الصعود التركي في سوريا... من المواجهة إلى التحالف

أنقرة تختبر نفوذها في دمج «قسد»... وقواعد اشتباك حرجة مع إسرائيل

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
TT

الصعود التركي في سوريا... من المواجهة إلى التحالف

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)

تشكلت في الأسابيع الأولى لسقوط نظام بشار الأسد في سوريا قناعة بأن تركيا لعبت الدور الأكبر في الوصول «السلس» لفصائل المعارضة إلى دمشق في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، وتعزز ذلك مع دعم أنقرة السريع للإدارة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، وتقديم نفسها بوصفها أحد «الرعاة الأساسيين» في مرحلة ما بعد الأسد.

كانت تركيا أول دولة ترسل مسؤولاً رفيع المستوى إلى سوريا للقاء الشرع في «قصر الشعب»، إذ زار رئيس مخابراتها، إبراهيم كالين، دمشق يوم 12 ديسمبر 2024، وتوجه للصلاة في الجامع الأموي، ليبدو أنه حقق وعد الرئيس رجب طيب إردوغان، في الأيام الأولى للثورة السورية في 2011، عندما قال سينهار نظام الأسد بأسرع وقت و«سندخل دمشق ونصلي في الجامع الأموي».

وأوحت تصريحات لوزير الخارجية هاكان فيدان بأن تركيا هي من لعبت الدور الرئيسي في سقوط الأسد وفتح الطريق أمام الشرع إلى دمشق، عندما قال، بعد أيام قليلة، إن أنقرة أقنعت روسيا وإيران، خلال الاجتماع بصيغة «آستانة»، على هامش «منتدى الدوحة» في 7 و8 ديسمبر 2024 بعدم التدخل.

من وجهة نظر فيدان، كان «نظام بشار الأسد ضعيفاً للغاية خلال العامَين أو الأعوام الـ3 الماضية، مع مقاومة نسبية في بعض الأماكن، لكن المعارضة دخلت حلب دون إطلاق نار تقريباً. مع ذلك، لو كرر الروس والإيرانيون رد فعلهم في عام 2016، لكان الشعب السوري قد واجه خطر المزيد من إراقة الدماء والنزوح».

وعندما سُئل فيدان: «كيف أقنعتم روسيا بعدم الوقوف إلى جانب الأسد؟». أجاب بكلمة واحدة: «تحدثنا».

إسرائيل قصفت مطار حماة العسكري في مارس الماضي على خلفية تقارير عن استخدامه من جانب تركيا في نقل مواد لوجيستية ومعدات لإقامة قاعدة جوية في حمص (أ.ف.ب)

تقييم الحصاد

في 16 أغسطس (آب) 2025 عقدت مجموعة التنسيق بين المؤسسات التركية اجتماعاً برئاسة نائب وزير الخارجية نوح يلماظ، الذي أصبح الآن سفيراً لتركيا في دمشق، أُجريت خلاله مراجعة شاملة للعلاقات مع سوريا والخطوات التي ستُتخذ خلال الفترة المقبلة لتعزيزها وتنفيذ الاتفاقات التي توصل إليها الجانبان في مختلف المجالات.

خلال الأشهر الـ8 الأولى بعد سقوط الأسد، وعبر تحركات مكثفة، كانت تركيا أول دولة تعيد فتح سفارتها في دمشق، إضافة إلى قنصليتها في حلب، كما وقعت في 12 أغسطس مذكرة تفاهم للتعاون العسكري والتدريب والاستشارات.

وتحركت تركيا على المستوى الثنائي والإقليمي لدعم حكومة الشرع في مكافحة تنظيم «داعش»، وإقناع الولايات المتحدة بمنظور جديد يجعلها تتخلى عن دعمها لـ«قسد» التي تشكل «وحدات حماية الشعب» (الكردية) عمودها الفقري، في السيطرة على شمال شرقي سوريا، بعد التحالف معها في الحرب على «داعش».

في هذا الإطار سعت تركيا إلى تشكيل تحالف يقوم على مبدأ «الملكية الإقليمية»، الذي يعني أن تقوم دول المنطقة بنفسها على حل مشاكلها دون تدخلات خارجية، وبدأت بالفعل جهوداً لتشكيل منصة خماسية تضمها مع كل من الأردن والعراق ولبنان إلى جانب سوريا، وعقد وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء المخابرات في الدول الخمس اجتماعاً في عمان في 9 مارس (آذار) الماضي، لكنه لم يسفر عن تأسيس آلية سعت إليها أنقرة.

نتيجة لذلك شكّلت تركيا آلية تنسيق مع سوريا عبر مركز عمليات مشترك في دمشق، لتأكيد دعمها للحكومة السورية في الحرب على «داعش».

وعقدت خلال الأشهر الـ10 المنقضية 3 اجتماعات لوزراء الخارجية والدفاع ورئيسي المخابرات في البلدين فضلاً عن الزيارات الثنائية المتبادلة على مستوى وزيري الخارجية، وزيارات رئيس المخابرات التركية لدمشق، كما زار الشرع تركيا 3 مرات في الفترة بين فبراير (شباط) وأغسطس.

على الصعيد الاقتصادي، أعادت تركيا تشغيل جميع البوابات الحدودية مع سوريا، وتم توقيع بروتوكول في أنقرة يوم 5 أغسطس الماضي، لإنشاء لجنة اقتصادية وتجارية مشتركة، وبدء دراسة إنشاء مناطق صناعية، بهدف إنعاش الاقتصاد السوري المتضرر من جراء الحرب وتعزيز التجارة بينهما. كما أعاد البلدان الجاران تأسيس مجلس الأعمال المشترك، الذي توقف عن العمل في 2011.

