل المدنية الرياضية في بيروت وأعدموهم ميدانياً».

وأوضح الترك لـ«الشرق الأوسط»، أن «قوات الاحتلال الإسرائيلي كانت بصدد استكمال مجازرها، إلّا أن انبعاث الروائح الكريهة لجثث القتلى بالشوارع وارتفاع درجات الحرارة جعلها تتوقف وتنكفئ».

وقال: «لقد اضطر الإسرائيليون وشركاؤهم اللبنانيون، إلى طمر عشرات القتلى بالردم والأتربة لتخفيف الروائح»، لافتاً إلى أن «قسماً كبيراً من الجثث جرى تلغيمها وكانت تنفجر برجال الإسعاف وتقتل بعضهم».

معادلة جديدة

وتختلف تقديرات الخبراء بشأن ما حققته إسرائيل من تلك الحرب، ويلفت مدير «مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري» الدكتور رياض قهوجي، إلى أن «حرب اجتياح لبنان كان هدفها إخراج (منظمة التحرير) من لبنان، وفرض معادلة تؤدي إلى سلام مع بيروت، وبشكل عام نجحت إسرائيل في هدفها الأول، بينما كان هناك ثمة توجه لإبرام اتفاق سلام كان شبه مُنجز (اتفاق 17 أيار)، لكن الأمور ساءت بفعل التطورات الداخلية في لبنان، وبالتالي فإنها بالمعايير العسكرية والاستراتيجية كانت ناجحة بالنسبة لإسرائيل».

وداع ياسر عرفات قبل مغادرته بيروت عام 1982 (غيتي)

لكن، وعلى الجانب الآخر، يعتقد عضو المجلسين الوطني والمركزي الفلسطينيين، هيثم زعيتر، أن «إسرائيل ورغم الدمار والمجازر التي ارتكبتها خلال اجتياح لبنان، لم تحقق غايتها بالقضاء على منظمة التحرير واغتيال ياسر عرفات وطمس القضية الفلسطينية، بل إنه بخروج (فتح) وأبو عمار من لبنان إلى تونس، جرى إعادة تقييم سياسي وعسكري لما حصل، وعادت الحركة وقائدها إلى داخل فلسطين أقوى من ذي قبل».

«عناقيد الغضب»

بعد نحو 14 سنة من اجتياح 1982، أعادت إسرائيل الكرّة في عملية عسكرية واسعة نفذتها في جنوب لبنان في 11 أبريل (نيسان) 1996 أسمتها «عناقيد الغضب» واستمرت 16 يوماً، وذلك رداً على إطلاق «حزب الله» ثلاث دفعات من الصواريخ على مستوطنتي «نهاريا» و«كريات شمونة» شمال فلسطين؛ ما أسفر عن إصابة 37 مستوطناً.

وخلال القصف الإسرائيلي الذي استهدف مناطق واسعة في الجنوب، ووصل إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، ارتكبت إسرائيل مجزرتين، الأولى وقعت في بلدة «المنصوري» في 13 أبريل قرب حاجز لقوات الطوارئ الدولية، أسفرت عن مقتل 9 مدنيين غالبيتهم أطفال، أما المجزرة الأخرى فوقعت في 18 أبريل في بلدة «قانا»، حيث قصفت الطائرات الحربية مقراً تابعاً لقوات حفظ السلام الدولية، لجأ إليه المدنيون وقضى فيها 102 من النساء والأطفال.

منقذ من الصليب الأحمر اللبناني يركض بعد إصابة سيارة بصاروخ مروحية إسرائيلية عام 1996 (غيتي)

وهذه المرة يعتقد الدكتور قهوجي أن «(عناقيد الغضب) فشلت بكل المقاييس وانتهت لصالح لبنان»، مستشهداً بأن رئيس الحكومة آنذاك رفيق الحريري «استغلّ علاقاته الدولية لتحسين مركز لبنان عالمياً، ونجح بإنهاء تلك الحرب التي كانت فاشلة سياسياً بالنسبة لإسرائيل، وأضرّت مجازرها بصورة تل أبيب عالمياً».

يوليو 2006

على أثر انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في شهر مايو 2000، تراجعت العمليات العسكرية لـ«حزب الله» كثيراً، لكن تنفيذه عملية خطف جنديين إسرائيليين عند الخطّ الأزرق، تسبب في حرب جديدة عُرفت بـ«حرب يوليو (تموز)» في عام 2006، وخلّفت أكثر من 1300 قتيل لبناني، ودماراً هائلاً بالبنية التحتية.

كان هدف «حزب الله» اختطاف جنود إسرائيليين للضغط على حكومتهم ومبادلتهم بأسرى لبنانيين في سجون إسرائيل، لكن الجيش الإسرائيلي شنّ هجوماً جوياً على جنوب لبنان، مستهدفاً محطات الكهرباء ومطار بيروت وشبكة من الجسور والطرق؛ مما أدى إلى مقتل العشرات.

وانضمت قوات بحرية إسرائيلية للهجوم، واستدعى الجيش الإسرائيلي فرقة احتياط مؤلّفة من ستة آلاف جندي لنشرها سريعاً شمال إسرائيل، ودخلت قوات بريّة إسرائيلية إلى جنوب لبنان وخاضت معارك طاحنة مع مقاتلي «حزب الله».

دامت الحرب 33 يوماً وانتهت بالقرار 1701 الذي أوقف العمليات العسكرية، بعد مقتل أكثر من 1300 لبناني، غالبيتهم من المدنيين وجرح الآلاف، بينما اعترف الجيش الإسرائيلي بمقتل 120 عسكرياً من جنوده وجرح 314، إضافة إلى مقتل 45 مدنياً إسرائيلياً. ويرى قهوجي أن «حزب تموز كانت فاشلة بالمعايير الإسرائيلية؛ إذ أعقبتها محاكمة لرئيس الوزراء إيهود أولمرت وقيادات عسكرية». ويخلص إلى أنه «باستثناء اجتياح عام 1982، فإن كل حروب إسرائيل بعد أكتوبر 1973 كانت فاشلة بمعايير أهدافها السياسية».

