غور الزمان وإهمال المكان

نحن على سطح كوكبنا هذا لناظر آخر في الكون أو الأكوان، حسب نظرية الأكوان المتعددة (د.ب.أ)
نحن على سطح كوكبنا هذا لناظر آخر في الكون أو الأكوان، حسب نظرية الأكوان المتعددة (د.ب.أ)
TT

غور الزمان وإهمال المكان

نحن على سطح كوكبنا هذا لناظر آخر في الكون أو الأكوان، حسب نظرية الأكوان المتعددة (د.ب.أ)
نحن على سطح كوكبنا هذا لناظر آخر في الكون أو الأكوان، حسب نظرية الأكوان المتعددة (د.ب.أ)

حبة رمل على طرف إبهامك على مد ذراعك... تلك هي المساحة المتناهية صغراً المكافئة للصورة التي التقطها التليسكوب الكوني «جيمس ويب» التي حملت تفاصيل بلايين المجرات التي تحوي بلايين الشموس والنجوم الآتي قبس نورها من زمان مضى... أو هكذا نتوهم أنه مضى...!
كل ذلك على مرمى لمحة بصر من لحظة نشأة الكون منذ ثلاثة عشر بليون سنة ضوئية...
هكذا سبرنا غور الزمان ونحن على همل من المكان في ذاك الكون المترامي نسمه كوكباً...!
كوكب يتواقت فيه - حال ما اصطلحنا على أن نسميه - الفجر والسحر والشروق والغروب... يتتام فيه ليله الدامس ونهاره البَين...
شروق الشمس في بعضه هو عين غروبها في بعضه الآخر... يُعبَدُ الله فيه بكل وقت وفي كل وقت... ففي لحظة واحدة على بقاع مختلفة من ذات الأرض يأذن الله لبعض خلقه بالصلاة... فيصلي لله فجراً وظهراً وعصراً ومغرباً وعشاءً... في ذات الآن في بقاع الكوكب شتى...
لحظة واحدة ينطوي فيها في كل آن «لحظة» أمس ويوم وغد بقاع الأرض كلها... لا تَزَيُّدَ في هذا ولا تَوَهُّم...
فيوم هذا الذي يحياه هو يوم لم تطلع شمسه على ذاك الساكن للأرض مثله في بقعة أخرى... وهو ذاته يوم مضى ولن يعود لثالث على ذات الأرض... في ذات الآن.
إن ما نحياه إذاً إنما هو طيف الزمان الواحد... ما نحياه باسم الزمن هو ظل حركتنا في طيف الزمان... أما الزمان الكائن فواحد...!
يتحرك الخلق على الكوكب - حين يتحركون ويتواصلون - بحركة ليس بين شرق وغرب ولكن بين ماضٍ ومستقبل في آنٍ يسمونه حاضراً...
ويسكن الخلق على الكوكب - حين يسكنون - بحركة بين زمانين ماضٍ ومستقبل بحركة الكوكب ذاته في الزمكان...!
ينتقل الخلق ليس من شرق وغرب أو بين شمال وجنوب... ولكن ينتقلون حين ينتقلون بين ماضٍ ومستقبل...
فالغرب زمان أكثر منه مكاناً... والشرق زمان أكثر منه مكاناً... الشرق مستقبل للكوكب لا ينقطع والغرب ماضٍ لا ينقطع.
كوكب لا حاضر عليه بل كله مستقبل يصبح ماضياً في لحظة نحن من يسميها بالحاضر ويحياها حاضراً ليس لكونها حاضراً ولكن لقصور ملكاتنا عن تقرير غير ذلك.
كل موطئ قدم على سطح الكوكب هو في جوهر حقيقته... سرج سابح يحيا في مستقبل موطئ القدم الذي يليه في حركة الدوران وفي ماضي موطئ القدم الذي انتقل بحركة الدورات قبله... وهما ما نسميهما اصطلاحاً بين السبق واللحاق... شرق وغرب... فبالأحرى الشرق هو السبق أبداً والغرب هو اللحاق أبداً...
وكأنها جهات أصلية للكرونوجرافيا أكثر منها جهات أصلية للجغرافيا...
ذاك شأن الله في حركة أجرامه... أما ساكنوها من خلقه فله ولهم شأن آخر في سبق الشرق والغرب...!!

