«أنصار بيت المقدس».. مخزون «الإخوان» الاستراتيجي!

خبراء أمن مصريون أكدوا لـ {الشرق الأوسط} أن المعركة مع الإرهاب طويلة

«أنصار بيت المقدس».. مخزون «الإخوان» الاستراتيجي!
TT

«أنصار بيت المقدس».. مخزون «الإخوان» الاستراتيجي!

«أنصار بيت المقدس».. مخزون «الإخوان» الاستراتيجي!

أكد خبراء أمنيون واستراتيجيون لـ«الشرق الأوسط» أن جماعة أنصار بيت المقدس تمثل تحولا خطيرا في أسلوب الأعمال والجماعات الإرهابية التي شهدتها مصر على مدار تاريخها الحديث، لما شهدته الفترة الأخيرة من أعمال عنف وإرهاب غير مألوفة ومختلفة عما كان يحدث من عمليات إرهابية سابقة.
فقد اتسمت العمليات الإرهابية الأخيرة في مصر بانتقال ميدانها من الأطراف في سيناء إلى داخل القطر المصري في قراه ومدنه حتى وصل إلى العاصمة القاهرة، لتشهد تفجيرات انتحارية وسيارات مفخخة لم يعهدها المصريون حتى في أصعب فترات الإرهاب التي مرت بها مصر.
لذلك، أصبحت جماعة أنصار بيت المقدس، التي اعترفت بمسؤوليتها عن تلك العمليات الإرهابية، مثار جدل كبير على الأصعدة كافة، لا سيما مع تزامن نشاطها مع سقوط الرئيس المعزول محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين، وهو ما أثار الاتهام بوجود علاقة ما بين الجماعتين، بل ذهب البعض إلى أن جماعة أنصار بيت المقدس ما هي إلا ميليشيات تتبع القيادي الإخواني خيرت الشاطر.
ولا شك في أن هناك تساؤلات كثيرة حول جماعة بيت المقدس وحقيقتها، وهو ما نحاول البحث عن إجابات له مع الخبراء والمحللين.