أما الخبير العسكري والاستراتيجي العميد الركن خالد حمادة، فيذهب إلى أن إسرائيل «حققت في حرب عام 2006 مكسباً سياسياً مُهماً تمثّل بالقرار 1701، حيث أدخلت 12 ألف جندي أجنبي إلى الحدود مع لبنان، ومنذ ذلك الوقت لم ينفذ (حزب الله) أي عملية عابرة للحدود باتجاه إسرائيل».

وقال حمادة لـ«الشرق الأوسط»: إن «أهم ما ترتب لبنانياً على حرب 2006، هو وقف أنشطة (حزب الله) العسكرية في الجنوب، ليصبح الأخير متفرغاً للداخل اللبناني للعب أدوار سياسية وأمنية وعسكرية، كما بات منصرفاً للحروب التي تخوضها إيران في الدول العربية من سوريا إلى العراق واليمن».

حروب ضد غزّة

وقائع المواجهة الإسرائيلية في لبنان، قد تكون مشابهة لحروبها داخل الأراضي الفلسطينية، خصوصاً مع قطاع غزّة الذي صنّفته تل أبيب «كياناً معادياً لها» بعد سيطرة حركة «حماس» عليه، وشنّت عملية واسعة ضده مطلع شهر يونيو 2006، عنوانها تحرير الجندي جلعاد شاليط الذي أسرته حركة «حماس» وفرضت حصاراً شاملاً على القطاع.

في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، بدأت إسرائيل حرباً على قطاع غزة استمرّت 23 يوماً، أطلقت عليها اسم «عملية الرصاص المصبوب»، وردت عليها الفصائل الفلسطينية بعملية أسمتها «معركة الفرقان»، كان هدف قيادة إسرائيل «إنهاء حكم حركة (حماس) في القطاع»، والقضاء على المقاومة الفلسطينية وإنهاء قصف المستوطنات الإسرائيلية بالصواريخ، وأسفرت هذه الحرب عن أكثر من 1430 قتيلاً فلسطينياً، وتدمير نحو 10 آلاف منزل دماراً كاملاً أو جزئياً، في حين اعترفت إسرائيل بمقتل 13 إسرائيلياً بينهم 10 جنود وإصابة 300 آخرين.

ثم، وفي 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، شنّت إسرائيل حرباً على غزّة استمرت ثمانية أيام، هدفها «تدمير المواقع التي تخزن فيها الصواريخ، وهي انطلقت على أثر اغتيال إسرائيل قائد كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة «حماس» أحمد الجغبري، وأدت الحرب إلى مقتل 180 فلسطينياً و20 إسرائيلياً.

توالت العمليات الإسرائيلية الموسعة ضد قطاع غزة، وفي السابع من يوليو 2014 أطلقت الدولة العبرية عملية «الجرف الصامد» التي استمرت 51 يوماً، نفذ خلالها الجيش الإسرائيلي أكثر من 60 ألف غارة على القطاع، أسفرت عن مقتل أكثر من 2300 فلسطيني ونحو 11 ألف جريح، في حين قُتل 68 جندياً إسرائيلياً و4 مدنيين.

دخان يتصاعد بعد غارات جوية إسرائيلية على مبنى في غزة عام 2021 (أ.ب)

وفي الخامس من أغسطس (آب) 2022 اغتالت إسرائيل قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لـ«حركة الجهاد الإسلامي»)، استتبعتها بعملية أسمتها «الفجر الصادق»، وعلّلت اختيار تلك التسمية بأنها «لتأكيد تركيزها على (حركة الجهاد) التي تتخذ اللون الأسود شعاراً»، وردت «الجهاد الإسلامي» بعملية أسمتها «وحدة الساحات»، وأطلقت خلالها مئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وطالت الصواريخ مطار بن غوريون.

ورغم استمرار معاناة الفلسطينيين منذ النكبة، يرى عضو المجلسين الوطني والمركزي الفلسطينيين هيثم زعيتر، أن إسرائيل «ورغم قوتها العسكرية الهائلة لم تحقق غايتها من الحروب داخل فلسطين». ويشير في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن «الحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزّة، والمجازر التي ترتكبها أسبوعياً لم يوفر السلام لمواطنيها». ويتحدث عن عامل مهمّ للغاية يتمثل بـ«انتقال عمليات المقاومة إلى أراضي 1948، والمواجهة الشرسة مع القوات الإسرائيلية خلال تدنيس المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وتجريف الأراضي والمنازل والتصدي الدائم للتوسع الاستيطاني».


«أوسلو المتبخر»... يتبرأ منه الجميع ويتنفسون من رئته

المصافحة التاريخية برعاية الرئيس بيل كلينتون بين ياسر عرفات وإسحاق رابين بعد اتفاق أوسلو بواشنطن يوم 13 سبتمبر 1993 (غيتي)
المصافحة التاريخية برعاية الرئيس بيل كلينتون بين ياسر عرفات وإسحاق رابين بعد اتفاق أوسلو بواشنطن يوم 13 سبتمبر 1993 (غيتي)
TT

«أوسلو المتبخر»... يتبرأ منه الجميع ويتنفسون من رئته

المصافحة التاريخية برعاية الرئيس بيل كلينتون بين ياسر عرفات وإسحاق رابين بعد اتفاق أوسلو بواشنطن يوم 13 سبتمبر 1993 (غيتي)
المصافحة التاريخية برعاية الرئيس بيل كلينتون بين ياسر عرفات وإسحاق رابين بعد اتفاق أوسلو بواشنطن يوم 13 سبتمبر 1993 (غيتي)

مشهدان لا ينساهما الفلسطينيون بشكل خاص؛ نزول الرئيس المصري أنور السادات من طائرته في مطار بن غوريون الإسرائيلي يوم الـ19 من نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1977، بعد سنوات من حرب أكتوبر، والمصافحة التاريخية بين الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين في حديقة البيت الأبيض الأميركي في 13 سبتمبر 1993، بالنظر إلى أن الرجلين حاربا إسرائيل طويلاً في معارك كبيرة وصغيرة، ومثّلا، كلٌّ في مرحلة ما من تاريخ بلاده، رمزاً لنصر نهائي محتمل كان يداعب عقول الفلسطينيين والعرب. متفقان أحياناً كثيرة، ومختلفان أكثر حول مفاهيم متعلقة بالحرب والسلام، قبل أن يلتحق عرفات بالسادات ويقبل ببدء طريق كان عرضه عليه قبل سنوات طويلة.