كوكب التواقت فيه إذا أطياف من وحدة زمان، والأحوال فيه أطياف وحدة حال... كما أن نوره الأبيض هو وحدة أطياف كل درجات الضوء المشاهد المبصر والغيب الخفي...
تلك هي الحقيقة إذاً... نحيا في كون من زمان أكثر منا في مكان...
«كون»... لأن به ما كان... وما سيكون... وما هو كائن في ذات الآن.
ولأنه هو ذاته بكل تركيباته الزمانية الحاضر الوحيد الذي يجمع الماضي والمستقبل ولا تعريف للحاضر إلا كونه يجمع الماضي والمستقبل سوياً... ففيه الزمن... كل الزمن.
ما بين لحظة نشأته ولحظة فنائه وحدة كائنة في ذات الآن... لم تكن قبلاً ولن تكون بعد... هي كائنة الآن في ذات الآن...
كون لولا حركة المكان لما وجد الوقت ولولا التباطؤ والقربى من السكون لما وجد الزمان...!
وكما أوردنا في مقالنا السابق في ذات المساحة... بأنه كَون... من أثير...
كل ملموس مشاهد فيه هو أثير مختزن في أثير... مختزن لمن يملك حل شفرته والولوج إلى داخله.
كل الزمان حاضر فيه... ولكنه زمان لا حاضرَ فيه...!
كون هو جُزُر من الزمان إذاً لا جُزُر من المكان...
عين الحاضر فيه ترصد حالَ حاضرٍ هو في حقيقته أصداء ماضٍ ذهب...
نرى على صفحة سمائه صور النجوم أو أثير حقيقتها... أو قل نرى حقيقتها التي نظنها مادية والتي كانت والتي نظنها فنت وهي لم تفن في أثير... لكنها برصد حاضرنا نرصد حقيقتها الأثيرية الكائنة في أثير جديد ولجنا إليه...
نرصد على صفحة سمائه موقعاً نظنه في مادة زمن مضى، ووهجاً كان لنجم احترق وفني... ولكنه موجود في أثير الكون لم يفنَ... لأن ما نظنه ماضياً كان... ما زال كائناً في وحدة الكون الأثير.
ولأننا قلنا نحن نحيا الحاضر والماضي والمستقبل في ذات اللحظة على ذات الكوكب... نحيا في أرضنا بعض ماضي كوننا وحاضره وبعض مستقبل لناظر آخر... فنحن على سطح كوكبنا هذا لناظر آخر في الكون أو الأكوان - حسب نظرية الأكوان المتعددة Multiverse Theory - - كشأن ما نراه من صورة جيمس ويب - نحن ماضٍ كأنه فني وإن لم نفنَ...لأن الأثير باقٍ... ألم نقل هذا في مقالنا السابق.
جزر من الزمان إذاً... لا جزر من المكان... ولكن بمثلها...
فكما أن كل المكان باقٍ مهما انتقلنا بين أطرافه... فكل الزمان باقٍ مهما انتقلنا بين أطرافه...
كون كل الزمان متواقت فيه... من أكبر أجرامه سعة وعظمة وفي أدق ذراته ضيقاً صغراً وتناهياً... كل الزمان فيه حاضر ولكنه زمان لا حاضر فيه...
ماض ومستقبل متواقتان... حاضران في آن... آن لا حاضر فيه...
آن إما ماضٍ فات أو مستقبل آت...
ولكي أدلل على تلك البديهية الحقة... وأنا أكتب تلك الكلمات الآن... كل كلمة كتبت بل كل حرف كتب صار ماضياً لحظة كتب يستشرف مستقبل الحرف التالي الذي لم يكتب...
وأنت كذلك وأنت تقرأ هذه السطور فكل كلمة تجاوزها بصرك أو وقرت في سمعك بعد أن نطقت بها صارت ماضياً وما لم تقرأه هو فعل مستقبل لم يأت بعد... أما الحاضر فهو تلك الهنيهة بين رحيل ما يمضي واستقبال ما يأتي.
وليس في ذلك من جديد... ولكن جديده أن ما كنته أنا على حال الكتابة منذ آن... لم يفن وإن مضى... باقٍ في أثيرنا كما بقيت لحظة الخلق الأولى أو ما بعدها بلمح بصر فالتقطناها وصورناها بآلة ليست هي سقف السبق الإنساني في العلم والتكنولوجيا ولن تكون... وسنلتقط بفتح من الخالق في مضمار العلم ما يكون قاب قوسين أو أدنى من لحظة الانفجار الكوني الأعظم الأولى... ولنشهد بعضاً من ماضينا نحن المختزن في الأثير...!
ألم يصدق علي بن أبى طالب حين قال:
وَتَحْسَبُ أنكَ جُرْمٌ صَغِيرٌ،، وفيك انطَوَى العالم الأكبر
فَكرُوا تَصحُوا...
كاتب ومفكر مصري
8 أغسطس (آب) 2022
* في العلم والوحي والفلسفة...(2)