الخبير الاستراتيجي اللواء عبد الرافع درويش رئيس حزب فرسان مصر، قال لـ«الشرق الأوسط» إن «نقطة التحول في جماعة أنصار بيت المقدس عندما تولى الرئيس السابق محمد مرسي، حيث كان يدعمهم ويرسل لهم سيارات في سيناء، وأنهم كانوا يسعون لما يسمى غزة الكبرى التي تضم سيناء حتى العريش وغزة على مساحة الـ700 كم، ضمن الخطة الأميركية الصهيونية، ومعها بعض دول المنطقة، كبديل استعماري جديد لحل مشكلة إسرائيل، وذلك في إطار نظرية الشرق الأوسط الجديد التي كشفت عنها كوندوليزا رايس، وهو ما وافق عليه الرئيس المعزول مقابل 25 مليون دولار التي يسأل عنها أوباما الآن. ولذلك، فأنا أعد ما حدث يوم 3/7 من عام 2013 نصرا يشبه نصر 1973، لأننا استرددنا فيه سدس الأرض المصرية التي باعها (الإخوان)».
ويضيف درويش أن «ليبيا كانت المقر الرئيس لـ(الجهاد) وجماعة بيت المقدس، وكانت هناك سيارات تحمل شبابا ما بين 25 - 35 سنة من مرسى علم بمصر إلى مصراتة بليبيا لتدريبهم هناك بهدف إنشاء جيش حر على شاكلة (الجيش الحر) بسوريا ليحل محل القوات المسلحة المصرية، وتزامن ذلك مع ما قاله عاصم عبد الماجد بإنشاء شرطة في أسيوط تكون موازية لوزارة الداخلية المصرية، وذلك في إطار خطة شاملة للسيطرة على الدولة المصرية».
وأضاف أن «المشكلة بدأت في أعقاب ثورة يناير، حيث لم يكن هناك أي حزب منظم في مصر إلا جماعة الإخوان، خاصة أن الثورة كانت بلا قيادة. وتنظيم الإخوان هذا تنظيم دولي، مصروف عليه 45 مليار دولار لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير وإحداث الفوضى الخلاقة للقضاء على الجيوش العربية، لضمان عدم القدرة على الوقوف أمام إسرائيل وتحقيقا لأمنها. وتأكيدا لذلك، نرى المخطط واضحا على الخريطة العربية؛ بداية من الصومال في الجنوب، ووصولا لموريتانيا غربا حيث نجد سيطرة للإخوان المسلمين، ثم الجزائر قبل سيطرة الجيش، وبعدها المغرب نجد أن رئيس الحكومة من الإخوان المسلمين رغم أنها ملكية، ثم تونس وليبيا، كذلك من الإخوان المسلمين، ثم مصر قبل أحداث الثلاثين من يونيو (حزيران)، واليمن وسوريا، ثم العراق وبدءوا أيضا بإثارة الفتنة بين السنة والشيعة تحت اسم الهلال الشيعي الذي يجمع سوريا والعراق ولبنان وإيران. ومن الغريب أن إيران الشيعية تدعم حماس السنية لتكون هي الشوكة في ظهر مصر وتعد هي الجناح العسكري للإخوان المسلمين، وفي الوقت نفسه يعملون على خلق ما يسمى الهلال السني لإحداث الفتن والمعارك الداخلية لإنهاك الجيوش العربية».
واستطرد أن «جماعة بيت المقدس لم تجر عملية واحدة ضد إسرائيل منذ تولي (الإخوان)، وكذلك لم يحدث أي تفجير لخط الغاز المصري بسيناء أثناء حكم (الإخوان)، بينما بدأ العمل ضد القوات المسلحة المصرية عندما قرر الفريق السيسي هدم الأنفاق بيننا وبين غزة».
وعن دخول الإرهاب إلى القاهرة والمدن بعد سيناء، قال اللواء عبد الرافع درويش: «إنهم هربوا من سيناء بعد زيادة الضغط عليهم من قبل الجيش، وأصبحت آخر أوراقهم العمليات الانتحارية وتفجير النفس، وهي مؤشر على قرب نهاية هذه الجماعات الإرهابية، لأن ذلك آخر ما يمكن عمله عندهم، بعد أن فقدوا حب الحياة تحت تأثير وصولهم لمرحلة اليأس. ويجب أن نعلم أنه لا توجد دولة في العالم تستطيع أن توقف الإرهاب بنسبة 100 في المائة، لكنه سيجري تجفيف منابع الإرهاب لأقصى درجة، إلا أن المعركة ستطول لبعض الوقت، وعلى الشعب أن يقبل تحمل الخسائر ويقدم بعض التضحيات. فهذه الجماعة تحاول جر الجيش لحروب جانبية، ويبدو كأنهم هم الذين يحاربون دولة الإرهاب وليس العكس». ويشير اللواء درويش إلى «لجوء هذه الجماعة لتغيير أسلوبها بعد محاصرتها وتضييق الخناق عليها؛ حيث أصبحوا يلجأون لخطف الأشخاص وطلب الفدية للحصول على موارد كما فعلوا وخطفوا الدكتورة نادية الأنصاري أستاذ الكبد وطالبوها بفدية ثلاثة ملايين جنيه. ونحن الآن في حالة حرب، وهي تعني أن من يرفع يده بأي شيء يموت، وضرورة تحقيق العدالة الناجزة السريعة، فما دامت هناك قرائن وأدلة فلا بد من صدور أحكام سريعة. ومن ثم، لا بد لرئيس الجمهورية أن يعلن حالة الحرب بكل شروطها وقوانينها، كما أطالب الحكومة المصرية بأن تتوجه إلى حماس الذين أعلنوا الحرب ضدنا وركبوا السيارات البيضاء ذات الدفع الرباعي وعليها علامة (الإخوان)، لترى هؤلاء الناس وتضربهم هناك قبل أن أنتظر ليأتوا ويضربوا أولادنا، كما فعل أنور السادات في معمر القذافي عندما شتم مصر وأعلن الحرب علينا، فأرسل إليه طائرات تضربه، وساعتها قال السادات: (ولادي يؤدبون الولد المجنون اللي هناك)، قاصدا القذافي دون أن تعترض دولة واحدة في العالم. فجماعة بيت المقدس تغيرت 180 درجة وتحولت من مقاومة الاحتلال ونصرة بيت المقدس إلى محاربة مصر».
من ناحية أخرى، كشف القيادي الإخواني المنشق أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الإسلامية، لـ«الشرق الأوسط»، عن أن «أنصار بيت المقدس» جماعة ناتجة عن تزاوج بين مائة عنصر من عناصر ألوية الناصر صلاح الدين وعناصر جماعة التوحيد والجهاد التي كانت تدعى سابقا «التكفير والجهاد».
وأوضح أن «(ألوية صلاح الدين) كانت تستهدف إسرائيل وتطلق الصواريخ عليه، حتى دخلت حماس في التهدئة مع الإسرائيليين وتحفظت كيانات كانت تمارس المقاومة ومنها (ألوية الناصر صلاح الدين)، حيث خرج منها 100 عنصر اعترضوا على التهدئة وقرروا نقل المعركة من غزة إلى سيناء، وتسللوا إليها ليرتبطوا بجماعة التوحيد والجهاد التي غيرت وجهتها من التكفير للتوحيد أثناء وجود بعضهم داخل السجون في أعقاب حادث طابا وشرم الشيخ عام 2004، وعندما تلاقيا معا كونا جماعة أنصار بيت المقدس التي تنتمي إليها (كتائب الفرقان) إحدى أذرعها التي تمارس العنف بتقنيات أعلى، من خلال استخدام أسلحة الـ(آر بي جي) والطائرات، وهي التي استهدفت محطة القمر الصناعي بمنطقة المعادي في القاهرة».
وحول طبيعة العلاقة بين «أنصار بيت المقدس» وجماعة الإخوان، أوضح أحمد بان أنه «بصرف النظر عن وجود صلات عضوية صارمة وواضحة بين (أنصار بيت المقدس) و(الإخوان)، أو أن الأمر لا يعدو كونه شكلا من أشكال تلاق للمصالح بينهما في إسقاط الدولة المصرية - إلا أننا نرى أن حجم عمليات (بيت المقدس) أكبر من قدراتها كتنظيم، ليس فقط في العنصر البشري أو الأسلحة المستخدمة، وإنما هناك مسألة أخرى تتعلق بنقل هذه الأسلحة ورصد أماكن التفجير وتحديد مواعيد العمليات، ومن ثم فإن جماعة أنصار بيت المقدس تحظى بمن يحتضنها ويساعدها في استهداف الأماكن»، وهو ما عده المنشق الإخواني أحمد بان مؤشرا على وجود تعاون بين «الإخوان» و«أنصار بيت المقدس»، في إطار عملية توزيع الأدوار، مشيرا إلى أن «جماعة الإخوان تعمل على إنهاك الجيش والشرطة من خلال المظاهرات واستنزاف مقدرات الدولة من جانب، بينما تقوم جماعة أنصار بيت المقدس بالعمليات الإرهابية ليصب كله في النهاية في صالح خطة واحدة لإنهاك وإخضاع الدولة المصرية وجيشها وكسره. وهو ليس تنظيما بالمعنى، بل يتكون من مجموعات صغيرة العدد ولا توجد بينها علاقة تنظيمية واضحة بقدر ما يوجد بينها من رابط عقدي وآيديولوجي. وفي الوقت نفسه، ينفي بان وجود علاقة مؤكدة مع حماس، مشيرا إلى أن «أعضاء بيت المقدس هم ممن انقلبوا على حماس واعترضوا على التهدئة مع الصهاينة، بدليل أن حماس ضربت مسجدا للسلفية الجهادية لتأكيد احترامها لاتفاقها مع إسرائيل».
وحول الجانب الأمني، أكد بان أن «الأجهزة الأمنية بحاجة إلى رسم خريطة معلومات محدثة، لأن التحدي الحقيقي هو اعتماد الأمن على خريطة لم يجر تحديثها، بعد أن طرأت جماعات جديدة على جماعات العنف الإسلامي». ولفت النظر إلى خطورة الدور الخفي للمخابرات الأجنبية، وخاصة الإسرائيلية، التي توجه جماعات العنف هذه تجاه تحقيق مصالحها، مؤكدا أن «الموساد» يخترق هذه الجماعات من خلال عناصر لواء المستعربين الذين دخلوا لسيناء منذ أربعين سنة واستوطنوا أرضها وعاشوا كسيناويين لهم بطاقات رقم قومي مصرية رغم علاقاتهم القوية بـ«الموساد». ويتوقع بان أن يستمر العنف لمدة عام كامل إضافي، مشيرا إلى أن العامل الحاسم في المسألة هو قدرات النظام الجديد في سحب مجموعة من الرافضين لإحداث توازن ونقص في حجم الكتلة الشعبية التي تمثل دعما معنويا لهذه الجماعات.