بالنسبة لعرفات والفلسطينيين، كان اتفاق «أوسلو» الذي أنجز بعد «معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية» بـ14 عاماً، تحولاً كاملاً ومربكاً إلى حد كبير.

يروي الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في مذكّراته حول المصافحة التاريخية بين عرفات ورابين كيف أنهما تصافحا بعد لحظات من التردد، وتمارين كان أجراها سابقاً (كلينتون) مع معاونيه لكي يتأكد من تفادي أي معانقة، وذلك عبر وضع يده اليسرى على الذراع اليمنى لعرفات.

كانت المصافحة التاريخية إعلاناً صريحاً للعالم بولادة «اتفاق أوسلو» الذي لم يحقق للطرفين ما أرادا منه؛ فمن جهة لم يجلب الأمن للإسرائيليين، وعلى الجانب الآخر لم يحقق الدولة للفلسطينيين.

كان يفترض أن يكون «اتفاق أوسلو» مؤقتاً ينتهي بإقامة دولة فلسطينية بعد 5 سنوات من توقيعه، أي في عام 1998. لكن الاتفاق تحول من مؤقت إلى دائم ظل حياً، لكنه في وضع موت سريري.

حصار للجميع

«اتفاق أوسلو» إنه «اتفاق إعلان المبادئ - حول ترتيبات الحكومة الذاتية الفلسطينية»، وتم توقيعه في 1993/9/13. ونصّ الاتفاق على انسحاب القوات الإسرائيلية على مراحل من الضفة الغربية وقطاع غزة، وإنشاء «سلطة حكم ذاتي فلسطينية مؤقتة» لمرحلة انتقالية تستغرق خمس سنوات، على أن تُتوج بتسوية دائمة بناء على القرار رقم 242، والقرار رقم 338. كذلك تحدث الاتفاق عن وضع «حد لعقود من المواجهة والنزاع»، وعن اعتراف كل جانب «بالحقوق الشرعية والسياسية المتبادلة» للجانب الآخر.

وتعامل الاتفاق مع الفترة الانتقالية ومفاوضات الوضع الدائم، بوضوح تام آنذاك، وتضمن أن:

أ - تبدأ فترة السنوات الخمس الانتقالية عند الانسحاب من قطاع غزة ومنطقة أريحا.

ب -تبدأ مفاوضات الوضع الدائم بين حكومة إسرائيل وممثلي الشعب الفلسطيني في أقرب وقت ممكن، ولكن بما لا يتعدى بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية.

ت - من المفهوم أن هذه المفاوضات سوف تغطي القضايا المتبقية، بما فيها القدس، واللاجئون، والمستوطنات، والترتيبات الأمنية، والحدود، والعلاقات والتعاون مع جيران آخرين، ومسائل أخرى ذات اهتمام مشترك.

وتمخض الاتفاق، كذلك، عن تشكيل لجنة الارتباط المشتركة الإسرائيلية - الفلسطينية من أجل معالجة القضايا التي تتطلب التنسيق وقضايا أخرى ذات اهتمام مشترك، والمُنازعات.

المصافحة التاريخية بين ياسر عرفات وإسحاق رابين أمام الرئيس بيل كلينتون في البيت الأبيض يوم 13 سبتمبر 1993 (غيتي)

ويتضح من النص أنه كان اتفاقاً سياسياً وأمنياً واقتصادياً، وينظم العلاقة بين الطرفين... ولكن ما الذي طُبّق منه على الأرض؟

بعد سنوات قليلة فقط، توقفت إسرائيل عن استكمال عملية انسحاب قواتها المقررة من المناطق، وبدلاً من ذلك زادت من نشاطاتها الاستيطانية في كل مكان، بل استباحت المناطق المصنفة «أ»، وهي الأراضي الواقعة تحت الولاية الأمنية الفلسطينية الكاملة.

وخلال السنوات اللاحقة، رفضت إسرائيل مراجعة الاتفاقيات الاقتصادية التي تتحكّم بقدرة الاقتصاد الفلسطيني على التطوّر والاستقلال، واتخذت إسرائيل إجراءات أدّت إلى تعطيل المرحلة الانتقالية الهادفة إلى تحقيق الاستقلال.

لكن مسألة واحدة لم تخلّ بها إسرائيل أبداً، وهي المسألة الأمنية؛ إذ استمرت في احترام التنسيق الأمني مع السلطة.

وخلال 30 عاماً كاملة، على اتفاق «أوسلو» يمكن القول إن السلطة الفلسطينية جاهدت من أجل إبقائه حياً، رغم إعلانها مراراً أنه منتهٍ، فيما أرادته إسرائيل في غرفة العناية المركزية، لا حياً ولا ميتاً، بينما عملت مجموعات مثل «حماس» على إسقاطه بالقوة، رغم أنها شاركت في السلطة التي نشأت بموجبه.

لم يستطع الفلسطينيون التخلص منه؛ لأنهم ببساطة لا يمكن أن يحتفظوا بالسلطة من دون «أوسلو»، أما الإسرائيليون فإن إعلانهم أنهم في حِلّ منه، يعني حَلّ السلطة الفلسطينية وعودتهم إلى احتلال الضفة الغربية، وهو آخر ما يريدون أن يصلوا إليه. باختصار يكرهه الجميع لكنهم يتنفّسون من رئته، حتى إنه ظل يحاصرهم ويفرّخ اتفاقات أخرى.

