بعد مرور أكثر من 200 سنة على استقلال كولومبيا عن إسبانيا، وصل اليسار إلى الحكم للمرة الأولى مع انتخاب الرئيس الجديد غوستافو بيترو الذي تسلّم مهامه يوم الأحد الماضي إلى جانب نائبته فرنسيا ماركيز، المتحدرة من أصول أفريقية، والمولودة في إحدى أفقر المناطق المهمشة التي كانت طوال عقود تحت سيطرة الحركات الثورية التي سبق أن قاتل بيترو في صفوفها. وفي خطاب بيترو الرسمي الأول، أمام عدد من الرؤساء والمسؤولين الأجانب ومئات الآلاف من مواطنيه الذين احتشدوا وسط العاصمة بوغوتا، قال الرئيس الجديد: «هذه هي حكومة الحياة والسلام، وهكذا سيذكرها التاريخ»، في إشارة إلى الاغتيالات التي تعرّض لها مرشّحو اليسار في الانتخابات الأربع الأخيرة، وإلى آلاف القياديين اليساريين الذي اغتالتهم المجموعات شبه العسكرية، وإلى اتفاق السلام بين الحكومة والحركات الثورية المسلحة الذي ما زالت تعترض تنفيذه عقبات ومطالبات من القوى اليمينية بتعديله. وهنا تجدر الإشارة إلى أن بيترو، شخصياً، كان قد نجا بأعجوبة من محاولة اغتيال تعرّض لها في بداية الحملة الانتخابية، مطلع هذا العام، بعدما كان يتعرّض باستمرار للتهديد بالقتل عندما كان رئيساً لبلدية بوغوتا. ولكن إلى جانب الطابع التاريخي لوصول بيترو إلى الرئاسة في بلد تعاقبت على حكمه منذ الاستقلال إلى اليوم حفنة من العائلات النافذة، لا شك في أن انتخابه سيؤدي إلى إعادة تشكيل «المحور التقدمي» - أي اليساري - في أميركا اللاتينية، الذي كان يدور حتى الآن حول كوبا وفنزويلا والأرجنتين ونيكاراغوا، والذي أخذت تظهر عليه علامات التفكك والوهن منذ فترة.
الخطوة الأولى في مسيرة غوستافو بيترو الطويلة إلى رئاسة كولومبيا بدأت مع التوقيع على اتفاق السلام، الذي رغم أن معظم بنوده ما زالت حبراً على ورق، مهّد الطريق أمام القوى اليسارية و«التقدمية» لكي تطرح برامجها السياسية والاجتماعية من غير أن توجه إليها الاتهامات بأنها تنتمي إلى الحركات الثورية المسلحة، أو بأنها ضد النظام الديمقراطي و«دولة المؤسسات». كذلك يأتي انتخاب نائبة الرئيس ليؤكد هذا التحوّل الجذري في المشهد السياسي الكولومبي، حيث وضعت غالبية السكان آمالها في «برنامج تقدمي للتغيير» من أجل تجاوز الأزمة الاقتصادية، التي دفعت نحو نصف المواطنين إلى ما دون خط الفقر، إذ لا يتجاوز دخل 64 في المائة منهم خمسة دولارات في اليوم.
إلا أن هذا التغيير التاريخي في المشهد الكولومبي سيؤدي حتماً إلى تغيير كبير على الصعيد الإقليمي، لا سيّما أن كولومبيا كانت دائماً «رأس الحربة» التي استندت إليها المؤسسة العسكرية والقوى اليمينية في الولايات المتحدة لبسط نفوذها وترسيخه في المنطقة. ويجدر التذكير بأن الحكومات الكولومبية السابقة كانت غالباً ما تتباهى بأن لديها مستشارين عسكريين أميركيين في جميع قواعدها العسكرية، وأن النخبة المحافظة التي كانت تحكم كولومبيا وتتمتع بقدرات أكاديمية وفكرية عالية، كانت هي التي تتولى نشر الفكر المحافظ في البلدان المجاورة. ويضاف إلى ذلك، أن هذا التغيير يتزامن مع موجة إقليمية حملت القوى «التقدمية» اليسارية إلى الحكم في عدد من البلدان التي لم تصل إليها الموجة اليسارية السابقة، مثل تشيلي والمكسيك وبيرو.
مع هذا، وعلى الرغم من أن وجود إدارة ديمقراطية في البيت الأبيض يوفّر فرصاً أفضل للتفاهم والتنسيق بين واشنطن وبوغوتا، يرى مراقبون أن الولايات المتحدة ليست مرتاحة لوصول بيترو إلى الرئاسة في كولومبيا، وبخاصة بعد تراجع تركيزها وجهودها لتحديد أهدافها الاستراتيجية في أميركا اللاتينية إثر انصرافها إلى مواجهة صعود الصين وانهماكها في النسخة الجديدة من «الحرب الباردة» مع روسيا.
