مرتزقة الحرب الليبية.. وقود المعارك وعبء الانتصارات والهزائم

بين «فاغنر» و«صادات» وأجهزة دولية تستثمر في الفقر والآيديولوجيا

هل نقضي مهمتنا ونكسب المال ونعود إلى سوريا؟ أم تأسرنا قوات حفتر، ونُقتل؟»، و«ماذا لو سيطرت عناصره التي أتينا لصدِّها عن طرابلس؟ ما مصيرنا حينئذٍ؟».

 تلك كانت هواجس أحد المقاتلين السوريين الذين شاركوا في الحرب الليبية (2019-2020) ضمن مجموعات من المقاتلين الأجانب (المرتزقة) الذين حاربوا مع قوات حكومة «الوفاق الوطني» برئاسة فائز السراج.

 وتقاتل هذه القوات المدعومة خارجياً من تركيا وداخلياً من ميليشيات بغرب ليبيا، القائد العام لـ«الجيش الوطني» المُشير خليفة حفتر، الذي يسيطر على شرق البلاد وبعض مناطق الجنوب، ويحظى بدعم قطاعات واسعة من القبائل الشرقية وعدة آلاف من مرتزقة شركة «فاغنر» الروسية.

 تحدثت «الشرق الأوسط» إلى «رامي أبو محمد» (اسم مستعار) وهو من ريف حلب الشمالي عن رحلة بدأها من تركيا مطلع عام 2020، بطائرة مدنية تابعة لـ«الخطوط الجوية الأفريقية» (الليبية) نقلته مع فوج من مئات المرتزقة السوريين، من إسطنبول إلى مطار معيتيقة الدولي، بالعاصمة طرابلس.

ففي ذلك الوقت، وبعد 9 أشهر من الحرب التي شنها حفتر، على طرابلس العاصمة، في 4 أبريل (نيسان) 2019، مدعوماً بمقاتلين من مجموعة «فاغنر - Wagner» الروسية، دفعت أنقرة بقوات وعناصر من المرتزقة ينتمون لمجموعات سورية معارضة، أبرزها فصيل «السلطان مراد»، الذي تأسس في 2013 بغالبية من تركمان سوريا، وسمي نسبة إلى أحد السلاطين العثمانيين.

وبعد اقتتال دام 14 شهراً، نجحت القوات التابعة لحكومة فائز السراج في إجبار قوات «الجيش الوطني» على التراجع خارج الحدود الإدارية للعاصمة طرابلس.

لكن في ظل تعقُّد المشهد الدولي، وانفتاح جبهات جديدة للحرب في أفريقيا، تغيرت ولاءات وأولويات، فذهبت روسيا إلى تشكيل ما يسمى «الفيلق الأفريقي»، بديلاً عن «فاغنر» بقصد توسيع نفوذها في 5 من دول القارة السمراء، انطلاقاً من ليبيا، وبقصد «مواجهة النفوذ الغربي»، فيما بقي كثير من الـمرتزقة، الموالين للطرفين، محتجزين إما في معسكرات وقواعد حربية أو مُكلفين بـ«مهام خاصة» لميليشيات بغرب ليبيا.

وصحيح أنه على المستوى العسكري الرسمي، بُذلت في بادئ الأمر جهود لإخراج المرتزقة، ووقَّع طرفا النزاع بجنيف في 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2020 اتفاقاً لـ«وقف إطلاق النار»، وخروج جميع المرتزقة من ليبيا، لكن ذلك لم يحدث. ففي مطلع فبراير (شباط) 2021 أقرت بعثة الأمم المتحدة بوجود نحو 20 ألف مقاتل أجنبي «يحتلون قواعد عسكرية عديدة على الأراضي الليبية» في وقت تغيب فيه أي إحصاءات رسمية، وهو عدد تضاءل تدريجياً بتغير طبيعة الصراع.

في هذا التحقيق الذي تجري أحداثه بين ليبيا وسوريا والسودان وتشاد ومصر، تكشف الشهادات الموثقة، التي لم تخلُ من قصص مأساوية، كيف انخرط مقاتلون من تلك البلدان في حرب ليست حربهم، لأسباب تتراوح بين «آيديولوجية قتالية»، أو «ترغيب مالي»، وكيف انتهى بعضهم محتجزين في قواعد عسكرية في ليبيا، وأضحوا الحلقة الأضعف بعدما كان دورهم محورياً في بداية الصراع.

شهادات كهذه يُطلعنا عليها المقاتل السوري «رامي أبو محمد» الذي ذهب إلى العاصمة الليبية، وسنه 23 عاماً، في رحلة «مرعبة»، كان فيها شاهداً على وقائع وتفاصيل شكَّلت فيما بعد صراعاً بين أجنحة المرتزقة.

ويقول: «تحت وطأة الظروف الاقتصادية القاسية أجبرت على السفر إلى ليبيا، في رحلة أعلم أن ثمنها القتل. فالأوضاع في سوريا صعبة جداً، والموت يحيط بالجميع».