على صعيد آخر، قال الدكتور عمرو الشوبكي، الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، لـ«الشرق الأوسط»، إن جماعة أنصار بيت المقدس جماعة تستخدم نفس تكتيك الجماعات التكفيرية المتأثرة بـ(القاعدة) في استخدامها العمليات الانتحارية، وأنها في ذلك تختلف عن العنف الذي كانت تمارسه جماعات الجهاد الذين كانوا يستهدفون النظام القائم، على عكس جماعة بيت المقدس التي تعد جزءا من حالة فلسطينية إقليمية مرتبطة بنموذج (القاعدة)، لا يتجاوز عددهم المائة من القيادات، لكنهم يستطيعون زيادة العدد من خلال توظيف المزيد وتجنيدهم بالمال أو الخطاب، وقد ساهمت الحالة الإقليمية أيضا وما يحدث في سوريا والعراق في دعم مثل هذه الجماعة».
ونفى أيضا أن تكون هناك روابط عقدية بينها وبين جماعة الإخوان، على اعتبار أن الأولى تكفيرية لا تتردد في رفع دعاوى تكفير النظم وتبرير العنف فقهيا. أما جماعة الإخوان، فهم ليسوا كذلك حتى لو مارست قياداتهم العنف نتيجة الصراع على السلطة.
وأضاف أنه «مع ذلك، فهذا لا يمنع (الإخوان) من دعمها لجماعة بيت المقدس لاعتبارات السياسة»، وقال الشوبكي إنه «في عهد مرسي، تركت جماعة أنصار بيت المقدس تمرح وتصول وتجول في سيناء، وكانت تعد ظهيرا لدعم (الإخوان)، أو لنقل إن (الإخوان) تعاملوا معها كأنها مخزون استراتيجي يمكن أن يستخدم لصالحهم لو تطلب الأمر وتركت لها حرية الحركة من خلال فتح الأبواب والمعابر. وبعد سقوط (الإخوان) والرئيس مرسي، تواصلت قيادات بمكتب الإرشاد لجماعة الإخوان بمصر مع جماعة أنصار بيت المقدس وقدموا لها دعما ماديا ومعنويا ولوجيستيا، وأصبح هناك ما يشبه التنسيق فيما بين (الإخوان) وجماعة بيت المقدس، فهما ليسا جماعة واحدة من الناحية التنظيمية، ولكنهما متقاربان من حيث التوظيف السياسي. ولا شك في أن هذه الجماعة تغلغلت نتيجة الاختراقات الأمنية خلال حكم مرسي، خاصة في شبه جزيرة سيناء، ولكن هناك تعامل أمني معها ومحاولات لمواجهتها».
وحول الخريطة الإرهابية ومدى تغيرها في المنطقة بظهور بيت المقدس في مصر، أكد الدكتور عمرو الشوبكي أن «خريطة الجماعات المتطرفة تغيرت ولو جزئيا، والدليل مظاهر العنف الذي ما زال موجودا في سيناء، وهو يختلف عما كان يقوم به تنظيم الجهاد و(الجماعة الإسلامية) من عمليات والذين انتهي عصرهم، ولذلك لا بد من رسم خريطة جديدة للجماعات المتطرفة في مصر، على أن يبدأ التأريخ لها منذ أحداث طابا عام 2004 ليتعاظم تأثيرها مع عهد الرئيس مرسي».
القيادي الإخواني المنشق خالد الزعفراني صرح لـ«الشرق الأوسط» بأن «(أنصار بيت المقدس) ما هي إلا اندماج لمجموعة من الجماعات المتطرفة التي وحدها القيادي الإخواني خيرت الشاطر للاستقراء بها»، وقال إنه «كانت هناك جماعات تكفيرية في سيناء مثل (التوحيد والجهاد) التي أسسها طبيب أسنان مصري يدعى خالد مساعد وقد قتل في مواجهات مع الشرطة وكان ضمن المشاركين في تفجيرات طابا، وقد التقى جماعة (الناجين من النار) لتكوين جماعة إرهابية في سيناء، وقد أسقطوا طائرة لمسؤول كبير في جهاز أمن الدولة بسيناء، وجرى علاجه في ألمانيا في أواخر عهد مبارك. كما كانت هناك جماعة الفرقان التكفيرية في سيناء، وهي جماعة لها نوع من الوجود في غزة وعناصرها مصريون وفلسطينيون. هذا بالإضافة إلى بعض الجماعات السلفية الجهادية التي تحمل فكر التكفير القطبي عن أتباع سيد قطب، إلى جانب بعض جماعات أهل السنة الذين كانوا يعملون كظهير فكري للجماعات التكفيرية المتطرفة، وكانت مهيأة لمدهم بأي عدد من الأفراد، ولكنهم كانوا أوشكوا على التلاشي في أواخر عهد مبارك. لكن مع ثورة يناير، عاد تيار التكفير القطبي ينتشر بسيناء والإسكندرية والدلتا، وظهروا في مختلف الأماكن، بل أصبحت لهم جمعيات مشهرة رسميا في وزارة الشؤون الاجتماعية المصرية. ثم قام خيرت الشاطر بجمع هذه الجماعات تحت اسم (أنصار بيت المقدس) لجعلهم قوة داعمة لهم. وقد ظهرت السلفية الجهادية على يد مؤسسها الفلسطيني عبد اللطيف موسى الذي كان يدرس بالإسكندرية، قبل أن يعود إلى غزة وينقلب هو وبعض أنصاره على حماس حتى طاردتهم في أحد المساجد وقتلتهم، ليهرب الباقون ويكونوا جماعة أنصار بيت المقدس فيما بعد، حيث تواصل خيرت الشاطر ومحمد الظواهري وجعل جماعة أنصار بيت المقدس كلها موحدة تحت راية (القاعدة) وبرعاية الشاطر والظواهري».
ولا شك في أن طبيعة التضاريس بسيناء ووجود الأسلحة القديمة من أيام الحروب في المنطقة ساعدا هذه الجماعات التي كادت تتلاشى حتى جاء حكم «الإخوان» وعادوا يتصدرون المشهد بكل وضوح، لدرجة أنهم حضروا اجتماع سد النهضة مع الرئيس مرسي قبل حضورهم جميعا مؤتمر دعم سوريا في أخريات عهد مرسي.
ويكشف الزعفراني لـ«الشرق الأوسط» عن أن «الرئيس مرسي أطلق يد هذه الجماعات بشكل كبير، لدرجة أن الأوامر كانت تخرج من جماعة الإخوان لـ(الحرس الجمهوري)، وكانت هناك اجتماعات يحضرها هؤلاء المتطرفون دون أن تستطيع قيادات أمنية الدخول!». وقال الزعفراني إن الرئيس مرسي وجه له الدعوة مع كرم زهدي وناجح إبراهيم في إحدى زياراته للإسكندرية، ويؤكد أنه فوجئ بأن جماعة الإخوان هي المتحكمة وأن الأجهزة الأمنية تكاد تحضر بـ«العافية»، على حد قوله.
وأوضح الزعفراني أن «الهجوم على جهاز أمن الدولة وحرق المستندات وتسريح عدد كبير من الضباط لأعمال إدارية، في الوقت الذي كان يختص فيه الجهاز بملفات العنف والتطرف، هو ما أدى إلى أن هذه الجماعات لم تعد متابعة وظهر ظهيرها الفكري على السطح، كما جرى الإفراج عن كثير من رموز التكفير. ولا شك في أن (الإخوان) أخطأوا بهذه التصرفات، فإذا كانوا يريدون احتواء الجماعات المتطرفة فما حدث هو العكس، حيث غرق (الإخوان) في أفكارهم وهو ما أدى إلى إسقاطهم».
وفي تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، أكد اللواء فؤاد علام، وكيل جهاز أمن الدولة المصري سابقا، أن «جماعة أنصار بيت المقدس وغيرها من الجماعات الإرهابية جرى تجميعها بمعرفة جماعة الإخوان في عهد مرسي، وهم يمثلون تطورا خطيرا في الجماعات المتطرفة عن الجماعات السابقة، من حيث تسليحهم وخططهم وتدريباتهم واستخدامهم السيارات المفخخة والأسلحة المتطورة والصواريخ المضادة للدبابات والطائرات واللجوء للعمليات الانتحارية، ويرجع هذا التطور النوعي في الجماعات الإرهابية إلى حكم (الإخوان)، لأنهم فتحوا قنوات مع حماس ومع التنظيمات الإرهابية في غزة ومع (القاعدة) وأفغانستان».
ويؤكد علام أن فترة الانهيار الأمني التي حدثت في ثورة يناير ولمدة أكثر من عام، حسب قوله، هي السبب في فتح الحدود وزيادة التهريب، وقال إنه «خلال عهد مرسي، كان يجري منع سلطات الأمن من اتخاذ أي إجراءات ضد الإرهابيين، كما حدث عندما أوقف العملية (نسر) في سيناء، كما ساهم غياب المعلومات وتوقف اختراقات أجهزة أمن الدولة لهذه الجماعات في زيادة استفحال خطر الإرهاب وظهور جماعات مثل بيت المقدس وغيرها، لأنها ليست وحدها التي تمارس الإرهاب، فهناك جماعات كثيرة تحتاج لمواجهتها بمنظومة متكاملة لا تقتصر على الأمن فقط، بل تتضمن أيضا المحور السياسي والثقافي والإعلامي والديني والاجتماعي، ويأتي الجانب الأمني في النهاية، وعندما تكتمل هذه المنظومة يمكن القضاء على الإرهاب ونختصر وقتا طويلا في مواجهته، أما لو ترك الأمر للأمن فقط، فلن يقضى على جماعة أنصار بيت المقدس وغيرها، وربما ستزداد الحالة سوءا».