وتقول تركيا إنها تهدف إلى تجاوز عتبة ملياري دولار في صادراتها إلى سوريا بنهاية العام الحالي، مستغلة الزخم في العلاقات التجارية بينهما. واتخذت خطوات جديدة لتسهيل وتسريع التجارة مع سوريا، وتم الاتفاق على أن تصبح حلب مركزاً لوجيستياً قوياً في الفترة المقبلة.

جانب من لقاء ترمب ونتنياهو بالبيت الأبيض في يوليو 2025 (أ.ف.ب)

تنافس مع إسرائيل

في المقابل، تغيرت أهداف تركيا في سوريا عما كانت عليه خلال حكم بشار الأسد، فبعدما كانت تركز على تأمين حدودها مما تصفه بـ«تهديد (قسد)»، وإنشاء منطقة آمنة على حدودها الجنوبية بعمق يتراوح ما بين 30 و40 كيلومتراً، تسعى اليوم إلى إزالة هذه المجموعة الكردية من المعادلة السورية، عبر ترك أسلحتها والاندماج في مؤسسات الدولة، وإقناع الولايات المتحدة بوقف دعمها لها عبر عرض قيام إدارة سورية جديدة بحراسة سجون «داعش»، ودعمها في هذا الأمر. وزادت على ذلك بالسعي لدى الولايات المتحدة لملء الفراغ، حال انسحاب القوات الأميركية.

لقد أظهرت تحركات تركيا في الواقع السوري الجديد سعيها لملء الفراغ العسكري من خلال العمل على إنشاء قواعد برية وبحرية وجوية في وسط سوريا وعلى سواحلها عبر نموذج يشبه تدخلها في ليبيا بعد القذافي، كما تردد من خلال وسائل إعلام، والانفراد بأكبر دور في الاقتصاد السوري وإعادة الإعمار والتدخل في جميع المجالات من الصحة إلى التعليم وغيرها، استكمالاً لما بدأته بالفعل منذ سنوات في شمال سوريا.

أثارت هذه التحركات قلق إسرائيل التي تخشى استبدال الوجود التركي بالوجود الإيراني في سوريا، وفرض أمر واقع جديد تكون فيه تركيا هي الضامن سياسياً وأمنياً، اعتماداً على علاقاتها القوية مع الإدارة الجديدة ومع فصائل معادية لها.

جانب من اجتماع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وترمب والشرع لبحث رفع العقوبات المفروضة على سوريا في الرياض مايو الماضي (واس)

«نعم أخذتها»

وبدا أن تركيا نجحت في سباقها لإظهار دورها بوصفها «راعياً» تتشاور معه الإدارة السورية حول مستقبل البلاد، وبرزت بوصفها واحدة من أبرز القوى المهيمنة، وهو ما أكده الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، خلال لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالبيت الأبيض في يوليو (تموز) 2025.

قال ترمب إنه هنّأ إردوغان، في اتصال هاتفي بينهما، على «أخذه سوريا (...) وإنه كان يحاول النفي، ويقول إنه لم يأخذها، وإنه قال له إنك فعلت شيئاً عجز الآخرون عن فعله طوال ألفي عام، مهما تعددت أسماؤها تاريخياً، وإنه (إردوغان) قال في النهاية نعم أخذتها».

وجاء موقف ترمب بعد متابعة حالة التنافس بين تركيا وإسرائيل في سوريا، والمخاوف المتبادلة بينهما التي دفعت إسرائيل إلى تدمير قواعد جوية ومطارات رئيسية، بينها مطار حماة العسكري، والقضاء على مقدرات الجيش السوري، مع تردد أنباء، بعد 3 أشهر من سقوط حكم الأسد، عن سعي تركيا إلى إقامة قواعد جوية في حمص، ما دفع تركيا وإسرائيل إلى إرساء قواعد اشتباك تمنع الصدام بينهما في سوريا خلال اجتماعات فنية في باكو توسطت فيها أذربيجان.

عرض ترمب على نتنياهو حل مشاكله مع تركيا إذا كان منطقياً في طلباته، لافتاً إلى علاقته الجيدة مع إردوغان، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي قال، قبل مغادرة واشنطن، إن تركيا تريد إنشاء قواعد عسكرية في سوريا، وإنه يرفض إقامتها لأنها تُشكل خطراً على إسرائيل.

بدورها، تؤكد تركيا أن المسألة الرئيسية بالنسبة إليها وللولايات المتحدة هي ضمان ألا تشكل إسرائيل تهديداً لسوريا، وألا تكون سوريا مصدراً لتهديد أي طرف في المنطقة، وأن يحترم الجميع سلامة أراضي وسيادة بعضهم، بحسب ما قال وزير خارجيتها، هاكان فيدان، الذي شارك في جانب من اجتماع ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع بالبيت الأبيض في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025.

وعبرت تركيا، أكثر من مرة، عن عدم انزعاجها للمفاوضات بين دمشق وتل أبيب، مشددة على أن هدفها الأول هو وحدة أراضي سوريا وسيادتها.

ورد إردوغان، الذي التقى ترمب في البيت الأبيض في سبتمبر (أيلول) الماضي، على تصريح أخير لنتنياهو، منذ أسابيع قليلة، قال فيه إن إسرائيل «أوقفت تركيا في سوريا»، مطالباً بالتركيز على ما تفعله تركيا بدلاً من التركيز على ما تكتبه الصحافة الإسرائيلية، مضيفاً: «نحن نفعل ما يلزم في إطار أولوياتنا الاستراتيجية، وسنواصل ذلك».

جانب من الاجتماع بصيغة «آستانة» لوزراء خارجية تركيا هاكان فيدان وروسيا سيرغي لافروف وإيران عباس عراقجي على هامش منتدى الدوحة في ديسمبر 2024 (الخارجية التركية)

شبح العقوبات

تحرص تركيا أيضاً على عدم البقاء بعيداً عن أي ملف يتعلق بسوريا، بما في ذلك رفع العقوبات، الذي بدأ بإعلان مفاجئ من ترمب، قال إنه بناء على طلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وإردوغان، الذي شارك، عبر الهاتف في اجتماع بالرياض، في مايو (أيار) تمت فيه مناقشة رفع العقوبات.