تفاهمات بلا تطبيق

وجدت السلطة نفسها معلقة بـ«أوسلو»، وفي محاولة إبقائه على قيد الحياة عقد الفلسطينيون اتفاقات أخرى مع إسرائيل يمكن وصفها بملاحق «أوسلو» أو «أولاد وبنات الاتفاق الأم»، مثل اتفاق «غزة - أريحا» (1994)، واتفاق «باريس الاقتصادي» (يوليو «تموز»، 1994) واتفاقية «طابا أو أوسلو الثانية» (1995)، واتفاق «واي ريفر الأول» (1998)، و«واي ريفر الثاني» (1999)، ثم «خريطة الطريق» ثم اتفاق «أنابوليس» (2007).

بعد ذلك، عقد الطرفان سلسلة من الاجتماعات ودفعوا إلى الأمام تفاهمات، من بينها مفاوضات أطلقها وزير الخارجية الأميركي جون كيري في 2013، واجتماعات خماسية أمنية في العقبة في المملكة الأردنية، وشرم الشيخ في مصر هذا العام، لكنها جميعها لم تنجح.

بلا التزام

لم يلتزم الإسرائيليون بأي اتفاق عقدوه مع الفلسطينيين، بل أوصلوا السلطة راهناً إلى مرحلة ضعف غير مسبوقة، بعدما غيروا إلى حد كبير وظيفتها، وبدأت تعيش واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق، تقلّصت فيها المساحات التي تسيطر عليها من دون أفق سياسي واقتصادي، مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ويكفي ما أشارت له منظمة «السلام الآن» اليسارية الإسرائيلية حول أن اتفاقية «أوسلو» قبل 30 عاماً، ساهمت بشكل كبير في زيادة عدد المستوطنات والمستوطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة من 110 آلاف مستوطن في الضفة الغربية، ونحو 140 ألف مستوطن في شرق القدس آنذاك إلى 465 ألف مستوطن في الضفة الغربية، اليوم يقيمون في نحو 300 مستوطنة وبؤرة استيطانية، وما يقارب 230 ألف مستوطن في شرقي القدس، وهو وضع فرض على الطاولة سؤالاً معقداً حول ما إذا كانت السلطة الفلسطينية ستحل نفسها أو تنهار.

الأكيد أنها لا تخطط لذلك، لكن أمين سر اللجنة التنفيذية لـ«منظمة التحرير» حسين الشيخ، أقر بأن السلطة غير قادرة، قائلاً لمجلة «فورين بوليسي» إن «السلطة غير قادرة على تقديم أفق سياسي للشعب. وإنها غير قادرة على حل مشاكل الشعب المالية والاقتصادية الناتجة عن الاحتلال، ولكن ما البديل للسلطة الفلسطينية؟... الفوضى والعنف».

خيارات جديدة

يمكن فهم التوجه العام في رام الله من خلال تصريحات أدلى بها رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية، في كلمة له خلال اجتماع المانحين AHLC في مقر الأمم المتحدة بمدينة نيويورك على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، الشهر الماضي، قال فيها إن «اتفاق (أوسلو) للسلام تبخر في كل الجوانب؛ الأمنية والسياسية والقانونية والمالية»، متهماً الحكومة الإسرائيلية بالعمل بشكل منهجي على تقويض قيام الدولة الفلسطينية، ودفع السلطة الوطنية إلى حافة الانهيار.

لكن إذا كانت السلطة تعد «أوسلو» قد تبخر، فما هو بديله؟

محمود عباس في نيويورك الشهر الماضي أمام «الجمعية العامة للأمم المتحدة» (أ.ف.ب)

يطالب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أمام الدورة الـ78 للجمعية العامة للأمم المتحدة، «تجسيد استقلال دولة فلسطين كاملة السيادة بعاصمتها القدس الشرقية، على حدود عام 1967، وحل قضية اللاجئين وفق قرارات الشرعية الدولية، وخاصة القرار 194، وتطبيق قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن، التي تؤكد عدم شرعية الاحتلال والاستيطان، خاصة القرار 2334، وكذلك مبادرة السلام العربية».

تصريحات عباس هذه أعادت «مبادرة السلام العربية» إلى الواجهة، بعدما حاولت إسرائيل إبقاءها طي النسيان.

المبادرة العربية

و«مبادرة السلام العربية»، هي مبادرة أطلقها الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، في «قمة بيروت» عام 2002، عندما كان ولياً للعهد، وتهدف إلى إنشاء دولة فلسطينية، وعودة اللاجئين، والانسحاب من هضبة الجولان، مقابل السلام مع إسرائيل.

وطالبت المبادرة إسرائيل بـ«الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة، بما في ذلك الجولان السوري وحتى خط الرابع من يونيو (حزيران) 1967، والأراضي التي ما زالت محتلة في جنوب لبنان». ودَعت كذلك لقبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من يونيو 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة وتكون عاصمتها القدس الشرقية. وتتضمن المبادرة أنه إذا استجابت إسرائيل لتلك المطالب فعندئذ تَعدّ الدول العربية النزاع العربي - الإسرائيلي منتهياً، وتدخل في «اتفاقية سلام» بينها وبين إسرائيل، مع تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة.

رفض الإسرائيليون الاقتراح مراراً وتكراراً، وبعدما ظنوا أنه أصبح طي النسيان، وبثوا عبر وسائل إعلامهم أن محادثات اتفاق سلام محتمل مع السعودية تتجاهل المبادرة، قال سفير المملكة العربية السعودية لدى فلسطين، قنصلها العام في القدس، نايف بن بندر السديري من رام الله، مرتين على الأقل، إن «مبادرة السلام العربية نقطة الارتكاز لأي عملية سلام مستقبلية»، و«النقطة الأساسية في أي اتفاق قادم».