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


المقاتلون الأجانب في سوريا... العقدة والحل

الرئيسان السوري أحمد الشرع والأميركي دونالد ترمب (أ.ب)
الرئيسان السوري أحمد الشرع والأميركي دونالد ترمب (أ.ب)
TT

المقاتلون الأجانب في سوريا... العقدة والحل

الرئيسان السوري أحمد الشرع والأميركي دونالد ترمب (أ.ب)
الرئيسان السوري أحمد الشرع والأميركي دونالد ترمب (أ.ب)

ترافق إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب رفع العقوبات عن سوريا بخمسة شروط أو مطالب، منها «مغادرة جميع المقاتلين الأجانب» من الأراضي السورية. ويشكّل هذا المطلب تحدياً كبيراً بالنسبة للإدارة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع لما لهؤلاء المقاتلين من «دَين» في عهدة «هيئة تحرير الشام» على مدى السنوات الماضية وحتى سقوط نظام بشار الأسد.

فمنذ أن أُعلن عن تشكيل «الجيش الحر» في بدايات الثورة السورية، بدأت مرحلة جديدة من تدفق المقاتلين الأجانب من دول عربية وأجنبية. وكانت الحدود التركية ممراً مزدوجاً للسوريين الفارين من جحيم الحرب وجعلوا لنفسهم فيها موطناً أو رحلوا منها إلى الدول الأوروبية، ولمئات المقاتلين من غير السوريين المتوجهين إلى جبهات القتال داخل سوريا والتحقوا بدايةً بالتشكيلات المسلحة غير «المؤدلجة» في تلك المرحلة.

«حواضن الثورة»

بين عامي 2012 و2014، حين اشتد القصف بالبراميل المتفجرة وأنواع الأسلحة كافة على الأحياء الخارجة عن سيطرة النظام السابق، حظي المقاتلون الأجانب بسمعة جيدة فيما سُمي «حواضن الثورة»، لا سيما في الشمال السوري، لا لكونهم شاركوا بقوة وفاعلية في القتال ضد قوات الأسد فحسب، وإنما أيضاً لما عُرف عنهم من شدة في القتال. كذلك في مرحلة ما، شكَّلوا مجموعات «الانغماسيين» و«الانتحاريين» ونفَّذوا عمليات «نوعية» واقتحامات فاكتسبوا تعاطفاً شعبياً واسعاً وأُطلق عليهم اسم «المهاجرين».