وأكد إردوغان مواصلة تركيا دعمها لدمشق في حربها ضد التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها «داعش»، واستعدادها لتقديم الدعم فيما يتعلق بإدارة وتأمين مراكز الاحتجاز التي يُحتجز فيها عناصر «داعش»، لافتاً إلى أن قرار ترمب رفع العقوبات عن سوريا يحظى بأهمية تاريخية، وأن هذا القرار سيكون مثالاً للدول الأخرى التي فرضت عقوبات على دمشق، وأن فرص الاستثمار ستشمل مختلف المجالات في سوريا، بعد رفع العقوبات.

وسبق إعلان ترمب رفع العقوبات اجتماع ثلاثي لوزراء الخارجية التركي، هاكان فيدان، والولايات المتحدة، ماركو روبيو، وسوريا، أسعد الشيباني، على هامش «منتدى أنطاليا الدبلوماسي» في جنوب تركيا، في أبريل (نيسان) الماضي، لمناقشة تفاصيل تعهد ترمب بإسقاط العقوبات عن سوريا.

وتلقى فيدان دعوة لزيارة أميركا بالتزامن مع زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع، وشارك في جانب من لقائه مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 10 نوفمبر الماضي.

وعقد فيدان لقاءات مع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، والممثل الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترمب في الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، والسفير الأميركي في أنقرة المبعوث الخاص إلى سوريا، توم براك، والعديد من المسؤولين الآخرين في البيت الأبيض، فضلاً عن لقاء مع الشرع ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ولقاء ثلاثي جمعه بالشيباني وروبيو.

وقال فيدان إنه تم خلال الاجتماعات تبادل وجهات النظر حول كيفية إدارة المناطق الإشكالية في شمال وجنوب سوريا، وفي أماكن أخرى، بشكل أفضل وكيف يمكن تنفيذ العمل على إلغاء «قانون قيصر»، وإن التركيز منصبّ حالياً على ما يمكن فعله لرفع العقوبات في إطار «قانون قيصر» بشكل كامل، لمساعدة الاقتصاد السوري على التعافي.

وأشار إلى أن الشرع التقى أعضاءً في الكونغرس، وشدد على أهمية التصويت على إلغاء «قانون قيصر»، مضيفاً أن الرئيس الأميركي يتبنى نهجاً إيجابياً تجاه التعامل مع القضايا السورية.

الشرع وعبدي خلال توقيع اتفاق اندماج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية في دمشق 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

هاجس «قسد»

تعمل تركيا على استغلال حالة التشاور المستمر بشأن سوريا، في ضمان موقف أميركي داعم لتنفيذ الاتفاق الموقع بين الشرع، وقائد «قسد»، مظلوم عبدي، في دمشق 10 مارس الماضي، بشأن اندماجها في الجيش والمؤسسات الأمنية السورية، الذي يفترض أن ينتهي تنفيذه قبل حلول نهاية العام الحالي.

وبعد 47 عاماً من الصراع المسلح، أطلقت تركيا مبادرة العام الماضي، لحل حزب العمال الكردستاني ونزع سلاحه، أسفرت عن دعوة زعيمه، السجين لديها، عبد الله أوجلان في 27 فبراير الماضي، إلى حله والتخلي عن الكفاح المسلح، والتحول إلى العمل الديمقراطي في إطار قانوني.

وتتمسك أنقرة بأن دعوة أوجلان تشمل جميع امتدادات حزب «العمال الكردستاني»، وأن «البنية الحالية لـ(قسد) تقوّض وحدة سوريا وتهدّد الأمن القومي لتركيا وتعرّضه للخطر»، وأنه لا يمكن حصر مسألة نزع سلاح حزب العمال الكردستاني في تركيا وحدها.

وتطالب «قسد» تركيا بعدم عدّ مؤسساتها العسكرية والإدارية والأمنية، والإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، تهديداً لها، لأنها «مؤسسات للسلام والأمن».

وعدّ قائد «قسد»، مظلوم عبدي، أن اتفاق 10 مارس مع الشرع شكل منعطفاً مهماً بإغلاق الطريق أمام محاولات تقسيم سوريا ومنع انزلاقها إلى حرب أهلية، وضمن الاعتراف الدستوري بحقوق الكرد، لكنه أكد أنه «يجب أن تكون هناك سوريا لا مركزية، بحيث يتمكّن كل إقليم من إدارة نفسه».

وذهب الكاتب في صحيفة «حرييت» القريبة من الحكومة التركية، فاتح تشيكرجه، إلى أن أميركا تسعى لتأسيس «نموذج بارزاني» الذي أرسته في شمال العراق ضد إيران، في شمال سوريا، وأن الممر الذي يجري إعداده من العراق إلى سوريا يهدف إلى ذلك، وهو مطلب إسرائيلي أيضاً لمنع نقل الأسلحة من إيران إلى لبنان والمنطقة المحيطة.

ولفت إلى أن تركيا لم تقبل في البداية بنموذج مشابه لـ«بيشمركة بارزاني»، وهي الآن تعد «قسد» الحليفة لأميركا، تنظيماً إرهابياً، لكنها يمكن أن تقبل الأمر بعد ذلك في شمال سوريا كما حدث في إقليم كردستان العراق.

الحال، أن تركيا ستواصل خلال المرحلة المقبلة السعي لترسيخ موقعها بوصفها أبرز قوة مؤثرة في إعادة تشكيل سوريا، مستفيدة من علاقتها الوثيقة بالإدارة الجديدة ودعم واشنطن المتزايد لدورها. ومن المتوقع أن تضغط أنقرة باتجاه استكمال دمج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية وتقليص أي حضور عسكري غير مرغوب فيه قرب حدودها. لكن التنافس مع إسرائيل والحضور الأميركي قد يحدان من قدرة تركيا على فرض رؤيتها بالكامل.