تصريحات السديري التي لم تعجب إسرائيل كان متفقاً عليها مع الفلسطينيين.

وقال اشتية نفسه في أثناء لقائه السديري لاحقاً إن هناك توافقاً فلسطينياً - سعودياً على أن مبادرة السلام العربية هي الأساس المقبول لكل الأطراف.

وقال مسؤول فلسطيني لم تكشف هويته لوسائل إعلام إسرائيلية: «لقد أوضح لنا السعوديون أنهم لن يتخلوا عن القضية الفلسطينية، صحيح أن ما يتم مناقشته الآن أقل من الدولة. لكن نحن نتحدث عن طريق للوصول إلى هناك».


مصر وإسرائيل... سلام «بارد» أم تفاهم ممتد؟

TT

مصر وإسرائيل... سلام «بارد» أم تفاهم ممتد؟

رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل مناحيم بيغن يخاطب الكنيست بينما يستمع الرئيس المصري الراحل أنور السادات في القدس عام 1977 (غيتي)
رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل مناحيم بيغن يخاطب الكنيست بينما يستمع الرئيس المصري الراحل أنور السادات في القدس عام 1977 (غيتي)

عندما كان الجنود المصريون يعبرون قناة السويس، ونظراؤهم السوريون يقتحمون مرتفعات الجولان، بعد ظهيرة يوم السادس من أكتوبر عام 1973، ربما لم يُدر في خلدهم تلك الحسابات المعقدة والتحولات غير المسبوقة التي ستلي المعارك العسكرية. لكن هذا ما حدث على أي حال -بدرجات متفاوتة- في ساحات السياسة والدبلوماسية، لتدخل المنطقة في حقبة "ما بعد أكتوبر" منعطفاً جديداً تقاطعت فيه مصائر العرب مع استراتيجيات الدول الكبرى.واليوم وبعد نصف قرن على "يوم المفاجأة" العربي لإسرائيل، تبدو صورة الحدث منقسمة بين فخر وطني لا يزال راسخاً في الأذهان، ومعاهدات لافتة تضمن لها القوى الكبرى السريان. وبين هذا وذاك، انتهاكات واعتداءات تخبو حيناً وتتفجر أحياناً.

خمسون عاماً مرَّت على «آخر المعارك» بين مصر وإسرائيل، تخللتها نحو 45 عاماً من السلام بين البلدين، سلام يصفه البعض بأنه «بارد»؛ إذ يقتصر على العلاقات الرسمية، دون أن يمتد إلى تطبيع شعبي، فلا يزال «الحاجز النفسي» تجاه إسرائيل قائماً، لم تستطع سنوات السلام أن تخترقه، فيما يرى آخرون أن «صمود» حالة السلام بين القاهرة وتل أبيب في ظل تحولات داخلية وعواصف إقليمية «يمثل نجاحاً بحد ذاته».

ووقّع الرئيس المصري أنور السادات ورئيس وزراء إسرائيل مناحم بيغن معاهدة سلام في 26 مارس (آذار) 1979 برعاية الرئيس الأميركي جيمي كارتر، غير أن العلاقات الثنائية لا تزال محصورة على الجوانب الرسمية، سواء في جوانبها الدبلوماسية أو الأمنية، بينما اتخذت العلاقات الاقتصادية اتجاهاً تصاعدياً قبل عقدين، عندما سعت الولايات المتحدة إلى تشجيع البلدين على مزيد من التعاون، يتجاوز الجمود السياسي والرفض الشعبي المصري للتطبيع، وذلك من خلال اتفاقية إنشاء المناطق الصناعية المؤهلة في مصر (كويز) عام 2004، التي سمحت بالوصول المُعفى من الرسوم الجمركية إلى السوق الأميركية للسلع المنتجة مع ما لا يقل عن 10.5 في المائة من المدخلات الإسرائيلية.

السادات وبيغن يتعانقان بعد توقيع اتفاقية السلام برعاية كارتر في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

أزمات وتفاهمات

ورغم اتجاه عدد من رجال الأعمال لتجاوز «حاجز الصمت» في العلاقات بين البلدين فإن حجم التبادل التجاري بين البلدين بقي محدوداً، وبلغ خلال العام الماضي 270 مليون دولار سنوياً، إذ تُصدّر إسرائيل لمصر بضائع بقيمة 150 مليون دولار، في حين تستورد منها ما قيمته 115 مليون دولار، وفقاً للإحصاءات الإسرائيلية الرسمية لوزارتَي «الصناعة والتجارة» و«الاقتصاد»، فيما لا تتوافر بيانات مصرية محدَّثة في هذا الشأن.

وإلى جانب التعاون الاقتصادي «المحدود» استطاعت العلاقات بين البلدين تخطي مجموعة من الأزمات ارتبط بعضها بحوادث ذات طابع أمني، كبعض الاعتداءات الحدودية، كان آخرها حادث معبر العوجة في يونيو (حزيران) الماضي، الذي أدى إلى مقتل 3 جنود إسرائيليين وفرد أمن مصري، قال بيان للجيش المصري إنه كان «يلاحق مهربين على الحدود مع إسرائيل».

ولم يكن ذلك الحادث هو الأول من نوعه، ففي أكتوبر (تشرين الأول) 1985 وقعت عملية «رأس برقة»، التي نفّذها الجندي المصري سليمان خاطر، حيث قتل سبعة إسرائيليين في منطقة حدودية بين البلدين.

وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2004 احتجت مصر على مقتل ثلاثة من قوات الأمن المركزي المصري بعدما أطلقت دبابة إسرائيلية قذيفة عبر الحدود بين مصر وقطاع غزة، وفي أغسطس (آب) 2011 أدت غارة جوية إسرائيلية على الحدود المصرية جنوب رفح إلى مقتل 5 مجندين من حرس الحدود المصرية، وقدمت إسرائيل لاحقاً اعتذاراً رسمياً.

