حبة رمل على طرف إبهامك على مد ذراعك... تلك هي المساحة المتناهية صغراً المكافئة للصورة التي التقطها التليسكوب الكوني «جيمس ويب» التي حملت تفاصيل بلايين المجرات التي تحوي بلايين الشموس والنجوم الآتي قبس نورها من زمان مضى... أو هكذا نتوهم أنه مضى...!
كل ذلك على مرمى لمحة بصر من لحظة نشأة الكون منذ ثلاثة عشر بليون سنة ضوئية...
هكذا سبرنا غور الزمان ونحن على همل من المكان في ذاك الكون المترامي نسمه كوكباً...!
كوكب يتواقت فيه - حال ما اصطلحنا على أن نسميه - الفجر والسحر والشروق والغروب... يتتام فيه ليله الدامس ونهاره البَين...
شروق الشمس في بعضه هو عين غروبها في بعضه الآخر... يُعبَدُ الله فيه بكل وقت وفي كل وقت... ففي لحظة واحدة على بقاع مختلفة من ذات الأرض يأذن الله لبعض خلقه بالصلاة... فيصلي لله فجراً وظهراً وعصراً ومغرباً وعشاءً... في ذات الآن في بقاع الكوكب شتى...
لحظة واحدة ينطوي فيها في كل آن «لحظة» أمس ويوم وغد بقاع الأرض كلها... لا تَزَيُّدَ في هذا ولا تَوَهُّم...
فيوم هذا الذي يحياه هو يوم لم تطلع شمسه على ذاك الساكن للأرض مثله في بقعة أخرى... وهو ذاته يوم مضى ولن يعود لثالث على ذات الأرض... في ذات الآن.
إن ما نحياه إذاً إنما هو طيف الزمان الواحد... ما نحياه باسم الزمن هو ظل حركتنا في طيف الزمان... أما الزمان الكائن فواحد...!
يتحرك الخلق على الكوكب - حين يتحركون ويتواصلون - بحركة ليس بين شرق وغرب ولكن بين ماضٍ ومستقبل في آنٍ يسمونه حاضراً...
ويسكن الخلق على الكوكب - حين يسكنون - بحركة بين زمانين ماضٍ ومستقبل بحركة الكوكب ذاته في الزمكان...!
ينتقل الخلق ليس من شرق وغرب أو بين شمال وجنوب... ولكن ينتقلون حين ينتقلون بين ماضٍ ومستقبل...
فالغرب زمان أكثر منه مكاناً... والشرق زمان أكثر منه مكاناً... الشرق مستقبل للكوكب لا ينقطع والغرب ماضٍ لا ينقطع.
كوكب لا حاضر عليه بل كله مستقبل يصبح ماضياً في لحظة نحن من يسميها بالحاضر ويحياها حاضراً ليس لكونها حاضراً ولكن لقصور ملكاتنا عن تقرير غير ذلك.
كل موطئ قدم على سطح الكوكب هو في جوهر حقيقته... سرج سابح يحيا في مستقبل موطئ القدم الذي يليه في حركة الدوران وفي ماضي موطئ القدم الذي انتقل بحركة الدورات قبله... وهما ما نسميهما اصطلاحاً بين السبق واللحاق... شرق وغرب... فبالأحرى الشرق هو السبق أبداً والغرب هو اللحاق أبداً...
وكأنها جهات أصلية للكرونوجرافيا أكثر منها جهات أصلية للجغرافيا...
ذاك شأن الله في حركة أجرامه... أما ساكنوها من خلقه فله ولهم شأن آخر في سبق الشرق والغرب...!!
كوكب التواقت فيه إذا أطياف من وحدة زمان، والأحوال فيه أطياف وحدة حال... كما أن نوره الأبيض هو وحدة أطياف كل درجات الضوء المشاهد المبصر والغيب الخفي...
تلك هي الحقيقة إذاً... نحيا في كون من زمان أكثر منا في مكان...
«كون»... لأن به ما كان... وما سيكون... وما هو كائن في ذات الآن.
ولأنه هو ذاته بكل تركيباته الزمانية الحاضر الوحيد الذي يجمع الماضي والمستقبل ولا تعريف للحاضر إلا كونه يجمع الماضي والمستقبل سوياً... ففيه الزمن... كل الزمن.