مقالات ذات صلة

سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

تحقيقات وقضايا الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

يرى خبراء أميركيون أن سوريا الجديدة تواجه تحديات داخلية تشمل الاستقرار السياسي وإعادة بناء الاقتصاد، فضلاً عن تحديات خارجية تتعلق برفع العقوبات ومكافحة الإرهاب.

هبة القدسي (واشنطن)
المشرق العربي صورة أرشيفية لـ«قيصر» مخفياً هويته بمعطف أزرق خلال جلسة نقاش في الكونغرس الأميركي لقانون حماية المدنيين السوريين (أ.ف.ب) play-circle 02:48

أميركا.. إلغاء قانون قيصر وقيود على مساعدة الجيش اللبناني

فيما تحتفل سوريا بذكرى مرور سنة على سقوط نظام بشار الأسد وفراره من دمشق، وافق الكونغرس الأميركي على إلغاء العقوبات التي فُرضت بموجب قانون قيصر.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
خاص زار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المنطقة العازلة مع سوريا في 19 نوفمبر برفقة كبار مسؤولي الدفاع والخارجية والأمن (مكتب الصحافة الحكومي)

خاص سوريا الجديدة أوضح مثال على «عدوانية» إسرائيل تجاه جيرانها

يرى مسؤول فلسطيني أن سوريا باتت أكبر مثال على أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو «لا يريد سلاماً حقيقياً فحسب، بل إنه لا يريد جيراناً لدولته أيضاً».

نظير مجلي (تل أبيب)
تحقيقات وقضايا مدرعات إسرائيلية خلال مناورة قرب الخط الفاصل بين مرتفعات الجولان المحتلة وسوريا في ديسمبر 2024 (أ.ب)

الجنوب السوري... حرب صامتة بين دمشق وتل أبيب

لم تمر سوى بضع ساعات على إسقاط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، حتى أعلنت إسرائيل احتلال المنطقة العازلة في الأراضي السورية.

موفق محمد (دمشق)
المشرق العربي ماراثون يقطع المحافظات السورية على خط سير معركة «ردع العدوان» التي أسقطت نظام الأسد العام الماضي (سانا)

ماراثون دراجات سوري احتفالاً بالتحرير... «قسد» تمنع «التجمعات» وغزال لإضراب عام

أصدرت محافظة دمشق توجيهات بمنع إطلاق هتافات أو شعارات طائفية، وبعدم تمجيد الأشخاص، وبرفع الأعلام الوطنية وإنشاد أغاني الثورة الجامعة لكل السوريين.

سعاد جرَوس (دمشق)

سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
TT

سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

مع مرور عام على إطاحة نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024، تتابع أوساط سياسية وبحثية أميركية تطورات السلطة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. ويشير هؤلاء إلى مساعي دمشق لتوطيد العلاقات بالمجتمع الدولي، في وقت تواجه فيه تحديات داخلية تشمل الاستقرار السياسي، وإعادة بناء الاقتصاد، فضلاً عن تحديات خارجية تتعلق برفع العقوبات ومكافحة الإرهاب.

وثمة إجماع بين أوساط أميركية معنية بالملف السوري على أن سقوط الأسد فتح نافذة تاريخية لإعادة بناء البلاد، لكن النجاح يعتمد على ترسيخ نموذج مستقر.

ويرى الخبراء أن الشرع «حقق تقدماً مذهلاً في عام واحد؛ من إنهاء الحرب، إلى الانخراط الدولي، لكنه يحتاج إلى مزيد من الإصلاحات لتجنب احتمالات الفوضى».

ويقول ستيفن كوك، الزميل الأول في «مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا» بـ«مجلس العلاقات الخارجية»، إن «لقاء الشرع مع الرئيس (الأميركي) دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 يمكن أن يكون منطلقاً لبدء عمل جاد وواعد في سوريا»، مشيراً إلى أن «رفع واشنطن العقوبات يتزامن مع إظهار دمشق مساعيَ جادة للقيام بإصلاحات سياسية؛ أهمها في (التعامل مع الأقليات ومكافحة التطرف)»، لكنه يحذر بأن «الحكم في بلد مفلس وممزق سياسياً يظل سؤالاً مفتوحاً».

ويشير كوك، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الانتخابات البرلمانية المحدودة التي جرت في 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 (التي غطت 119 مقعداً من 210)، كانت «خطوة رمزية مهمة»، لكنها لم تشمل مناطق الدروز والكرد؛ مما قد يعكس «هشاشة الانتقال»، داعياً إلى توسيع الممارسة لتجفيف منابع الانقسام.

الرئيس السوري أحمد الشرع يحضر بدمشق حفل توقيع مذكرة تفاهم للاستثمار في سوريا يوم 6 أغسطس 2025 (رويترز)

تغيير الشرق الأوسط

يشيد آرون زيلين، الخبير في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، بجهود الشرع في مكافحة «داعش»، ويقول إن لديه فرصة لإحداث تأثير إيجابي في منطقة الشرق الأوسط، لكنه نصح الحكومة السورية الجديدة بالتركيز على تفكيك فصائل مسلحة في البلاد.

وعدّ زيلين تصريحات الشرع الإصلاحية بشأن بناء مؤسسات الدولة علامة إيجابية على توجهات حكومته، رغم قلقه من أن الاقتصاد المدمَّر يهدد الاستقرار في سوريا، لا سيما مع التقديرات التي تفيد بأن تكلفة إعادة إعمار البلاد قد تصل إلى 216 مليار دولار.

بدوره، يقول إدوارد جيريجان، مدير «مركز بلفير للعلوم والشؤون الدولية» بجامعة هارفارد، إن الشرع يواجه «اختباراً لإعادة التوحيد» في بلاد متعددة الطوائف والإثنيات، ويوصي بـ«تعزيز الثقة الداخلية» عبر إصلاحات أمنية موحدة.