من حوار كلس إلى جبهة أبو سليم

من الجنوب الليبي، حيث قاعدة «براك الشاطئ»، إلى معسكرات «اليرموك» و«حمزة» و«سوق الخميس»، و«قاعدة الوطيّة» (غرباً)، وصولاً إلى قواعد «القرضابية الجوية» و«الجفرة الجوية» في جنوب سرت وشمالها، و«الخروبة» بمدينة المرج (شرقاً)، تتمدد فرق المرتزقة منذ توقفت الحرب، في مناطق تخضع لجبهتَي حكومة «الوحدة الوطنية» المؤقتة، و«الجيش الوطني». 

من حينها، بدا ملف المرتزقة» في ليبيا كأنه «تُكأة» لقوى خارجية ومحلية تراهن على بقائهم، فتحولوا «من كونهم عناصر مسلحة (بعضهم يتبع شركات أمنية أو جيوشاً غير نظامية) إلى ذريعة لتلك القوى، تهدف من ورائها ترتيب الأوضاع في ليبيا على نحو يخدم أهدافها»، حسبما يقول، لـ«الشرق الأوسط»، السفير السابق إبراهيم موسى قرادة والمستشار السابق لدى «الإسكوا».

ويكشف «رامي» - الذي يقول إنه لم يسبق له الانضمام إلى أي فصيل مسلح - جانباً من رحلة تجنيده مع آخرين ينتمون إلى هذا الجيش المعارض، وكيف تم ضمهم إلى الفصيل المسمَّى «السلطان مراد»، حتى وصولهم إلى ضاحية عين زارة بطرابلس (غرب ليبيا).

يروي «رامي»: «تم تجميعنا من أماكن عدة في سوريا، بعد تسجيل أسمائنا، ونقلنا من بلدة حوار كلس إلى مطار غازي عنتاب بتركيا، ثم إلى إسطنبول، بواسطة طائرة عسكرية، ومن هناك إلى مطار معيتيقة بواسطة طائرة (الخطوط الأفريقية) بطرابلس».

.

في ذلك الوقت، وعلى إثر احتدام المعارك جنوبي طرابلس، لجأ السراج إلى أنقرة في 26 ديسمبر (كانون الأول) 2019 طالباً المساعدة العسكرية. وسارع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بإرسال خبراء عسكريين وقوات وعناصر مقاتلة، ثم أتبعهم بعتاد عسكري أبرزه المُسيَّرات.

وسبق وصول المقاتلين الأجانب مراحل من التأهيل، أخبرنا بها مسؤول عسكري ليبي بشرق البلاد فضّل عدم الكشف عن اسمه، وقد أنهى خدمته حديثاً، فقال «أخضعنا هذه العناصر لتدريبات سريعة، بعضها يتعلق بنوعية الأسلحة المستخدمة، وأخرى بطبيعة المكان ومحاور القتال خاصة أنهم يجهلون تلك المناطق».

كذلك يتحدث «رامي» قائلاً: «قبل إرسالنا إلى طرابلس نقلتنا قوات تركية إلى معسكرات على الحدود مع سوريا، وأخضعونا للتدريب في أحد المراكز، يعتقد أنه يتبع شركة (صادات)، وبعد ذلك تم نقل العناصر المؤهلة بطائرة مدنيّة إلى طرابلس».

و«صادات» هي شركة تركية «للاستشارات الدفاعية الدولية»، تعمل على توفير الخدمات الاستشارية واللوجيستية والتدريبات العسكرية في مجال الدفاع الدولي كما تعرف عن نفسها. وحسب موقعها على الإنترنت وجدنا أنها تأسست في فبراير (شباط) عام 2012، على يد مجموعة من ضباط وضباط صف متقاعدين من مختلف وحدات القوات المسلحة التركية، برئاسة العميد المتقاعد عدنان تانريفردي الذي توفي في أغسطس (آب) 2024. لكن الشركة تنفي، عبر صفحتها على شبكة الإنترنت، استمرارها في العمل بليبيا، رغم أنها أكدت في إيجاز سابق قيامها بتنفيذ مشاريع في ليبيا عام 2013.

وتفادياً للعواقب القانونية، استعانت الشركة التركية بشركات خدمات أنشئت حديثاً لتكون واجهة عملها في ليبيا، وذلك بالاستعانة أحياناً بقادة عسكريين من الفصائل السورية التي جنّدتها لهذه الحرب.

وكان تقريران أمميان، صدرا عامي 2021 و2023 وكُشف عنهما نهاية أغسطس 2024، أفادا بأن شركة «صادات» جنّدت 5 آلاف «مرتزق» من سوريا للقتال في طرابلس، ودفعت رواتبهم، كما اتهما أنقرة بـ«انتهاك حظر الأسلحة المفروض على ليبيا».

وأحدث التقريران ردود فعل غاضبة بعدما نشرهما الكاتب التركي صايغي أوزتورك، في صحيفة «سوزجو» التركية المعارضة، لكن «صادات» أصرت على عدم وجود أدلة لما ورد فيهما.

وشرح الأكاديمي التركي، مهند حافظ أوغلو، كيف أن أنقرة «لم ترسل مقاتلين سوريين إلى طرابلس» أصلاً بمعنى أن «التصور التركي لا يرى أن هناك مرتزقة سوريين في ليبيا، بل إن كل من أرسل حسب الاتفاق مع السراج يحمل الجنسية التركية».