«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

TT

«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)

يطلب مسؤول أمني رفيع في الحكومة العراقية من سائق السيارة أن يسرع قليلاً. عليه اللحاق بطائرة تعيده من دمشق إلى بغداد. واحدة من الرسائل تتدفق إلى هاتفه تقول: «الفصائل السورية في طريقها إلى العاصمة». في مساء يوم السبت السابع من ديسمبر (كانون الأول) 2024 كان المسؤول قد أنهى مهمة روتينية شمال شرقي سوريا، لتنسيق أمن الحدود، لكن البلاد الآن على وشك أن تكون بيد نظام جديد، يشع من أنقاض.

على أسوار دمشق، كانت سيارة المسؤول العراقي تنتظر «ترتيبات استثنائية» مع السلطات الجديدة في سوريا. ونشأت بين الجانبين «اتصالات من عدم».

يقول مسؤول سوري سابق في «إدارة العمليات العسكرية» إنها «المرة الأولى التي تواصلت فيها (هيئة تحرير الشام) مع مسؤول في الحكومة العراقية». ويقول عنصر أمن عراقي كان حاضراً في الترتيبات إن «الأمر تم بسلاسة غير متوقعة حينها، ودخلنا دمشق» رفقة عناصر من «الهيئة» صباح الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. ثم وصلت رسالة مثل الصاعقة: «هرب (بشار) الأسد».

مطار دمشق بعد سقوط نظام الأسد (أرشيفية-أ.ف.ب)

كان مطار العاصمة السورية مسرح أشباح. حتى ضباط «لواء النقل الجوي» الذين يعرفهم المسؤول العراقي اختفوا. لا أحد يسأل عن تذكرة أو جواز سفر. الممر الخاص بالدبلوماسيين مشرع للرياح. غادر الرجل على متن رحلة استثنائية إلى بغداد.

خلال النهار، تحلق الطائرة وعلى متنها المسؤول الأمني مع حقيبة أسئلة عن سوريا الجديدة. في مسار الرحلة ذاتها، لكن على الأرض، تغادر ميليشيات عراقية كانت تتمركز في سوريا منذ عام 2011. العجلات التي تحركت من ريف دمشق نحو بلدة البوكمال، قرب الحدود العراقية، قطعت رحلة أخيرة باتجاه واحد لمئات المسلحين، تاركين خلفهم خمسة عشر عاماً من «محور المقاومة» ينهار الآن مثل جبل من رمال.

تكشف شهادات خاصة جمعتها «الشرق الأوسط» من شخصيات عراقية ضالعة في الملف السوري قبل هروب الأسد كيف انسحبت ميليشيات من سوريا دون تنسيق، أو ترتيبات مسبقة، وما دار في الكواليس حول رؤيتها لما حدث، وأظهرت لاحقاً أن طهران وموسكو والأسد كانوا قد اتخذوا قرارات عدم القتال في سوريا في أوقات متباعدة، ولم يشاركوا المعلومات المطلوبة مع حلفاء عراقيين إلا في وقت متأخر.

كما تسلط الشهادات الضوء على ردود فعل مجموعات شيعية في أعقاب انهيار نظام الأسد، وصلت إلى المطالبة بتقوية نفوذ الفصائل المسلحة في العملية السياسية العراقية، وتعزيز ما بات يعرف بـ«الحاكمية الشيعية» في بغداد، حتى «تستوعب صدمة أولئك الذين تركوا سوريا».

الرئيس السوري بشار الأسد يصافح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في دمشق (أرشيفية)

«ليست مناورة... تم خداعنا»

في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بعد ثلاثة أيام من بدء «ردع العدوان»، أجرى رئيس الحكومة العراقية محمد السوداني مكالمة مع بشار الأسد. يومها كانت فصائل المعارضة السورية قد سيطرت على ريف حلب. وقال السوداني للأسد إن «أمن سوريا يرتبط بالأمن القومي للعراق». في اليوم التالي حاصرت المعارضة حماة. ولم يتصل السوداني بالأسد مرة أخرى.

في نينوى، المحافظة الشمالية القريبة من الحدود مع سوريا كان قادة فصائل شيعية يحاولون إرسال الدعم إلى سوريا، لأنه «مع تحرك الفصائل السورية كان عدد المسلحين الموالين لإيران أقل بكثير عما كانوا قبل سنوات». يقول مسؤول فصائلي في نينوى أيضاً إنهم «أخبروا المقاتلين أن عليكم حماية الشيعة والمراقد في سوريا، وكثيرون تحمسوا».

ويقول كاظم الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء» التي انخرطت في الميدان السوري منذ عام 2013، إن فصيله انسحب من هناك أواخر 2023. ويضيف: «كانت مهمتنا قد انتهت».

أرشيفية لعناصر حركة «النجباء» التي كانت تنشط في شرق سوريا خلال عرض عسكري في بغداد

حتى عام 2018، ازدحمت سوريا بأكثر من 150 ألف مقاتل من «الحرس الثوري» الإيراني، وعناصر «حزب الله» اللبناني، وميليشيات عراقية، وفق تقديرات أمنية عراقية وسورية. بدا أن الجيش التابع للنظام السوري السابق أقل حجماً من كل الحشود الأجنبية. وبحلول ديسمبر 2023 حدث شيء ما، وسمح «الحرس الثوري» الإيراني بمغادرة مجموعات شيعية بعد مشاورات مع الأسد. قيل على نطاق واسع إن «صفقة إقليمية قادت إلى هذا التحول الميداني».

مع انسحاب جزء من الميليشيات الإيرانية وحلفائها من سوريا عام 2023، كان نظام بشار الأسد يحاول استعادة مقعده في الجامعة العربية. وتطلب ذلك منه الكثير من الوقت حتى يمهد لاندماج شبه مستحيل مع العالم العربي، لم ينجح في النهاية.

ومع بدء عمليات «ردع العدوان» في نوفمبر 2024، تقلص عدد الجماعات الإيرانية في سوريا إلى بضعة آلاف، لكن عودة الأسد لم تكتمل.

مع تحرك فصائل المعارضة نحو دمشق، كان الشعور السائد بأن الجماعات الشيعية تتحرك لسد نقص لم تنتبه إليه. في الثاني من ديسمبر 2024، تسلل العشرات من المسلحين ليلاً عبر طريق عسكري غير رسمي إلى الأراضي السورية، وأوقف طيران أميركي طريقهم بقصف أرتال قرب البوكمال. بعد ذلك، كان واضحاً أن الذين تحمسوا لدخول سوريا تراجعوا عن الفكرة.

في صباح اليوم التالي سيطرت قوات المعارضة السورية على 14 بلدة في حماة، وباتت تتفرغ لمعركة حمص. يومها أعلنت كتائب «حزب الله» العراقية أن «الوقت مبكر لاتخاذ قرار إرسال الدعم العسكري إلى سوريا».

ويقول مسؤول في فصيل شيعي مسلح إنه سأل مرؤوسيه في بغداد عن «عمليات ردع العدوان» في أيامها الأولى. قالوا له: «اطمئن... قد تسقط سوريا (بيد المعارضة)، لكن دمشق باقية (يقصد بيد الأسد)». ويضيف: «بعد أسبوع، لم نستوعب ما حدث».

قبل وصول المعارضة السورية إلى حمص، كانت المجموعات الشيعية ترجح أن الأمر سيتوقف هناك. يقول قيادي في فصيل شيعي إن «تقارير استخبارية اطلع عليها مسؤولون في جهاز الأمن الوطني العراقي، وقيادة الحشد الشعبي، وقادة فصائل، أفادت بأن الروس والإيرانيين سيوقفون زحف المعارضة، وأن مدينة حمص ستكون النقطة الفاصلة».