ويبدي المحلل الأميركي سيث فرانتزمان تفاؤلاً كبيراً بمستقبل سوريا، عادّاً الشرع «رجلاً مثيراً للإعجاب ومغيراً للعبة»، ويصف التحول في سوريا في أقل من عام بـ«الجنون المطلق»؛ بالتحول من دولة منبوذة إلى دولة بفرص واعدة ومدعومة من الغرب ولاعبين وازنين في الخليج العربي والمنطقة.

ورأى الشرع، في تصريح أمام «منتدى الدوحة» يوم 6 ديسمبر 2025، أن سوريا تسير في الاتجاه الصحيح، بعدما تحولت من منطقة مصدرة للأزمات إلى نموذج للاستقرار، مشيراً إلى أن البلاد «تحتاج الآن إلى بناء مؤسسات مستقرة؛ وهو ما يضمن استمرارية عادلة لبناء الدولة».

الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي خلال توقيع اتفاق دمج «قسد» في الجيش السوري بدمشق يوم 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

صراعات داخلية

ويقول فرانتزمان إن زيارة الشرع التاريخية إلى البيت الأبيض في نوفمبر 2025 تعدّ «محوراً مهماً لإعادة بناء سوريا المحطمة»، بالتزامن مع رفع الشرع من قائمة العقوبات الأميركية، وتجديد تعليق «قانون قيصر».

ويشيد معظم التحليلات بالشرع لتحقيقه تقدماً ملموساً في الاستقرار الداخلي، لكن التحذيرات تتعلق بالصراعات الداخلية التي قد تذكي أعمال عنف أو فوضى. أما خارجياً؛ فتشيد تقارير أميركية بحرص الشرع على توجيه بلاده نحو الغرب، وانضمامها إلى «التحالف الدولي ضد (داعش)»، حيث يشيد مركز «بروكينغز» بعلاقات الرئيس السوري بتركيا والولايات المتحدة، بوصفها مفتاحاً للاستقرار، محذراً من السماح بعودة نفوذ روسيا وإيران.

وكان الشرع قد أقر، خلال حضوره مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»، بالرياض، في 29 أكتوبر 2025، بأن هناك مخاطر استراتيجية ارتبطت بالفترة السابقة تسببت في خلق حالة من الاضطراب والقلق لبعض دول العالم.


روسيا بعد الأسد «ليست خاسرة تماماً» في سوريا

بوتين والأسد يحضران عرضاً عسكرياً في القاعدة الجوية الروسية «حميميم» قرب اللاذقية ديسمبر 2017 (أ.ف.ب)
بوتين والأسد يحضران عرضاً عسكرياً في القاعدة الجوية الروسية «حميميم» قرب اللاذقية ديسمبر 2017 (أ.ف.ب)
TT

روسيا بعد الأسد «ليست خاسرة تماماً» في سوريا

بوتين والأسد يحضران عرضاً عسكرياً في القاعدة الجوية الروسية «حميميم» قرب اللاذقية ديسمبر 2017 (أ.ف.ب)
بوتين والأسد يحضران عرضاً عسكرياً في القاعدة الجوية الروسية «حميميم» قرب اللاذقية ديسمبر 2017 (أ.ف.ب)

منذ الساعات الأولى، بعد التحول الكبير الذي جاء به للسوريين فجر الثامن من ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، انطلق سيل من التحليلات، خصوصاً في الغرب، حول تعرض روسيا لنكسة مؤلمة تنذر بتقويض المكاسب التي حققتها في سوريا على مدى عشر سنوات، بعد تدخلها العسكري المباشر في الصراع الدامي في هذا البلد.

وشملت حسابات الربح والخسارة أبعاداً كثيرة منها السياسي والعسكري، وسارعت أوساط عدة إلى إعلان «هزيمة» المشروع الروسي في سوريا مع كل العواقب المحتملة لذلك.

وفي البعد الاقتصادي، لا تشكل الاستثمارات الروسية في سوريا أهمية كبرى نظراً إلى محدودية المصالح الاقتصادية في البلد الذي ظل لعقود طويلة حليفاً مهماً للكرملين، دون أن يشكل في أي وقت أولوية استثمارية أو اقتصادية، رغم مساهمة الاتحاد السوفياتي السابق، وروسيا في وقت لاحق، في إنشاء بنى تحتية، وتعزيز حضور مهم في بعض القطاعات مثل الطاقة.

في الشق السياسي، بدا أن التطورات السريعة في سوريا قد أظهرت نقاط ضعف النموذج الروسي في بناء علاقات مع حلفاء في الشرق الأوسط، وهذا لا يقتصر على الارتباك والعجز اللذين ظهرا عندما تعرض الحليف الإيراني لضربات موجعة، إذ اضطرت موسكو سريعاً للتخلي عن بشار الأسد رغم أنها كانت تقول إنها «لن تتخلى عنه أبداً».

بهذا المعنى، أثبت «المشروع السوري» لروسيا فشله، وهذا أمر مهم للكرملين الذي كثيراً ما تفاخر بنجاحاته في سوريا «خلافاً للفشل الأميركي في كل منطقة وبلد دخلتهما قوات (الناتو)». لقد اتضح صباح الثامن من ديسمبر 2024 أن الحل الروسي في سوريا بوصفه نموذجاً بديلاً عن الحلول الغربية للمشكلات الإقليمية وصل إلى حائط مسدود، وانتهى بهزيمة كبرى.

لكن في المقابل، أظهرت تصريحات الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني لاحقاً، أن الجزء الأهم من مسار الحسم العسكري (بعد حلب) تم تنسيقه مع موسكو لضمان حيادها.