 ويقول أوغلو في حديث لـ«الشرق الأوسط» إن «كل من دخل ليبيا بتسهيلات تركية يُعتبر تركياً، أيّاً كانت أصوله أو قوميته».

ورفضت الخارجية التركية الإجابة عن أسئلتنا المتكررة منذ نهاية عام 2023، بشأن مصير المقاتلين التابعين لها في ليبيا بأفريقيا.

في المقابل رفضت قيادات في «الجيش الوطني السوري» الموالي لتركيا، إعطاء أي إفادات، بل إن العقيد أحمد حمادة (أبو مرهف)، المنشق عن الجيش السوري (النظامي)، برر بالقول إن السوريين «ذهبوا إلى طرابلس بوصفهم مترجمين، وليس مقاتلين» وهو ما رفضت وزارة الخارجية التركية التعليق عليه.

وقال حمادة إنه «تم تطويع عدد من الشباب السوريين وإغراؤهم بالمال، للقتال لصالح (من أسماه) طباخ بوتين ضمن قوات حفتر»، في إشارة إلى يفغيني بريغوجين، مؤسس شركة «فاغنر» الذي قُتل. وأضاف: «موضوع إرسال مقاتلين سوريين إلى ليبيا أو إلى أماكن أخرى، انتشر للأسف مع وصول ميليشيات إيرانية ومقاتلين روس وعناصر من (فاغنر) لدعم نظام بشار الأسد ضد الثورة. فعندما دخلت (فاغنر) أيضاً إلى ليبيا، ذهبوا يقاتلونها هناك».

التسليم من مطار معيتيقة

وحسب «رامي» فقد أمضى ساعات الرحلة بين مطار إسطنبول ومطار معيتيقة في حوارات مع نفسه، بين الخوف من مصير مجهول قد ينتهي بالقتل، وتحذيرات أسرته التي نهته عن هذه الرحلة، لكنه هوَّن على نفسه بأنه برفقته مئات من السوريين، قائلاً: «اللي يصير عليهم يصير عليَّ».

ويتابع قوله: «في الطائرة كانت الفرصة متاحة لأتحدث مع بقية المقاتلين. كنا نحو 200 عنصر، تعرفت على بعضهم وعلمت أنهم يتبعون فصائل متنوعة من بينها (صقور الشمال) و(العمشات)، و(المعتصم) و(فيلق المجد)... وعند وصولنا إلى مطار معيتيقة وجدنا باصات في انتظارنا عند سلم الطائرة، واستقبلنا أشخاص بملابس مدنيّة. انطلقت بنا الحافلات مسرعة، وبعد نحو 15 دقيقة علمنا أننا في منطقة تسمى عين زارة». وعين زارة (18 كيلومتراً جنوب شرقي طرابلس) إحدى مدن العاصمة الأكثر كثافة سكانية، وكانت من المحاور التي شهدت قتالاً ضارياً بين قوات «بركان الغضب» التابعة لطرابلس، وقوات «الجيش الوطني»، بالإضافة إلى محاور «اليرموك» و«وادي الربيع» و«الخلاطات»، جنوب العاصمة طرابلس.

وكمثل فصيل «السلطان مراد» تسيطر هذه الفرق على مناطق في الشمال السوري وتدين بالولاء الشديد لأنقرة. ويترجم هذا الولاء بمناسبات كثيرة منها على سبيل المثال إقامة عرض عسكري كبير واحتفالات ضخمة يوم فاز الرئيس التركي رجب الطيب إردوغان في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، يوم 28 مايو (أيار) 2023.

هذا بالتزامن مع فرض وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على بعض قادة هذه الفصائل وإدراجها والمتعاملين معها في أغسطس(آب) 2023 على لائحة العقوبات؛ لتورطهما في عمليات فساد وانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في مناطق الريف الشمالي والشمالي الغربي لسوريا، وخصوصاً عفرين.

ومنذ يونيو (حزيران) عام 2020، وحتى نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، لم تتوقف عمليات استبدال المرتزقة من ليبيا وإليها، حسبما قال رامي عبد الرحمن، مدير «المرصد السوري لحقوق الإنسان». ويقدر عبد الرحمن، في حديث مع «الشرق الأوسط»، عدد المقاتلين السوريين في ليبيا اليوم بنحو ألفي عنصر من الموالين لتركيا، معتقداً أن «شركة (صادات) والمخابرات التركية لا تزالان تنقلان دفعات منهم إلى ليبيا، وتعيد آخرين إلى سوريا».

وفي يناير (كانون الثاني) 2024، قال المرصد إن عناصر المرتزقة السوريين في طرابلس تجاوز 7 آلاف سابقاً، لكن فرّ منهم نحو 3 آلاف وتحولوا إلى لاجئين في شمال أفريقيا وأوروبا.

وتظل أعداد هؤلاء المرتزقة سرية لدى الجهات العسكرية الليبية التي جلبتهم، حسب المسؤول العسكري السابق.

وبينما تراوح راتب العنصر منهم بين 1500 دولار في بداية الحرب 2019، و500 دولار اليوم، فإن راتب الجندي التركي (الرسمي) لم يكن يتجاوز حينذاك 150 دولاراً.