ما بين لحظة نشأته ولحظة فنائه وحدة كائنة في ذات الآن... لم تكن قبلاً ولن تكون بعد... هي كائنة الآن في ذات الآن...
كون لولا حركة المكان لما وجد الوقت ولولا التباطؤ والقربى من السكون لما وجد الزمان...!
وكما أوردنا في مقالنا السابق في ذات المساحة... بأنه كَون... من أثير...
كل ملموس مشاهد فيه هو أثير مختزن في أثير... مختزن لمن يملك حل شفرته والولوج إلى داخله.
كل الزمان حاضر فيه... ولكنه زمان لا حاضرَ فيه...!
كون هو جُزُر من الزمان إذاً لا جُزُر من المكان...
عين الحاضر فيه ترصد حالَ حاضرٍ هو في حقيقته أصداء ماضٍ ذهب...
نرى على صفحة سمائه صور النجوم أو أثير حقيقتها... أو قل نرى حقيقتها التي نظنها مادية والتي كانت والتي نظنها فنت وهي لم تفن في أثير... لكنها برصد حاضرنا نرصد حقيقتها الأثيرية الكائنة في أثير جديد ولجنا إليه...
نرصد على صفحة سمائه موقعاً نظنه في مادة زمن مضى، ووهجاً كان لنجم احترق وفني... ولكنه موجود في أثير الكون لم يفنَ... لأن ما نظنه ماضياً كان... ما زال كائناً في وحدة الكون الأثير.
ولأننا قلنا نحن نحيا الحاضر والماضي والمستقبل في ذات اللحظة على ذات الكوكب... نحيا في أرضنا بعض ماضي كوننا وحاضره وبعض مستقبل لناظر آخر... فنحن على سطح كوكبنا هذا لناظر آخر في الكون أو الأكوان - حسب نظرية الأكوان المتعددة Multiverse Theory - - كشأن ما نراه من صورة جيمس ويب - نحن ماضٍ كأنه فني وإن لم نفنَ...لأن الأثير باقٍ... ألم نقل هذا في مقالنا السابق.
جزر من الزمان إذاً... لا جزر من المكان... ولكن بمثلها...
فكما أن كل المكان باقٍ مهما انتقلنا بين أطرافه... فكل الزمان باقٍ مهما انتقلنا بين أطرافه...
كون كل الزمان متواقت فيه... من أكبر أجرامه سعة وعظمة وفي أدق ذراته ضيقاً صغراً وتناهياً... كل الزمان فيه حاضر ولكنه زمان لا حاضر فيه...
ماض ومستقبل متواقتان... حاضران في آن... آن لا حاضر فيه...
آن إما ماضٍ فات أو مستقبل آت...
ولكي أدلل على تلك البديهية الحقة... وأنا أكتب تلك الكلمات الآن... كل كلمة كتبت بل كل حرف كتب صار ماضياً لحظة كتب يستشرف مستقبل الحرف التالي الذي لم يكتب...
وأنت كذلك وأنت تقرأ هذه السطور فكل كلمة تجاوزها بصرك أو وقرت في سمعك بعد أن نطقت بها صارت ماضياً وما لم تقرأه هو فعل مستقبل لم يأت بعد... أما الحاضر فهو تلك الهنيهة بين رحيل ما يمضي واستقبال ما يأتي.
وليس في ذلك من جديد... ولكن جديده أن ما كنته أنا على حال الكتابة منذ آن... لم يفن وإن مضى... باقٍ في أثيرنا كما بقيت لحظة الخلق الأولى أو ما بعدها بلمح بصر فالتقطناها وصورناها بآلة ليست هي سقف السبق الإنساني في العلم والتكنولوجيا ولن تكون... وسنلتقط بفتح من الخالق في مضمار العلم ما يكون قاب قوسين أو أدنى من لحظة الانفجار الكوني الأعظم الأولى... ولنشهد بعضاً من ماضينا نحن المختزن في الأثير...!
ألم يصدق علي بن أبى طالب حين قال:
وَتَحْسَبُ أنكَ جُرْمٌ صَغِيرٌ،، وفيك انطَوَى العالم الأكبر
فَكرُوا تَصحُوا...
كاتب ومفكر مصري
8 أغسطس (آب) 2022
* في العلم والوحي والفلسفة...(2)