شبان سوريون يحتفلون بدخول مقاتلي «هيئة تحرير الشام» إلى دمشق في 13 ديسمبر 2024 (رويترز)

وبعد سقوط النظام السوري السابق في 8 ديسمبر (كانون الأول)، كانت تنظيمات المقاتلين الأجانب، مثل «الحزب الإسلامي التركستاني» و«أجناد الشام» (شيشان) وأجناد القوقاز جزءاً أساسياً من «غرفة إدارة العمليات العسكرية» بقيادة «هيئة تحرير الشام». وفي أول تصريح حول قضية المقاتلين الأجانب في البلاد، قال الرئيس السوري أحمد الشرع إن هؤلاء الذين ساهموا في إطاحة نظام الأسد «يستحقون المكافأة». وأوضح الشرع، في لقاء مع صحافيين منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، أن جرائم النظام السابق دفعت إلى الاعتماد على المقاتلين الأجانب، وهم يستحقون المكافأة على مساندتهم الشعب السوري، ملمّحاً إلى إمكانية منحهم الجنسية السورية؛ وهو ما أثار نقاشات واسعة في حينه.

ولم يمضِ وقت كثير قبل أن تعلن الإدارة السورية الجديدة تعيين مجموعة من هؤلاء المقاتلين في مناصب عسكرية رفيعة ورتب تتراوح بين عميد وعقيد في الجيش السوري الجديد، وأبرزهم عبد الرحمن حسين الخطيب، وهو أردني تمت ترقيته إلى رتبة عميد، وعلاء محمد عبد الباقي، وهو مصري، وعبد العزيز داوود خدابردي التركستاني من الإيغور، ومولان ترسون عبد الصمد (طاجيكي)، وعمر محمد جفتشي مختار (تركي)، وعبد البشاري خطاب (ألباني)، وزنور البصر عبد الحميد عبد الله الداغستاني، قائد «جيش المهاجرين والأنصار».

العقدة والحل

اليوم، في حين القرار بشأن مصيرهم على المحك، يشكّل هؤلاء الأجانب أحد أوجه العقدة والحل في مستقبل سوريا. وفي السياق، قال لـ«الشرق الأوسط» قيادي سابق في «هيئة تحرير الشام»، فضَّل عدم ذكر اسمه، إن «إدارة الشرع لن تمانع من الاستجابة لشرط الإدارة الأميركية»، مؤكداً أن «الإخوة المهاجرين» أنفسهم لا يتمسكون بالمناصب «إن كانت تعيق مصلحة البلاد».

وبالفعل، بعد أقل من يوم على لقاء ترمب - الشرع في العاصمة السعودية، بدأت وكالات محلية سورية تبث أخباراً حول مداهمة الأمن العام مقار تابعة للمقاتلين الأجانب في ريف إدلب. وفي حين لم يتسن لـ«الشرق الأوسط» تأكيد هذه المداهمات بعد، فإن الإجراء سواء كان حقيقياً وبدأ بالفعل أو أنه مجرد فقاعة إعلامية، فإنه يرسل إشارة واضحة إلى النوايا.

قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في حلب في 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)

ويقول كريم محمد، وهو قيادي في الجيش السوري (الحالي) وكان قائد كتيبة في «هيئة تحرير الشام» تضم مقاتلين أجانب، يقيم حالياً في دمشق، لـ«الشرق الأوسط»، إنه «لا مصلحة للحكومة بأي خطوة سلبية تجاههم» لكونهم يتمتعون بشعبية قوية داخل صفوف الجيش والأمن الجديد وحاضنة الثورة. ويضيف محمد: «بدأت منذ فترة بعض الدول تطرح مسألة المقاتلين الأجانب بصفتها ورقةَ ضغطٍ على الحكومة الجديدة. هؤلاء المقاتلون، الذين نسميهم نحن بصفتنا ثواراً (المهاجرين)، كان لهم دور حاسم منذ بداية الثورة، وبرزت خبراتهم العسكرية في المعارك»، مؤكداً أن الحكومة «تبذل جهوداً واضحة لإبعاد المهاجرين عن الصراعات الداخلية وإعادتهم إلى مواقعهم في إدلب، مع وعود بدمجهم بالمجتمع، وربما حتى منحهم الجنسية السورية مستقبلاً».