«جبهة أبو سليم»

اللقاء الأول بين الليبيين والفوج القادم من سوريا كان مشحوناً بالتعليمات والمحاذير. فبالإضافة إلى التدريب على يد ضباط «صادات»، تلقى هؤلاء تدريباً حول نوعية السلاح، وطبيعة المنطقة الجغرافية التي سيشتبكون فيها مع «العدو»، كما قال «رامي».

وأضاف: «في معسكرنا بعين زارة، تدرَّبنا أسبوعاً على استخدام السلاح، ومهام قتالية محددة. ثم نُقلنا إلى خط الجبهة في منطقة أبو سليم حيث قاتلنا قوات حفتر، وكانت معنا فصائل سورية عديدة، منها (المعتصم) و(الحمزات) و(فيلق المجد)، إلى جانب قوات من طرابلس».

ويطلعنا «رامي» بأسى على كيفية قتل وأَسر كثير من رفاقه في جبهة أبو سليم، ومع ذلك يقول بلهجة المنتصر: «تمكنَّا من تحرير معسكر اليرموك من قوات حفتر، ليصبح مقراً لنحو 1500 من عناصر (السلطان مراد)، لكن سقط منا كثير من المقاتلين أيضاً».

ومنذ توقف المعركة في طرابلس وحتى يوليو (تموز) 2020، قارب عدد القتلى من المرتزقة 500 ، حسب مصادر غير رسمية.

وكانت عملية «بركان الغضب» انطلقت ضد قوات «الجيش الوطني» برئاسة حفتر، وخاضت قتالاً عنيفاً للسيطرة على معسكري «اليرموك» و«حمزة»، الواقعين في محور المشروع، جنوبي طرابلس، وهما الآن أهم معقلين يتمركز فيهما المرتزقة السوريون الموالون لقوات طرابلس.

حركات مناوئة للأنظمة

سهَّل الانفلات الأمني الذي ضرب ليبيا تسرُّب «مجموعات مسلحة» عديدة من جنسيات مختلفة إلى البلاد، بعضها اتخذ من الحدود الجنوبية معقلاً، والآخر تمت الاستعانة به من جبهتي الصراع في ليبيا، مع اندلاع «الحرب على طرابلس».

ويرصد عمر المهدي بشارة، رئيس «حركة الخلاص الوطني» التشادية (MSNT)، جانباً من هذا التدفق، بوصفه كان أحد المتمردين على الحدود التشادية - الليبية طوال 20 عاماً، قبل أن يعود للعمل السياسي.

وهذا ما يفسّر، ولو جزئياً، تدفق مقاتلين تشاديين وسودانيين وأفارقة إلى حلبة الصراع الليبي، وهو ما رصده هذا التحقيق أيضاً.

وعلى مدار السنوات التي تلت وقف الحرب على طرابلس، لم يعلن شيء عن ملف المرتزقة باستثناء عملية ترحيل سابقة لـ300 عنصر يحملون الجنسية السودانية، وهو ما أكد عليه لاحقاً عضو اللجنة التابع لـ«القيادة العامة» الفريق المراجع العمامي، في تصريح صحافي.

وأمام هذا التجاهل، اتهم رئيس اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) عن المنطقة الغربية، اللواء أحمد أبو شحمة، ساسة بلده - في حديث سابق لـ«بوابة الوسط» الليبية - بعرقلة خروج المرتزقة، وقال إن «كل طرف يتمسك بمرتزقته».

إشكالية المقاتلين الأجانب في ليبيا دفعت كبيرة محللي ليبيا بمجموعة الأزمات الدولية، كلوديا غازيني، إلى القول، لـ«الشرق الأوسط»، إنه «من الصعب تحديد المرتزقة في ليبيا؛ لأنه من الضروري التمييز بين القوات الخاصة التي ذهبت مقابل المال الذي تدفعه الفصائل المختلفة، وبين القوات العسكرية الأجنبية الموجودة بها».

لكن بشكل أكثر وضوحاً، يرى أحمد أبو عرقوب، المحلل السياسي الليبي، أن الدول التي أرسلت قواتها و«مرتزقتها» إلى ليبيا حريصة على «استمرار حالة الفراغ السياسي، وتغذية الانقسامات، وليس من مصلحتها قيام دولتنا».

وفي السياق نفسه، هدد خالد الغويل، مستشار «اتحاد القبائل الليبية» للعلاقات الخارجية، بأنه في حال عدم إخراج المرتزقة سلمياً من بلده، فسيتم الاتجاه إلى «العصيان المدني الذي سيتبعه حراك عسكري»، وسيصبح أي مرتزق في الأراضي الليبية «هدفاً مشروعاً».

قواعد على الساحل

تأتي موسكو، إلى جانب أنقرة، في مقدمة الأطراف الخارجية في الأزمة الليبية وقد «طوّرت من وجود قوات تابعة لها في ليبيا بتمدد نفوذها»، إلى ما يعرف بـ«الفيلق الأفريقي».

والحديث عن وجود قوات روسية في ليبيا ليس جديداً، لكن اتجاه موسكو لتعزيز هذا الوجود بعد نقل قوات وعتاد عسكري إلى مناطق في شرق البلاد، وفق تقرير نشرته مجموعة «كل العيون على فاغنر»، زاد منسوب المخاوف والتحذيرات، ليس فقط لدى أميركا، بل أوروبا أيضاً.