لم يستخدم الروس تفوقهم الجوي إلا بشكل محدود. ومع تحرك فصائل المعارضة من حماة باتجاه حمص في 6 ديسمبر 2024، كانت طائرات يُعتقد أنها روسية ضربت جسر «الرستن» الرابط بين المدينتين بقوة تدميرية لا تمنع عبور الأرتال.

لاحقاً، أظهرت لقطات مصورة من الجو أن الروس احتفظوا بطائرات سوخوي المزودة بالصواريخ في قاعدة حميميم دون استخدامها، وعبرت فصائل المعارضة الجسر إلى حمص التي أضحت محررة بالكامل بحلول فجر 7 ديسمبر 2024.

لقطة من فيديو لقناة «سوريا» تظهر طائرات حربية روسية رابضة في قاعدة حميميم باللاذقية خلال عمليات «ردع العدوان«

الآن، بات كثيرون من «محور المقاومة» أكثر قناعة بأن الزحف السريع للفصائل ليس مجرد مناورة. يقول القيادي الشيعي إنهم في تلك اللحظة فهموا أن «الإيرانيين شاركوا معنا مواقف متضاربة (...) ربما تم خداعهم».

لقد بقي السؤال عن أدوار طهران وموسكو غامضاً. لم تمتلك فصائل شيعية أجوبة حاسمة في الأشهر القليلة التي تلت هروب الأسد. اليوم، يعتقد الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء»، أن «الموقف الروسي والإيراني لم يتغير إلا بعد أن تراجع نظام الأسد، وانهارت القوى الماسكة للأرض، وتحولت المعركة إلى مواجهة مع شعب»، وفق تعبيره.

لكن مصادر من فصائل كانت نشطة في سوريا منذ عام 2013 تحدّثت عن «قرار اتخذته إيران مبكراً بعدم خوض معركة في سوريا بسبب حسابات إقليمية أشد تعقيداً». تقول المصادر إن «إيران لم تكن متأكدة من نتائج لصالحها في حال واجهت زحف المعارضة، لأنها اكتشفت متأخرة أن موسكو باتت تتصرف لوحدها في سوريا».

في النهاية، بدا أن أقطاب التحالف بين موسكو وطهران والأسد ينفصلون عن بعضهم، ويتخذون قرارات ميدانية متباعدة، سمحت بتقدم سريع للمعارضة، وهروب أسرع للأسد. لكن الأكيد من وجهة نظر القيادي الشيعي أن «الجماعات العراقية لم تكن في صلب نقاشات أفضت إلى ما حدث في النهاية».

في تلك اللحظة، كان أكثر من عشرة فصائل عراقية قد أمضت أكثر من عشر سنوات في الجبهة السورية، تورط خلالها آلاف المسلحين في بحر من الدماء.

و«تدور الدوائر»

في السادسة فجراً، يوم 8 ديسمبر 2024، كتب رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبد المهدي رسالة عبر «إكس» قال فيها: على الباغي تدور الدوائر. ثم طغت أجواء الصدمة على القوى السياسية الشيعية في بغداد.

يومان بعد التحرير، تكون جميع الفصائل قد غادرت الأراضي السورية، والأسد في موسكو. في 12 ديسمبر 2024، ظهر نوري المالكي وهو زعيم «ائتلاف دولة القانون» وكان حليفاً قوياً للأسد لسنوات، ليصرح بأن «الهدف مما حدث في دمشق هو تحريك الشارع في بغداد». وانفجر الرأي العام بالأسئلة عما حدث.

حاول المجتمع السياسي الشيعي في بغداد استيعاب الصدمة، ونشطت في الكواليس نقاشات عن «مستقبل الشيعة في العراق»، طغى عليها ارتباك شديد، وفق شهادات أشخاص شاركوا في اجتماعات خاصة عقدت في الأسابيع التي تلت هروب الأسد.

وتحدث هؤلاء أن صناع قرار شيعة لم يجدوا أجوبة عما حدث في سوريا، ودور إيران فيه، وواجه كثيرون صعوبات في الإجابة عن سؤال كيف سيتغير العراق والمنطقة بعد الأسد؟.

يقول أحد المشاركين في جلسة خاصة عقدت في يناير (كانون الثاني) 2025 إن الأزمة في سوريا لا تتعلق بهروب الأسد، وانكسار «محور المقاومة»، بل إنها بالنسبة لـ«العراقيين الشيعة تتعلق بإعادة تعريف دورهم بعد سقوط تحالفات وتوازنات قديمة».

جانب من أحد اجتماعات قوى «الإطار التنسيقي» (وكالة الأنباء العراقية)

وظهرت أعراض جانبية لهذه النقاشات الصعبة على الجماعات الشيعية. وروّج كثيرون من بيئة «المقاومة» لمشروع «الفيدرالية الشيعية» التي تمتد من سامراء إلى البصرة، على بحر من نفط. سرعان ما اضمحلت الفكرة مثل رماد بارد.

وتصاعد حديث جاد عن «الحاكمية الشيعية». يقول قيادي في فصيل مسلح إن «القوى الشيعية كانت تركز خلال الأشهر الماضية على تقوية الوضع الداخلي، وتعزيز حضورها في الحياة السياسية، وهذا ما يفسر المشاركة الفاعلة في الانتخابات التي أجريت في 11 نوفمبر 2025، وفوز فصائل مسلحة بمقاعد في مجلس النواب الجديد».

يبدو أن جميع الذين قاتلوا في سوريا فازوا بمقاعد في البرلمان الجديد. لقد حصلت حركة «عصائب أهل الحق» بزعامة قيس الخزعلي على 28 مقعداً داخل البرلمان، وفازت منظمة «بدر» بزعامة هادي العامري بـ18 مقعداً، وحصلت كتلة «حقوق»، التابعة لـ«كتائب حزب الله»، على ستة مقاعد، بينما حصلت قائمة تابعة لـ«كتائب الإمام علي» على ثلاثة مقاعد، وحصل تحالف «خدمات» بزعامة شبل الزيدي على تسعة مقاعد.

ويطرح هؤلاء اليوم مشروعاً انتقالياً يقوم على أدوار شيعية جديدة، يتقدمه طموح متنامٍ لدى قادة مثل قيس الخزعلي لصياغة مظلة تحمي الجماعات الشيعية من التفكك عبر حضورٍ أثقل في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية معاً.

وفي مارس (آذار) 2025، سئل الخزعلي عن سوريا الجديدة. وقال إن «الدولة العراقية من واجباتها ومن مصلحتها أن تتعامل معها ما دامت تلك الدول والحكومات تمثل دولها».

ويقول قيادي شيعي إن لحظة هروب بشار الأسد لم تكن حدثاً في سوريا بقدر ما كانت زلزالاً في الوعي الشيعي داخل العراق؛ إذ دفعت الجميع إلى إعادة التفكير في شكل التحالفات التي حكمت الإقليم لأعوام طويلة. لكن خلف هذا التحول تبرز أسئلة معلّقة، وشكوك حول «مستقبل النظرية الإيرانية ذاتها» بعدما بدأت تتعرّض لاختلال كبير بعد أربعة عقود من النفوذ المتواصل في المنطقة. يقول القيادي إن «الجواب لم ينضج بعد».


سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
TT

سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

مع مرور عام على إطاحة نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024، تتابع أوساط سياسية وبحثية أميركية تطورات السلطة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. ويشير هؤلاء إلى مساعي دمشق لتوطيد العلاقات بالمجتمع الدولي، في وقت تواجه فيه تحديات داخلية تشمل الاستقرار السياسي، وإعادة بناء الاقتصاد، فضلاً عن تحديات خارجية تتعلق برفع العقوبات ومكافحة الإرهاب.