قوات الأمن السورية بجوار مركبة عسكرية متضررة لأنصار الأسد في بلدة حميميم يوم 11 مارس الماضي (أ.ف.ب)

التخلي عن الأسد

بدا أن موسكو التي باتت تولي أهمية أكبر لمواجهتها مع الغرب في أوكرانيا، والتي أبدت استياءً أكثر من مرة بسبب مماطلة بشار الأسد في التعامل مع خططها لتقليص المخاطر في سوريا، بما في ذلك عبر مسار التطبيع مع تركيا الذي أطلقته، وعارضه بقوة الحليف السوري، اختارت في لحظة حاسمة التخلي عن الأسد بعدما تحول إلى عبء، خصوصاً أنها حصلت على تعهدات من المعارضة السورية الزاحفة نحو دمشق بأن «خروج الأسد لا يعني بالضرورة خروج روسيا من سوريا» وفقاً لتصريح الشيباني.

يفسر هذا سرعة التحرك الروسي لإخراج الأسد من المشهد في مقابل منح ضمانات شخصية له، والطلب من القوات النظامية عدم المواجهة وإلقاء السلاح. ومهد هذا الدور مع التزام السلطات السورية الجديدة بتعهداتها لجهة حماية القواعد الروسية والعسكريين الروس في سوريا لصفحة جديدة في مسار ترميم العلاقة مع سوريا الجديدة وإعادة ترتيب أولوياتها. وبذلك، قلصت موسكو عملياً خسائرها السياسية إلى أدنى درجة ممكنة.

في الشق العسكري، ما زالت موسكو تخوض نقاشات علنية وغير علنية من أجل تثبيت وجودها في قاعدتي «حميميم» وطرطوس، فضلاً عن ترسيخ حضور قوي لها في مطار القامشلي الذي تحول بعد التغييرات في سوريا إلى قاعدة عسكرية ضخمة للروس.

بالإضافة إلى ذلك، لم يعد خافياً أن الحوارات الروسية - السورية تدور بشكل نشط حول ملفي إعادة تسيير دوريات في مناطق عدة في سوريا، خصوصاً في الجنوب في مسعى للعب دور روسي لكبح التوغلات الإسرائيلية عبر استعادة جهود الوساطة وتقديم ضمانات متبادلة للسوريين والإسرائيليين في استنساخ لتجربة التفاهمات الروسية الإسرائيلية السابقة في سوريا.

وعكس تسيير دورية روسية بتنسيق مع السلطات السورية في القامشلي قبل شهرين إمكانية أن تلعب موسكو دوراً في شمال شرقي سوريا لتخفيف التوترات مع «قسد»، في دور يبدو مرضياً ومنسقاً مع تركيا، وأيضاً مع الولايات المتحدة التي تحتفظ بوجود عسكري محدود في المنطقة.

ويمهد هذا النشاط المحتمل لروسيا في المنطقتين، مع التقارير الكثيرة التي تحدثت عن طلب دمشق المساعدة في إعادة تأهيل وتسليح الجيش، وضع مسار عملي لإعادة بناء العلاقات بما يضمن المحافظة على وجود روسيا العسكري على البحر المتوسط، وهو أمر يحظى بأهمية خاصة عند الروس، مع إدخال تعديلات على الاتفاقات السابقة لجهة وظيفة هذا الوجود ومداه الزمني بما يحقق مصالح الطرفين.

ومع اتضاح الملامح الأولى لهذا الأفق، تتقلص التوقعات التي سادت في البداية حول تعرض روسيا لهزيمة جيوسياسية أو عسكرية في سوريا.

أرشيفية لدورية روسية وعناصر من «اللواء الثامن» المدعوم من «حميميم» في جنوب سوريا

خسائر عسكرية... وأرباح

للحديث عن الخسائر العسكرية الروسية المباشرة في سوريا، بعد آخر لا يقل أهمية، ويتضح معه أن موسكو خرجت بمكاسب لا تقدر بثمن بعد عمليتها في سوريا. تشير تقارير رسمية وأخرى رصدتها جهات سورية إلى أن الخسائر المباشرة على مدى عشر سنوات من الحضور العسكري في واحدة من أكثر الحروب دموية في العقود الأخيرة، كانت محدودة للغاية، ولم تتجاوز في تقديرات عدة مئات من القتلى، وعشرات الدبابات والمدرعات وبعض المروحيات. وتتكتم موسكو رسمياً بطبيعة الحال على خسائرها عادة، لكن رغم ذلك، تظهر الأرقام التي نشرتها مؤسسات مدنية في روسيا بما فيها بعض الجهات المعارضة أن حصيلة الخسائر لم تكن كبيرة. وللمقارنة يكفي القول مثلاً إن الحرب الروسية في جورجيا في 2008 التي استمرت 5 أيام فقط، كبدت موسكو خسائر عتاد وازنة. وأشار تقرير نشر قبل سنوات، إلى أن الروس الذين أحرزوا انتصاراً حاسماً في تلك الحرب واجهوا مفاجآت مؤلمة، إذ تمكن نظام دفاع جوي جورجي، قديم نسبياً، من إسقاط تسع مقاتلات حديثة من طراز «سوخوي 25»، علماً بأن جورجيا لا تمتلك نظام دفاع جوي مركزياً. وجاء ذلك رغم أن الغارات الروسية التي مهدت للتقدم البري دمرت معظم الرادارات. هذا الأمر أظهر، كما قال التقرير «مهارات محدودة بالنسبة للطيارين الروس، فضلاً عن خلل في أنظمة الصيانة والتدريب». ولم تقتصر الثغرات على هذا النحو، حيث تمكنت القوات الجورجية من إلحاق الضرر برتل من الدبابات الروسية ما أظهر خللاً في القدرات الاستخباراتية. وأظهرت تلك الحرب عموماً خللاً كبيراً في إدارة العمليات وفي كفاءة الطرازات المختلفة للأسلحة، ما شكل صدمة قوية بالنظر إلى الموازنات العسكرية الضخمة لروسيا.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في زيارة لقاعدة حميميم في سوريا 12 ديسمبر 2017 (غيتي)