«لا مطالب بطرد الأجانب»

الباحث في الجماعات المتطرفة حسام جزماتي يرى أن هناك سوء فهم كبيراً لهذه المسألة؛ إذ إن المطالب الأميركية والغربية لا تتضمن طرد المقاتلين الأجانب «بقدر ما تشترط أمرين، ألا يحتل هؤلاء مناصب بارزة في الدولة الوليدة، ولا سيما في الجيش والأمن والحكومة، وألا يتخذ أي منهم من الأراضي السورية منصة لانطلاق عمليات عسكرية في الخارج أو الإعداد لها أو التدريب عليها».

وأضاف جزماتي لـ«الشرق الأوسط»: «عندما كانت (هيئة تحرير الشام) تسيطر على إدلب، ومنذ سنوات، التزمت بعدم السماح لأي فصيل باتخاذ الأراضي السورية منصة للتهديد، وقد ضبطت إيقاع الجهاديين بشكل لا يطمحون معه للعمل عبر الحدود».

مقاتل من «هيئة تحرير الشام» يحمل سلاحه ويطل على مدينة حمص نهاية يناير 2025 (غيتي)

وتابع: «ما يرفضه حلفاء (المهاجرين) وإخوانهم هو طردهم من البلاد التي قاتلوا للدفاع عن أهلها في وجه نظام متوحش، أو تسليمهم إلى دولهم، حيث تنتظرهم السجون وربما الإعدام. وعموماً، لا أظن أن قيادات ومقاتلي (هيئة تحرير الشام) وسواها من الفصائل، والحاضنة الإسلامية أو الثورية المحبة لنموذج المهاجر، مصرّة على أن يتصدر هؤلاء بناء الدولة. ولا أعتقد أن ذلك في ذهن (المهاجرين) أنفسهم».

ويؤكد ذلك أبو حفص التركستاني، وهو يرأس حالياً كتيبة في الجيش السوري (ضمن تشكيلات وزارة الدفاع) غالبية عناصرها من التركستان وتوجد بين ريف إدلب وريف اللاذقية، وكان قيادياً في «الحزب الإسلامي التركستاني». ويقول التركستاني لـ«الشرق الأوسط»: «لم نأتِ إلى سوريا لقتل السوريين، ولم نأتِ هنا لكسب مادي أو مناصب، فقط قدِمنا لنصرتهم، لنشاركهم همومهم وننصرهم بقدر ما نستطيع والحمد لله تحقق النصر ولنا شرف مشاركة إخوتنا به». وأضاف التركستاني أن هناك هجوماً إعلامياً ممنهجاً عليهم حالياً يتهمهم بأنهم وراء أي تجاوز يحدث، وأنهم «وراء الهجمات على قرى الساحل أو السويداء وهذه مجرد افتراءات».

وأوضح: «نحن لم نتدخل يوماً في شؤونهم (السوريين)، كنا نعيش طوال هذه السنين معهم ولم نتدخل في أساليب حياتهم. نحن نعرف أن لكل شعب اختلافات في العادات، وإن كنا لا نتفق في كثير من الأمور، لكن لم نتدخل في المجتمع السوري. وإن حدثت بعض التجاوزات في السنين الماضية في إدلب، فهي أحداث لم تتكرر، والسوريون يعرفون ذلك جيداً».

جانب من تدريبات قوات «هيئة تحرير الشام» قبل عملية «ردع العدوان» (إكس)

ويرى جزماتي أنه يمكن لـ«المهاجرين» أن «يبقوا في سوريا بصيغ قانونية رسمية واضحة يتفق عليها، وبصفة مدنية فقط من دون أن يتصدروا الواجهة بدولة ليسوا مشغولين بحكمها أصلاً، وأن يتعهدوا بعدم استخدام أراضيها لتنفيذ مخططات جهادية خاصة بهم في بلدانهم الأصلية أو في أنحاء العالم، لما قد يسببه ذلك من ضرر بالغ. وإلا، فيمكنهم المغادرة إلى الوجهة التي يختارون».