وثمة إجماع بين أوساط أميركية معنية بالملف السوري على أن سقوط الأسد فتح نافذة تاريخية لإعادة بناء البلاد، لكن النجاح يعتمد على ترسيخ نموذج مستقر.

ويرى الخبراء أن الشرع «حقق تقدماً مذهلاً في عام واحد؛ من إنهاء الحرب، إلى الانخراط الدولي، لكنه يحتاج إلى مزيد من الإصلاحات لتجنب احتمالات الفوضى».

ويقول ستيفن كوك، الزميل الأول في «مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا» بـ«مجلس العلاقات الخارجية»، إن «لقاء الشرع مع الرئيس (الأميركي) دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 يمكن أن يكون منطلقاً لبدء عمل جاد وواعد في سوريا»، مشيراً إلى أن «رفع واشنطن العقوبات يتزامن مع إظهار دمشق مساعيَ جادة للقيام بإصلاحات سياسية؛ أهمها في (التعامل مع الأقليات ومكافحة التطرف)»، لكنه يحذر بأن «الحكم في بلد مفلس وممزق سياسياً يظل سؤالاً مفتوحاً».

ويشير كوك، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الانتخابات البرلمانية المحدودة التي جرت في 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 (التي غطت 119 مقعداً من 210)، كانت «خطوة رمزية مهمة»، لكنها لم تشمل مناطق الدروز والكرد؛ مما قد يعكس «هشاشة الانتقال»، داعياً إلى توسيع الممارسة لتجفيف منابع الانقسام.

الرئيس السوري أحمد الشرع يحضر بدمشق حفل توقيع مذكرة تفاهم للاستثمار في سوريا يوم 6 أغسطس 2025 (رويترز)

تغيير الشرق الأوسط

يشيد آرون زيلين، الخبير في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، بجهود الشرع في مكافحة «داعش»، ويقول إن لديه فرصة لإحداث تأثير إيجابي في منطقة الشرق الأوسط، لكنه نصح الحكومة السورية الجديدة بالتركيز على تفكيك فصائل مسلحة في البلاد.

وعدّ زيلين تصريحات الشرع الإصلاحية بشأن بناء مؤسسات الدولة علامة إيجابية على توجهات حكومته، رغم قلقه من أن الاقتصاد المدمَّر يهدد الاستقرار في سوريا، لا سيما مع التقديرات التي تفيد بأن تكلفة إعادة إعمار البلاد قد تصل إلى 216 مليار دولار.

بدوره، يقول إدوارد جيريجان، مدير «مركز بلفير للعلوم والشؤون الدولية» بجامعة هارفارد، إن الشرع يواجه «اختباراً لإعادة التوحيد» في بلاد متعددة الطوائف والإثنيات، ويوصي بـ«تعزيز الثقة الداخلية» عبر إصلاحات أمنية موحدة.

ويبدي المحلل الأميركي سيث فرانتزمان تفاؤلاً كبيراً بمستقبل سوريا، عادّاً الشرع «رجلاً مثيراً للإعجاب ومغيراً للعبة»، ويصف التحول في سوريا في أقل من عام بـ«الجنون المطلق»؛ بالتحول من دولة منبوذة إلى دولة بفرص واعدة ومدعومة من الغرب ولاعبين وازنين في الخليج العربي والمنطقة.

ورأى الشرع، في تصريح أمام «منتدى الدوحة» يوم 6 ديسمبر 2025، أن سوريا تسير في الاتجاه الصحيح، بعدما تحولت من منطقة مصدرة للأزمات إلى نموذج للاستقرار، مشيراً إلى أن البلاد «تحتاج الآن إلى بناء مؤسسات مستقرة؛ وهو ما يضمن استمرارية عادلة لبناء الدولة».

الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي خلال توقيع اتفاق دمج «قسد» في الجيش السوري بدمشق يوم 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

صراعات داخلية

ويقول فرانتزمان إن زيارة الشرع التاريخية إلى البيت الأبيض في نوفمبر 2025 تعدّ «محوراً مهماً لإعادة بناء سوريا المحطمة»، بالتزامن مع رفع الشرع من قائمة العقوبات الأميركية، وتجديد تعليق «قانون قيصر».

ويشيد معظم التحليلات بالشرع لتحقيقه تقدماً ملموساً في الاستقرار الداخلي، لكن التحذيرات تتعلق بالصراعات الداخلية التي قد تذكي أعمال عنف أو فوضى. أما خارجياً؛ فتشيد تقارير أميركية بحرص الشرع على توجيه بلاده نحو الغرب، وانضمامها إلى «التحالف الدولي ضد (داعش)»، حيث يشيد مركز «بروكينغز» بعلاقات الرئيس السوري بتركيا والولايات المتحدة، بوصفها مفتاحاً للاستقرار، محذراً من السماح بعودة نفوذ روسيا وإيران.

وكان الشرع قد أقر، خلال حضوره مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»، بالرياض، في 29 أكتوبر 2025، بأن هناك مخاطر استراتيجية ارتبطت بالفترة السابقة تسببت في خلق حالة من الاضطراب والقلق لبعض دول العالم.


الصعود التركي في سوريا... من المواجهة إلى التحالف

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
TT

الصعود التركي في سوريا... من المواجهة إلى التحالف

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)

تشكلت في الأسابيع الأولى لسقوط نظام بشار الأسد في سوريا قناعة بأن تركيا لعبت الدور الأكبر في الوصول «السلس» لفصائل المعارضة إلى دمشق في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، وتعزز ذلك مع دعم أنقرة السريع للإدارة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، وتقديم نفسها بوصفها أحد «الرعاة الأساسيين» في مرحلة ما بعد الأسد.

كانت تركيا أول دولة ترسل مسؤولاً رفيع المستوى إلى سوريا للقاء الشرع في «قصر الشعب»، إذ زار رئيس مخابراتها، إبراهيم كالين، دمشق يوم 12 ديسمبر 2024، وتوجه للصلاة في الجامع الأموي، ليبدو أنه حقق وعد الرئيس رجب طيب إردوغان، في الأيام الأولى للثورة السورية في 2011، عندما قال سينهار نظام الأسد بأسرع وقت و«سندخل دمشق ونصلي في الجامع الأموي».

وأوحت تصريحات لوزير الخارجية هاكان فيدان بأن تركيا هي من لعبت الدور الرئيسي في سقوط الأسد وفتح الطريق أمام الشرع إلى دمشق، عندما قال، بعد أيام قليلة، إن أنقرة أقنعت روسيا وإيران، خلال الاجتماع بصيغة «آستانة»، على هامش «منتدى الدوحة» في 7 و8 ديسمبر 2024 بعدم التدخل.

من وجهة نظر فيدان، كان «نظام بشار الأسد ضعيفاً للغاية خلال العامَين أو الأعوام الـ3 الماضية، مع مقاومة نسبية في بعض الأماكن، لكن المعارضة دخلت حلب دون إطلاق نار تقريباً. مع ذلك، لو كرر الروس والإيرانيون رد فعلهم في عام 2016، لكان الشعب السوري قد واجه خطر المزيد من إراقة الدماء والنزوح».

وعندما سُئل فيدان: «كيف أقنعتم روسيا بعدم الوقوف إلى جانب الأسد؟». أجاب بكلمة واحدة: «تحدثنا».