حقل التجارب السوري

بهذا المعنى، يمكن القول إن الحرب السورية التي جاءت بعد ذلك بسنوات، قامت روسيا خلالها بإعادة تنظيم أولويات التسليح والتدريب، شكلت أول اختبار جدي ومباشر للقوات والقدرات القتالية على الأرض. ويكفي في هذا الإطار أن وزير الدفاع السابق سيرغي شويغو الذي قاد برنامج تحديث الجيش وإعادة تسليحه، أعلن في 2018، أي بعد مرور 3 سنوات على التدخل المباشر في سوريا، وبعد انتهاء الجزء النشط من العمليات العسكرية، أن بلاده قامت باختبار أكثر من 350 طرازاً من الأسلحة الحديثة ميدانياً خلال الحرب السورية، وأضاف أنه بفضل العملية العسكرية في سوريا قامت روسيا بإصلاح أخطاء في المروحيات الهجومية وتسليحها وأنظمة الإنذار والرادارات فيها.

وفي معرض حديثه عن تطوير أسلحة جو - جو، قال أيضاً: «لتأمين المعدات والمروحيات على وجه الخصوص، نحتاج إلى أسلحة تعمل على مدى أبعد من أنظمة الدفاع الجوي أو منظومات الدفاع الجوي المحمولة ولدينا اليوم مثل هذه الأسلحة. وهذا بفضل العملية في سوريا». في السياق ذاته أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أكثر من مرة، إلى أن التجارب التي جرت على الأسلحة في ظروف القتال الحقيقية وفرت فرصة نادرة لروسيا لم يكن من الممكن تحقيق مثيل لها في ميادين التجارب وحقول الرماية. وأفاد تقرير موسع نشرته وكالة أنباء «نوفوستي» في يوليو (تموز) 2020، بأن روسيا نجحت في سوريا في إجراء أول اختبار عملي لصواريخ كاليبر المجنحة التي تُطلق من البحر. «وحلقت صواريخ كاليبر لأكثر من 1500 كيلومتر وأصابت 11 هدفاً إرهابياً»، وقالت إنه منذ ذلك الحين، استخدمت البحرية الروسية بانتظام صواريخ كروز، بما في ذلك من الغواصات.

وأفادت الوكالة بأن «جميع أنواع الطائرات تقريباً شاركت في الخدمة مع القوات الجوية الفضائية الروسية في الحرب السورية. إلى جانب قاذفات الخطوط الأمامية المخضرمة والمروحيات الهجومية»، بالإضافة إلى إجراء تجارب حقيقية فريدة لقدرات القاذفات الاستراتيجية الروسية.

أيضاً، في سوريا، استخدم الجيش الروسي لأول مرة على نطاق واسع الطائرات المسيّرة من طرازات مُنتجة بترخيص إسرائيلي. وشاركت في طلعات جوية قتالية، وتسجيل ضربات الصواريخ وتوجيه نيران المدفعية، كما ظهرت على الأرض السورية للمرة الأولى المركبات المدرعة «تايفون»، وقالت الوكالة إنها أظهرت قدراتها الوقائية العالية خلال استخدام وحدات الشرطة العسكرية لها.

وقد لعبت أنظمة قاذفات اللهب التي تطلقها تلك المدرعات دوراً مهماً في العمليات الهجومية للمسافات القريبة التي تصل إلى 6 كيلومترات.

ومثل هذا ينسحب على تجارب الدبابات الحديثة والأنظمة الصاروخية المختلفة من طرازات «بانتسير» و«إسكندر» التي نشرت روسيا نماذج منها في كالينينغراد قرب الحدود الأوروبية لكنها لم تُجرّب في حرب حقيقية قبل سوريا.

ويقول خبراء إن المشاركة الروسية في الحرب السورية لعبت دوراً أساسياً في إعادة بناء المؤسسة العسكرية، بكل إمكاناتها وقدراتها الصناعية والتسليحية، وأسهمت في التحضير بإمكانات أعلى بكثير من السابق للعملية العسكرية الروسية التي انطلقت في 2022 في أوكرانيا.


سوريا الجديدة أوضح مثال على «عدوانية» إسرائيل تجاه جيرانها

زار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المنطقة العازلة مع سوريا في 19 نوفمبر برفقة كبار مسؤولي الدفاع والخارجية والأمن (مكتب الصحافة الحكومي)
زار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المنطقة العازلة مع سوريا في 19 نوفمبر برفقة كبار مسؤولي الدفاع والخارجية والأمن (مكتب الصحافة الحكومي)
TT

سوريا الجديدة أوضح مثال على «عدوانية» إسرائيل تجاه جيرانها

زار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المنطقة العازلة مع سوريا في 19 نوفمبر برفقة كبار مسؤولي الدفاع والخارجية والأمن (مكتب الصحافة الحكومي)
زار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المنطقة العازلة مع سوريا في 19 نوفمبر برفقة كبار مسؤولي الدفاع والخارجية والأمن (مكتب الصحافة الحكومي)

في ليلة ممطرة من ليالي نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، وبينما كانت رام الله تئنّ تحت هجوم لقوات الجيش الإسرائيلي في قلب المدينة، وعلى بُعد أمتار من مقرّ الرئاسة، جلس مسؤول فلسطيني مبتسماً بمرارة، ليقول: «لست راغباً في الحديث عن فلسطين، ولا في إعادة ترديد شعارات عن إسرائيل كدولة استعمارية لا تعرف الحدود. ما أريده الآن هو أن أتحدث عن سوريا».