أصدقاء ومقربون يودعون جثمان جندي إسرائيلي قُتل في يونيو المماضي قرب الحدود المصرية (رويترز)

كما صمدت العلاقات بين البلدين في وجه النزاعات الإقليمية من بينها الحروب في لبنان (1982 و2006)، والانتفاضتان الفلسطينيتان (1987 و2000) وفي مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على قطاع غزة، التي استطاعت القاهرة توظيف اتصالاتها مع تل أبيب لوقفها عدة مرات، فيما عُدّ نجاحاً مصرياً على المستويين الإقليمي والدولي.

ورغم تحولات نظام الحكم في مصر وتبدل الحكومات في إسرائيل، فإن العلاقات بين البلدين حققت قدراً من الاستقرار، لكنّ ذلك لم يفلح في تغيير الموقف الشعبي الرافض للتطبيع مع إسرائيل، والذي بلغ ذروته عقب أحداث 25 يناير (كانون الثاني) عام 2011 عندما اقتحم متظاهرون غاضبون شقة ملحقة بالسفارة الإسرائيلية، وأنزلوا عَلَم إسرائيل من أعلى المبنى الذي توجد به، كما أنهت مصر الاتفاق طويل الأجل الذي كانت تزوّد بموجبه إسرائيل بالغاز الطبيعي بعد أن تعرض خط الأنابيب العابر للحدود لأعمال تخريب متكررة.

واقعية رسمية

ويُرجع الدكتور أحمد يوسف، أحمد أستاذ العلوم السياسية والعميد السابق لـ«معهد البحوث العربية»، صمود علاقة السلام بين مصر وإسرائيل إلى احترام مصر التزاماتها الدولية، إضافةً إلى ما يصفها بـ«اعتبارات الواقعية السياسية»، في ظل الظروف الإقليمية والدولية.

ويشير أحمد في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط» إلى أن العلاقة بين الطرفين تبدو بالفعل «سلاماً بارداً»، إذ بقيت مقصورة على الأطر الرسمية وفي حدها الأدنى الذي تستوجبه الترتيبات الأمنية والدبلوماسية، لكنها «لم تنتقل أبداً إلى مرحلة السلام الدافئ، على الأقل شعبياً».

وفي حين يتفق الدكتور مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة والجامعة الأميركية، مع فكرة استمرار الرفض الشعبي لتطبيع العلاقة مع إسرائيل، إلا أنه يرى أن ثمة تطورات في العلاقات الرسمية بين الجانبين، خصوصاً مع تعدد لقاءات المسؤولين في البلدين، ومشاركة مصر في «منتدى النقب» الذي يضم دول عدة بينها إسرائيل والولايات المتحدة ويتولى تنسيق السياسات بين الدول المشاركة.

ويذهب السيد في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط» إلى أن السلام الرسمي مع إسرائيل «لم يعد بارداً»، وأن موافقة إسرائيل على تجاوز مصر بعض قيود وجود قواتها في سيناء، وفقاً لنصوص اتفاق السلام مثّل تجسيداً لحالة «الاعتماد المتبادل» بين البلدين، وبخاصة في المجالين الاقتصادي والأمني، لكن الرفض الشعبي «يكاد يكون مطلقاً»، مستشهداً برفض الأحزاب والنقابات المصرية إقامة أي علاقات مع نظيراتها في إسرائيل، ويشير كذلك إلى تراجع لقاءات مثقفين من البلدين كما كان يحدث في سنوات سابقة.

ويعتقد الدكتور عماد جاد، مستشار «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» والعضو السابق في مجلس النواب المصري، أن العلاقات المصرية - الإسرائيلية تشهد حالياً موجتها الثالثة التي يصفها بـ«السلام الساخن»، بعدما تجاوزت موجة السلام الرسمي «البارد»، و«الحرب الباردة» التي تزامنت مع أحداث إقليمية عاصفة كالغزو الإسرائيلي للبنان والانتفاضتين الفلسطينيتين، وما أتبع تلك الأحداث من استدعاء للسفير المصري في تل أبيب.

ويضيف جاد في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط» أن زيادة عدد القوات المصرية في المنطقة (ج) من سيناء، من نحو 750 جندياً من قوات حرس الحدود إلى 35 ألف جندي مصري بكامل العتاد لمحاربة الإرهاب بعد 2013، يعني وجود تنسيقات مصرية - إسرائيلية، فضلاً عن المصالح الاقتصادية المتبادَلة بعد اكتشافات الغاز، والتي خلقت إطاراً إضافياً للتنسيق والتعاون في إطار «منتدى غاز شرق المتوسط» الذي تشارك فيه إسرائيل، وتستضيف القاهرة مقره.

لقاء بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في نيويورك عام 2017 (رويترز)

حظر التطبيع

ورغم أن أكثر من 65 في المائة من المصريين وُلدوا بعد اتفاقية السلام مع إسرائيل، فإن ثمة مؤشرات عدة على الرفض الشعبي للتطبيع مع إسرائيل، إذ تحظر الأحزاب والنقابات المهنية والفنية والتجمعات الثقافية في مصر على أعضائها كل أشكال «التطبيع»، وتصر نقابة الصحافيين المصريين على تجديد ذلك الحظر دورياً. وتعرّض الممثل المصري محمد رمضان لحملة انتقادات عنيفة قبل 3 أعوام بعد نشر صورة تجمعه بالمغني الإسرائيلي عومير آدم، في دبي، واضطر رمضان إلى الاعتذار.

فيما واجه البرلماني المصري السابق والإعلامي توفيق عكاشة، عقوبة الفصل من البرلمان عقب دعوته السفير الإسرائيلي في مصر إلى منزله عام 2016، وهو ما تسبب في تعرضه لهجوم غير مسبوق، وهمّ أحد النواب بضربه خلال جلسة مناقشة قرار فصله من البرلمان.