معضلة التعيينات

قال أحد المقاتلين الأجانب (من جنسية عربية) ويكنى بـ«أبي محمد» لـ«الشرق الأوسط»: «نحن لن نقف ضده (الشرع) كما فعلنا طوال السنوات الماضية. لم نتدخل في قتال الفصائل وكنا على مسافة من الجميع ونراعي مصالح سوريا التي لم ولن تتضارب مع مصالحنا يوماً. كنا نقدِم على الموت من أجل حياة السوريين، ونعرف كيف نعيش الآن تحت ظل دولة نقدّرها ونحترمها».

ولكن المعضلة - بحسب جزماتي - تكمن في صعوبة «التراجع عن التعيينات وقرارات ترفيع العسكريين التي أعلنتها القيادة العامة، بعد ثلاثة أسابيع فقط من سقوط نظام بشار الأسد، وبينهم ثلاثة عمداء وثلاثة عقداء».

وحسب التسريبات التي اطلع عليها جزماتي، فقد تعهد المسؤولون بإيقاف تعيين غير السوريين منذ الآن، وتبقى مسألة الذين جرى تعيينهم بالفعل عالقة وتحتاج إلى حل لا يحرج وضعهم ورتبهم وربما مناصبهم.

أحمد الشرع يخطب في الجامع الأموي في دمشق في 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)

وعن احتمالات استغلال الجماعات المتطرفة مسألة التضييق على عناصرها وإبعاد المقاتلين الأجانب منهم، قال الباحث: «لا أرى أن تنظيم (القاعدة) في وارد إحياء نشاطه في سوريا بعدما حلّ فرعه فيها، أي حراس الدين. أما (داعش)، التي لا نعرف مخططاته السورية بالضبط، فربما يستقطب معترضين على سياسة الحكومة الحالية، سواء كانوا من السوريين أو من غيرهم. وربما تحاول ذلك مجموعات أو تنظيمات جديدة ترى في سلوك السلطة الحالية ابتعاداً عن تطبيق الشريعة كما يريدون».

ولا تقف كل مجموعات المقاتلين الأجانب عند نقطة واحدة على طيف التطرف. فهناك تمايز آيديولوجي بينها بدأ لحظة توافدهم إلى سوريا وطريقة هذا التوافد، سواء بالتجنيد المسبق أو الاندفاع الذاتي. فأحياناً كان يتم إرسال مقاتل إلى بلده ليجنّد شباناً راغبين في المجيء إلى سوريا بعد التواصل معهم عبر الإنترنت، فيتم تنظيم انتقالهم بطريقة مدروسة منذ لحظة انضمامهم وحتى عبورهم الحدود وانضمامهم إلى تنظيم محدد. وأحياناً أخرى كان البعض يصل منفرداً بالاعتماد على المهربين ورحلات سياحية عبر تركيا وغالباً كانوا يتكبدون تكاليف السفر من جيوبهم.

ومع الوقت، وخصوصاً أواسط 2013، تشعبت الفصائل وكثرت وبدأت تظهر عملية الفرز والتمايز بينها؛ لكن بقيت وجهة غالبية المقاتلين الأجانب الجماعات الجهادية، لا سيما «جبهة النصرة»، في حين التحقت قلة من الأجانب بجماعات «معتدلة» مثل «لواء التوحيد» في حلب.

خلافات وانشقاق وتشكيلات

مع تعمق الخلافات المتعلقة بالأفكار أو التنافس على النفوذ، انتقل أغلب «المهاجرين» إلى جماعات انقسمت على بعضها في فترات معينة، مثل «جبهة النصرة» التي كانت تابعة لتنظيم الدولة (داعش) وانشقت عنه بعد رفض قائدها حينذاك أحمد الشرع مبايعة زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، وإعلانه في المقابل بيعته وتنظيمه لزعيم «القاعدة» السابق أيمن الظواهري.