- يسار «تجديدي» عصري
مقرّبون من خط الذين رافقوا بيترو في مسيرته السياسية خلال السنوات الأخيرة، يقولون إنه يميل إلى الخط الذي ينهجه الرئيس المكسيكي مانويل لوبيز أوبرادور، الذي يدعو إلى مزيد من السيادة والاستقلالية عن توجيهات واشنطن وإملاءاتها. وكان بيترو قد أشار في الخطاب الذي ألقاه خلال حفل تسلّم مهامه يوم الأحد الماضي، إلى أنه «لا يمكن عقد اجتماعات إقليمية في غياب كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا»، وأن «التكامل الاقتصادي في أميركا اللاتينية ما عاد يحتمل التأجيل» للاستفادة من الطاقات والموارد الهائلة التي تزخر بها المنطقة، ومن السوق الضخمة التي تشكلها لمنتجاتها.
ولكن، بخلاف الموجة اليسارية السابقة التي بدأت عام 1998 مع هوغو تشافيز بفنزويلا، وكان محورها يدور حول كاراكاس وبرازيليا وبوينس آيرس، سيكون «المحور التقدمي الجديد» - إذا صحّت التوقّعات وفاز الرئيس اليساري السابق لويس إبناسيو لولا في البرازيل - حول سانتياغو وبرازيليا وبوغوتا. وينتظر أن يواجه هذا «المحور» مجموعة من التحديات الهيكلية التي تبدأ «بتجديد الخطاب اليساري»، مروراً بالتوافق على برنامج اقتصادي وإنمائي عصري، ووصولاً إلى الطوارئ الناجمة عن التغير المناخي التي تعاني أميركا اللاتينية من تداعياتها أكثر من أي منطقة أخرى.
وفي سياق متصل، تفيد دراسة وضعتها أخيراً «لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأميركا اللاتينية» بأن 70 في المائة من سكان المنطقة ليسوا راضين عن الأداء الحكومي في بلدانهم، ما يُظهر أن تجديد الحياة السياسية غداً من الضرورات المُلحة بأميركا الجنوبية - بالذات - مع بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وأن النخب السياسية في المنطقة باتت منهكة وعاجزة عن التغيير والإصلاح.
- مقاربات متباينة
لمعالجة هذه المشكلة تتباين مقاربات القوى «التقدمية» التي وصلت أخيراً إلى السلطة، وراهناً تشكّل التجربة التشيلية الوجه الأكثر راديكالية بينها. إذ لجأت تشيلي إلى الجمعية التأسيسية «لتجديد» النظام السياسي انطلاقاً من مناصفة التمثيل بين الرجال والنساء، وتمثيل السكان الأصليين، والقطاعات الإنتاجية والهيئات الطلابية، وهي أمور لم تكن واردة قبل الانتفاضات الاجتماعية التي شهدتها البلاد عشية ظهور جائحة «كوفيد - 19». أما في كولومبيا فقد جاء «التجديد» عن طريق التحالف بين غوستافو بيترو، الرمز السابق في الحركات الثورية الذي تخلى عن الكفاح المسلح وانخرط في الحياة السياسية، مع فرنسيا ماركيز ذات الأصول الأفريقية، والناشطة في مجال البيئة ومكافحة التمييز العنصري... الذي ما زالت تعاني منه جميع بلدان المنطقة بدرجات متفاوتة.
في المقابل، من القواسم الأخرى المشتركة التي تجمع بين مختلف أطياف الموجة «التقدمية» الجديدة في أميركا اللاتينية، معالجة الأزمة الاقتصادية والأوضاع المعيشية والاجتماعية المتردّية التي أدّت خلال السنوات الثلاث الماضية إلى موجة من التظاهرات الشعبية الحاشدة في الأرجنتين وبوليفيا وتشيلي وبيرو والإكوادور وباراغواي وكولومبيا. غير أنه، على الرغم من الميل الطبيعي للأحزاب اليسارية إلى إعطاء الأولوية لمكافحة الفقر، وتعزيز الحقوق والمكتسبات الاجتماعية، وجدت هذه الأحزاب نفسها مضطرة إلى تبنّي سياسات اقتصادية ليبرالية... كما حصل في تشيلي والأرجنتين وكولومبيا، وأيضاً في البرازيل حيث اختار لولا حليفاً له مرشحاً لمنصب نائب الرئيس من الزعماء التقليديين للقوى المحافظة. وعودة إلى كولومبيا، فإن بيترو - وهو خبير اقتصادي - اختار لوزارة الاقتصاد أنطونيو كامبو الذي سبق أن تولّى حقائب وزارية في الحكومات الليبرالية السابقة... بل وأيّد المرشح اليميني في الانتخابات الرئاسية.