بجانب ذلك قَدَّمت دراسة من «المعهد البولندي للشؤون الدولية»، بعنوان «فيلق أفريقيا... نسخة جديدة من الوجود العسكري الروسي»، رؤية لطبيعة التحول في الوجود الروسي في ليبيا ومن ثم أفريقيا برمتها.

وذهبت الدراسة التي نشرها المعهد إلى أن نشاط «فاغنر» في ليبيا تأثّر بعد وفاة مؤسس الشركة يفغيني بريغوجين، بالنظر إلى طبيعة السياسات الروسية الجديدة، فأقدمت موسكو على توقيع اتفاق عسكري مع حفتر في سبتمبر (أيلول) 2023.

لكن الأوروبيين ما زالوا قلقين. فأمام منتدى نظمه الاتحاد الأوروبي بمدينة سانتاندير الإسبانية، في 25 أغسطس 2024، تحدث ممثل السياسة الأمنية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، عن الوجود الأوروبي في القارة السمراء، فقال: «لقد طُردنا من أفريقيا، واليوم لم يعد هناك أوروبيون في ليبيا، هناك فقط أتراك وروس(...) هذا ليس النظام الذي نحلم به في البحر الأبيض المتوسط».

ويعتقد السفير قرادة أن «وجود (فاغنر) في ليبيا يعدُّ أكثر تعقيداً وتشابكاً من أي وجود أجنبي مسلح آخر، سواء كان هذا الوجود رسميّاً وفق (اتفاق)، أو غير رسمي، خصوصاً إذا كانت قواته مرتزقة».

و«فاغنر» كانت بمثابة موطئ قدم لروسيا في ليبيا، انطلقت منه إلى أفريقيا، في إطار صراع بات علنياً بين موسكو وواشنطن. ويقول قرادة لـ«الشرق الأوسط» إن «وجود (فاغنر) في ليبيا، بأي صورة كانت، مرتبط بدول كبرى ذات أجندات ومصالح متداخلة، وخصوصاً في المتوسط وأفريقيا، بالنظر إلى الحرب الروسية في أوكرانيا، والأوضاع في السودان، وبالتالي فإن خروجهم من ليبيا حتماً سيكون له ثمن».

وأفاد موقع «غلوبال سيكيوريتي ريفيو» الأميركي، في 18 أغسطس 2024، بوجود توسع للنفوذ الروسي في ليبيا وأفريقيا. كما سبق لمجلة «منبر الدفاع الأفريقي» (adf) الصادرة عن «أفريكوم»، في مارس (آذار) 2023، القول إن «نحو ألفين من (فاغنر) استقروا وسط ليبيا، منذ قرار وقف إطلاق النار، ويواصلون من هناك تدريب الجنود المتمركزين في الشرق، بجانب حراسة حقول النفط في مناطق بجنوب شرقي البلاد».

بل إن مجلة «adf» التي تحدثت، في 12 نوفمبر 2024، عن تسريب أسلحة من ليبيا إلى «جماعات إرهابية» في نيجيريا، زعمت أن الكثير منها صُنع في روسيا وأن عناصر «فاغنر» جلبوها معهم إلى ليبيا.

وتتمركز غالبية عناصر «فاغنر» بمحيط المواقع السيادية الخاضعة لسيطرة «الجيش الوطني»، وتُكلَّف بتأمين الحقول والمواني النفطية في المنطقة الوسطى المعروفة بـ«الهلال النفطي».

وتحدث شهود عيان ليبيون إلى «الشرق الأوسط» عن نشاط ملحوظ راهن لعناصر «فاغنر» بمحيط سرت (على بعد 450 كيلومتراً من طرابلس في المسافة بينها وبين بنغازي) ويتنقلون ما بين قاعدتي «القرضابية الجوية» ومينائها البحري، و«الجفرة الجوية»، بالإضافة إلى وجود مجموعات منهم في قاعدة «براك الشاطئ الجوية» (700 كيلومتر جنوب طرابلس).

وتقلل موسكو، على لسان سفيرها لدى ليبيا حيدر أغانين، من المخاوف بشأن وجود عناصر «فاغنر»، معتبراً في حوار مع فضائية «ليبيا الأحرار» في 13 مايو 2024 أن «الربط بين (فاغنر) وبلاده محاولاتٌ من دول غربية».

ومُنيت «فاغنر» بخسائر فادحة في الأرواح إثر «قتال عنيف» خلال مواجهات مع الانفصاليين الطوارق شمال مالي في نهايات يوليو 2024. لكن اللافت أن الإذاعة الفرنسية قالت حينها إن «القوات الروسية التي شاركت في هذا القتال تحركت من ليبيا».

«سجون ومخدرات ومظالم»

شهادات عديدة ووقائع مختلفة ترفع منسوب التخوف من استخدام هذه «الورقة لأغراض سياسية مستقبلية» من قبل ساسة ليبيا. فما أطلعنا عليه «رامي أبو محمد»، كان أقل مأساوية مما تحدث عنه «منذر أبو خالد» (اسم مستعار) المقاتل السوري الذي جاء مع فوج آخر من ريف حلب.