كما مثّلت المنافسات بين رياضيين مصريين وإسرائيليين في محافل دولية مؤشراً كذلك على الموقف الشعبي المصري، إذ غالباً ما تنتهي تلك المنافسات بانسحاب اللاعبين المصريين، أو برفضهم مصافحة منافسيهم، وفي بعض الأحيان شهدت تلك المقابلات أحداث عنف على غرار ما وقع في مواجهة منتخبَي كرة اليد بالبلدين في هولندا عام 1995 حيث أُصيب فيها خمسة لاعبين إسرائيليين.

ورغم تلك الوقائع، فإن الدكتور عماد جاد يرى أن ثمة «خفوتاً في حدة الرفض الشعبي تجاه إسرائيل»، مرجعاً الأمر إلى اتخاذ بعض الفصائل الفلسطينية ومنها «حماس» مواقف يصفها بـ«المعادية للمصالح المصرية»، مثل اتهامها باقتحام السجون إبان أحداث 25 يناير 2011، أو إقامة علاقات مع دول مثل قطر وإيران وتركيا في فترة التوتر مع مصر عقب 2013.

كما يشير البرلماني المصري السابق إلى تراجع أولوية القضية الفلسطينية لدى جموع المصريين بسبب انشغالهم بالهموم المعيشية، فلم تعد تخرج مظاهرات عند وقوع عدوان إسرائيلي على الفلسطينيين، كما كسر الكثير من الصحافيين حظر التطبيع وزاروا إسرائيل، من بينهم نقيب الصحافيين الراحل مكرم محمد أحمد.

في المقابل، يرى الدكتور أحمد يوسف أحمد، الرفض الشعبي المصري للتطبيع مع إسرائيل «لا يزال قوياً»، ويصفه بـ«الموقف بالغ التميز»، إذ يعكس التزاماً بموقف النظام العربي ألّا يتم التطبيع إلّا بعد حل القضية الفلسطينية، لافتاً إلى أن السلطات المصرية «لم تحاول في أي مرحلة منذ توقيع اتفاق السلام مع إسرائيل أن تضغط على النقابات والأحزاب لتغيير مواقفها، أو تحاول غسيل دماغ مواطنيها لقبول التطبيع مع إسرائيل».


المصريون الشباب وأكتوبر... فخر وتفاعل رغم التشويش

TT

المصريون الشباب وأكتوبر... فخر وتفاعل رغم التشويش

أسرة مصرية تحضر عرضاً في متحف (بانوراما حرب السادس من أكتوبر) في القاهرة مطلع الشهر الحالي (أ.ف.ب)
أسرة مصرية تحضر عرضاً في متحف (بانوراما حرب السادس من أكتوبر) في القاهرة مطلع الشهر الحالي (أ.ف.ب)

عند كل ذكرى لحرب أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1973، موعد لا يخطئه المصريون مع جدل متجدد حول «آخر الحروب» الكبرى التي خاضها الجيش المصري. ورغم مضي خمسة عقود على الحرب، فإن أحاديث «الفخر» لا تزال ميراثاً متداولاً من جيل إلى جيل، تحفظه حكايات الجدات، وترسم معالمه ملامح الآباء الذين قضوا في الحرب، أو بعدها، تاركين خلفهم صورة في زي عسكري، تُزيّن جدران البيوت.

ويعزو مؤرخون ومواطنون ارتباط المصريين بالحرب إلى «وشائج ذات أبعاد عدة، تختلط فيها وقائع القتال، بتفاعلات اجتماعية، وقومية، وذاكرة جمعية تتفق على أهمية ذلك الفصل من التاريخ الوطني»، بحسب الدكتور عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة حلوان.

يقول الدسوقي، لـ«الشرق الأوسط»: إن الجيل الشاب من المصريين يتفاعل مع ذكرى حرب أكتوبر من خلال ما يتم نشره من أحاديث مع رجالات الجيش في الحرب، والمذكرات واليوميات التي سبق نشرها، ويعاد طباعتها. وأشار المؤرخ المصري إلى أن الوسائط التكنولوجية الحديثة «ساعدت على زيادة التفاعل، من خلال سرعة تداول الإفادات، والسير البطولية، فضلاً عن توفير الكتب الرقمية».

وبينما يقرّ بتراجع الاهتمام أحياناً، يقول: إن ذلك «لم يؤثر على نظرة المصريين الشباب للصراع مع إسرائيل، وخاصة في ظل واقع القضية الفلسطينية».

أطفال مصريون يلتقطون صوراً لمشاهد تجسد حرب أكتوبر في متحف خاص بالمعركة في القاهرة (أ.ف.ب)

وعبر موقع «فيسبوك»، نشرت صفحة باسم «اكتشف معنا السويس»، صورة لمنزل قديم، في سبتمبر (أيلول)، قبل أيام من حلول ذكرى الحرب، تقول: «عند دخولك لهذه المدينة ستجد لافتة كُتب عليها: ارفع رأسك عالياً، أنت في مدينة الأبطال. بيوت السويس القديمة، وما زالت آثار طلقات النار على جدرانها موجودة حتى الآن».

ويحتفظ مواطنو مدن إقليم قناة السويس في مصر (الإسماعيلية والسويس وبورسعيد)، بمشاعر فخر إزاء الحرب، تغذيها أغنيات شعبية عن الصمود، عُرفت بها خلال سنوات الصراع في مطلع سبعينات القرن الماضي.

ويرى الدكتور جمال شقرة، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عين شمس، أن هناك «معركة تديرها إسرائيل في الإعلام لإثبات أنها انتصرت في حرب 1973»، ويقول لــ«الشرق الأوسط»: «أجد شباباً مثقفين يعرفون حقيقة ما جرى، يردّون على الذين يشوّهون تاريخ حرب أكتوبر ويُفحمونهم بقراءاته. وهذا النوع من الشباب هو الذي نريده ليحافظ على وعيه التاريخي وهويته».

وخلال الأعوام القليلة الماضية، دأب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، على الترويج عبر المنصات الاجتماعية، مع حلول ذكرى الحرب، لإفادة تقول: إن هذه المواجهة «التي بدأت بمفاجأة كبيرة، انتهت بنصر عسكري إسرائيلي وفتحت أبواب السلام مع أعظم دولة عربية»، وهو ما قوبل بتعليقات مضادة من المصريين الذين دافعوا عن «السردية المصرية لمجريات الحرب ومآلاتها».