- البيئة... أولوية
ولكن لعلّ القاسم الرئيس المشترك، الذي قد يسهل التوافق حوله أكثر من غيره بين الأحزاب اليسارية الواصلة أخيراً إلى السلطة وحكومات هذه الدول والجارة الأميركية الكبرى (أي الولايات المتحدة)، هو الموضوع البيئي والتغيّر المناخي الذي يتقدم أولويات الرئيس الكولومبي الجديد، كما أعلن عند تقديم برنامجه الحكومي. وللعلم، فإن كولومبيا من أغنى بلدان العالم من حيث التنوع البيولوجي، وهي بحاجة إلى تطوير أنماط إنتاجية وزراعية بديلة تساعد في التخلص من زراعة الكوكايين التي ما زالت تدرّ أرباحاً طائلة على تجار المخدرات. وكان الرئيس التشيلي غابرييل بوريتش قد وصف حكومته بأنها «بيئية بامتياز» ومواجهة التغير المناخي في صدارة أولوياتها. كذلك أعلن لولا عن «عقد جديد أخضر» في البرازيل يقوم عليه برنامجه الحكومي المقبل.
مع هذا، من المتوقع أن تواجه البرامج البيئية التي وضعتها حكومات الموجة اليسارية الجديدة معارضة شرسة من الأحزاب اليمينية والأوساط الاقتصادية التي أعلنت فتح معركة ضدها، لا سيّما أن المناجم المعدنية والصناعات الزراعية، واستخدام المحروقات الأحفورية تشكّل أبرز الركائز الأساسية لاقتصاداتها. غير أن كثيراً من المراقبين وخبراء يرون أنه على الرغم من هشاشة الغالبيات البرلمانية التي تتمتع بها الحكومات «التقدمية» الجديدة، وضيق هامش تحركها لاحتواء هذه المعارضة - كما الحال بالنسبة للرئيس الكولومبي الجديد - فهي تصرّ على برامجها البيئية. بل يراهن غوستافو بيترو على هذه البرامج لتوسيع قاعدته الشعبية بين الفئات التي تولي أهمية متزايدة للحفاظ على البيئة ولأساليب الإنتاج الطبيعية والمستديمة.
وإلى جانب ما تقدّم، يراهن الرئيس الكولومبي على أن يسهم نجاح البرامج البيئية في التخفيف من حدة الاستقطاب السياسي الذي تعاني منه المنطقة منذ عقود... إذ تتجاذبها الصراعات الشديدة - والعنيفة أحياناً - بين القوى اليمينية واليسارية المتطرفة. وبالفعل، أظهرت الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة الماضية أن العنف السياسي هو الوسيلة المفضلة، وأحياناً الوحيدة، للتعبئة الاجتماعية والمطالبة بالإصلاحات.
- «الجبهة التقدمية»... بانتظار انتخابات البرازيل
ثمة أولويات تنسج، في الواقع، خيطاً يربط بين العواصم الأميركية اللاتينية التي يحكمها اليسار، علماً بأن قيادة هذه «الجبهة التقدمية» تبقى مقصورة - لأسباب لوجيستية - على المكسيك أو البرازيل، أو الاثنتين معاً. والسبب أن مثل هذه القيادة تقتضي جهازاً دبلوماسياً قوياً ومترامياً لا تملكه سوى هاتين الدولتين الكبريين. وفوق هذا، تجمع كل التحليلات على أن التغيير المهم الحقيقي في الخريطة السياسية لعموم أميركا اللاتينية يبقى مرهوناً بانتخاب لولا في البرازيل، وبالتالي، إمساكه بزمام هذا المحور اليساري، على الأقل بصورة رمزية، نظراً لأن البرازيل هي الدولة الوحيدة القادرة على الاستغناء عن الدول الأخرى في المنطقة.
من ناحية ثانية، يتوقع المراقبون، في حال عودة لولا إلى الرئاسة في البرازيل، أن تتشكّل هذه «الجبهة التقدمية» التي يمكن أن تبدأ باستعادة الملفات الإقليمية التي كانت الموجة اليسارية «الراديكالية» السابقة قد طرحتها مطلع القرن الحالي، مثل الاندماج الأميركي اللاتيني، وحقوق الإنسان، والحفاظ على البيئة الذي يطمح الرئيس الكولومبي أن تكون بلاده رائدة فيه ومختبراً إقليمياً للطاقات المتجددة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه من حيث عدد السكان، فإن البرازيل - الناطقة باللغة البرتغالية - هي الدولة اللاتينية الأكبر (والأغنى) في القارة الأميركية شمالها وجنوبها. أما المكسيك فهي كبرى دولها الناطقة باللغة الإسبانية، وهي ثاني كبرى دول أميركا الشمالية من حيث عدد السكان. وأما كولومبيا فهي ثاني كبرى دول أميركا الجنوبية (بعد البرازيل) وثاني كبرى الدول الناطقة بالإسبانية (بعد المكسيك) في القارة الأميركية.