إسرائيل قصفت مطار حماة العسكري في مارس الماضي على خلفية تقارير عن استخدامه من جانب تركيا في نقل مواد لوجيستية ومعدات لإقامة قاعدة جوية في حمص (أ.ف.ب)

تقييم الحصاد

في 16 أغسطس (آب) 2025 عقدت مجموعة التنسيق بين المؤسسات التركية اجتماعاً برئاسة نائب وزير الخارجية نوح يلماظ، الذي أصبح الآن سفيراً لتركيا في دمشق، أُجريت خلاله مراجعة شاملة للعلاقات مع سوريا والخطوات التي ستُتخذ خلال الفترة المقبلة لتعزيزها وتنفيذ الاتفاقات التي توصل إليها الجانبان في مختلف المجالات.

خلال الأشهر الـ8 الأولى بعد سقوط الأسد، وعبر تحركات مكثفة، كانت تركيا أول دولة تعيد فتح سفارتها في دمشق، إضافة إلى قنصليتها في حلب، كما وقعت في 12 أغسطس مذكرة تفاهم للتعاون العسكري والتدريب والاستشارات.

وتحركت تركيا على المستوى الثنائي والإقليمي لدعم حكومة الشرع في مكافحة تنظيم «داعش»، وإقناع الولايات المتحدة بمنظور جديد يجعلها تتخلى عن دعمها لـ«قسد» التي تشكل «وحدات حماية الشعب» (الكردية) عمودها الفقري، في السيطرة على شمال شرقي سوريا، بعد التحالف معها في الحرب على «داعش».

في هذا الإطار سعت تركيا إلى تشكيل تحالف يقوم على مبدأ «الملكية الإقليمية»، الذي يعني أن تقوم دول المنطقة بنفسها على حل مشاكلها دون تدخلات خارجية، وبدأت بالفعل جهوداً لتشكيل منصة خماسية تضمها مع كل من الأردن والعراق ولبنان إلى جانب سوريا، وعقد وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء المخابرات في الدول الخمس اجتماعاً في عمان في 9 مارس (آذار) الماضي، لكنه لم يسفر عن تأسيس آلية سعت إليها أنقرة.

نتيجة لذلك شكّلت تركيا آلية تنسيق مع سوريا عبر مركز عمليات مشترك في دمشق، لتأكيد دعمها للحكومة السورية في الحرب على «داعش».

وعقدت خلال الأشهر الـ10 المنقضية 3 اجتماعات لوزراء الخارجية والدفاع ورئيسي المخابرات في البلدين فضلاً عن الزيارات الثنائية المتبادلة على مستوى وزيري الخارجية، وزيارات رئيس المخابرات التركية لدمشق، كما زار الشرع تركيا 3 مرات في الفترة بين فبراير (شباط) وأغسطس.

على الصعيد الاقتصادي، أعادت تركيا تشغيل جميع البوابات الحدودية مع سوريا، وتم توقيع بروتوكول في أنقرة يوم 5 أغسطس الماضي، لإنشاء لجنة اقتصادية وتجارية مشتركة، وبدء دراسة إنشاء مناطق صناعية، بهدف إنعاش الاقتصاد السوري المتضرر من جراء الحرب وتعزيز التجارة بينهما. كما أعاد البلدان الجاران تأسيس مجلس الأعمال المشترك، الذي توقف عن العمل في 2011.

وتقول تركيا إنها تهدف إلى تجاوز عتبة ملياري دولار في صادراتها إلى سوريا بنهاية العام الحالي، مستغلة الزخم في العلاقات التجارية بينهما. واتخذت خطوات جديدة لتسهيل وتسريع التجارة مع سوريا، وتم الاتفاق على أن تصبح حلب مركزاً لوجيستياً قوياً في الفترة المقبلة.

جانب من لقاء ترمب ونتنياهو بالبيت الأبيض في يوليو 2025 (أ.ف.ب)

تنافس مع إسرائيل

في المقابل، تغيرت أهداف تركيا في سوريا عما كانت عليه خلال حكم بشار الأسد، فبعدما كانت تركز على تأمين حدودها مما تصفه بـ«تهديد (قسد)»، وإنشاء منطقة آمنة على حدودها الجنوبية بعمق يتراوح ما بين 30 و40 كيلومتراً، تسعى اليوم إلى إزالة هذه المجموعة الكردية من المعادلة السورية، عبر ترك أسلحتها والاندماج في مؤسسات الدولة، وإقناع الولايات المتحدة بوقف دعمها لها عبر عرض قيام إدارة سورية جديدة بحراسة سجون «داعش»، ودعمها في هذا الأمر. وزادت على ذلك بالسعي لدى الولايات المتحدة لملء الفراغ، حال انسحاب القوات الأميركية.

لقد أظهرت تحركات تركيا في الواقع السوري الجديد سعيها لملء الفراغ العسكري من خلال العمل على إنشاء قواعد برية وبحرية وجوية في وسط سوريا وعلى سواحلها عبر نموذج يشبه تدخلها في ليبيا بعد القذافي، كما تردد من خلال وسائل إعلام، والانفراد بأكبر دور في الاقتصاد السوري وإعادة الإعمار والتدخل في جميع المجالات من الصحة إلى التعليم وغيرها، استكمالاً لما بدأته بالفعل منذ سنوات في شمال سوريا.

أثارت هذه التحركات قلق إسرائيل التي تخشى استبدال الوجود التركي بالوجود الإيراني في سوريا، وفرض أمر واقع جديد تكون فيه تركيا هي الضامن سياسياً وأمنياً، اعتماداً على علاقاتها القوية مع الإدارة الجديدة ومع فصائل معادية لها.

جانب من اجتماع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وترمب والشرع لبحث رفع العقوبات المفروضة على سوريا في الرياض مايو الماضي (واس)

«نعم أخذتها»

وبدا أن تركيا نجحت في سباقها لإظهار دورها بوصفها «راعياً» تتشاور معه الإدارة السورية حول مستقبل البلاد، وبرزت بوصفها واحدة من أبرز القوى المهيمنة، وهو ما أكده الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، خلال لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالبيت الأبيض في يوليو (تموز) 2025.

قال ترمب إنه هنّأ إردوغان، في اتصال هاتفي بينهما، على «أخذه سوريا (...) وإنه كان يحاول النفي، ويقول إنه لم يأخذها، وإنه قال له إنك فعلت شيئاً عجز الآخرون عن فعله طوال ألفي عام، مهما تعددت أسماؤها تاريخياً، وإنه (إردوغان) قال في النهاية نعم أخذتها».

وجاء موقف ترمب بعد متابعة حالة التنافس بين تركيا وإسرائيل في سوريا، والمخاوف المتبادلة بينهما التي دفعت إسرائيل إلى تدمير قواعد جوية ومطارات رئيسية، بينها مطار حماة العسكري، والقضاء على مقدرات الجيش السوري، مع تردد أنباء، بعد 3 أشهر من سقوط حكم الأسد، عن سعي تركيا إلى إقامة قواعد جوية في حمص، ما دفع تركيا وإسرائيل إلى إرساء قواعد اشتباك تمنع الصدام بينهما في سوريا خلال اجتماعات فنية في باكو توسطت فيها أذربيجان.

عرض ترمب على نتنياهو حل مشاكله مع تركيا إذا كان منطقياً في طلباته، لافتاً إلى علاقته الجيدة مع إردوغان، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي قال، قبل مغادرة واشنطن، إن تركيا تريد إنشاء قواعد عسكرية في سوريا، وإنه يرفض إقامتها لأنها تُشكل خطراً على إسرائيل.