في تلك الفترة انشق المزيد من المقاتلين الأجانب وقيادات من «النصرة» للالتحاق بتنظيم «داعش»، عادّين أن «بيعة الظواهري» غير مقبولة ليدخل الفصيلان في جولات اقتتال أفضت بجزء منها إلى تشكيل جماعات مستقلة عنهما، أبرزها «جند الأقصى» الذي أسسه الجهادي العراقي المولد الفلسطيني الأصل أبو عبد العزيز القطري، وتشكيلات أخرى اعتمدت التمحور حول جنسيتها الأصلية مثل الإيغور والأوزبك والشيشان.

يخشى المسؤولون الأوروبيون من أنه مع مرور سوريا بمرحلة انتقال سياسي فقد تتشكل جماعات إرهابية داخل البلاد (أرشيفية - رويترز)

لكن مع تمدد «داعش» جغرافياً أواسط 2014 في محافظات غرب وشمال غربي العراق وصولاً إلى محافظات دير الزور والرقة وجزء من محافظة الحسكة وريفي حلب وإدلب، بدأت حالة من العداء بين التنظيم وجماعات أخرى تشكلت من مقاتلين أجانب أيضاً وحكم عليها التنظيم بـ«الردة». وهذه معظمها بقيت على علاقة جيدة بـ«جبهة النصرة»، مفضلة «الحياد» في كثير من المعارك على الانحياز إلى طرف دون آخر في «قتال الإخوة».

ومن تلك الفصائل التي بقيت على حالها حتى سقوط نظام الأسد، «الحزب الإسلامي التركستاني»، و«أجناد الشام» و«أجناد القوقاز» و«أنصار التوحيد»، وبقايا فصيل «جند الأقصى» الذي كان أغلب قادته من السوريين وانفرط عقده في 2017. وذهب قسم منه باتجاه «داعش» وآخر بقي في مناطق إدلب باسم «أنصار التوحيد» وكان أحد التشكيلات المتحالفة مع «هيئة تحرير الشام» في إدارة العمليات العسكرية التي سيطرت على دمشق.

«سورنة» المعركة

في الأعوام بين 2014 و2018، كانت «هيئة تحرير الشام» بدأت تكبح منهجياً من سلطة المقاتلين الأجانب وتنحيهم عن تصدر القيادة والظهور في الإعلام كما كان الوضع سابقاً، واعتقلت الكثيرين منهم كما فعلت مع «حراس الدين». كذلك طردت من صفوفها الكثير ممن رفضوا الانصياع للتغيرات التي أحدثها أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) وقتها. فقد بدأ هؤلاء المقاتلون الأجانب يشكّلون عائقاً في وجه مشروع «هيئة تحرير الشام» داخلياً وخارجياً. فمن جهة راح يتنامى لدى السوريين شعور بأن «الهيئة» تفضل عناصرها وقادتها من الأجانب على السوريين، وخارجياً صار هؤلاء يظهرون في الإعلام وينشطون في المساجد، ويتركز خطابهم على أدبيات جهادية كتلك التي تقول بها «القاعدة»، بل ووجدت «هيئة تحرير الشام» أنهم يعرقلون علاقتها مع تركيا؛ إذ حرّموا التعامل مع الجيش التركي؛ كونه ينتمي إلى حلف شمال الأطلسي، «ناتو».

وعليه، عمل الشرع على «تشذّيب المتشددين داخل الهيئة من السوريين والأجانب على السواء»، وغيّر الخطاب من «جهاد عابر للحدود» إلى محلي سوري، فبدأت تظهر في خطاباته عبارات تدل على المحلية وأن سوريا لها الأولوية كعبارة «ثورة أهل الشام» التي كثيراً ما كان يرددها.

في تلك المرحلة اصطف معه كثير من المقاتلين الأجانب وتبنّوا رؤية الشرع «الوطنية»، عادّين أن سوريا للسوريين وأنهم «أنصار» في هذا، وعمل هو بالتوازي على «سورنة المعركة والمقاتلين» من خلال دمجهم في السياسة الجديدة القائمة على الابتعاد عما هو خارج الحدود.

فهل ينجح اليوم وقد صار أحمد الشرع رئيساً للبلاد في إجراء المزيد من التشذيب والدمج بما يحقق شروط الخارج ومصالح الداخل؟