يروي «أبو خالد» لـ«الشرق الأوسط» في إفادة مكتوبة، وهاتفياً عبر «واتساب»، تجربته التي وصفها بـ«المميتة»، وتخللها «كثير من الإذلال، والتهديد بالتصفية».

يقول: «فور وصولنا إلى طرابلس، تسلمنا أحد القياديين وأدخلنا معسكر (سوق الخُميس)، وما كان أحد يخالفه الرأي إلا ويسجنه في زنازين مخصصة لمعاقبة العناصر، أو يسلط عليه مرافقيه ليكدِّروه».

«أبو خالد» وعلى الرغم من أنه لم يتمكن من العودة إلى أهله في سوريا بعد، تحدث إلينا من طرابلس عن معاناته وما يلاقيه رفاقه في معسكر «الخُميس» حالياً: «هناك الآلاف من المقاتلين. لا يسمحون لنا بالخروج إلى الشارع إلا في حدود ضيقة. نحن في سجن». ويضيف: «هناك عناصر يقبعون هنا من سنتين وثلاث لا يستطيعون العودة إلى سوريا ولا يحصلون على رواتبهم. الأكل والشرب قليل للعناصر، لكنه متوفر بوفرة للقادة».

وتابع قوله: «أكلوا علينا نصف أجورنا. كان الاتفاق قبل الانتقال إلى ليبيا أن نتقاضى 1800 دولار شهرياً، لكنهم لم يعطونا إلا 500. كان يصلنا سلفة شهرية قدرها 300 دولار ترسل إلى الأهل، لكنهم لاحقاً أخذوها ومنعوها بالتعنيف والتهديد».

وعلمت «الشرق الأوسط» في تلك الأثناء أن قيادة فصيل «السلطان مراد» اعتقلت نحو 20 عنصراً في معسكر «اليرموك»؛ «بسبب رفضهم تسلُّم نصف مستحقاتهم المالية، بعدما ساوموهم على البقية».

وتشابه ما رواه «أبو خالد»، مع حديث ابن موطنه «رامي أبو محمد»، حول «التغرير بهم، واستغلالهم، وتخفيض أجورهم، وعن تهريب المخدرات»، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «قيادات الفصائل تتربح من وراء المقاتلين، ويتاجرون بالسلاح، والمخدرات».

ويضيف: «قادة الفصائل يعملون على تغييب عقول المقاتلين بالمخدرات وحبوب الهلوسة التي يبيعونها لهم كما يهرِّبون المخدرات إلى طرابلس عندما يتم تبديل مجموعات المقاتلين من العاصمة إلى سوريا والعكس».

ويوصف عام 2024 بأنه الأسوأ للمقاتلين السوريين، لكون آلاف منهم مُنعوا من مغادرة طرابلس، حسب المصادر.

العودة إلى ريف حلب

ودَّع «رامي أبو محمد» طرابلس، بعد نحو عامين قضاهما بين جبهات الاقتتال بجنوب طرابلس ومعسكر الإقامة في عين زارة، ليعود إلى ريف حلب الشمالي تاركاً وراءه رفاقاً لا يزالون مرهونين في معسكرات بغرب ليبيا.

نجا «رامي» من الموت، ولم ينجُ من الذكريات الأليمة التي لا تزال تسيطر على عقله، يقول: «كثير من زملائنا قُتلوا على محاور القتال، وغيرهم غرقوا في البحر بعدما فروا من المعسكرات بقصد الهروب إلى أوروبا».

الهروب إلى البحر

مع توقف الحرب، بدأ آلاف المرتزقة المجمعين في معاقلهم بطرابلس وما حولها، يضجُّون من حجب مستحقاتهم، أو تخفيضها إلى ما دون الـ200 دولار أميركي، ما دفعهم أكثر من مرة للإضراب والخروج إلى الشارع.

وأظهرت في أوقات سابقة مقاطع فيديو، تم تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، خروج مجموعات من معسكري «اليرموك» و«سوق الخميس» جنوب العاصمة، للتظاهر في الشوارع، وإضرام النيران في إطارات السيارات، بجانب إغلاق بعض الطرق، وسط غضب المواطنين.

وتحدث رئيس «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، لـ«الشرق الأوسط»، لاحقاً عن «هروب عدد كبير» من المرتزقة من معسكراتهم بطرابلس، دون تحديد أعدادهم، لكنه قال إن بعضهم فرّ إلى مناطق ليبية مختلفة بقصد العمل، أو للهجرة إلى أوروبا.

وفي 20 سبتمبر 2023، تحدث المرصد عن هروب نحو 3 آلاف «مرتزق سوري» من القواعد العسكرية في ليبيا، باتجاه أوروبا.

طرد المرتزقة

على مدار السنوات الأربع التي تلت حرب طرابلس، اختلفت انتماءات وتبدلت ولاءات؛ لذا لم تعد النظرة الشعبية في ليبيا للمرتزقة كما كانت حينما كان حفتر على أبواب المدينة. فهؤلاء باتوا محاصَرين مُطارَدين، ومُهانين أيضاً من فئات شبابية قسَّمت السياسة توجهاتهم، بين مؤيد للدبيبة، ومعارض.