بدورها، تؤكد تركيا أن المسألة الرئيسية بالنسبة إليها وللولايات المتحدة هي ضمان ألا تشكل إسرائيل تهديداً لسوريا، وألا تكون سوريا مصدراً لتهديد أي طرف في المنطقة، وأن يحترم الجميع سلامة أراضي وسيادة بعضهم، بحسب ما قال وزير خارجيتها، هاكان فيدان، الذي شارك في جانب من اجتماع ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع بالبيت الأبيض في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025.

وعبرت تركيا، أكثر من مرة، عن عدم انزعاجها للمفاوضات بين دمشق وتل أبيب، مشددة على أن هدفها الأول هو وحدة أراضي سوريا وسيادتها.

ورد إردوغان، الذي التقى ترمب في البيت الأبيض في سبتمبر (أيلول) الماضي، على تصريح أخير لنتنياهو، منذ أسابيع قليلة، قال فيه إن إسرائيل «أوقفت تركيا في سوريا»، مطالباً بالتركيز على ما تفعله تركيا بدلاً من التركيز على ما تكتبه الصحافة الإسرائيلية، مضيفاً: «نحن نفعل ما يلزم في إطار أولوياتنا الاستراتيجية، وسنواصل ذلك».

جانب من الاجتماع بصيغة «آستانة» لوزراء خارجية تركيا هاكان فيدان وروسيا سيرغي لافروف وإيران عباس عراقجي على هامش منتدى الدوحة في ديسمبر 2024 (الخارجية التركية)

شبح العقوبات

تحرص تركيا أيضاً على عدم البقاء بعيداً عن أي ملف يتعلق بسوريا، بما في ذلك رفع العقوبات، الذي بدأ بإعلان مفاجئ من ترمب، قال إنه بناء على طلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وإردوغان، الذي شارك، عبر الهاتف في اجتماع بالرياض، في مايو (أيار) تمت فيه مناقشة رفع العقوبات.

وأكد إردوغان مواصلة تركيا دعمها لدمشق في حربها ضد التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها «داعش»، واستعدادها لتقديم الدعم فيما يتعلق بإدارة وتأمين مراكز الاحتجاز التي يُحتجز فيها عناصر «داعش»، لافتاً إلى أن قرار ترمب رفع العقوبات عن سوريا يحظى بأهمية تاريخية، وأن هذا القرار سيكون مثالاً للدول الأخرى التي فرضت عقوبات على دمشق، وأن فرص الاستثمار ستشمل مختلف المجالات في سوريا، بعد رفع العقوبات.

وسبق إعلان ترمب رفع العقوبات اجتماع ثلاثي لوزراء الخارجية التركي، هاكان فيدان، والولايات المتحدة، ماركو روبيو، وسوريا، أسعد الشيباني، على هامش «منتدى أنطاليا الدبلوماسي» في جنوب تركيا، في أبريل (نيسان) الماضي، لمناقشة تفاصيل تعهد ترمب بإسقاط العقوبات عن سوريا.

وتلقى فيدان دعوة لزيارة أميركا بالتزامن مع زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع، وشارك في جانب من لقائه مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 10 نوفمبر الماضي.

وعقد فيدان لقاءات مع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، والممثل الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترمب في الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، والسفير الأميركي في أنقرة المبعوث الخاص إلى سوريا، توم براك، والعديد من المسؤولين الآخرين في البيت الأبيض، فضلاً عن لقاء مع الشرع ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ولقاء ثلاثي جمعه بالشيباني وروبيو.

وقال فيدان إنه تم خلال الاجتماعات تبادل وجهات النظر حول كيفية إدارة المناطق الإشكالية في شمال وجنوب سوريا، وفي أماكن أخرى، بشكل أفضل وكيف يمكن تنفيذ العمل على إلغاء «قانون قيصر»، وإن التركيز منصبّ حالياً على ما يمكن فعله لرفع العقوبات في إطار «قانون قيصر» بشكل كامل، لمساعدة الاقتصاد السوري على التعافي.

وأشار إلى أن الشرع التقى أعضاءً في الكونغرس، وشدد على أهمية التصويت على إلغاء «قانون قيصر»، مضيفاً أن الرئيس الأميركي يتبنى نهجاً إيجابياً تجاه التعامل مع القضايا السورية.

الشرع وعبدي خلال توقيع اتفاق اندماج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية في دمشق 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

هاجس «قسد»

تعمل تركيا على استغلال حالة التشاور المستمر بشأن سوريا، في ضمان موقف أميركي داعم لتنفيذ الاتفاق الموقع بين الشرع، وقائد «قسد»، مظلوم عبدي، في دمشق 10 مارس الماضي، بشأن اندماجها في الجيش والمؤسسات الأمنية السورية، الذي يفترض أن ينتهي تنفيذه قبل حلول نهاية العام الحالي.

وبعد 47 عاماً من الصراع المسلح، أطلقت تركيا مبادرة العام الماضي، لحل حزب العمال الكردستاني ونزع سلاحه، أسفرت عن دعوة زعيمه، السجين لديها، عبد الله أوجلان في 27 فبراير الماضي، إلى حله والتخلي عن الكفاح المسلح، والتحول إلى العمل الديمقراطي في إطار قانوني.

وتتمسك أنقرة بأن دعوة أوجلان تشمل جميع امتدادات حزب «العمال الكردستاني»، وأن «البنية الحالية لـ(قسد) تقوّض وحدة سوريا وتهدّد الأمن القومي لتركيا وتعرّضه للخطر»، وأنه لا يمكن حصر مسألة نزع سلاح حزب العمال الكردستاني في تركيا وحدها.

وتطالب «قسد» تركيا بعدم عدّ مؤسساتها العسكرية والإدارية والأمنية، والإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، تهديداً لها، لأنها «مؤسسات للسلام والأمن».

وعدّ قائد «قسد»، مظلوم عبدي، أن اتفاق 10 مارس مع الشرع شكل منعطفاً مهماً بإغلاق الطريق أمام محاولات تقسيم سوريا ومنع انزلاقها إلى حرب أهلية، وضمن الاعتراف الدستوري بحقوق الكرد، لكنه أكد أنه «يجب أن تكون هناك سوريا لا مركزية، بحيث يتمكّن كل إقليم من إدارة نفسه».

وذهب الكاتب في صحيفة «حرييت» القريبة من الحكومة التركية، فاتح تشيكرجه، إلى أن أميركا تسعى لتأسيس «نموذج بارزاني» الذي أرسته في شمال العراق ضد إيران، في شمال سوريا، وأن الممر الذي يجري إعداده من العراق إلى سوريا يهدف إلى ذلك، وهو مطلب إسرائيلي أيضاً لمنع نقل الأسلحة من إيران إلى لبنان والمنطقة المحيطة.

ولفت إلى أن تركيا لم تقبل في البداية بنموذج مشابه لـ«بيشمركة بارزاني»، وهي الآن تعد «قسد» الحليفة لأميركا، تنظيماً إرهابياً، لكنها يمكن أن تقبل الأمر بعد ذلك في شمال سوريا كما حدث في إقليم كردستان العراق.

الحال، أن تركيا ستواصل خلال المرحلة المقبلة السعي لترسيخ موقعها بوصفها أبرز قوة مؤثرة في إعادة تشكيل سوريا، مستفيدة من علاقتها الوثيقة بالإدارة الجديدة ودعم واشنطن المتزايد لدورها. ومن المتوقع أن تضغط أنقرة باتجاه استكمال دمج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية وتقليص أي حضور عسكري غير مرغوب فيه قرب حدودها. لكن التنافس مع إسرائيل والحضور الأميركي قد يحدان من قدرة تركيا على فرض رؤيتها بالكامل.