وهنا، يقول الأكاديمي المصري جمال شقرة: إن على المؤرخين والمؤسسات المعنية بالتنشئة الاجتماعية «مواجهة الأكاذيب والشائعات عبر العمل على تنمية الوعي التاريخي، وضخ مادة علمية موثّقة حول حرب أكتوبر في الفضاء الافتراضي، بأشكال مختلفة».

في عام 2019، حقق فيلم «الممر»، وهو إنتاج مصري عن كتيبة مصرية في فترة «حرب الاستنزاف» التي مهّدت لحرب أكتوبر، إيرادات عدّها نقاد قياسية، بلغت 73 مليوناً، و616 ألف جنيه (الدولار يساوي 30.9 جنيه) بعد عشرة أسابيع في دور العرض، وفق تقارير صحافية مصرية.

أسرة مصرية تحضر عرضاً في متحف (بانوراما حرب السادس من أكتوبر) في القاهرة مطلع الشهر الحالي (أ.ف.ب)

ويقول المصري حسام الجارحي (45 عاماً): إن حرب السادس من أكتوبر «عصيّة على النسيان أو التزييف مهما تباعدت السنون». ويوضح الشاب الذي يعمل مديراً بأحد مصانع مدينة السادات (أنشئت بقرار جمهوري في عام 1978)، أن تفاعل الشباب الآن «يمكن رصده من خلال المشاركة الواسعة عبر المنصات الاجتماعية عندما تحل ذكرى الحرب».

ويضيف، في نبرة حماسية لـ«الشرق الأوسط»: «أولادي لم يشهدوا الحرب، ومع ذلك يفاخرون بحكايات الأجداد والأقارب الذين قضوا سنوات طويلة في ثياب الجندية المصرية. كفاح المصريين في السادس من أكتوبر لم يكن مرتبطاً فقط بالجهد العسكري؛ فقد كانت الأمهات في البيوت، والآباء في الحقول، يوصون أبناءهم بالثأر العسكري من هزيمة 1967 القاسية».

ويشير الجارحي إلى أغنية ألّفها شاعر العامية المصري الراحل، أحمد فؤاد نجم، عقب نكسة 1967، عن قصة لمجند مصري يدعى عبد الودود يتلقى رسالة من أسرته عندما كان مرابضاً على الجبهة ومما جاء فيها: «واه يا عبد الودود... يا رابض عالحدود... ومحافظ عالنظام... كيفك يا واد صحيح... عسى الله تكون مليح... وراقب للأمام... عقولَّك وانت خابر... كل القضية عاد... حِسّك عينك تزحزح... يدّك عن الزناد... خليك يا عبدو راصد... لساعة الحساب... آن الأوان يا ولدي... ما عاد إلا المعاد».

ويضيف الجارحي: «هذه الأغنية عبّرت منذ كتابتها وتداولها، وحتى اليوم، عن الموقف الشعبي المصري في الحرب». ويبدي اعتقاده أن مصادر الشبان المصريين عن الحرب أكثر من أن تُحصى، وخاصة مذكرات الذين شاركوا في الحرب، وفي مقدمتهم الفريق سعد الشاذلي، (رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية بين 1971 وحتى أواخر 1973)، وصاحب أشهر مذكرات عسكرية عن الحرب، والمعنونة: «حرب أكتوبر... مذكرات الشاذلي».


ذكرى حرب أكتوبر... نصف قرن على «يوم المفاجأة» العربي

 جنود مصريون يرفعون العلم على الضفة الشرقية من قناة السويس خلال معارك حرب أكتوبر 1973 (أ.ب)
جنود مصريون يرفعون العلم على الضفة الشرقية من قناة السويس خلال معارك حرب أكتوبر 1973 (أ.ب)
TT

ذكرى حرب أكتوبر... نصف قرن على «يوم المفاجأة» العربي

 جنود مصريون يرفعون العلم على الضفة الشرقية من قناة السويس خلال معارك حرب أكتوبر 1973 (أ.ب)
جنود مصريون يرفعون العلم على الضفة الشرقية من قناة السويس خلال معارك حرب أكتوبر 1973 (أ.ب)

قبل نصف قرن، وتحديداً في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، اهتز العالم على وقع «المفاجأة العربية» التي طالما استبعدتها إسرائيل وحلفاؤها. فالمصريون والسوريون الذين هُزموا قبل 6 سنوات، أخذوا المبادرة وكسروا صمت السلاح، وفتحوا الباب أمام حرب غيّرت، ولا تزال، بتداعياتها وجه المنطقة.

من فوهات البنادق ودانات المدافع، ومن أعماق آبار النفط إلى قمم سيناء والجولان، تبلور القرار العربي في لحظة نادرة وانطلق الجنود لخوض المعركة المنتظرة. لم تكن ثمة شرعية يحتاج إليها الجنود، فقط انتظروا الأمر ببدء المعارك ليخوضوا مواجهتهم على الأوجه كافة.

لكن المعارك العسكرية، باعتبارها - بدرجة ما - صورة من صور المفاوضات السياسية، لم تكن فقط في دروب سيناء أو مرتفعات الجولان. كانت هناك اجتماعات عاصفة واتهامات متبادلة بالمسؤولية والتقصير ولملمة الجراح التي فتحتها المبادرة بالقتال، وصراع بين القطبين الأميركي والسوفيتي على تعزيز الوجود وإثبات النفوذ.

وفي محاولة لفهم ما جرى في عواصم عدة، وعبر مستويات مسؤولية مختلفة، تنشر «الشرق الأوسط» على مدى يومين ملفاً خاصاً عن «حرب أكتوبر»، متضمناً إطلالة واسعة على قصة لا تزال تمثل لحظة فارقة في الوجدان العربي.