شيء من هذه الكراهية ظهر عندما احتشد عشرات الليبيين نهاية أغسطس 2023، أمام كلية الشرطة بمنطقة صلاح الدين بالعاصمة؛ حيث يتحصن مرتزقة سوريون، وطالبوا بطردهم.

وتمكن المحتجون من اقتحام كلية الشرطة، وأشعلوا النار في إطارات السيارات، وأغلقوا الطرق المحيطة، وهتفوا بعد ملاسنات مع المقاتلين السوريين في داخلها: «رانا جايينكم يا سوريين لتطلعوا من ليبيا».

ويقول الساعدي رضوان، من منطقة الهضبة، في اتصال مع «الشرق الأوسط»: «سبق ومنحناهم مهلة لمغادرة ليبيا، ولم يفعلوا. إن لم تتحرك الأجهزة العسكرية في طرابلس فسنباغتهم ونطردهم»، متهماً حكومة الدبيبة بـ«منحهم أموالاً من خزينة الدولة».

حالة الرفض الشعبي المتزايدة لوجود المرتزقة في ليبيا تعكس إلى أي مدى أضحت هذه العناصر كعصف مأكول، هرسته «آلة السياسة» بعدما قضت منها وطراً. وكما ينطبق الأمر على السوريين الموالين لتركيا، ينسحب أيضاً على العناصر التابعة لروسيا.

وكان الاتحاد الأفريقي، نهاية أكتوبر 2024، أعلن عن مشروع يتعلق بالمقاتلين الأجانب في ليبيا وكيفية إدارة ملفهم. وسبق ذلك ببضعة أشهر كلام الممثل الدائم لموزمبيق لدى الأمم المتحدة، ورئيس مجموعة الأعضاء المنتخبين بمجلس الأمن، بيدرو كوميساريو أفونسو، عن أن انسحاب جميع القوات الأجنبية والمقاتلين الأجانب والمرتزقة من ليبيا بات «أمراً ملحاً».

طرد المرتزقة

على مدار السنوات الأربع التي تلت حرب طرابلس، اختلفت انتماءات وتبدلت ولاءات؛ لذا لم تعد النظرة الشعبية في ليبيا للمرتزقة كما كانت حينما كان حفتر على أبواب المدينة. فهؤلاء باتوا محاصَرين مُطارَدين، ومُهانين أيضاً من فئات شبابية قسَّمت السياسة توجهاتهم، بين مؤيد للدبيبة، ومعارض.

شيء من هذه الكراهية ظهر عندما احتشد عشرات الليبيين نهاية أغسطس 2023، أمام كلية الشرطة بمنطقة صلاح الدين بالعاصمة؛ حيث يتحصن مرتزقة سوريون، وطالبوا بطردهم.

وتمكن المحتجون من اقتحام كلية الشرطة، وأشعلوا النار في إطارات السيارات، وأغلقوا الطرق المحيطة، وهتفوا بعد ملاسنات مع المقاتلين السوريين في داخلها: «رانا جايينكم يا سوريين لتطلعوا من ليبيا».

ويقول الساعدي رضوان، من منطقة الهضبة، في اتصال مع «الشرق الأوسط»: «سبق ومنحناهم مهلة لمغادرة ليبيا، ولم يفعلوا. إن لم تتحرك الأجهزة العسكرية في طرابلس فسنباغتهم ونطردهم»، متهماً حكومة الدبيبة بـ«منحهم أموالاً من خزينة الدولة».

حالة الرفض الشعبي المتزايدة لوجود المرتزقة في ليبيا تعكس إلى أي مدى أضحت هذه العناصر كعصف مأكول، هرسته «آلة السياسة» بعدما قضت منها وطراً. وكما ينطبق الأمر على السوريين الموالين لتركيا، ينسحب أيضاً على العناصر التابعة لروسيا.

وكان الاتحاد الأفريقي، نهاية أكتوبر 2024، أعلن عن مشروع يتعلق بالمقاتلين الأجانب في ليبيا وكيفية إدارة ملفهم. وسبق ذلك ببضعة أشهر كلام الممثل الدائم لموزمبيق لدى الأمم المتحدة، ورئيس مجموعة الأعضاء المنتخبين بمجلس الأمن، بيدرو كوميساريو أفونسو، عن أن انسحاب جميع القوات الأجنبية والمقاتلين الأجانب والمرتزقة من ليبيا بات «أمراً ملحاً».

«جرائم في الزاوية»

أنتج عمل المرتزقة في ليبيا تعاوناً مع الميليشيات المحلية، تمثل في استخدام عناصر من جنسيات أفريقية لـ«ترويع وتعذيب» الليبيين، لحساب المتناحرين في مدينة مثل الزاوية بغرب البلاد.

ولمس ليبيون، بالمنطقة الغربية، أن بعض عناصر المرتزقة من جنسيات «أفريقية» باتت تستمد نفوذاً من الميليشيات المسلحة، ما عزّز مطالب أطياف متعددة من بينها «حراك تصحيح المسار الزاوية الكبرى» بإخراج المرتزقة جميعهم.

وفي نهاية أبريل 2023، استيقظت الزاوية على عملية تعذيب، وُصفت بأنها «بشعة»، جرت لمواطنين ليبيين على يد «عناصر أفريقيين»، على خلفية نزاع بين ميليشيات تتقاتل دوماً بالمدينة.