يرى المسؤول الفلسطيني أن سوريا باتت أكبر مثال على أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لا يريد سلاماً حقيقياً فحسب، بل إنه لا يريد جيراناً لدولته أيضاً، خصوصاً بعد أن اتخذت القيادة السياسية الجديدة في دمشق موقفاً صريحاً بأنها لا تريد الحرب ولا العداء تجاه إسرائيل، التي تقوم رغم ذلك بانتهاك حرمة الشام بتنفيذ عمليات عسكرية شديدة الفظاظة. كان المسؤول الفلسطيني يحاول إثبات أن الحكومة الإسرائيلية عدوانية ليس فقط تجاه الشعب الفلسطيني، بل ضد العالم العربي أيضاً، قائلاً: «إذا كانت حركة (حماس) قد شنت حرباً على إسرائيل في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، و(حزب الله) بادر إلى قصف إسرائيل، و(الحوثيون) انضموا إلى (حرب الإسناد) التي دعت إليها إيران وقدمت لها الدعم والتشجيع... فإن سوريا في المقابل اختارت البقاء خارج الصورة، بل أكثر من ذلك».

نتنياهو يتفقد القوات الإسرائيلية في المنطقة العازلة داخل سوريا الثلاثاء الماضي (أ.ب)

«لا تهديد لإسرائيل»

مع وصولها إلى دمشق بعد نجاح عمليات «ردع العدوان»، كشفت القيادة السورية الجديدة عن نواياها بأنها «لا تُشكّل أي تهديد لأي دولة مجاورة بما فيها إسرائيل»، ولا سيما أن سقوط نظام بشار الأسد وانكسار المحور الإيراني في أهم موقع استراتيجي له في المنطقة، كانا من المفترض أن يُشكّلا نقطة لتلاقي المصالح بين إسرائيل وسوريا. يقول المسؤول الفلسطيني: «أخشى أن الإسرائيليين نسوا هذه الحقائق؛ لأن أرض سوريا لم تعد مرتعاً للميليشيات الإيرانية».

الحال، أن الولايات المتحدة وتركيا وأذربيجان عرضت التوسط لمحادثات بين الطرفين، وأبدت الاستعداد لإبرام اتفاق على تفاهمات أمنية تجعل الحدود بين الطرفين آمنة. وحتى عندما تذمّرت إسرائيل من المحادثات غير المباشرة، وافقت سوريا على إجراء لقاءات مباشرة. وبالفعل، عُقدت ستة لقاءات بمشاركة وزير الخارجية أسعد الشيباني مع وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر.

وفق مصادر إسرائيلية، فإن دمشق مستعدة للتعامل بمرونة في سبيل التوصل إلى اتفاقيات كبيرة، فهي مستعدة لإبرام اتفاق سلام شامل مع إسرائيل، بشرط استعادة جميع أراضيها المحتلة من عامَي 1967 و2024، لكنها مستعدة لدراسة اقتراحات وسطية، مثل تأجير الجولان لمدة تصل إلى 15 سنة، أو التوجّه إلى اتفاق على تفاهمات أمنية تعود إسرائيل في إطارها إلى حدود 1974.

وتصل استعدادات دمشق أيضاً، وفقاً للمصادر، إلى الانضمام إلى «الاتفاقيات الإبراهيمية»، ما يعني عملياً أن النظام السوري يمدّ يد السلام لإسرائيل، في خطوة غير مسبوقة، لكنها لحظة سياسية فارقة تتمناها إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948.

جانب من اجتماع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وترمب والشرع لبحث رفع العقوبات المفروضة على سوريا بالرياض في مايو الماضي (واس)

اجتياح وغارات

لكن كيف تصرفت إسرائيل في المقابل؟ لقد اختارت طريق التهديد؛ إذ تفيد الوقائع بأنه منذ ديسمبر (كانون الأول) 2024، وقبل أن تلتقط القيادة الجديدة في دمشق أنفاسها، شنّت إسرائيل نحو 500 غارة حربية على المطارات العسكرية وقواعد الجيش، وحطمت 85 بالمائة من قدراتها الدفاعية. واحتلت إسرائيل أرضاً بمساحة 450 كيلومتراً مربعاً، تمتد من قمم جبل الشيخ حتى محافظة درعا بعمق يزيد على 7 كيلومترات، ونفذت عمليات اجتياح بري في عمق يصل إلى 20 كيلومتراً، وأقامت 9 مواقع عسكرية في قلب الأراضي السورية.

وساهمت إسرائيل أيضاً في تأجيج صراع داخلي بذريعة «حماية الحلفاء الدروز وإحقاق حقوقهم»، رغم أن المواطنين الدروز في إسرائيل يعانون من التمييز العنصري من كل حكومات إسرائيل. وراحت إسرائيل تشكك في نوايا القيادة الجديدة في دمشق بحجة ارتباطات قديمة تعود إلى «جبهة النصرة»، في حين أن مستشفيات ميدانية تابعة للجيش الإسرائيلي، أو مستشفيات في صفد وحيفا وتل أبيب، كانت قد استقبلت خلال السنوات الماضية عديد الجرحى من «جبهة النصرة»، وقدمت لهم العلاج.

مَن يوقف نتنياهو؟

كشف الإسرائيليون في الأيام الأخيرة أن الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، قد «وبّخ» إسرائيل ورئيس حكومتها على مقاربتها السياسية مع سوريا الجديدة، وطالبها بإحداث تغيير جوهري مع هذا البلد. وكان من الواضح أن ترمب اختار طريقاً إيجابياً مع القيادة الجديدة في دمشق، بناء على طلب المملكة العربية السعودية والأمير محمد بن سلمان، ويرى في المقابل أن إسرائيل «ترتكب خطأ وحماقة في تعاملها في هذه الجبهة»، وفي هذه الحالة يميل كثيرون إلى الاعتقاد بأن البيت الأبيض تحت قيادة ترمب هو الوحيد القادر على كبح جماح نتنياهو ضد سوريا. لكن، حتى نرى تأثيراً حقيقياً على الأرض، ثمة من يطرح أسئلة عن «الرسالة التي تقدمها إسرائيل لمحيطها الإقليمي بتعاملها هذا مع سوريا؟».