وقائع عملية التعذيب التي أودت بحياة شاب تسببت في خروج مظاهرات إلى الشوارع، وتم توثيقها في مقطع فيديو تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي رغم قسوة المشاهد. كثيرون يرون الآن أن السلطات في طرابلس تراهن على نسيان المواطنين هذه الواقعة، لكن الأوضاع المتصاعدة في الزاوية ضد وجود المرتزقة تبقى جمرة تحت رماد.

من ليبيا إلى توغو

لا تتوقف قضية المرتزقة السوريين في ليبيا عند كونهم قوة «مُخزنة» في قواعد عسكرية مجهولة المصير، فالنزاعات التي تشهدها القارة الأفريقية حولت ليبيا إلى محطة «ترانزيت» لـمرتزقة جدد.

يخبرنا شاب سوري (تحفّظ على ذكر اسمه) أن فرقة «السلطان مراد» جنّدت شقيقه (17 عاماً)، ودُفع به إلى ليبيا الصيف الماضي، ومنها إلى «توغو» للقتال.

ويقول: «تحدث إلينا من رقم هاتف تبين أنه من توغو. ولا نعرف إن كان فعلاً في توغو. هذا طفل، ولا نعرف كيف نتصرف».

أخَوان سودانيان على الجبهة

انتهت الحرب لكن فصول المأساة لا تزال مفتوحة على قصص كثيرة بعدد أصحابها من المقاتلين، فلكل منهم حكاية. ومن تلك القصص ما جرى لأخوين سوادنيين تم استقطابهما إلى الحرب، فقاتل الأول في صفوف قوات طرابلس، وأطلق الثاني مع «الجيش الوطني» من بنغازي باتجاه جنوب العاصمة.

في نهاية ديسمبر 2023، أعدنا التواصل مع الأسرة التي أجبرتها الحرب على النزوح إلى مصر، حاملة معها أحزانها على نجلها الأكبر الذي لا يزال مصيره مجهولاً، بينما نجلها الثاني تمكّن من الهرب من الكُفرة الليبية عبر الحدود التشادية حتى وصل إلى الفاشر.

تقول والدة الشابين التي التقيناها في مدينة السادس من أكتوبر، غرب القاهرة: «لم يتواصل معنا منذ 3 سنوات. في آخر مكالمة أخبرني بأنه ركَّب رجلاً صناعية بدلاً من التي قُطعت وهو يقاتل في طرابلس».

تحفّظت السيدة السودانية في بداية الأمر عن نشر أي معلومات عن ابنيها، خوفاً من «الوصم الاجتماعي» وأنهما من المرتزقة، فدافعت عنهما قائلة: «خطفوا واحداً وغرّروا بالثاني... ولم نجنِ شيئاً».

لم يكن الأخ يعلم أنه تم الدفع بأخيه ليحارب مع قوات حفتر. فقد قامت إحدى شركات الحراسات بتجنيد الأصغر فوجد نفسه مقاتلاً في بنغازي. «هكذا علمنا بهذه المصيبة؛ الأخ سيقاتل أخاه»، قالتها الأم بلهجة سودانية، قبل أن توضح: «لم نخبرهما بهذا الأمر حتى عاد الأصغر متسللاً من تشاد نهاية 2022».

بتحفظ شديد، أطلعتنا السيدة التي طلبت أن نسميها «أم البشير» على مقاطع فيديو وصلتها من ابنها الأكبر، وقالت: «بعد أن قُطعت ساقه، احتجزته ميليشيات طرابلس في أحد مخازن السلاح وصيانة وتشحيم الدبابات».

بدا الشاب فتى نحيلاً مسنوداً على عصا، وتقول أمه وهي تغالب دموعها: «عمره الآن 27 عاماً. قبل أن تنقطع اتصالاته، أخبرنا بأن رجله قُطعت بسبب رصاصة بقيت شهرين بلا علاج، وبعد قطعها احتجزوه في مخزن يخدم في مسح الأسلحة الثقيلة».

تقول «أم البشير» إن أسرتها خاطبت أجهزة كثيرة في طرابلس، من بينها حكومة «الوفاق الوطني» التي كانت تدير المعركة في السابق، برسائل عبر صفحاتها الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي، وظلت على هذه الحال نحو 3 أعوام من دون أن تتلقى رداً.

بعد اشتعال الحرب السودانية، عاد بعض المقاتلين الذين حاربوا مع قوات حفتر والسراج إلى بلدهم، مصحوبين بآخرين من تشاد. أسرة «أم البشير» هُرعت إلى من تعرفه منهم، لتعلم أن نجلها شُوهد في مدينة صبراتة الساحلية (70 كيلومتراً غرب طرابلس)، وسط اعتقاد بأنه ربما غرق خلال محاولته الهروب إلى أوروبا عبر المتوسط.

تحاشت الأسرة المكوّنة من 6 أفراد، وتقطن في وحدة سكنية ضيقة، الحديث عن المقابل المادي الذي تحصَّل عليه نجلاها من المشاركة في الحرب بشرق ليبيا وغربها، واكتفت بالقول: «خسارتنا كبيرة»، مختصرة بذلك مأساة عائلات وشبان ذهبوا وقود حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.